الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المعنى الجملي
اعلم أن موسى عليه السلام لما سأل ربه أمورا ثمانية وكان قيامه بما كلّف به لا يتم على الطريق المرضىّ إلا إذا أجابه إليها- لا جرم أجابه الله تعالى إلى ما طلب، ليكون أقدر على الإبلاغ على الوجه الذي كلّف به، ثم ذكّره بنعمه السالفة حين كانت أمه ترضعه وتحذر عليه من فرعون وملئه أن يقتلوه، فألهمها أن تصنع تابوتا وتضعه فيه وتلقيه فى النيل ففعلت، فألقاه النيل فى الساحل، فالتقطه آل فرعون وربّوه فى منزلهم، وألقى الله محبة فى قلوبهم له وصار كأنه ابنهم، ثم ذكّره بنجاته من القصاص حين قتل المصري وهرب إلى مدين.
الإيضاح
(قال قد أوتيت سؤلك يا موسى) أي قال الله تعالى لموسى: قد أعطيتك جميع ما سألتنى عنه من شرح صدرك، وتيسير أمرك، وحل عقدة لسانك، وجعل أخيك هارون وزيرا لك، وشد أزرك به، وإشراكه فى الرسالة معك.
(ولقد مننا عليك مرة أخرى) أي ولقد تفضلنا عليك من قبل بنعم كثيرة، ومن راعى مصلحتك قبل سؤلك، وأعطاك ما ترجو، أفيمنع عنك ما تريد بعد سؤالك؟
ومن رقى بك إلى مراتب الكمال، وصعد بك فى أوج المعالي، وسما بك إلى درجات الرفعة. ووكل إليك ذلك المنصب الخطير، أفيليق به وهو الجواد الكريم أن يحجز عنك ما تؤمّل مما أنت فى شديد الحاجة إليه لتبليغ رسالته؟.
وفى التعبير عن تلك النعم بالمنن إيماء إلى أنها إنما وصلت إليه بمحض التفضل والإحسان.
وقد عد سبحانه من تلك النعم ثمانيا فقال:
(1)
(إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى، أن اقذفيه فى التابوت فاقذفيه فى اليم فليلقه
اليم بالساحل يأخذه عدو لى وعدو له)
أي واذكر حين ألهمنا أمك وأوقعنا فى قلبها عزيمة صادقة، أنّ أمثل الطرق لخلاصك من فرعون وجبروته، أن تضعك فى تابوت- صندوق- ثم تطرح هذا التابوت فى نهر النيل، ففعلت فألقاك النهر فى الساحل، فأخذك فرعون عدو الله ورباك فى بيته، وسيصير عدوا لك بعد ذلك كما هو عدو لى.
روى أنها جعلت فى التابوت قطنا محلوجا ووضعته فيه، وطلت ظاهره بالجص والقار ثم ألقته فى اليم، وكان يشرع منه (يتفرع) نهر كبير إلى بستان فرعون، فبينا هو جالس إلى رأس بركة مع زوجه إذا بتابوت يجرى به الماء، فأمر فرعون غلمانه وجواريه بإخراجه ففعلوا، وفتحوا رأسه فإذا صبى من أصبح الناس وجها فأحبه فرعون حبا شديدا لم يتمالك أن يصبر عنه.
(2)
(وألقيت عليك محبة منى) أي وألقيت عليك محبة خالصة منى قد ركزتها فى القلوب وزرعتها فيها، ومن ثم أحبك فرعون وزوجه حتى قالت «قرت عين لى ولك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا» .
(3)
(ولتصنع على عينى) أي ولتربّى برعايتى، فأنا مراقبك وحافظك، كما يراعى الرجل الشيء بعينيه إذا أراد شدة العناية به، يقول الرجل للصانع: اصنع هذا على عيني، أنظر إليه حتى يأتى وفق ما أحبّ وأبغى.
(4)
(إذ تمشى أختك فتقول هل أدلكم على من يكفله؟ فرجعناك إلى أمك كى تقر عينها ولا تحزن) أي وألقيت عليك محبة منى حين تمشى أختك تتبعك متعرّفة حتى وجدتك وصادفتهم يطلبون لك مرضعا تقبل ثديها، حتى اضطروا إلى تتبع النساء، فلما رأت ذلك منهم جاءت إليهم متنكرة وقالت: هل أدلّكم على من يضمّه إليه ويحفظه ويربيه؟ فجاءت بالأم فقبل ثديها ورجع إليها بما لطف الله له من التدبير، وقرت عينها بسلامته، وزال عنها الحزن والغم الذي كان قد ألمّ بها.
(5)
(وقتلت نفسا فنجيناك من الغم) أي وقتلت بعد كبرك القبطي الذي وكزته حين استغاث بك الإسرائيلى فنجّيناك من الغم الذي نزل بك من وجهين:
(ا) عقاب الدنيا وهو اقتصاص فرعون كما جاء فى الآية «فأصبح فى المدينة خائفا يترقب» .
(ب) عقابنا إذ قتلته بغير أمر منا، فغفرنا لك ذنبك حين قلت:«رب إنى ظلمت نفسى فاغفر لى» ووفقناك للهجرة إلى مدين.
(6)
(وفتناك فتونا) أي وأوقعناك فى محنة بعد محنة وتفضلنا عليك بالخلاص منها، فمن ذلك:
(ا) إن أمك حملت بك فى السنة التي كان فرعون يذبح فيها الأبناء، فنجاك الله من الذبح.
(ب) إن أمك ألقتك فى البحر بعد وضعك فى التابوت فالتقطك آل فرعون وعنوا بتربيتك ورعايتك.
(ح) إنك امتنعت عن الرضاع إلا من ثدى أمك وكان ذلك وسيلة إلى إرجاعك إليها.
(د) إنك أخذت بلحية فرعون فغضب من ذلك وأراد قتلك لولا أن قالت له زوجه: إنه صغير لا يفرق بين الجمرة والتمرة وأتى لك بهما فأخذت الجمرة.
(هـ) قتلك القبطي وخروجك إلى مدين هاربا.
(7)
(فلبثت سنين فى أهل مدين) قاسيت أثناءها من المحن ما قاسيت، وتحمّلت بسبب الفقر والغربة آلاما كثيرة حتى احتجت إلى أن تؤاجر نفسك لشعيب وترعى غنمه.
(ثم جئت على قدر يا موسى) أي ثم جئت وفق الوقت الذي سبق فى قضائى وقدرى أن أكملك فيه، وأن أجعلك رسولا دون تقدم ولا تأخر عنه، ولولا توفيق الله لما تهيأ لك شىء من ذلك.