الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إلى الوعيد ونسى العهد، فمخالفتهم قديمة، وعرقهم فيها راسخ ثم فصل عهده لآدم وبين كيف نسيه وفقد العزم، ثم ذكر عصيان إبليس للسجود لآدم وتحذيره من الخروج من الجنة إذا هو اتبع نصائحه، وهو بعد كل هذا قد أطاع وساوسه وقبل إرشاده، فأكل من الشجرة التي نهى عن الأكل منها، فأخرج من الجنة مع إعلامه بأن الشيطان عدو له ولذريته، ثم بين أن من جاءه الهدى من ربه واتبعه عاش فى الدنيا قرير العين هادىء البال، ويؤتى فى الآخرة ما شاء الله أن يؤتى من ألوان النعيم والسعادة، ومن أعرض عن ذلك عاش فى الدنيا عيشة ضنكا، إذ هو لشدة حرصه عليها يخاف انتقاصها، ومن ثمّ يغلب عليه الشح والبخل، ويفعل كل منكر فى سبيل جمع المال من أي وجه كان، ولا يبالى أمن حلال كان أم من حرام؟ ولذلك تراهم يقولون (الغاية تبرر الواسطة) . أما المؤمن الذي لا يعنيه جمع حطام الدنيا فإنه فى سرور وراحة قلّ ماله أو كثر.
وهو فى الآخرة يكون أعمى عن الحجة التي تنقذه من ذلك الخزي الدائم، والعذاب المقيم.
ثم أردف هذا ببيان سبب ذلك وهو إعراضه فى الدنيا عن الآيات البينات التي تهديه إلى سبيل الرشاد، ومن ثم يسير فى جهالته إلى يوم القيامة، وهذا مما يوجب له أشد الآلام الروحية من حين مماته إلى حين الحشر، وهكذا يجازى الله المسرفين المكذبين بآياته فى الدنيا والآخرة جزاء وفاقا لما اجترحوا من السيئات، وارتكبوا من الذنوب والآثام كما قال سبحانه:«لهم عذاب فى الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أشق وما لهم من الله من واق» .
الإيضاح
(ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسى ولم نجد له عزما) أي ولقد وصينا آدم وقلنا له:
إن إبليس عدوّ لك ولزوجك فلا يخرجنّكما من الجنة، فوسوس إليه الشيطان فأطاعه،
وخالف أمرى، وترك العهد الذي أمرته، به ولم يهتم بالعمل به، ولم نجد له ثباتا فى الرأى ولا تصميما فى العزيمه.
وخلاصة ذلك- إنه ترك ما وصّى به من الاحتراس من الأكل من الشجرة.
ثم بين سبحانه ما عهد إليه به وكيفية نسيانه وفقدان عزمه فقال:
(وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى) أي واذكر أيها الرسول الكريم ما وقع فى ذلك الحين منا ومن آدم، حتى يستبين لك نسيانه وفقدان عزمه إذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فلبّوا الأمر إلا إبليس فإنه امتنع وأبى أن يكون مع الساجدين.
وقد تقدم هذا القصص فى سورة البقرة والأعراف والحجر والإسراء والكهف، وسيأتى ذكره فى سورة ص، وفيه إشارة إلى تكريم آدم وتشريفه، وتفضيله على كثير ممن خلق.
(فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك) أي فقلنا له عقب ذلك رعاية لإرشاده ونصحه: إن هذا الذي رأيت منه ما رأيت- عدوّ لك ولزوجك، ومن ثم لم يسجد لك وخالف أمرى وعصانى، فلا تطيعاه فيما يأمر كما به.
(فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى) أي فلا يكونن سببا لإخراجكما من الجنة، فتتعبا بمتاعب الدنيا التي لا تكاد تحصى.
وخلاصة ذلك- إياك أن تسعى فى إخراجك منها فتتعب وتشقى فى طلب رزقك، وأنت هاهنا فى عيش رغد هنىء بلا كلفة ولا مشقة.
ثم علل ما يوجبه النهى عن ذلك فقال:
(إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى. وأنك لا تظمؤا فيها ولا تضحى) أي لا يكون لك فى الجنة جوع ولا عرى، ولا ظمأ ولا إصابة بحر الشمس.
وقرن بين الجوع والعرى أوّلا، لأن فى الجوع ذل الباطن وفى العرى ذل الظاهر، وبين حر الباطن وهو العطش وحر الظاهر وهو الضّحى ثانيا.
وخلاصة ذلك- إن الجنة اجتمعت فيها الأسباب التي توجب راحة الإنسان، وذلك مما يوجب الاهتمام بتحصيل الوسائل التي توجب البقاء فيها، والابتعاد عما يدعو إلى الخروج منها.
وقصارى ذلك- إن لك فيها تمتعا بأنواع المعاش، وتنعما بأصناف النعم، من المآكل الشهية، والملابس البهية.
وبعد أن بين أنه عظم آدم وعرفه شدة عداوة إبليس له بين أنه قبل نصحه، وأكل من الشجرة التي نهى عن الأكل منها فقال:
(فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى؟) أي فألقى الشيطان النصيحة إلى آدم وقال له: هل أدلك على شجرة إن أكلت منها خلدت ولم تمت، وملكت ملكا لا ينقضى ولا يفنى.
(فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة) أي فأكل آدم وحواء من الشجرة التي نهيا عن الأكل منها وأطاعا أمر إبليس وخالفا أمر ربهما، فانكشفت عورتهما وكانت مستورة عن أعينهما، فشرعا يلزقان ورق التين عليهما، ليغطيا جسمهما.
(وعصى آدم ربه فغوى) أي وخالف أمر ربه، وتعدى ما لم يكن له أن يتعدى إليه، من الأكل من الشجرة التي نهاه الله عن الأكل منها.
(ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى) أي ثم اصطفاه ربه من بعد معصيته، ورزقه التوبة والعمل بما يرضيه حين قال هو وزوجه:«ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين» .
(قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو) أي قال الرب الذي انتهكت حرمة داره وخولف أمره. انزلا من الجنة إلى الأرض، أنتما عدو لإبليس وذريته، وإبليس عدوكما وعدو ذريتكما.
(فإما يأتينكم منى هدى فمن اتبع هداى فلا يضل ولا يشقى) أي فإن يأتكم
يا آدم وحواء وذريتهما بيان لسبيلى وما أختاره لخلقى من دين بإرسال الرسل والكتب فمن اتبع ذلك وعمل به ولم يزغ عنه فإنى أهديه فى الدنيا وأرشده إلى محجة الصواب ولا يشقى فى الآخرة.
أخرج ابن أبى شيبة والحاكم والبيهقي عن ابن عباس قال: «أجار الله تابع القرآن من أن يضل فى الدنيا أو يشقى فى الآخرة، ثم قرأ الآية»
وروى عنه مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم «من اتبع كتاب الله هداه الله تعالى من الضلالة فى الدنيا ووقاه سوء الحساب يوم القيامة» .
(ومن أعرض عن ذكرى فإن له معيشة ضنكا) أي ومن أعرض عن ذكرى الذي أذكّره به وتولى عنه، ولم يتعظ به فينزجر عما هو مقيم عليه من مخالفة أمر ربه، فإن له معيشة ضيقة شديدة لما يكون فيه من القلق والحرص على الدنيا والتهالك على ازديادها والخوف من انتقاصها، فترى الشح غالبا عليه، والبخل راسخا فى أعراقه:
(ونحشره يوم القيامة أعمى) عن الجنة، لأن الجهالة التي كانت له فى الدنيا تبقى كذلك فى الآخرة، وهذا يصير سببا لأعظم الآلام الروحية له:
وقصارى ذلك- إن الله عز اسمه جعل لمن اتبع هداه وتمسك بدينه العيش الهنيء الذي لا همّ فيه ولا غم، وجعل لمن أعرض عن دينه التعب والنصب، وهو فى الآخرة أشد تعبا، وأعظم ضيقا، وأكثر ألما:
(قال رب لم حشرتنى أعمى وقد كنت بصيرا؟) أي قال رب لم حشرتنى أعمى عن حجتى وعن رؤية الأشياء على حقيتها، وقد كنت فى الدنيا ذا بصر بذلك كله؟، ونحو الآية:«ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما» :
(قال) ربه مجيبا هذا السائل:
(كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى) أي فكما تركت آياتنا ترك للنسى الذي لا يذكر أصلا وأعرضت عنها- اليوم ننساك فنتركك فى النار.