الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أمره، وعاقبة عمله، وبعدئذ ذكر أن هؤلاء المشركين ليسوا بدعا في الأمم، فلقد كذّب كثير قبلهم، فأتاهم العذاب بغتة من حيث لا يشعرون، فأصيبوا في الدنيا بالذل والصغار والقتل والخسف، ولعذاب الآخرة أشد نكالا ووبالا، ثم ذكر أن القرآن قد ضرب الأمثال للناس بلسان عربى مبين لعلهم يرعوون ويزدجرون.
الإيضاح
(أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ؟) أي أفمن دخل نور الإسلام قلبه وانشرح صدره له، لما رأى فيه من البدائع والعجائب المهيئة للحكمة، الممهدة لقبول الحق والموصلة إلى الرشاد- كمن طبع على قلبه لغفلته وجهالته؟ وقد روى أن علامة ذلك الانشراح الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت، قبل حلول الموت.
والخلاصة- هل يستوى من أنار الله بصيرته ومن هو قاسى القلب بعيد من الحق؟
ونحو الآية قوله: «أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها» .
قال ابن عباس: من شرح الله صدره للاسلام أبو بكر الصديق رضى الله عنه،
وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال: «تلا النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية فقلنا يا نبى الله: كيف انشراح صدره؟ قال إذا دخل النور القلب انشرح وانفسح، قلنا فما علامة ذلك يا رسول الله؟ قال: الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والتأهب للموت قبل نزول الموت» . وأخرج الترمذي عن ابن عمر «أن رجلا قال يا رسول الله: أىّ المؤمنين أكيس؟ قال أكثرهم ذكرا للموت، وأحسنهم له استعدادا، وإذا دخل النور في القلب انفسح واستوسع، فقالوا: ما آية ذلك
يا نبى الله؟ قال الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل نزول الموت» .
ثم ذكر ما يدل على المحذوف الذي قدر في الجملة السالفة فقال:
(فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ) أي فالويل أشد الويل لمن قست قلوبهم من أجل ذكر الله الذي من حقه أن تلين منه القلوب، فهم إذا ذكر الله عندهم، وذكرت دلائل قدرته، وبدائع صنعه، اشمأزوا من ذلك وزادت قلوبهم قسوة.
قال مالك بن دينار: ما ضرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة القلب، وما غضب الله تعالى على قوم إلا نزع منهم الرحمة.
وأخرج الترمذي عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله، فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة للقلب، وإن أبعد الناس من الله القلب القاسي» .
وعن أبى سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قال الله تعالى:
اطلبوا الحوائج من السمحاء، فإنى جعلت فيهم رحمتى، ولا تطلبوها من القاسية قلوبهم، فإنى جعلت فيهم سخطى» .
ثم بين حالهم فقال:
(أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي أولئك القساة القلوب الذين أعمى الله أبصارهم فى غواية ظاهرة لكل أحد لا تحتاج إلى عناء في تفهم حقيقتها ومعرفة كنهها.
وبعدئذ وصف القرآن الذي يشرح الصدر ويلين القلب فقال:
(اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ) أي الله أنزل أحسن الحديث قرآنا كريما يشبه بعضه بعضا في الصدق والبيان والوعظ والحكمة، كما تتشابه أجزاء الماء والهواء وأجزاء النبات والزهر، تثنى وتردد قصصه وأنباؤه وأوامره ونواهيه، ووعده ووعيده، إذا تليت منه آيات العذاب اقشعرّت الجلود، ووجلت القلوب، وإذا تليت آيات
الرحمة والوعد لانت الجلود، وسكنت القلوب، واطمأنت النفوس قال الزجاج:
إذا ذكرت آيات العذاب اقشعرت جلود الخائفين لله.
(ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ) أي ذلك الكتاب يهدى به الله من يشاء ويوفقه للإيمان.
(وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) أي ومن يخذله الله عن الإيمان بهذا القرآن والتصديق به، فما له من مخرج من الضلالة، ولا موفّق لسلوك طريق الحق.
ثم ذكر علة ما تقدم من تباين حال المهتدى والضالّ فقال:
(أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي أكل الناس سواء؟ فمن شأنه أن يتقى بوجهه الذي هو أشرف أعضائه العذاب الشديد السيئ يوم القيامة (لأن يده التي كان يتقى بها المكاره في الدنيا مغلولة إلى عنقه) ، كمن هو آمن لا يعتريه مكروه، ولا يحتاج إلى اتقاء محظور مخوف.
ثم ذكر ما ينال الكفار والعاصين من الإهانة في ذلك اليوم فقال:
(وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) أي وقيل تهكما واستهزاء لمن ظلموا أنفسهم بالشرك والمعاصي- ذوقوا وبال ما كسبتم في الدنيا، ودسّيتم به أنفسكم حتى أوقعتموها في الهاوية، النار الحامية.
ثم ذكر ما أصاب بعض الكفرة من العذاب الدنيوي إثر بيان ما يصيب الجميع من العذاب الأخروى فقال:
(كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ. فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) أي إن بعض الأمم الماضية التي كذبت رسلها أتاها العذاب بغتة من حيث لا تحتسب ولا يخطر لها بالبال، فلحقها الذل والصغار في الحياة الدنيا، فأصيبت تارة بالمسخ، وأخرى بالخسف، وثالثة بالقتل أو السبي أو نحو ذلك من ضروب النكال والوبال، وإن عذاب الآخرة لأنكى عاقبة وأشد أثرا لو علموا ذلك واعتبروا به.