الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لخلوّ بالهم من المشاغل، وطيب نفوسهم يسمر بعضهم مع بعض ويتحادثون فيما كانوا فيه في الدنيا مع أخلائهم من شتى الشئون، مع اختلاف الأهواء، حتى ليقص بعضهم على بعض أن خليله كاد يوقعه في الهلاك لولا لطف ربه به، وقد كان مآله أن صار فى سواء الجحيم، ثم ذكر نعمة ربه عليه بسبب ما كان يدين به في الدنيا.
الإيضاح
(فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) أي يطاف عليهم بكأس من معين، فيشربون ويتحادثون على الشراب، وما ألذ الحديث لدى الأخلاء إذ ذاك كما أفصح عن ذلك شاعرهم:
وما بقيت من اللذات إلا
…
محادثة الكرام على الشراب
ولثمك وجنتى قمر منير
…
يجول بوجهه ماء الشباب
والحديث ذو شجون، فهم يتحادثون في شتى الفضائل والمعارف وفيما سلف لهم من شئون الدنيا، وما أحلى تذكر ما فات حين رفاهية الحال، وفراغ البال، واطمئنان النفس، وخلوّها من المخاوف العاجلة والآجلة.
ثم فصل هذا التساؤل وبيّنه فقال:
(قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ. يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ؟ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ؟) أي قال قائل من أهل الجنة: إنى كان لى قرين في الدنيا يوبخنى على التصديق بالبعث والقيامة، ويستنكره أشد الاستنكار، ويقول متعجبا:
أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أإنا لمحاسبون بعد ذلك على أعمالنا وما قدمته أيدينا؟ ألا إن ذلك لا يدخل في باب الإمكان ولا يقبله عاقل، فأجدر بمن يصدق بمثل هذا أن يعدّ من البله والمجانين الذين لا ينبغى مخاطبتهم ولا الدخول معهم في باب الجدل والخصام، فهم ساقطون من درجة الاعتبار لدى العقلاء والمنصفين.
وبعد أن ذكر مقالته لأهل الجنة أراد أن يؤكد لهم صدق ما قال، ويريهم ما آل إليه أمره من الدخول في النار فقال:
(قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ) أي قال لجلسائه من أهل الجنة، ليزيدهم سرورا على أن عصمهم الله من مثل حاله ووفقهم إلى العمل بما أرشد إليه أنبياؤه، هل تودون أن تروا عاقبة ذلك القرين؟ وكيف خذله الله وأوقعه في الهلكة؟
وإنا لا نخوض في كيفية الاطلاع إذ ذاك مع شاسع المسافات، واختلاف مراتب أهل الجنة وأهل النار- فإن ذلك من أمور الغيب التي يجب أن نؤمن بها دون بحث فى شأنها، ولا نقص ولا زيادة فيها.
(فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ) أي فاطلع إلى أهل النار، فرأى قرينه في وسطها، يتلظى بحرّها وشديد لهبها.
(قالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ) أي قال لقرينه مو بخاله: إنك لقد كدت تهلكنى بدعائك إياى إلى إنكار البعث والقيامة.
(وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) أي ولولا فضل ربى بإرشاده لى إلى الحق، وعصمتى من الباطل، لكنت مثلك من المحضرين للعذاب.
ثم ذكر ما يقوله ذلك المؤمن لجلسائه تحدثا بنعمة ربه عليه، واغتباطا لحاله، بمسمع من قرينه، ليكون توبيخا له، فيزيد به تعذيبه.
(أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ، إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) أي يقول لهم: أنحن مخلدون منعمون، فما نحن بميتين ولا بمعذبين إلا موتتنا الأولى؟ بخلاف الكفار فإنهم يموتون مثلنا، ثم هم في جهنم يتمنون الموت كل ساعة، ولا يخفى ما في ذلك من سوء الحال، وقد قيل لحكيم: ما شرّ من الموت؟ قال الذي يتمنّى معه الموت.
والخلاصة- إن المؤمن غبط نفسه بما أعطاه الله من الخلد في الجنة، والإقامة فى دار الكرامة، بلا موت فيها ولا عذاب.