الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رشدا: أي خيرا وصلاحا، قددا: أي جماعات متفرقة وفرقا شتى، ويقال صار القوم قددا: إذا تفرقت أحوالهم، واحدها قدّة وهى القطعة من الشيء، هربا: أي هاربين إلى السماء، والمراد بالهدى القرآن، والبخس: النقص، والرهق الظلم والمكروه الذي يغشى المظلوم، القاسطون: أي الجائرون العادلون عن الحق، تحرّوا رشدا: أي قصدوا طريق الحق، حطبا: أي وقودا للنار، والطريقة: هى طريق الإسلام، غدقا: أي كثيرا، يسلكه: أي يدخله، صعدا: أي شاقا يعلو المعذب ويغلبه، يقال فلان فى صعد من أمره: أي فى مشقة، ومنه قول عمر: ما تصعّدنى شىء كما تصعّدنى فى خطبة النكاح، أي ما شقّ علىّ، وكأنه إنما قال ذلك لأنه كان من عادتهم أن يذكروا جميع ما يكون فى الخاطب من أوصاف موروثة ومكتسبة، فكان يشق عليه أن يقول الصدق فى وجه الخاطب وعشيرته.
الإيضاح
(7)
(وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً) يخبر سبحانه عن مقال الجن حين بعث محمد صلى الله عليه وسلم وأنزل عليه القرآن وحفظ منهم، إن السماء ملئت حراسا شدادا وشهبا تحرسها من سائر أرجائها وتمنعنا من استرق السمع كما كنا نفعل.
أخرج أحمد والترمذي والنسائي عن ابن عباس قال: كان للشياطين مقاعد فى السماء يسمعون فيها الوحى، فإذا سمعوا الكلمة زادوا فيها تسعا، فأما الكلمة فتكون حقا، وأما ما زادوا فيكون باطلا، فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم منعوا مقاعدهم، فذكروا ذلك لإبليس، ولم تكن النجوم يرمى بها قبل ذلك، فقال لهم ما هذا إلا من أمر قد حدث فى الأرض، فبعث جنوده فوجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما يصلى بين جبلين بمكة، فأتوه فأخبروه، فقال: هذا هو الحدث الذي حدث فى الأرض.
(8)
(وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ) أي وأنا كنا نقعد قبل ذلك فيها مقاعد خالية من الحرس والشهب، لنسترق السمع، فطردنا منها حتى لا نسترق شيئا من القرآن ونلقيه على ألسنة الكهان، فيلتبس الأمر ولا يدرى الصادق، فكان ذلك من لطف الله بخلقه، ورحمته بعباده، وحفظه لكتابه العزيز.
(فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً) أي فمن يرم أن يسترق السمع اليوم يجد له شهابا مرصدا لا يتخطاه ولا يتعداه، بل يهلكه ويمحقه.
وإنا لنؤمن بما جاء فى الكتاب الكريم من أن الجن كانوا يسترقون السمع، ومنعوا من ذلك بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن لا نعرف كيف كانوا يسترقون السمع، ولا نعرف كنه الحرس الذين منعوهم، ولا المراد بالشهب التي كانت رصدا لهم والجن أجسام نارية فكيف تحترق من الشهب.
ويرى قوم أن مقاعد السمع هى مواضع الشبه التي يوسوس بها الجن فى صدور الناس، ليصدوهم عن اتباع الحق، والحرس: هى الأدلة العقلية التي نصبها سبحانه لهداية عباده، والشهب الأدلة الكونية التي وضعها فى الأنفس والآفاق.
وعلى هذا يكون المعنى: إن القرآن الكريم بما نصب من الأدلة العقلية والأدلة الكونية حرس للدين من تطرق الشبه التي كان الشياطين يوسوسون بها فى صدور الزائفين، ويحوكونها فى قلوب الضالين، ليمنعوهم من تقبل الدين والاهتداء بهديه، فمن يكفر فى إلقاء الشكوك والأوهام فى نفوس الناس بعدئذ يجد البراهين التي تقتلعها من جذورها.
(9)
(وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً) أي وإن السماء لم تحرس إلا لأحد أمرين:
(ا) إما لعذاب يريد الله أن ينزله على أهل الأرض بغتة.
(ب) وإما لنبىّ مرشد مصلح.
وكأنهم يقولون: أعذابا أراد الله أن ينزله بأهل الأرض، بمنعه إيانا السمع من السماء ورجمه من استمع منا بالشهب، أم أراد بهم ربهم الهدى، بأن يبعث منهم رسولا مرشدا يهديهم إلى الحق وإلى طريق مستقيم؟.
(10)
(وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً) أي وأنا منا المسلمون العاملون بطاعة الله، ومنا قوم دون ذلك، وأنا كنا أهواء مختلفة وفرقا شتى، فمنا المؤمن والفاسق والكافر كما هى الحال فى الإنس.
(11)
(وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً) أي وأنا علمنا أن لن نعجز الله فى الأرض أينما كنا فى أقطارها، ولن نعجزه هربا إن طلبنا، فلا نفوته بحال.
والخلاصة- إن الله قادر علينا حيث كنا، فلا نفوته هربا.
(12)
(وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ، فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً) أي وأنا لما سمعنا القرآن الذي يهدى إلى الطريق المستقيم صدقنا به وأقررنا بأنه من عند الله، ومن يصدق بالله وبما أنزله على رسله فلا يخاف نقصا من حسناته، ولا ذنبا يحمل عليه من سيئات غيره قاله قتادة.
وقصارى ذلك- أنه ينال جزاءه وافرا كاملا.
(13)
(وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً) أي وأنا منا المؤمنون الذين أطاعوا الله وأخبتوا إليه وعملوا صالح الأعمال، ومنا الجائرون عن النهج القويم وهو الإيمان بالله وطاعته، ومن آمن بالله وأطاعه فقد سلك الطريق الموصل إلى السعادة، وقصد ما ينجيه من العذاب.
ثم ذم الجنّ الكافرين منهم فقالوا:
َ أَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً)
أي وأما الجائرون عن سنن الإسلام فكانوا حطبا لجهنم توقد بهم، كما توقد بكفرة الإنس، وقد ذكر ثواب المؤمنين منهم بقوله:«فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً» .
وإلى هنا انتهى كلام الجن ثم عاد إلى ذكر الموحى به إلى رسوله فقال:
(وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً) أي وأوحى إليه أنه لو استقام الإنس والجن على ملة الإسلام، لوسّعنا عليهم أرزاقهم، ولبسطنا لهم فى الدنيا.
وإنما خص الماء الغدق بالذكر، لأنه أصل المعاش، وكثرته أصل السعة ومن ثم قيل حيثما كان الماء كان المال، وحيثما كان المال كانت الفتنة، ولندرة وجوده بين العرب، ومن ثمّ امتنّ الله على نبيّه بقوله:«إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ» على تفسير الكوثر بالنهر الجاري، ونحو الآية قوله:«وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ» .
وسرّ هذا ما عرفت غير مرة من أن الخصب والسعة لا يوجدان إلا حيث نوجد الطمأنينة والعدل ويزول الظلم، وتكون الناس سواسية فى نيل الحقوق، فلا ظلم ولا إرهاق، ولا محاباة ولا رشا فى الأحكام.
ثم ذكر سبب البسط حينئذ فقال:
(لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) أي لنختبرهم أي لنعاملهم معاملة المختبر لنرى هل يشكروننا على هذه النعم، فإن وفّوها حقها كان لهم منى الجزاء الأوفى، وإن نكصوا على أعقابهم استدرجناهم وأمهلناهم، ثم أخذناهم أخذ عزيز مقتدر، كما قال:«وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ» .
(وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً) أي ومن يعرض عن القرآن وعظاته، فلا يتبع أوامره ولا ينتهى عن نواهيه- يدخله فى العذاب الشاق الذي يعلوه ويغلبه، ولا يطيق له حملا.