الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لهم فضل طعام؟ ثم أتى مجلس قومه مع أبى جهل فقال لهم: تزعمون أن محمدا مجنون فهل رأيتموه يخنق قط؟ قالوا: اللهم لا، قال: تزعمون أنه كاهن، فهل رأيتموه قط تكهّن؟ قالوا: اللهم لا، قال: تزعمون أنه شاعر، فهل رأيتموه ينطق بشعر قط؟
قالوا: اللهم لا، قال: تزعمون أنه كذاب، فهل جربتم عليه شيئا من الكذب؟
قالوا: اللهم لا (وكان رسول الله يسمى الأمين قبل النبوة لصدقه) ثم قالوا:
(فما هو؟ قال:) ما هو إلا ساحر، أما رأيتموه يفرّق بين الرجل وأهله وولده ومواليه، فهو ساحر وما يقوله سحر يأثره عن مسيلمة وأهل بابل، فارتج النادي فرحا، وتفرقوا معجبين بقوله، متعجبين منه فنزلت هذه الآيات» .
وقد كان الوليد يسمى الوحيد، لأنه وحيد فى قومه، فماله كثير فيه الزرع والصّرع والتجارة، وكان له بين مكة والطائف إبل وخيل ونعم، وعبيد وجوار، وله عشرة أبناء يشهدون المحافل والمجامع، أسلم منهم ثلاثة: خالد وهشام وعمارة، وقد بسط الله له الرزق وطال عمره مع الجاه العريض والرياسة فى قومه، وكان يسمى ريحانة قريش.
الإيضاح
(ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً) أي خلّ بينى وبين من أخرجته من بطن أمه وحيدا لا مال له ولا ولد، ثم بسطت له الرزق والجاه العريض، فكفر بأنعم الله عليه.
وقال مقاتل. خلّ بينى وبينه فأنا أنفرد بهلكته.
وفى هذا وعيد شديد على تمرّده وعظيم عناده واستكباره لما أوتيه من بسطة المال والجاه، وكان يقول: أنا الوحيد بن الوحيد، ليس لى فى العرب نظير، ولا لأبى نظير، وقد تهكم الله به وبلقبه، وصرفه عن الغرض الذي كانوا يقصدونه من مدحه والثناء عليه إلى ذمه وعيبه، فجعله وحيدا فى الشر والخبث.
(وَجَعَلْتُ لَهُ مالًا مَمْدُوداً) أي أعطيته مالا كثيرا، فكان له زرع وضرع وتجارة كثيرة، قال مقاتل: كان له بستان لا ينقطع ثمره شتاء ولا صيفا.
وقال ابن عباس: كان له مال ممدود بين مكة والطائف من الإبل والخيل والغنم والبساتين الكثيرة التي لا تنقطع ثمارها صيفا ولا شتاء.
(وَبَنِينَ شُهُوداً) أي وبنين حضورا معه بمكة لا يفارقونها لكسب عيش، ولا ابتغاء رزق، إذ كانوا فى غنى عن الضرب فى الأرض، بما لهم من واسع الثراء، فكان مستأنسا بهم، طيّب القلب بشهودهم.
(وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً) التمهيد عند العرب: التوطئة، ومنه مهد الصبى، والمراد وسعت له الأرزاق، وبسطت له الجاه، فكان من الحق عليه أن يشكر الله على ما أنعم عليه، ولكنه كان لربه كنودا، فأعرض عن الداعي واستكبر، وقابل النعمة بالكفران، والجود بالجحود والعصيان.
ثم عجّب من حاله وطلبه الزيادة على ما هو فيه فقال:
(ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ) أي ثم هو بعد ذلك يرجو أن يزيد ماله وولده.
وفى هذا استنكار لشديد حرصه وتكالبه على جمع حطام الدنيا كما هو شأن الإنسان،
فقد جاء فى الحديث «لو كان لابن آدم واديان من ذهب لتمنى لهما ثالثا»
وجاء فى الخبر «منهومان لا يشبعان: طالب علم وطالب مال» .
وروى عن الحسن أنه كان يقول: إن كان محمد صادقا فما خلقت الجنة إلا لى.
ثم أيأسه تعالى وقطع رجاءه فقال.
(كَلَّا) أي لا أفعل ولا أزيد. قال مقاتل. ما زال الوليد بعد نزول الآية فى نقص من ماله وولده حتى هلك.
ثم علل هذا بقوله:
(إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً) أي إنه كان معاندا لآيات المنعم، وهى آيات القرآن
التي نزل بها الوحى على لسان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، ومن ثم قال فيها ما قال، ومعاندة الحق جديرة بزوال النعم.
وفى الآية إيماء إلى أن كفره كفر عناد، فهو يعرف الحق بقلبه، وينكره بلسانه، وهذا أقبح أنواع الكفر.
ثم بيّن ما يفعله به يوم القيامة فقال:
(سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً) أي سأكلفه عقبة شاقة الصعود، والمراد أنه سيلقى العذاب الشديد الذي لا يطاق، وقد جعل الله ما يسوق إليه من المصايب وأنواع المشاق شبيها بمن يكلّف صعود الجبال الوعرة الشاقة.
قال قتادة: سيكلف عذابا لا راحة فيه.
ثم حكى كيفية عناده فقال:
(إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ) أي إنه فكر وزوّر فى نفسه كلاما فى الطعن فى القرآن، وما يختلق فيه من المقال، وقدره تقديرا، أصاب به ما فى نفوس قريش، وما به وافق غرضهم.
والخلاصة- إنه فكر وتروّي ماذا يقول فيه، وبماذا يصفه به، حين سئل عن ذلك؟
ثم عجّب من تقديره وإصابته المحز فقال:
(فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ) هذا أسلوب يراد به التعجيب والثناء على المحدّث عنه تقول العرب: فلان قاتله الله ما أشجعه! وأخزاه الله ما أشعره! يريدون أنه قد بلغ المبلغ الذي هو حقيق بأن يحسد ويدعو عليه حاسده بذلك، وعلى هذا النحو جاء قوله تعالى:«قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ» .
وقصارى ذلك- إن هذا تعجيب من قوة خاطره، وإصابته الغرض الذي كانت ترمى إليه قريش من الطعن الشديد فى القرآن، فقوله جاء وفق ما كانوا يريدون، وطبق ما كانوا يتمنون من القدح فيه، وفيمن جاء به.
ثم كرر هذا الدعاء للتأكيد والمبالغة فقال:
(ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ) أي لعن وعذّب على أي حال قدر ما قدر من الكلام كما يقال فى الكلام: لأضربنه كيف صنع: أي على أي حال كانت منه.
(ثُمَّ نَظَرَ) أي ثم نظر فى أمر القرآن مرة بعد أخرى، لعله يجول بخاطره ما يحبون، ويصل إلى ما يرجون.
(ثُمَّ عَبَسَ) أي ثم قطّب وجهه حين ضاقت به الحيل ولم يدر ما يقول.
ثم أكد ما قبله فقال:
(وَبَسَرَ) أي كلح واسودّ وجهه، قال سعد بن عبادة: لما أسلمت راغمتنى أمي، فكانت تلقانى مرة بالبشر، ومرة بالبسر.
وفى هذا إيماء إلى أنه كان مصدّقا بقلبه صدق محمد صلى الله عليه وسلم، وكان ينكره عنادا، فإنه لو كان يعتقد صدق ما يقول لفرح باستنباط ما استنبط، وإدراك ما أدرك، وما ظهرت العبوسة على وجهه.
(ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ) أي ثم صرف وجهه عن الحق ورجع القهقرى مستكبرا عن الانقياد له والإقرار به.
ثم ذكر ما استنبطه من التّرّهات والأباطيل.
(فَقالَ: إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ) أي فقال ما هذا القرآن إلا سحر ينقله محمد عن غيره ممن كان قبله من السحرة كمسيلمة وأهل بابل ويحكيه عنهم.
ثم أكد ما سلف بقوله:
(إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ) أي إنه ملتقط من كلام غيره، وليس من كلام الله كما يدّعى، ولو صح ما قال لأمكن غيره أن يقول مثله أو يعارضه بأحسن منه، ففى العرب ذوو فصاحة وذرائة لسان، وفيهم الخطباء والمقاويل الذين لا يجارون ولا يبارون، ولم يعلم أن أحدا من أهل الزكانة والمعرفة سوّلت له نفسه أن يعارضه، بل التجئوا إلى السيف والسّنان، دون المعارضة بالحجة والبرهان، وقد رووا فى هذا
الباب مضحكات أغلبها لا يصح، لأنهم وهم المقاويل ذوو اللسن وقوة العارضة لا ينبغى أن ينسب إلى أحدهم مثل هذا الهذر كقول من نسب إليه أنه عارض سورة الفيل فقال: الفيل ما الفيل، وما أدراك ما الفيل، له ذنب طويل، ومشفر وتيل إلخ.
ثم ذكر ما يلقاه من الجزاء على سوء صنيعه، وفظيع عمله فقال:
(سَأُصْلِيهِ سَقَرَ) أي سأدخله جهنم وأغمره فيها من جميع جهاته.
ثم بالغ فى وصف النار وتعظيم شأنها فقال:
(وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ؟) تقول العرب: ما أدراك ما كذا: إذا أرادوا المبالغة والتهويل فى الأمر. أي وأىّ شىء أعلمك ما سقر؟ لأنها قد بلغت فى الوصف حدا لا يمكن معرفته، ولا يتوصل إلى إدراك حقيقته.
ثم بيّن وصفها بقوله.
(لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ) أي لا تبقى لهم لحما ولا تذر عظما، فإذا أعيد أهلها خلقا جديدا فلا تذرهم، بل تعيد إحراقهم كرة أخرى، وهكذا دواليك كما جاء فى الآية الأخرى. «كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ» .
(لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ) أي تلفح الجلد لفحة تدعه أشد سوادا من الليل، قال ابن عباس: تلوّح الجلد فتحرقه وتغيّر لونه.
(عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ) أي على النار تسعة عشر من الملائكة هم خزنتها.
عن البراء «أن رهطا من اليهود سألوا بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن خزنة جهنم، فقال: الله ورسوله أعلم، فجاء جبريل فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم فنزل عليه ساعتئذ عليها تسعة عشر» رواه البيهقي وابن أبى حاتم وابن مردويه.