الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هل هي دعوة للتخلف
؟!
فإن قلت: ولكن هذا معناه إضعاف الحافز داخل النفس للتقدم والتفوق، فتقل تبعًا لذلك الكفاءات بيننا ويزداد اعتمادنا على الحضارة الغربية والتبعية المهينة لهم.
المتأمل لما قيل سابقًا سيجد أن العكس هو الذي سيحدث - بمشيئة الله -، وإليك -أخي القارئ- مزيد من وضوح الرؤية حول هذه النقطة:
أولاً: الذي يبدأ طريقه بالصلح مع الله والتربية على إيثار محابه ومراضيه على ما تحبه نفسه وتهواه، فإنه لن يألو جهدًا في ارتياد كل الأماكن التي من شأنها أن ترفع شأن الإسلام؛ لأنه سيحمل همَّه دائمًا، وفي المقابل فإن من يبدأ طريقه بالتركيز على التفوق المادي فقط فإنه بالفعل سيتفوق - بإذن الله - طبقًا لقانون السببية، ولكن في كثير من الأحيان يصبح هذا التفوق خادمًا لنفسه، محققًا لمجده الشخصي، ورفعته على من حوله، من ثم لا يدخل صاحبه في دائرة الرضا الإلهي لإخلاله بشروطها، فتكون النتيجة استمرار الوضع على ما هو حادث الآن.
ثانيًا: البدء بالأسباب المادية يمهد الطريق لظهور مظاهر العزة الزائفة بالألقاب والشهادات، والمناصب، والأموال وغير ذلك من أمور الدنيا، مما يجعل تفاضل المسلمين فيما بينهم ونظرتهم لبعضهم البعض طبقًا لوجود تلك المظاهر، وهذا من شأنه أن يبعدنا أكثر وأكثر عن دائرة الرضا الإلهي التي هي سر كل سعادة ورفعة.
وفي المقابل فإن من يبدأ طريقه بإصلاح نفسه من كل الجوانب فإنه سيعيش دومًا في حقيقة فقره إلى الله، وشدة احتياجه دومًا إليه، وأنه به سبحانه لا بنفسه، فينعكس ذلك على تعامله مع الآخرين؛ فيخفض لهم جناحه، بل ويستشعر دومًا أنهم جميعًا أفضل منه مهما كانت ألقابه ومناصبه.
ثالثًا: الذي يبدأ بإصلاح نفسه فإنه يتحرر من أسر الناس، وأعرافهم الخاطئة، ويتحرر كذلك من أسر الاهتمامات الأرضية الدنيوية، فتسمو اهتماماته، وتجده يبحث عما يرضي الله ليفعله، بغض النظر عن تقييم الناس لفعله.
ومن فوائد البدء بصلاح الفرد وإيجاد المسلم الصحيح أولاً:
- أن أساليب تربية الوالدين لأبنائهما ستختلف، فعندما يصبح الهدف هو تعبيد الأبناء لله عز وجل أولاً ثم التفوق ثانيًا، فإن هذا من شأنه أن يجعل محور اهتمام البيت هو الله ونيل رضاه، وتعظيم قدره في النفس، فيؤدي ذلك إلى حرص الأب على التواجد داخل بيته أطول فترة ممكنة لممارسة دوره في قيادة أهل بيته إلى الله، وربط حياتهم به سبحانه، ومن ثمَّ فإنه لن يحرص على العمل الإضافي، أو السفر للخارج وترك الأولاد مع أمهم بدعوى توفير وسائل الحياة المرفهة لهم، وتحصيل متطلبات تعليمهم الباهظة، بل سيوضع التعليم في حجمه الحقيقي، كخادم للهدف الأساسي وليس غاية في حد ذاته.
- ومن مظاهر الاهتمام بهدف إيجاد المسلم الصحيح أولاً أن الأبوين سيحرصان على عدم إلحاق أبنائهما بمدارس اللغات التي من شأنها أن تجعل ولاء الدارسين فيها للغة أخرى غير لغة القرآن، وتجعلهم يعظمون شأن الحضارة الغربية ويوالونها ويرضون بغثها وسمينها، ومن ثمَّ يحتقرون الحضارة العربية الإسلامية، وهذا واقع مشاهد للكثير من خريجي تلك المدارس.
نعم، إنّ حرص الآباء على إلحاق أبنائهم في تلك المدارس ينبع من انبهارهم بالغرب وحضارته، وحرصهم على سير أبنائهم في هذا الطريق ليضمنوا لهم النجاح في حياتهم.
هذا التصور بلا شك سيحل محله التصور الصحيح عندما يتأكد الجميع أننا لسنا كبقية الأمم، ولن نتقدم بمثل ما تقدموا به، بل بالعودة إلى الله أولاً، ثم بالأخذ بالأسباب المادية المتاحة أمامنا ثانيًا.
- ومن فوائد البدء بالتربية الإيمانية والتركيز على صلاح الفرد، أنها ستعرِّضنا للتوفيق والتأييد الإلهي، فيتضاعف أثر الأسباب المادية بعد ذلك، كما حدث مع المسلمين الأوائل الذين برعوا في شتى فروع العلوم، وأقاموا صرح الحضارة الإسلامية العريقة، وما كان ذلك ليحدث لولا توفيق الله لهم، ومباركته لجهودهم.
ومن فوائدها كذلك: عدم التعلق بالأسباب، بل الاجتهاد في تحصيلها، ثم التعلق بالله وحده في تحصيل النتائج، وهذا من شأنه أن يسكب في الفرد السكينة والطمأنينة فلا يبدو فزعًا منزعجًا كلما قلَّ حجم الأسباب المتاحة أمامه {إِنَّ الإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا - إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا - وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا - إِلَاّ الْمُصَلِّينَ} [المعارج:19 - 22].
وخلاصة القول:
إن سر تقدمنا مرتبط بمدى علاقتنا بالله، وأننا لابد أن نجتهد في الأخذ بالأسباب المادية بالمفهوم الذي يسود بيننا الآن، ولكن بعد أن نجتهد في الأخذ بالأسباب المعنوية التي تُعني بصلاح الفرد كأساس للنجاح في كل الميادين.
فالأمة بحاجة إلى الربانيين أولاً ليكونوا بعد ذلك في المكان الذي يقيمهم الله فيه .. أما بدون رهبان الليل
…
البكائين بالأسحار .. فلا أمل في تقدم ولا رفعة بل سيستمر الوضع القائم وسيزداد سوءًا.
ألم يقل سبحانه: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ - إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ} [الأنبياء:105، 106].
وبهذا المفهوم انتصر المسلمون الأوائل على أعدائهم
…
تأمل معي ما قاله سعد بن أبي وقاص لعمر بن الخطاب رضي الله عنهما وهو يصف له المجاهدين في معركة القادسية: «
…
كانوا يُدَوُّون بالقرآن إذا جنَّ عليهم الليل كدويِّ النحل وهم آساد في النهار لا تشبههم الأسود، ولا يفضل من مضى منهم من بقى إلا بفضل الشهادة» (1).
وفي فتح أفريقية يصف عبد الله بن الزبير أحوال المقاتلين فيها فيقول:
واستشهد الله جل جلاله رجالاً من المسلمين، فبتنا وباتوا، وللمسلمين دوي كدوي النحل، وبات المشركون في ملاهيهم وخمورهم، فلما أصبحنا زحف بعضنا على بعض، فأفرغ الله علينا صبره، وأنزل علينا نصره، ففتحناها من آخر الليل. (2)
* * *
(1) البداية والنهاية لابن كثير، 7/ 50.
(2)
كيف ننتفع بالقرآن الكريم، لأحمد البراء الأميري، ص (107).