الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ويقول: (عرف سلفنا الصالح رضوان الله عليهم فضل القرآن وتلاوته، فجعلوه مصدر تشريعهم، ودستور أحكامهم، وربيع قلوبهم، وورد عبادتهم، وفتحوا له قلوبهم وتدبروه بأفئدتهم، وتشربت معانيه السامية أرواحهم، فأثابهم الله في الدنيا سيادة العالم، ولهم في الآخرة عظيم الدرجات، وأهملنا القرآن فوصلنا إلى ما وصلنا إليه من ضعف في الدنيا ورقة في الدين)(1).
إعادة الثقة في القرآن:
إن كان الأمر كذلك فلكي يتم إعادة الثقة مرة أخرى في القرآن من حيث هو المصدر الجامع للتغيير وتوليد الطاقة الروحية، فإن هذا بلا شك يحتاج إلى جهد ضخم وإلى اعتناق المصلحين في الأمة لهذا المشروع، فمع سهولة الحل وبساطته وتيسُّره للجميع؛ إلا أن الموروثات الخاطئة التي توارثتها الأجيال عن القرآن تجعل من الصعب على المرء أن يتجاوزها، وأن تتغير نظرته للقرآن وطريقة تعامله معه، بل إنه من المتوقع أن تجد الكثير من المسلمين غير مقتنع أو متحمس لمبدأ أن القرآن هو الحل، وبأن مجد الإسلام سيعود من جديد على يديه، فهم يظنون أن اهتمامهم بحفظه، وكثرة قراءاته، وانشاء المدارس لتحفيظه، والتعمق قي قراءة تفسيره، وافتتاح الحفلات به، هو أقصى ما ينبغي عليهم فعله معه.
من هنا اشتدت الحاجة لبذل الجهد الضخم لإزالة تلك الموروثات القاصرة، ولتغيير تلك الأساليب السائدة لنشره وخدمته، ولبناء الثقة عند الناس في قيمته الحقيقية.
شرط لابد منه:
وقبل الحديث عن التصورات المقترحة لتفعيل مشروع العودة إلى القرآن والانتفاع بقوة تأثيره الفريدة، والتعامل معه على أنه بداية حقيقية لمشروع النهضة، فإن هناك شرطًا لابد منه لكل من يريد اعتناق وتبني هذا المشروع ألا وهو ضرورة الانتفاع والتأثر به أولاً، وتذوق حلاوة الإيمان من خلاله، وأن يصبح بالفعل مصدرًا متفردًا للقوة الروحية والدافع الذاتي عند من يريد نشره وإيصاله إلى غيره.
لابد لكل من يريد أن يدل الناس عليه أن يبدأ بنفسه أولاً، وأن يشاهد المعجزة القرآنية وهي تعمل داخله، وأن يشرق على قلبه نور القرآن وتظهر علاماته عليه، والتي أخبر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما سأله أصحابه عن علامات دخول النور القلب وانشراحه له فقال:«الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل نزوله» (2).
لا يُعقل أن ندل الناس على شيء لا نعرفه، ولم نتذوقه، ولم نر أثره، فهذا إن تم فإنه يعرضنا للمقت من الله كما أخبرنا سبحانه بذلك:{كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف:3].
ومن شأنه أن يجعل الكلام لا يخرج من القلب، فلا يتعرض للتوفيق الإلهي، ولا يُشعر مستمعه بحرارته فكما قيل: ليست النائحة الثكلى كالنائحة المستأجرة.
انتبه:
مهما كنت أخي الحبيب .. مهما كنت حافظًا للقرآن، أو عالمًا من العلماء أو داعية أو كاتبًا أو مربيًا
…
مهما كان سنك، ومهما كانت مكانتك بين الناس
…
لابد لك أولاً من الدخول إلى دائرة تأثير القرآن والانتفاع به ومشاهدة معجزته في نفسك، ورؤية أنواره، وهذا لا يحتاج منك إلى كبير عناء
…
فقط أن تستشعر حاجتك إلى القرآن ثم تقبل عليه بشغف باحثًا عن التأثر من خلال تلاوة آياته، وهذا ما أوصي به نفسي وإياك، فعلى قدر ما سنُعطي القرآن من أوقاتنا وعقولنا ومشاعرنا سيعطينا ويعطينا، وعلى قدر ما سنتواضع أمامه، وندخل عليه دخول الملهوف المتشوق لرؤية معجزته، الباحث عن حياة قلبه ستكون النتيجة المبهرة بمشيئة الله ..
أما إذا دخلنا عليه دخول المتردد الذي لا يستشعر احتياجه إليه فسنبتعد كثيرًا عن دائرة معجزته.
(1) المصدر السابق ، ص 37.
(2)
أخرجه الحاكم، والبيهقي في الزهد.
ولنعلم جميعًا أن الإمداد على قدر الاستعداد، وأن التفاوت الحقيقي بين الناس ليس بالدرجة الأولى في الإمكانات، بل في الرغبات، فمن لديه رغبة أكيدة في الوصول لشيء ما فإنه - بعون الله - يبلغه
…
ويؤكد هذا المعنى ابن الجوزي بقوله: لو كانت النبوة تحصل بالاجتهاد لرأيت المقصر في تحصيلها في حضيض (1).
فيقينًا لو قويت رغبتنا في الانتفاع بالقرآن، والدخول في دائرة تأثير معجزته
…
لو قويت رغبتنا واشتدت حاجتنا للقلب الحي
…
للسعادة الحقيقية
…
لمعرفة الله
…
لجنة الدنيا
…
فيقينًا سنصل إلى مقصودنا في وقت قياسي، وكيف لا والله عز وجل ينتظر منا التفاتة صادقة ليُقبل علينا
…
أتراه يمنعنا من جريان معجزة القرآن علينا وهو يحبنا ويريد لنا الخير؟ {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب:43].
كل ما هو مطلوب منا أن نحرك قدم العزم، ونشمر عن ساعد الجد، وأن نلح على الله في الدعاء بأن يجعلنا من أهل المعجزة القرآنية، ثم نقبل على القرآن باجتهاد وصدق ننتظر الفتح منه سبحانه
…
قال صلى الله عليه وسلم: «
…
ومن يتحر الخير يُعطه» (2)
أمامك عقبة:
من الأمور التي قد تمنع الواحد منا من استشعار حاجته إلى المعجزة القرآنية أنه قد تعود على تدبر القرآن واستخراجه لمعانٍ عظيمة منه، فهذا من شأنه أن يُشعره بأنه قد أدى حق القرآن، وانتفع به، ومن ثمَّ لا يقع الحديث عن المعجزة القرآنية موقعه الصحيح في نفسه، ولا يتفاعل معها، بل وقد يعتبر أن هذا الكلام موجهًا إلى غيره، لذلك فإن من المهم أن يتأكد لدينا بأن المقصد من التعامل الصحيح مع القرآن ليس التدبر فقط، بل أن يصبح القرآن مصدرًا رئيسًا لتوليد القوة الروحية، وهذا يستلزم حصول التأثر وتجاوب المشاعر مع المعاني التي تفهمها عقولنا، فهذا الذي يزيد الإيمان ويولد الطاقة، ويسير بالقلب قُدمًا نحو التحرر من أسر الهوى، ومن ثمَّ تتم يقظته وحياته الدائمة.
إن العلم وحده لا يكفي ليكون دافعًا للعمل، بل لابد أن يمتزج بالعاطفة، ويؤثر في المشاعر والقرآن يفعل ذلك بكل سهولة ويسر -إذا ما أحسن المرء التعامل معه-، وقراءته بالطريقة التي تخاطب الفكر والعاطفة معًا، والتي دلنا عليها الله عز وجل عندما أمرنا بتدبره وترتيله.
فمخاطبة الفكر تحتاج إلى إعمال العقل عند قراءة الآيات
…
وهذا هو جوهر التدبر {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الألْبَابِ} [ص:29].
ومخاطبة العاطفة تحتاج إلى وسائل تستثيرها، فبالإضافة إلى أساليب القرآن المؤثرة، إلا أن هناك أمرًا بالغ الأهمية يقوم بالطرق على المشاعر طرقًا شديدًا ألا وهو الترتيل {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} [المزمل:4] ، وتحسين الصوت بالقراءة «زينوا أصواتكم، فإن الصوت الحسن يزيد القرآن حسنًا» (3)
فإذا ما قام المرء بقراءة القرآن قراءة هادئة بطيئة مرتلة مع إعمال العقل فيما يقرأ، فسيكون لذلك أبلغ الأثر في مزج الفكر بالعاطفة والوصول لدرجة التأثر والتفاعل مع القراءة، ومن ثمَّ تكون الطاقة والروح الدافعة للعمل ..
(1) صيد الخاطر.
(2)
حسن، صحيح الجامع ح (2328)
(3)
صحيح، رواه أبو داود، وصححه الألباني في صحيح الجامع (3581)