الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخاتمة فِي إبِْطَال شبه المقلدين وَالْجَوَاب عَمَّا أوردوه على المتبعين أهل الْأَهْوَاء المتعصبين
قَالَ ابْن الْقيم فِي الْأَعْلَام فصل فِي عقد مجْلِس مناظرة بَين مقلد معاند وَصَاحب حجَّة منقاد للحق حَيْثُ كَانَ
قَالَ الْمُقَلّد نَحن معاشر المقلدين ممتثلون قَول الله سُبْحَانَهُ {فاسألوا أهل الذّكر إِن كُنْتُم لَا تعلمُونَ} فَأمر سُبْحَانَهُ من لَا علم لَهُ أَن يسْأَل من هُوَ أعلم وَهَذَا نَص قَوْلنَا وَلَقَد أرشدنا النَّبِي صلى الله عليه وسلم إِلَى سُؤال من يعلم فَقَالَ فِي حَدِيث صَاحب الشَّجَّة أَلا سَأَلُوا إِذْ لم يعلمُوا إِنَّمَا شِفَاء العي السُّؤَال وَقَالَ أَبُو العسيف الَّذِي زنى ابْنه بِامْرَأَة مستأجرة وَإِنِّي سَأَلت أهل الْعلم فَأَخْبرُونِي أَن على ابْني جلد مائَة وَأَن على امْرَأَة هَذَا الرَّجْم فَلم يُنكر عَلَيْهِ تَقْلِيد من هُوَ أعلم مِنْهُ وَهَذَا عَالم الأَرْض عمر قد قلد أَبَا بكر فروى شُعْبَة عَن عَاصِم الْأَحول عَن الشّعبِيّ أَن أَبَا بكر قَالَ فِي الْكَلَالَة أَقْْضِي فِيهَا فَإِن يكن صَوَابا فَمن الله وَإِن يكن خطأ فمني وَمن الشَّيْطَان وَالله بَرِيء وَهُوَ مَا دون الْوَلَد وَالْوَالِد فَقَالَ عمر بن الْخطاب إِنِّي لأستحيي من الله أَن أُخَالِف أَبَا بكر وَصَحَّ عَنهُ أَنه قَالَ لَهُ رَأينَا تبع لرأيك وَصَحَّ عَن ابْن مَسْعُود أَنه كَانَ يَأْخُذ بقول عمر وَقَالَ الشّعبِيّ كَانَ سِتَّة من أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عليه وسلم يفتون النَّاس ابْن مَسْعُود وَعمر بن الْخطاب وَعلي وَزيد بن ثَابت وَأبي بن كَعْب وَأَبُو مُوسَى وَكَانَ ثَلَاثَة مِنْهُم يدعونَ قَوْلهم لقَوْل ثَلَاثَة كَانَ عبد الله يدع قَوْله لقَوْل عمر وَكَانَ أَبُو مُوسَى يدع قَوْله لقَوْل عَليّ وَكَانَ زيد يدع قَوْله لقَوْل أبي بن كَعْب وَقَالَ حبيب مَا كنت أدع قَول ابْن مَسْعُود لقَوْل أحد من النَّاس وَقد قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم إِن معَاذًا قد سنّ لكم سنة وَذَلِكَ مَا فعله فِي شَأْن الصَّلَاة حَيْثُ أخر قضاءما فَاتَهُ مَعَ الإِمَام إِلَى بعد الْفَرَاغ وَكَانُوا يصلونَ مَا فاتهم أَولا ثمَّ يدْخلُونَ مَعَ الإِمَام وَقَالَ المقلدون وَقد أَمر الله تَعَالَى بِطَاعَتِهِ وَطَاعَة رَسُوله ص وأولي الْأَمر وهم الْعلمَاء أَو الْعلمَاء والأمراء وطاعتهم تقليدهم فِيمَا يفتون بِهِ فَإِنَّهُ لَوْلَا تقليدهم لم يكن هُنَاكَ طَاعَة اخْتصَّ بهم وَقَالَ الله تَعَالَى {وَالسَّابِقُونَ الْأَولونَ من الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار وَالَّذين اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَان رَضِي الله عَنْهُم وَرَضوا عَنهُ}
وتقليدهم اتِّبَاع لَهُم ففاعله مِمَّن رضي الله عنه وَيَكْفِي فِي ذَلِك الحَدِيث الْمَشْهُور أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ وَقَالَ عبد الله بن مَسْعُود من كَانَ مستنا فَليَسْتَنَّ بِمن قد مَاتَ فَإِن الْحَيّ لَا يُؤمن عَلَيْهِ الْفِتْنَة أُولَئِكَ أَصْحَاب مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم أبر هَذِه الْأمة قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا قوم اخْتَارَهُمْ الله لصحبة نبيه ص وَإِقَامَة دينه فاعرفوا لَهُم حَقهم وتمسكوا بهديهم فَإِنَّهُم كَانُوا على الْهدى الْمُسْتَقيم وَقد صَحَّ عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ عَلَيْكُم بِسنتي وَسنة الْخُلَفَاء الرَّاشِدين المهديين من بعدِي وَقَالَ اقتدوا بالذين من بعدِي أبي بكر وَعمر واهتدوا بِهَدي عمار وتمسكوا بِعَهْد ابْن أم عبد وَقد كتب عمر إِلَى شُرَيْح أَن اقْضِ بِمَا فِي كتاب الله فَإِن لم يكن فِي كتاب الله فبسنة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَإِن لم يكن فِي سنة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَاقْض بِمَا قضى بِهِ الصالحون وَقد منع عمر من بيع أُمَّهَات الْأَوْلَاد وَتَبعهُ الصَّحَابَة وألزم بِالطَّلَاق الثَّلَاث واتبعوه أَيْضا واحتلم مرّة فَقَالَ لَهُ عَمْرو بن الْعَاصِ خُذ ثوبا غير ثَوْبك فَقَالَ لَو فعلتها صَارَت سنة وَقد قَالَ أبي بن كَعْب وَغَيره من الصَّحَابَة مَا استبان لَك فاعمل بِهِ وَمَا اشْتبهَ عَلَيْك فكله إِلَى عالمه وَقد كَانَ الصَّحَابَة رضي الله عنهم يفتون وَرَسُول الله صلى الله عليه وسلم حَيّ بَين أظهرهم وَهَذَا تَقْلِيد لَهُم قطعا إِذْ قَوْلهم لَا يكون حجَّة فِي حَيَاة النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَقد قَالَ تَعَالَى {فلولا نفر من كل فرقة مِنْهُم طَائِفَة ليتفقهوا فِي الدّين ولينذروا قَومهمْ إِذا رجعُوا إِلَيْهِم لَعَلَّهُم يحذرون} فَأوجب عَلَيْهِم قبُول ماأنذروهم بِهِ إِذا رجعُوا إِلَيْهِم وَهَذَا تَقْلِيد مِنْهُم للْعُلَمَاء
وَصَحَّ عَن ابْن الزبير أَنه سُئِلَ عَن الْجد والأخوة فَقَالَ أما الَّذِي قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لَو كنت متخذا خَلِيلًا من أهل الأَرْض لاتخذت أَبَا بكر خَلِيلًا فَإِنَّهُ أنزلهُ أَبَا وَهَذَا ظَاهر فِي تَقْلِيده لَهُ وَقد أَمر الله سُبْحَانَهُ بِقبُول شَهَادَة الشَّاهِد وَذَلِكَ تَقْلِيد لَهُ وَجَاءَت الشَّرِيعَة بِقبُول قَول الْقَائِف والخارص وَالقَاسِم والمقوم للمتلفات وَغَيرهَا والحاكمين بِالْمثلِ فِي جَزَاء الصَّيْد وَذَلِكَ تَقْلِيد مَحْض وَاجْتمعت الْأمة على قبُول قَول المترجم وَالرَّسُول والمعرف والمعدل وَاخْتلفُوا فِي جَوَاز الِاكْتِفَاء بِوَاحِد وَذَلِكَ تَقْلِيد مَحْض لهَؤُلَاء وَأَجْمعُوا على جَوَاز شِرَاء اللحمان وَالثيَاب والأطعمة وَغَيرهَا من غير سُؤال عَن أَسبَاب حلهَا وتحريمها اكتفاءا بتقليد أَرْبَابهَا وَلَو كلف النَّاس كلهم الِاجْتِهَاد وَأَن يَكُونُوا عُلَمَاء لضاعت مصَالح الْعباد وتعطلت الصَّنَائِع والمتاجر وَكَانَت النَّاس كلهم عُلَمَاء مجتهدين وَهَذَا مِمَّا لَا سَبِيل إِلَيْهِ شرعا وَالْقدر قد منع من وُقُوعه
وَقد أجمع النَّاس على تَقْلِيد الزَّوْج للنِّسَاء اللَّاتِي يهدين إِلَيْهِ زَوجته وَجَوَاز وَطئهَا تقليدا لَهُنَّ فِي كَونهَا هِيَ زَوجته وَأَجْمعُوا على أَن الْأَعْمَى يُقَلّد فِي الْقبْلَة وعَلى تَقْلِيد الْأَئِمَّة فِي الطَّهَارَة وَقِرَاءَة الْفَاتِحَة وَمَا يَصح بِهِ الِاقْتِدَاء وعَلى تَقْلِيد الزَّوْجَة مسلمة كَانَت أَو ذِمِّيَّة أَنَّهَا قد طهرت من
حَيْضهَا وَيُبَاح للزَّوْج وَطْؤُهَا بالتقليد وَيُبَاح للْوَلِيّ تَزْوِيجهَا بالتقليد لَهَا فِي انْقِضَاء عدتهَا وعَلى جَوَاز تَقْلِيد النَّاس للمؤذنين فِي دُخُول الْأَوْقَات للصَّلَاة وَلَا يجب عَلَيْهِم الِاجْتِهَاد وَمَعْرِفَة ذَلِك بِالدَّلِيلِ وَقد قَالَت الْأمة السَّوْدَاء لعقبة بن الْحَارِث أَرْضَعتك وأرضعت امْرَأَتك فَأمره النَّبِي صلى الله عليه وسلم بفراقها وتقليدها فِيمَا أخْبرت من ذَلِك
وَقد صرح الْأَئِمَّة بِجَوَاز التَّقْلِيد فَقَالَ جَعْفَر بن غياث سَمِعت سُفْيَان يَقُول إِذا رَأَيْت الرجل يعْمل الْعَمَل الَّذِي قد اخْتلف فِيهِ وَأَنت ترى تَحْرِيمه فَلَا تتهمه وَقَالَ مُحَمَّد بن الْحسن يجوز للْعَالم تَقْلِيد من هُوَ أعلم مِنْهُ وَلَا يجوز لَهُ تَقْلِيد من هُوَ مثله وَقد صرح الشَّافِعِي بالتقليد فَقَالَ وَفِي الضبع بعير قَتله تقليدا لعطاء وَقَالَ فِي مَسْأَلَة بيع الْحَيَوَان بِالْبَرَاءَةِ من الْعُيُوب قلته تقليدا لعُثْمَان وَقَالَ فِي مَسْأَلَة الْجد مَعَ الْإِخْوَة أَنه يقاسمهم ثمَّ قَالَ وَإِمَّا قلت بقول زيد وَعنهُ أَخذ أَكثر الْفَرَائِض وَقد قَالَ فِي مَوضِع آخر من كِتَابه الْجَدِيد قلته تقليدا لعطاء وَهَذَا أَبُو حنيفَة فِي مسَائِل الْآثَار لَيْسَ مَعَه فِيهَا إِلَّا تَقْلِيد من تقدمه من التَّابِعين فِيهَا وَهَذَا مَالك لَا يخرج عَن عمل أهل الْمَدِينَة وَيُصَرح فِي موطئِهِ أَنه أدْرك الْعَمَل على هَذَا وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ أهل الْعلم ببلدنا وَيَقُول فِي غير مَوضِع مَا رَأَيْت أحدا اقْتدى بِهِ يَفْعَله وَلَو جَمعنَا ذَلِك من كَلَامه لطال
وَقد قَالَ الشَّافِعِي فِي الصَّحَابَة رَأْيهمْ لنا خير من رَأينَا لأنفسنا وَنحن نقُول أَن رَأْي الشَّافِعِي وَالْأَئِمَّة مَعَه خير لنا من رَأينَا لأنفسنا
وَقد جعل الله تَعَالَى فِي فطر الْعباد تَقْلِيد المتعلمين للأستاذين والمعلمين وَلَا تقوم مصَالح الْخلق إِلَّا بِهَذَا وَذَلِكَ عَام فِي كل علم وصناعة وَقد فاوت الله سُبْحَانَهُ بَين قوى الأذهان كَمَا فاوت بَين قوى الْأَبدَان فَلَا يحسن فِي حكمته وعدله وَرَحمته أَن يفْرض على جَمِيعهم معرفَة الْحق بدليله
وَالْجَوَاب عَن معارضته فِي جَمِيع مسَائِل الدّين دقيقها وجليلها وَلَو كَانَ كَذَلِك لتساوت أَقْدَام الخليقة فِي كَونهم عُلَمَاء بل جعل الله سُبْحَانَهُ هَذَا عَالما وَهَذَا متعلما وَهَذَا مُتبعا للْعَالم مؤتما بِهِ بِمَنْزِلَة الْمَأْمُوم مَعَ الإِمَام وَالتَّابِع مَعَ الْمَتْبُوع وَأَيْنَ حرم الله تَعَالَى على الْجَاهِل أَن يكون مُتبعا للْعَالم مؤتما بِهِ مُقَلدًا لَهُ يسير بسيره وَينزل بنزوله وَقد علم الله سُبْحَانَهُ أَن الْحَوَادِث والنوازل كل وَقت نازلة بالخلق فَهَل فرض على كل مِنْهُم فرض عين أَن يَأْخُذ حكم نازلة من الْأَدِلَّة الشَّرْعِيَّة بشروطها ولوازمها وَهل ذَلِك فِي إِمْكَان فضلا عَن كَونه مَشْرُوعا وَهَؤُلَاء أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فتحُوا الْبِلَاد وَكَانَ حَدِيث الْعَهْد بِالْإِسْلَامِ يسألهم فيفتونه وَلَا يَقُولُونَ لَهُ وَعَلَيْك أَن تطلب معرفَة الْحق فِي هَذِه الْفَتْوَى بِالدَّلِيلِ وَلَا يعرف ذَلِك من أحد مِنْهُم الْبَتَّةَ وَهل التَّقْلِيد إِلَّا من لَوَازِم التَّكْلِيف ولوازم الْوُجُود فَهُوَ من لَوَازِم الشَّرْع وَالْقدر والمنكرون لَهُ مضطرون إِلَيْهِ وَلَا بُد وَذَلِكَ فِيمَا تقدم بَيَانه من الْأَحْكَام وَغَيرهَا
ونقول لمن احْتج على إِبْطَاله كل حجَّة أثرية ذكرتها فَأَنت مقلد لملتها ورواتها إِذا لم يتم دَلِيل قَطْعِيّ على صدقهم فَلَيْسَ بِيَدِك إِلَّا تَقْلِيد الرَّاوِي وَلَيْسَ بيد الْحَاكِم إِلَّا تَقْلِيد الشَّاهِد وَكَذَلِكَ لَيْسَ بيد الْعَاميّ إِلَّا تَقْلِيد الْعَالم فَمَا الَّذِي سوغ لَك تَقْلِيد الرَّاوِي وَالشَّاهِد ومنعنا من تَقْلِيد الْعَالم وَهَذَا سمع بأذنه مَا رَوَاهُ وَهَذَا عقل بِقَلْبِه مَا سَمعه فَأدى هَذَا مسموعه وَأدّى هَذَا معقوله وَفرض على هَذَا تأدية مَا سَمعه وعَلى هَذَا تأدية مَا عقله وعَلى من لم يبلغ منزلتهما الْقبُول مِنْهُمَا
ثمَّ يُقَال للمانعين من التَّقْلِيد أَنْتُم منعتموه خشيَة وُقُوع الْمُقَلّد فِي الْخَطَأ بِأَن يكون من قَلّدهُ مخطئا فِي فتواه ثمَّ أوجبتم عَلَيْهِ النّظر وَالِاسْتِدْلَال فِي طلب الْحق وَلَا ريب أَن صَوَابه فِي تَقْلِيده للْعَالم أقرب من صَوَابه فِي اجْتِهَاده هُوَ لنَفسِهِ وَهَذَا كمن أَرَادَ شِرَاء سلْعَة لَا خبْرَة لَهُ بهَا فَإِنَّهُ إِذا قلد عَالما بِتِلْكَ السّلْعَة خَبِيرا بهَا أَمينا ناصحا كَانَ صَوَابه وَحُصُول غَرَضه أقرب من اجْتِهَاده لنَفسِهِ وَهَذَا مُتَّفق عَلَيْهِ بَين الْعُقَلَاء
وَقَالَ أَصْحَاب الْحجَّة عجبا لكم معاشر المقلدين الشَّاهِدين على أنفسهم مَعَ شَهَادَة أهل الْعلم بِأَنَّهُم لَيْسُوا من أَهله وَلَا معدودين فِي زمرة جيله كَيفَ ابطلتم مذهبكم بِنَفس دليلكم فَمَا للمقلد وَمَا للاستدلال وَأَيْنَ منصب الْمُقَلّد من منصب الْمُسْتَدلّ بل مَا ذكرْتُمْ من الْأَدِلَّة إِلَّا ثيابًا استعرتموها من صَاحب الْحجَّة فتجملتم بهَا بَين النَّاس وكنتم فِي ذَلِك متشبعين بِمَا لم تعطوه ناطقين من الْعلم بِمَا شهدتم على أَنفسكُم أَنكُمْ لم تؤتوه وَذَلِكَ وب زور لبستموه ومنصب لَسْتُم من أَهله غصبتموه فأخبرونا هَل صرتم إِلَى التَّقْلِيد لدَلِيل قادكم إِلَيْهِ وبرهان دلكم عَلَيْهِ فَنزلت بِهِ من الِاسْتِدْلَال أقرب منزل وكنتم بِهِ عَن التَّقْلِيد بمعزل أَو سلكتم بِهِ اتِّفَاقًا وبحثا عَن غير دَلِيل وَلَيْسَ إِلَى خروجكم عَن أحد هذَيْن الْقسمَيْنِ سَبِيل وَأيهمَا كَانَ فَهُوَ بِفساد مَذْهَب التَّقْلِيد حَاكم وَالرُّجُوع إِلَى مَذْهَب الْحجَّة لَازم وَنحن إِن خاطبناكم بِلِسَان الْحجَّة قُلْتُمْ لسنا من أهل هَذَا السَّبِيل وَإِن خاطبناكم بِحكم التَّقْلِيد فَلَا معنى لما أقمتموه من الدَّلِيل وَالْعجب أَن كل طَائِفَة من الطوائف بل كل أمة من الْأُمَم تدعى أَنَّهَا على حق حاشا فرقة التَّقْلِيد فَإِنَّهُم لَا يدعونَ ذَلِك وَلَو ادعوهُ لكانوا مبطلين فَإِنَّهُم شاهدون على أنفسهم بِأَنَّهُم لم يعتقدوا بِتِلْكَ الْأَقْوَال الدَّلِيل قادهم إِلَيْهِ وبرهان دلهم عَلَيْهِ وَإِنَّمَا سبيلهم مَحْض التَّقْلِيد والمقلد لَا يعرف الْحق من الْبَاطِل وَلَا الحالي من العاطل
وأعجب من هَذَا أَن أئمتهم نهوهم عَن تقليدهم فعصوهم وخالفوهم وَقَالُوا نَحن على مذاهبهم وَقد دانوا بخلافهم فِي أصل الْمَذْهَب الَّذِي بنوا عَلَيْهِ فَإِنَّهُم بنوا على الْحجَّة ونهوا عَن التَّقْلِيد وأوصوهم إِذا ظهر الدَّلِيل أَن يتْركُوا أَقْوَالهم ويتبعوه فخالفوهم فِي ذَلِك كُله وَقَالُوا نَحن من أتباعهم تِلْكَ أمانيهم وَمَا أتباعهم إِلَّا من سلك سبيلهم واقتفى آثَارهم فِي أصولهم وفروعهم
وأعجب من ذَلِك انهم مصرحون فِي كثير بِبُطْلَان التَّقْلِيد وتحريمه وَأَنه لَا يحل القَوْل بِهِ فِي دين الله سُبْحَانَهُ وَلَو اشْترط الامام على الْحَاكِم أَن يحكم بِمذهب معِين لم يَصح شَرطه وَلَا تَوليته وَمِنْهُم من صحّح التَّوْلِيَة وأبطل الشَّرْط وَكَذَلِكَ الْمُفْتِي عَلَيْهِ الافتاء بِمَا يعلم صِحَّته بِاتِّفَاق النَّاس والمقلد لَا علم لَهُ بِصِحَّة القَوْل وفساده وَطَرِيق ذَلِك مسدود عَلَيْهِ ثمَّ كل مِنْهُم يعرف من نَفسه أَنه مقلد لمتبوعه لَا يُفَارق قَوْله وَيتْرك لَهُ كل مَا خَالفه من كتاب أَو سنة أَو قَول صَاحب أَو قَول من هُوَ أعلم من متبوعه أَو نَظِيره وَهَذَا من أعجب أَحْوَالهم
وايضا فَإنَّا نعلم بِالضَّرُورَةِ أَنه لم يكن فِي عصر الصَّحَابَة رضي الله عنهم رجل وَاحِد اتخذ رجلا مِنْهُم يقلده فِي جَمِيع أَقْوَاله فَلم يسْقط مِنْهَا شَيْئا وَأسْقط أَقْوَال غَيره فَلم يَأْخُذ مِنْهَا شَيْئا ونعلم بِالضَّرُورَةِ أَن هَذَا لم يكن فِي عصر التَّابِعين وَلَا تَابع التَّابِعين فليكذبنا المقلدون بِرَجُل وَاحِد سلك سبيلهم الوخيمة فِي الْقُرُون المفضلة على لِسَان رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وانما حدثت هَذِه الْبِدْعَة فِي الْقرن الرَّابِع المذموم على لِسَانه ص فالمقلدون لمتبوعيهم فِي جَمِيع مَا قَالُوهُ يبيحون بِهِ الْفروج والدماء وَالْأَمْوَال ويحرمونها وَلَا يَدْرُونَ ذَلِك صَوَابا أَو خطأ على خطر عَظِيم وَلَهُم بَين يَدي الله تَعَالَى موقف شَدِيد يعلم فِيهِ من قَالَ على الله تَعَالَى مَا لَا يعلم أَنه لم يكن على شئ
وايضا فَنَقُول لكل من قلد وَاحِدًا من النَّاس دون غَيره مَا الَّذِي خص صَاحبك أَن يكون أولى بالتقليد من غَيره فَإِن قَالَ لِأَنَّهُ أعلم أهل عصره وَزَاد فَضله على من قبله مَعَ جزمه الْبَاطِل أَنه لم يجِئ بعده أعلم مِنْهُ قيل لَهُ وَمَا يدْريك وَلست من أهل الْعلم بشهادتك على نَفسك أَنه أعلم الْأمة فِي وقته فان هَذَا انما يعرفهُ من عرف الْمذَاهب وأدلتها وراجحها ومرجوحها فَمَا للأعمى وَنقد الدَّرَاهِم وَهَذَا أَيْضا بَاب آخر من القَوْل على الله تَعَالَى بِلَا علم
وَيُقَال لَهُ ثَانِيًا فَأَبُو بكر الصّديق وَعمر بن الْخطاب وَعُثْمَان وَعلي بن أبي طَالب وَابْن مَسْعُود وَأبي بن كَعْب ومعاذ بن جبل وَعَائِشَة وَابْن عَبَّاس وَابْن عمر رضي الله عنهم أعلم من صَاحبك بِلَا شكّ فَهَلا قلتدهم وَتركته بل سعيد بن الْمسيب وَالشعْبِيّ وَعَطَاء وَطَاوُس وأمثالهم أعلم وَأفضل بِلَا شكّ وَلم تركت تَقْلِيد الأعلم الْأَفْضَل الأجمع لأدوات الْخَيْر وَالْعلم وَالدّين ورغبت عَن أَقْوَاله ومذاهبه إِلَى من هُوَ دونه فان قَالَ لِأَن صَاحِبي وَمن قلدته أعلم بِهِ مني فتقليدي لَهُ أوجب على مُخَالفَة قَوْله لقَوْل من قلدته لِأَن وفور علمه وَدينه يمنعهُ من مُخَالفَة من هُوَ فَوْقه وَأعلم مِنْهُ الا لدَلِيل صَار اليه أَو هُوَ أولى من قَول كل وَاحِد من هَؤُلَاءِ قيل لَهُ وَمن أَيْن علمت الدَّلِيل الَّذِي صَار اليه صَاحبك الَّذِي زعمت أَنْت وَصَاحِبك أَنه أولى من الدَّلِيل الَّذِي صَار اليه من هُوَ أعلم مِنْهُ وَخير مِنْهُ أَو هُوَ نَظِيره وقولان مَعًا متناقضان لَا يكونَانِ صَوَابا بل
أَحدهمَا هُوَ الصَّوَاب وَمَعْلُوم أَن ظفر الأعلم الْأَفْضَل بِالصَّوَابِ أقرب من ظفر من هُوَ دونه
فَإِن قَالَ علمت ذَلِك بِالدَّلِيلِ فههنا يُقَال لَهُ إِذا فقد انْتَقَلت عَن منصب التَّقْلِيد الى منصب الِاسْتِدْلَال وابطلت التَّقْلِيد
ثمَّ يُقَال لَهُ ثَانِيًا هَذَا لَا ينفعك شَيْئا الْبَتَّةَ فِيمَا اخْتلف فِيهِ فان من قلدته وَمن قلد غَيْرك قد اخْتلفَا وَصَارَ من قَلّدهُ غَيْرك الى مُوَافقَة أبي بكر وَعمر أَو عَليّ أَو ابْن عَبَّاس أَو عَائِشَة وَغَيرهم دون من قلدته فَهَلا نصحت نَفسك واهتديت لرشدك وَقلت هَذَانِ عالمان كبيران وَمَعَ أَحدهمَا من ذكر من الصَّحَابَة فَهُوَ أولى بتقليدي اياه
وَيُقَال ثَالِثا امام بِإِمَام وَيسلم قَول الصَّحَابِيّ فَيكون أولى بالتقليد
وَيُقَال رَابِعا إِذا جَازَ أَن يظفر من قلدته بِعلم خَفِي على عمر بن الْخطاب وَعلي بن أبي طَالب وَعبد الله بن مَسْعُود وَمن دونهم فأجوز وأجوز أَن يظفر نَظِيره وَمن بعده بِعلم خَفِي عَلَيْهِ هُوَ فَإِن النِّسْبَة بَين من قلدته وَبَين نَظِيره وَمن بعده أقرب بِكَثِير من النِّسْبَة بَينه وَبَين الصَّحَابَة والخفاء على من قلدته أقرب من الخفاء على الصَّحَابَة
وَيُقَال خَامِسًا اذا سوغت لنَفسك مُخَالفَة الْأَفْضَل الأعلم لقَوْل الْمَفْضُول فَهَلا سوغت لَهَا مُخَالفَة الْمَفْضُول لمن هُوَ أعلم مِنْهُ وَهل كَانَ الَّذِي يَنْبَغِي وَيجب الاعكس مَا ارتكبته
وَيُقَال سادسا هَل أَنْت فِي تَقْلِيد امامك واباحة الْفروج وَالْأَمْوَال ونقلها عَمَّن هِيَ بِيَدِهِ الى غَيره مُوَافق لأمر الله تَعَالَى وَرَسُوله ص أَو إِجْمَاع أمته أَو قَول أحد من الصَّحَابَة فَإِن قَالَ نعم قيل لَهُ مَا يعلم الله وَرَسُوله وَجَمِيع الْعلمَاء بُطْلَانه وَإِن قَالَ لَا فقد كفانا مُؤْنَته وَشهد على نَفسه بِشَهَادَة الله وَرَسُوله وَأهل الْعلم عَلَيْهِ
وَيُقَال سابعا تقليدك لمتبوعك يحرم عَلَيْك تَقْلِيده فَإِنَّهُ نهاك عَن ذَلِك وَقَالَ لَا يحل لَك أَن تَقول بقوله حَتَّى تعلم من أَيْن قَالَه ونهاك عَن تَقْلِيده وتقليد غَيره من الْعلمَاء فَإِن كنت مُقَلدًا لَهُ فِي جَمِيع مذْهبه فَهَذَا من مذْهبه فَهَلا اتبعته فِيهِ
وَيُقَال ثامنا هَل أَنْت على بَصِيرَة فِي أَن من قلدته أولى بِالصَّوَابِ من سَائِر من رغبت عَن قَوْله من الْأَوَّلين والآخرين أم لست على بَصِيرَة فَإِن قَالَ أَنا على بَصِيرَة قَالَ مَا يعلم بُطْلَانه وَإِن قَالَ لست على بَصِيرَة وَهُوَ الْحق قيل لَهُ وَمَا عذرك غَدا بَين يَدي الله سُبْحَانَهُ حِين لَا ينفعك من قلدته بحسنة وَاحِدَة وَلَا يحمل عَنْك سَيِّئَة وَاحِدَة إِذا حكمت وأفتيت بَين خلقه بِمَا لست على بَصِيرَة مِنْهُ هَل هُوَ خطأ أم صَوَاب
وَيُقَال تاسعا هَل تَدعِي عصمَة متبوعك أَو تجوز عَلَيْهِ الْخَطَأ وَالْأول لَا سَبِيل اليه بل تقر
بِبُطْلَانِهِ فَتعين الثَّانِي واذا جوزت عَلَيْهِ الْخَطَأ فَكيف تحلل وَتحرم وتوجب وتريق الدِّمَاء وتبيح الْفروج وتنقل الْأَمْوَال وتضرب الأبشار بقول من أَنْت مقرّ بِجَوَاز كَونه مخطئا
وَيُقَال عاشرا هَل تَقول اذا حكمت وأفتيت بقول من قلدته إِن هَذَا هُوَ دين الله الَّذِي أرسل بِهِ رَسُوله ص وَانْزِلْ بِهِ كِتَابه وشرعه لِعِبَادِهِ وَلَا دين لَهُ سواهُ أَو تَقول أَن دين الله تَعَالَى الَّذِي شَرعه لِعِبَادِهِ خِلَافه أَو تَقول لَا أَدْرِي وَلَا بذلك من قَول من هَذِه الْأَقْوَال وَلَا سَبِيل لَك الى الأول قطعا فان دين الله الَّذِي لَا دين لَهُ سواهُ لَا يسوغ مُخَالفَته وَأَقل دَرَجَات مخالفه أَن يكون من الآثمين وَالثَّانِي لَا تدعيه فَلَيْسَ لَك ملْجأ إِلَّا الثَّالِث فيا لله الْعجب كَيفَ تستباح الْفروج والدماء وَالْأَمْوَال والحقوق وتحلل وَتحرم بِأَمْر أحسن أَحْوَاله وأفضلها لَا أَدْرِي
…
فَإِن كنت لَا تَدْرِي فَتلك مُصِيبَة
…
وَإِن كنت تَدْرِي فالمصيبة أعظم
…
وَيُقَال حادي عشر على أَي شئ كَانَ النَّاس قبل أَن يُولد فلَان وَفُلَان وَفُلَان الَّذين قلدتموهم وجعلتم أَقْوَالهم بِمَنْزِلَة نُصُوص الشَّارِع وليتكُمْ اقتصرتم على ذَلِك بل جعلتموها أولى بالاتباع من نُصُوص الشَّارِع أَفَكَانَ النَّاس قبل وجود هَؤُلَاءِ على هدى أَو ضَلَالَة فَلَا بُد من أَن يقرُّوا بِأَنَّهُم كَانُوا على هدى فَيُقَال لَهُم فَمَا الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ غير اتِّبَاع الْقُرْآن وَالسّنَن والْآثَار وَتَقْدِيم قَول الله تَعَالَى وَرَسُوله ص وآثار الصَّحَابَة على مَا يُخَالِفهَا والتحاكم اليها دون قَول فلَان ورأي فلَان وَإِذا كَانَ هَذَا هُوَ الْهدى {فَمَاذَا بعد الْحق إِلَّا الضلال فَأنى تصرفون}
فَإِن قَالَت كل فرقة من المقلدين وَكَذَلِكَ يَقُول صاحبنا هُوَ الَّذِي ثَبت على مَا مضى عَلَيْهِ السّلف واقتفى مناهجهم وسلك سبيلهم قيل لَهُم فَمن سواهُ من الْأَئِمَّة هَل شَارك صَاحبكُم فِي ذَلِك اَوْ انْفَرد صَاحبكُم بالاتباع وَحرمه من عداهُ فَلَا بُد من وَاحِد من الْأَمريْنِ فَإِن قَالُوا بِالثَّانِي فهم أضلّ سَبِيلا من الانعام وَإِن قَالُوا بِالْأولِ فَيُقَال كَيفَ وفقتم بِقبُول قَول صَاحبكُم كُله ورد قَول من هُوَ مثله أَو أعلم مِنْهُ كُله فَلَا يرد لهَذَا قَول حَتَّى كَانَ الصَّوَاب وَقفا على صَاحبكُم وَالْخَطَأ وَقفا على من خَالفه وَلِهَذَا أَنْتُم موكلون بنصرته فِي كل مَا قَالَه وبالرد على من خَالفه فِي كل مَا قَالَه وَهَذِه حَال الْفرْقَة الْأُخْرَى مَعكُمْ
وَيُقَال ثَانِي عشر من قلدتموهم من الْأَئِمَّة قد نهوكم عَن تقليدهم وَأَنْتُم أول مُخَالف لَهُم
قَالَ الشَّافِعِي مثل الَّذِي يطْلب الْعلم بِلَا حجَّة كَمثل حَاطِب ليل يحمل حزمة حطب وَفِيه أَفْعَى تلدغه وَهُوَ لَا يدْرِي وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف لَا يحل لأحد أَن يَقُول بقولنَا حَتَّى يعلم من أَيْن قُلْنَاهُ وَقَالَ أَحْمد لَا تقلد دينك أحدا
وَيُقَال ثَالِث عشر هَل أَنْتُم موقنون بأنكم غَدا موقوفون بَين يَدي الله سُبْحَانَهُ وتسألون عَمَّا قضيتم بِهِ فِي دِمَاء عباده وفروجهم وَأَمْوَالهمْ وَعَما أفتيتم بِهِ فِي دينه محرمين ومحللين وموجبين
فان قَالُوا نَحن موقنون بذلك فَيُقَال لَهُم فاذا سألكم من أَيْن قُلْتُمْ ذَلِك فَمَاذَا جوابكم فان قُلْتُمْ جَوَابنَا انا احللنا أَو حرمنا وقضينا بِمَا فِي كتاب الأَصْل لمُحَمد بن الْحسن مِمَّا رَوَاهُ عَن أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف من رَأْي وَاخْتِيَار وَبِمَا فِي الْمُدَوَّنَة من رِوَايَة سَحْنُون عَن ابْن الْقَاسِم من رَأْي وَاخْتِيَار وَبِمَا فِي الْأُم من رِوَايَة الرّبيع من رَأْي وَاخْتِيَار وَبِمَا فِي جوابات غير هَؤُلَاءِ من رَأْي وَاخْتِيَار وليتكُمْ اقتصرتم على ذَلِك أَو صعدتم اليه أَو سامت هممكم نَحوه بل نزلتم عَن ذَلِك طَبَقَات فَإِذا سئلتم هَل فَعلْتُمْ ذَلِك عَن أَمْرِي أَو عَن أَمر رَسُولي فَمَاذَا يكون جوابكم إِذا فان أمكنكم حِينَئِذٍ أَن تَقولُوا فعلنَا مَا أمرتنا بِهِ وأمرنا بِهِ رَسُولك ص فزتم وتخلصتم وان لم يمكنكم ذَلِك فَلَا بُد أَن تَقولُوا لم تَأْمُرنَا بذلك وَلَا رَسُولك وَلَا أَئِمَّتنَا وَلَا بُد من أحد الجوابين فَإِن قُلْتُمْ نَحن وَأَنْتُم فِي ذَلِك السُّؤَال سَوَاء قيل أجل وَلَكِن نفترق فِي الْجَواب فَنَقُول يَا رَبنَا إِنَّك تعلم أَنا لم نجْعَل أحدا من النَّاس عيارا على كلامك وَكَلَام رَسُولك ص وَكَلَام اصحاب رَسُولك ونرد مَا تنازعنا فِيهِ اليه ونتحاكم الى قَوْله ونقدم أَقْوَاله على كلامك وَكَلَام رَسُولك صلى الله عليه وسلم وَكَلَام أَصْحَابه وَكَانَ الْخلق عندنَا أَهْون من أَن نقدم كَلَامهم وآرائهم على وحيك بل إكتفينا بِمَا وجدنَا فِي كتابك وَبِمَا وصل الينا من سنة رَسُولك وَبِمَا افتى بِهِ أَصْحَاب نبيك وان عدلنا عَن ذَلِك فخطأ منا لم يكن عمدا وَلم نتَّخذ من دُونك وَلَا رَسُولك وَلَا الْمُؤمنِينَ وليجة وَلم نفرق ديننَا ونكون شيعًا وَلم نقطع أمرنَا بَيْننَا زبرا وَجَعَلنَا أَئِمَّتنَا قدوة لنا ووسائط بَيْننَا وَبَين رَسُولك ص فِي نقلهم مَا بلغوه عَن رَسُولك فاتبعناهم فِي ذَلِك وقلدناهم فِيهِ إِذْ أمرتنا أَنْت وأمرنا رَسُولك ص بِأَن نسْمع مِنْهُم ونقبل مَا بلغوه عَنْك وَعَن رَسُولك ص فسمعا لَك ولرسولك وَطَاعَة وَلم نتخذهم أَرْبَابًا نَتَحَاكَم الى أَقْوَالهم ونخاصم بهَا ونوالي ونعادي عَلَيْهَا بل عرضنَا اقوالهم على كتابك وَسنة رَسُولك فَمَا وافقهما قبلناه وَمَا خالفهما أعرضنا عَنهُ وَتَرَكْنَاهُ وان كَانُوا أعلم منا بك وبرسولك فَمن وَافق قَوْله قَول رَسُولك ص كَانَ أعلم مِنْهُم فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَة فَهَذَا جَوَابنَا وَنحن نناشدكم الله وَهل أَنْتُم كَذَلِك حَتَّى يمكنكم هَذَا الْجَواب بَين يَدي من لَا يُبدل القَوْل لَدَيْهِ وَلَا يروج الْبَاطِل عَلَيْهِ
وَيُقَال رَابِع عشر كل طَائِفَة مِنْكُم معاشر طوائف المقلدين قد أنزلت جَمِيع الصَّحَابَة من أَوَّلهمْ الى آخِرهم وَجَمِيع التَّابِعين من أَوَّلهمْ الى آخِرهم وَجَمِيع عُلَمَاء الْأمة من أَوَّلهمْ الى آخِرهم إِلَى من قلدتموهم فِي مَكَان من لَا يعْتد بقوله وَلَا ينظر فِي فتواه وَلَا يشْتَغل بهَا وَلَا يعْتد بهَا وَلَا وَجه للنَّظَر فِيهَا إِلَّا للتمحل واعمال الْفِكر وكده فِي الرَّد عَلَيْهِم إِذا خَالَفت قَوْلهم قَول متبوعهم وَهَذَا هُوَ المسوغ للرَّدّ عَلَيْهِم فَإِذا خَالَفت قَول متبوعهم نصا عَن الله تَعَالَى وَرَسُوله ص فَالْوَاجِب التمحل
والتكلف فِي اخراج ذَلِك النَّص عَن دلَالَته والتحيل لدفعه بِكُل طَرِيق حَتَّى يَصح قَول متبوعهم فيا لله لدينِهِ وَكتابه وَسنة رَسُوله ولبدعة كَادَت تثل عرش الايمان وتهدم رُكْنه لَوْلَا أَن الله تَعَالَى ضمن لهَذَا الدّين أَن لَا يزَال فِيهِ من يتَكَلَّم بأعلامه ويذب عَنهُ فَمن أَسْوَأ أدبا على الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَسَائِر عُلَمَاء الْمُسلمين وَأَشد اسْتِخْفَافًا بحقوقهم وَأَقل رِعَايَة لواجبها وَأعظم استهانة بهم مِمَّن لَا يلْتَفت الى قَول رجل وَاحِد مِنْهُم وَلَا الى فَتْوَى غير صَاحبه الَّذِي اتَّخذهُ وليجة من دون الله وَرَسُوله ص
وَيُقَال خَامِس عشر اذا نزل عِيسَى بن مَرْيَم عليه السلام اماما عدلا وَحكما مقسطا فبمذهب من يحكم وبرأي من يقْضِي وَمَعْلُوم أَنه لَا يقْضِي وَلَا يحكم إِلَّا بشريعة نَبينَا ص الَّتِي شرعها الله تَعَالَى لِعِبَادِهِ فَذَلِك الَّذِي يقْضِي بِهِ عِيسَى بن مَرْيَم ص أَحَق وَأولى هُوَ الَّذِي أوجب الله تَعَالَى عَلَيْكُم أَن تقضوا وتفتوا بِهِ وَلَا يحل لأحد أَن يقْضِي وَلَا يُفْتِي بِشَيْء سواهُ الْبَتَّةَ
وَيُقَال سادس عشر من عَجِيب أَمركُم أَيهَا المقلدون أَنكُمْ اعترفتم وأقررتم على أَنفسكُم بِالْعَجزِ عَن معرفَة الْحق بدليله من كَلَام الله تَعَالَى وَكَلَام رَسُوله ص مَعَ سهولته وَقرب مأخذه واستيلائه على أقْصَى غايات الْبَيَان واستحالة التَّنَاقُض والإختلاف عَلَيْهِ فَهُوَ نقل مُصدق عَن قَائِل مَعْصُوم وَقد نصب الله سُبْحَانَهُ الْأَدِلَّة الظَّاهِرَة على الْحق وَبَين لِعِبَادِهِ مَا يَتَّقُونَ فادعيتم الْعَجز عَن معرفَة مَا نصب الله تَعَالَى عَلَيْهِ الْأَدِلَّة وَتَوَلَّى بَيَانه ثمَّ زعمتم أَنكُمْ قد عَرَفْتُمْ بِالدَّلِيلِ أَن صَاحبكُم أولى بالتقليد من غَيره وَأَنه أعلم الْأمة وأفضلها فِي زَمَانه وهلم جرا وغلاة كل طَائِفَة مِنْكُم توجب اتِّبَاعه وَتحرم اتِّبَاع غَيره كَمَا هُوَ فِي كتب أصولهم فعجبا كل الْعجب لمن خَفِي عَلَيْهِ التَّرْجِيح فِيمَا نصب الله تَعَالَى عَلَيْهِ الْأَدِلَّة من الْحق وَلم يهتد إِلَيْهَا واهتدى إِلَى أَن متبوعه أَحَق وَأولى بِالصَّوَابِ مِمَّن عداهُ وَلم ينصب الله تَعَالَى على ذَلِك دَلِيلا وَاحِدًا
وَيُقَال سَابِع عشر أعجب من هَذَا كُله من شَأْنكُمْ معاشر المقلدين أَنكُمْ إِذا وجدْتُم آيَة من كتاب الله تَعَالَى توَافق رَأْي صَاحبكُم أظهرتم أَنكُمْ تأخذون بهَا والعمدة فِي نفس الْأَمر على مَا قَالَه لَا على الْآيَة وَإِذا وجدْتُم آيَة تخَالف قَوْله لم تَأْخُذُوا بهَا وتطلبتم بهَا وُجُوه التَّأْوِيل وإخراجها عَن ظواهرها حَيْثُ لم توَافق رَأْيه وَهَكَذَا تَفْعَلُونَ فِي نُصُوص السّنة سَوَاء إِذا وجدْتُم حَدِيثا صَحِيحا يُوَافق قَوْله أَخَذْتُم بِهِ وقلتم لنا قَوْله ص كَيْت وَكَيْت وَإِذا وجدْتُم مائَة حَدِيث صَحِيح بل أَكثر تخَالفه لم تلتفتوا إِلَى حَدِيث مِنْهَا وَلم يكن لكم مِنْهَا حَدِيث وَاحِد فتقولون لنا قَوْله ص كَذَا وَكَذَا وَإِذا وجدْتُم مُرْسلا يُوَافق رَأْيه أَخَذْتُم بِهِ وجعلتوه حجَّة هُنَاكَ فَإِذا وجدْتُم مائَة مُرْسل تخَالف رَأْيه اطرحتموها كلهَا من أَولهَا إِلَى آخرهَا وقلتم لَا نَأْخُذ بالمرسل
وَيُقَال ثامن عشر أعجب من هَذَا أَنكُمْ إِذا أَخَذْتُم الحَدِيث مُرْسلا كَانَ أَو مُسْندًا لموافقة
رَأْي صَاحبكُم ثمَّ وجدْتُم فِيهِ حكما يُخَالف رَأْيه لم تَأْخُذُوا بِهِ فِي ذَلِك الحكم وَهُوَ حَدِيث وَاحِد وَكَانَ الحَدِيث حجَّة فِيمَا وَافق رَأْي من قلدتموه وَلَيْسَ بِحجَّة فِيمَا خَالفه رَأْيه
ولنذكر من هَذَا طرفا لِأَنَّهُ من أعجب أَمرهم فاحتج طَائِفَة مِنْهُم على سلب طهورية المَاء الْمُسْتَعْمل فِي رفع الْحَدث بِأَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم نهى أَن يتوضأالرجل بِفضل وضوء الْمَرْأَة أَو الْمَرْأَة بِفضل وضوء الرجل وَقَالُوا المَاء الْمُنْفَصِل عَن أعضائهما هُوَ فضل وضوئهما وخالفوا نفس الحَدِيث فجوزوا لكل مِنْهُمَا أَن يتَوَضَّأ بِفضل وضوء الآخر وَهُوَ الْمَقْصُود بِالْحَدِيثِ فَإِنَّهُ نهى أَن يتوضأالرجل بِفضل وضوء الْمَرْأَة إِذا خلت بِالْمَاءِ وَلَيْسَ عِنْدهم للخلوة أثر وَلَا لكَون الْفضل فضلَة امْرَأَة أثرا فخالفوا نفس الحَدِيث الَّذِي احْتَجُّوا بِهِ وحملوا الحَدِيث على غير محمله إِذْ فضل الْوضُوء بِيَقِين هُوَ المَاء الَّذِي فضل مِنْهُ لَيْسَ هُوَ المَاء المتوضأ بِهِ فَإِن ذَلِك لَا يُقَال لَهُ فضل الْوضُوء فاحتجوا بِهِ فِيمَا لَا يُرَاد بِهِ وأبطلوا الِاحْتِجَاج بِهِ فِيمَا أُرِيد بِهِ
وَمن ذَلِك احتجاجهم على نَجَاسَة المَاء بالملاقاة وَإِن لم يتَغَيَّر بنهيه ص أَن يبال فِي المَاء الدَّائِم ثمَّ قَالُوا لَو بَال فِي المَاء الدَّائِم لم يُنجسهُ حَتَّى ينقص عَن قُلَّتَيْنِ وَاحْتَجُّوا على نَجَاسَته أَيْضا بقوله ص إِذا اسْتَيْقَظَ أحدكُم من نَومه فَلَا يغمسن يَده فِي الْإِنَاء حَتَّى يغسلهَا ثَلَاثًا ثمَّ قَالُوا لَو غمسها قبل غسلهَا لم ينجس المَاء فَلَا يجب عَلَيْهِ غسلهَا وَإِن
شَاءَ أَن يغمسها قبل الْغسْل فعل وَاحْتَجُّوا فِي هَذِه الْمَسْأَلَة بِأَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَمر بِحَفر الأَرْض الَّتِي بَال فِيهَا البائل وَإِخْرَاج ترابها ثمَّ قَالُوا لَا يجب حفرهَا بل لَو تركت حَتَّى تنشف بالشمس وَالرِّيح طهرت
وَاحْتَجُّوا على منع الْوضُوء بِالْمَاءِ الْمُسْتَعْمل بقوله ص يَا بني عبد المطلب إِن الله كره لكم غسالة أَيدي النَّاس يَعْنِي الزَّكَاة ثمَّ قَالُوا لَا تحرم الزَّكَاة على بني عبد المطلب
وَاحْتَجُّوا على أَن السّمك الطافي إِذا وَقع فِي المَاء لَا يُنجسهُ بِخِلَاف غَيره من ميتَة الْبر فَإِنَّهُ ينجس المَاء بقوله ص فِي الْبَحْر هُوَ الطّهُور مَاؤُهُ الْحل ميتَته ثمَّ خالفوا هَذَا الْخَبَر نَفسه فَقَالُوا لَا يحل مَا مَاتَ فِي الْبَحْر من السّمك الطافي وَلَا يحل مِمَّا فِيهِ أصلا غير السّمك وَاحْتج أهل الرَّأْي على نَجَاسَة الْكَلْب وولوغه بقول النَّبِي صلى الله عليه وسلم إِذا ولغَ
الْكَلْب فِي إِنَاء أحدكُم فليغسله سبع مَرَّات ثمَّ قَالُوا لَا يجب غسله سبعا بل يغسل مرّة وَمِنْهُم من قَالَ ثَلَاثًا
وَاحْتَجُّوا على تفريقهم فِي النَّجَاسَة الْمُغَلَّظَة بَين قدر الدِّرْهَم وَغَيره بِحَدِيث لَا يَصح من طَرِيق غطيف عَن الزُّهْرِيّ عَن أبي سَلمَة عَن أبي هُرَيْرَة يرفعهُ تُعَاد الصَّلَاة من قدر الدِّرْهَم ثمَّ قَالُوا لَا تُعَاد الصَّلَاة من قدر الدِّرْهَم
وَاحْتَجُّوا بِحَدِيث ابْن أبي طَالب فِي الزَّكَاة فِي زِيَادَة الْإِبِل على عشْرين وَمِائَة أَنَّهَا ترد إِلَى أول الْفَرِيضَة فَيكون فِي كل خمس شَاة وخالفوه فِي اثْنَا عشر موضعا مِنْهُ ثمَّ احْتَجُّوا بِحَدِيث عَمْرو بن حزم إِن مَا زَاد على مِائَتي دِرْهَم فَلَا شَيْء فِيهِ حَتَّى يبلغ أَرْبَعِينَ فَيكون فِيهَا دِرْهَم وخالفوا الحَدِيث نَفسه فِي نَص مَا فِيهِ فِي أَكثر من خَمْسَة عشر موضعا
وَاحْتَجُّوا على أَن الْخِيَار لَا يكون أَكثر من ثَلَاثَة أَيَّام بِحَدِيث الْمُصراة وَهَذَا من إِحْدَى الْعَجَائِب فَإِنَّهُم من أَشد النَّاس إنكارا لَهُ وَلَا يَقُولُونَ بِهِ فَإِن كَانَ حَقًا وَجب اتِّبَاعه وَإِن لم يكن صَحِيحا لم يجز الِاحْتِجَاج بِهِ فِي تَقْدِير الثَّلَاث مَعَ أَنه لَيْسَ فِي الحَدِيث تعرض لخيار الشَّرْط فَالَّذِي أُرِيد بِالْحَدِيثِ وَدلّ عَلَيْهِ خالفوه وَالَّذِي احْتَجُّوا عَلَيْهِ بِهِ لم يدل عَلَيْهِ
وَاحْتَجُّوا لهَذِهِ الْمَسْأَلَة أَيْضا بِخَبَر حبَان بن منقذ الَّذِي كَانَ يغبن فِي البيع فَجعل لَهُ النَّبِي صلى الله عليه وسلم الْخِيَار ثَلَاثَة أَيَّام وخالفوا الْخَبَر كُله فَلم يثبتوا الْخِيَار بِالْغبنِ وَلَو كَانَ يُسَاوِي عشر معشار
مَا بذل فِيهِ وَسَوَاء قَالَ المُشْتَرِي لَا خلابة أَو لم يقل وَسَوَاء غبن قَلِيلا أَو كثيرا لَا خِيَار لَهُ فِي ذَلِك كُله
وَاحْتَجُّوا فِي إِيجَاب الْكَفَّارَة على من أفطر فِي نَهَار رَمَضَان بِأَن فِي بعض أَلْفَاظ الحَدِيث أَن رجلا أفطر فَأمره النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَن يكفر ثمَّ خالفوا هَذَا اللَّفْظ بِعَيْنِه فَقَالُوا إِن استف دَقِيقًا أَو بلع عجينا أَو إهليلجا أفطر وَلَا كَفَّارَة عَلَيْهِ
وَاحْتَجُّوا على وجوب الْقَضَاء على من تعمد الْقَيْء بِحَدِيث أبي هُرَيْرَة ثمَّ خالفوا الحَدِيث بِعَيْنِه فَقَالُوا إِن تقيأ أقل من ملْء فِيهِ فَلَا قَضَاء عَلَيْهِ
وَاحْتَجُّوا على تَحْدِيد مَسَافَة الْقصر وَالْفطر بقوله ص لَا يحل لامْرَأَة تؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر أَن تُسَافِر مسيرَة ثَلَاثَة أَيَّام إِلَّا مَعَ زوج أَو مَعَ ذِي محرم وَهَذَا مَعَ
أَنه لَا دَلِيل فِيهِ الْبَتَّةَ على مَا ادعوهُ فقد خالفوه نَفسه فَقَالُوا يجوز للمملوكة وَالْمُكَاتبَة وَأم الْوَلَد السّفر مَعَ غير زوج ومحرم
وَاحْتَجُّوا على منع الْمحرم من تَغْطِيَة وَجهه بِحَدِيث ابْن عَبَّاس فِي الَّذِي وقصته نَاقَته وَهُوَ محرم فَقَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم لَا تخمروا رَأسه وَلَا وَجهه فَإِنَّهُ يبْعَث يَوْم الْقِيَامَة ملبيا وَهَذَا من الْعجب فَإِنَّهُم يَقُولُونَ إِذا مَاتَ الْمحرم جَازَ تَغْطِيَة رَأسه وَوَجهه وَقد بَطل إِحْرَامه
وَاحْتَجُّوا على إِيجَاب الْجَزَاء على من قتل ضبعا فِي الْإِحْرَام بِحَدِيث جَابر أَنه أفتى بأكلها وَالْجَزَاء على قاتلها وَأسْندَ ذَلِك إِلَى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم ثمَّ خالفوا الحَدِيث نَفسه فَقَالُوا لَا يحل أكلهَا
وَاحْتَجُّوا فِيمَن وَجَبت عَلَيْهِ ابْنة مَخَاض فَأعْطى ثُلثي ابْنة لبون تَسَاوِي بنت الْمَخَاض أَو حمارا يساويها أَنه يجْزِيه بِحَدِيث أنس الصَّحِيح وَفِيه من وَجَبت عَلَيْهِ ابْنة مَخَاض وَلَيْسَت عِنْده إِلَّا ابْنة لبون فَإِنَّهَا تُؤْخَذ مِنْهُ وَيرد عَلَيْهِ السَّاعِي شَاتين أَو عشْرين درهما وَهَذَا من الْعجب فَإِنَّهُم لَا يَقُولُونَ بِمَا دلّ عَلَيْهِ الحَدِيث من تعْيين ذَلِك ويستدلون على مَا لم يدل عَلَيْهِ بِوَجْه وَلَا أُرِيد بِهِ
وَاحْتَجُّوا على إِسْقَاط الْحُدُود فِي دَار الْحَرْب إِذا فعل الْمُسلم أَسبَابهَا بِحَدِيث لَا تقطع الْأَيْدِي فِي الْغَزْو وَفِي لفظ فِي السّفر وَلم يَقُولُوا بِالْحَدِيثِ فَإِنَّهُ عِنْدهم لَا أثر للسَّفر وَلَا للغزو فِي ذَلِك
وَاحْتَجُّوا فِي إِيجَاب الْأُضْحِية بِحَدِيث أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَمر بالأضحية وَأَن يطعم مِنْهَا الْجَار والسائل فَقَالُوا لَا يجب أَن يطعم مِنْهَا جَار وَلَا سَائل
وَاحْتَجُّوا فِي إِبَاحَة مَا ذبحه غَاصِب أَو سَارِق بالْخبر الَّذِي فِيهِ أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم دعِي إِلَى الطَّعَام مَعَ رَهْط من أَصْحَابه فَلَمَّا أَخذ لقْمَة قَالَ إِنِّي أجد لحم شَاة أخذت بِغَيْر حق فَقَالَت الْمَرْأَة يَا رَسُول الله إِنِّي أَخَذتهَا من امْرَأَة فلَان بِغَيْر علم زَوجهَا فَأمر رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَن تطعم الْأُسَارَى وَقد خالفوا هَذَا الحَدِيث فَقَالُوا ذَبِيحَة الْغَاصِب حَلَال وَلَا تحرم على الْمُسلمين
وَاحْتَجُّوا بقوله ص جرح العجماء جَبَّار فِي إِسْقَاط الضَّمَان بِجِنَايَة الْمَوَاشِي ثمَّ خالفوه فِيمَا دلّ عَلَيْهِ وَأُرِيد بِهِ فَقَالُوا من ركب دَابَّة أَو سَاقهَا أَو قادها فَهُوَ ضَامِن لما عضت بفمها وَلَا ضَمَان عَلَيْهِ فِيمَا أتلفت برجلها
وَاحْتَجُّوا على أَن الإِمَام يكبر إِذا قَالَ الْمُقِيم قد قَامَت الصَّلَاة بِحَدِيث بِلَال أَنه قَالَ لرَسُول الله صلى الله عليه وسلم لَا تسبقني بآمين وَبقول أبي هُرَيْرَة لمروان لَا تسبقني بآمين ثمَّ خالفوا الْخَبَر جهارا فَقَالُوا لَا يُؤمن الإِمَام وَلَا الْمَأْمُوم
وَاحْتَجُّوا عل مسح ربع الرَّأْس بِحَدِيث الْمُغيرَة بن شُعْبَة أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم مسح بناصيته وعمامته ثمَّ خالفوه فِيمَا دلّ عَلَيْهِ فَقَالُوا لَا يجوز الْمسْح على الْعِمَامَة وَلَا أثر للمسح عَلَيْهِ الْبَتَّةَ فَإِن الْفَرْض سقط بالناصية وَالْمسح على الْعِمَامَة غير وَاجِب وَلَا مُسْتَحبّ عِنْدهم
وَاحْتَجُّوا لقَولهم فِي اسْتِحْبَاب مساوقة الإِمَام بقوله ص إِنَّمَا جعل الإِمَام ليؤتم بِهِ فَقَالُوا والائتمام بِهِ يَقْتَضِي أَن يفعل مثل فعله سَوَاء ثمَّ خالفوا الحَدِيث فِيمَا دلّ عَلَيْهِ لِأَن فِيهِ فَإِذا كبر فكبروا وَإِذا ركع فاركعوا وَإِذا قَالَ سمع الله لمن حَمده فَقولُوا رَبنَا وَلَك الْحَمد وَإِذا صلى جَالِسا فصلوا جُلُوسًا أَجْمَعِينَ
وَاحْتَجُّوا على أَن الْفَاتِحَة لَا تتَعَيَّن فِي الصَّلَاة بِحَدِيث الْمُسِيء فِي صلَاته حَيْثُ قَالَ لَهُ اقْرَأ مَا تيَسّر من الْقُرْآن وخالفوه فِيمَا دلّ عَلَيْهِ صَرِيحًا فِي قَوْله ثمَّ اركع حَتَّى تطمئِن رَاكِعا ثمَّ ارْفَعْ حَتَّى تعتدل قَائِما ثمَّ اسجد حَتَّى تطمئِن سَاجِدا وَقَوله ارْجع فصل فَإنَّك لم تصل فَقَالُوا من ترك الطُّمَأْنِينَة فقد صلى وَلَيْسَ الْأَمر بهَا فرضا لَازِما مَعَ أَن الْأَمر بهَا وبالقراءة سَوَاء فِي الحَدِيث
وَاحْتَجُّوا على إِسْقَاط جلْسَة الاسْتِرَاحَة بِحَدِيث أبي حميد حَيْثُ لم يذكرهَا وخالفوه فِي نفس مَا دلّ عَلَيْهِ من رفع الْيَدَيْنِ عِنْد الرُّكُوع وَالرَّفْع مِنْهُ
وَاحْتَجُّوا على إِسْقَاط فرض الصَّلَاة على النَّبِي عليه الصلاة والسلام فِي الصَّلَاة بِحَدِيث ابْن مَسْعُود فَإِذا قلت ذَلِك فقد تمت صَلَاتك ثمَّ خالفوه فِي نفس مَا دلّ عَلَيْهِ فَقَالُوا صلَاته تَامَّة قَالَ ذَلِك أَو لم يقلهُ
وَاحْتَجُّوا على جَوَاز الْكَلَام وَالْإِمَام على الْمِنْبَر يَوْم الْجُمُعَة بقوله ص للداخل أصليت يَا فلَان قبل أَن تجْلِس قَالَ لَا قَالَ قُم فاركع رَكْعَتَيْنِ وخالفوه فِيمَا دلّ عَلَيْهِ فَقَالُوا من دخل وَالْإِمَام يخْطب فليجلس وَلَا يُصَلِّي
وَاحْتَجُّوا على كَرَاهَة رفع الْيَدَيْنِ فِي الصَّلَاة بقوله ص مَا بالهم رافعي أَيْديهم كَأَنَّهَا أَذْنَاب خيل شمس ثمَّ خالفوه فِي نفس مَا دلّ عَلَيْهِ فَإِن فِيهِ إِنَّمَا يَكْفِي أحدكُم أَن يسلم على أَخِيه عَن يَمِينه وشماله السَّلَام عَلَيْكُم وَرَحْمَة الله السَّلَام عَلَيْكُم وَرَحْمَة الله فَقَالُوا لَا يحْتَاج إِلَى ذَلِك وَيَكْفِي غَيره عَن كل عمل مُفسد للصَّلَاة
وَاحْتَجُّوا فِي اسْتِخْلَاف الإِمَام إِذا أحدث بالْخبر الصَّحِيح أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم خرج وَأَبُو بكر يُصَلِّي بِالنَّاسِ فَتَأَخر أَبُو بكر وَتقدم النَّبِي صلى الله عليه وسلم فصلى بِالنَّاسِ ثمَّ خالفوه فِي نفس مَا دلّ عَلَيْهِ فَقَالُوا من فعل ذَلِك بطلت صلَاته وأبطلوا صَلَاة من فعل مثل فعل النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَأبي بكر وَمن حضر من الصَّحَابَة
فاحتجوا بِالْحَدِيثِ فِيمَا لَا يدل عَلَيْهِ وأبطلوا الْعَمَل فِيمَا دلّ عَلَيْهِ
وَاحْتَجُّوا بقَوْلهمْ إِن الإِمَام إِذا صلى جَالِسا لمَرض صلى الْمَأْمُوم خَلفه قَائِما بالْخبر الصَّحِيح عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَنه خرج فَوجدَ أَبَا بكر يُصَلِّي بِالنَّاسِ قَائِما فَتقدم النَّبِي صلى الله عليه وسلم فَجَلَسَ وَصلى بِالنَّاسِ وَتَأَخر أَبُو بكر ثمَّ خالفوا الحَدِيث فِي نفس مَا دلّ عَلَيْهِ وَقَالُوا إِن تَأَخّر الإِمَام لغير حدث وَتقدم الآخر بطلت صَلَاة الْإِمَامَيْنِ وَصَلَاة جَمِيع الْمَأْمُومين
وَاحْتَجُّوا على بطلَان صَوْم من أكل يَظُنّهُ لَيْلًا فَبَان نَهَارا بقوله ص إِن بِلَالًا يُؤذن بلَيْل فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُؤذن ابْن أم مَكْتُوم ثمَّ خالفوا الحَدِيث فِي نفس مَا دلّ عَلَيْهِ فَقَالُوا لَا يجوز الْأَذَان لصَلَاة الْفجْر بِاللَّيْلِ لَا فِي رَمَضَان وَلَا فِي غَيره ثمَّ خالفوه من وَجه آخر فَإِن فِي نفس الحَدِيث وَكَانَ ابْن أم مَكْتُوم رجلا أعمى لَا يُؤذن حَتَّى يُقَال لَهُ أَصبَحت أَصبَحت وَعِنْدهم من أكل فِي ذَلِك الْوَقْت بَطل صَوْمه
وَاحْتَجُّوا على الْمَنْع من اسْتِقْبَال الْقبْلَة واستدبارها بالغائط بقول النَّبِي صلى الله عليه وسلم لَا تستقبلو الْقبْلَة بغائط وَلَا بَوْل وَلَا تستدبروها وخالفوا الحَدِيث نَفسه وجوزوا استقبالها واستدبارها بالبول
وَاحْتَجُّوا على عدم شَرط الصَّوْم فِي الِاعْتِكَاف بِالْحَدِيثِ الصَّحِيح عَن عمر أَنه نذر فِي الْجَاهِلِيَّة أَن يعْتَكف لَيْلَة فِي الْمَسْجِد الْحَرَام فَأمره النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَن يُوفي بنذره وهم لَا يَقُولُونَ بِالْحَدِيثِ فَإِن عِنْدهم أَن نذر الْكَافِر لَا ينْعَقد وَلَا يلْزم الْوَفَاء بِهِ بعد الْإِسْلَام
وَاحْتَجُّوا على الرَّد بِحَدِيث تحرز الْمَرْأَة ثَلَاث مَوَارِيث عتيقها ولقيطها وَوَلدهَا الَّذِي لاعنت عَلَيْهِ وَلم يَقُولُوا بِالْحَدِيثِ فِي حيازتها مَال لقيطها وَقد قَالَ بِهِ عمر بن الْخطاب وَإِسْحَاق
ابْن رَاهَوَيْه وَهُوَ الصَّوَاب
وَاحْتَجُّوا فِي تَوْرِيث ذَوي الْأَرْحَام بالْخبر الَّذِي فِيهِ التمسوا وَارِثا أَو ذَا رحم فَلم يَجدوا فَقَالَ أَعْطوهُ لأكبر من رَأَيْتُمْ من خُزَاعَة وَلم يَقُولُوا بِهِ فِي أَن من لَا وَارِث لَهُ يعْطى مَاله للكبير من قبيلته
وَاحْتَجُّوا فِي منع الْقَاتِل مِيرَاث الْمَقْتُول بِخَبَر عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده لَا يَرث قَاتل وَلَا يقتل مُؤمن بِكَافِر فَقَالُوا بِأول الحَدِيث دون آخِره
وَاحْتَجُّوا على جَوَاز التَّيَمُّم فِي الْحَضَر مَعَ وجود المَاء للجنازة إِذا خَافَ فَوتهَا بِحَدِيث أبي جهيم ابْن الْحَرْث فِي تيَمّم النَّبِي صلى الله عليه وسلم ثمَّ خالفوه فِيمَا دلّ عَلَيْهِ فِي موضِعين أَحدهمَا أَنه تيَمّم بِوَجْهِهِ وكفيه دون ذِرَاعَيْهِ وَالثَّانِي أَنهم لم يكرهوا رد السَّلَام للمحدث وَلم يستحبوا التَّيَمُّم لرد السَّلَام
وَاحْتَجُّوا فِي جَوَاز الِاقْتِصَار فِي الِاسْتِنْجَاء على حجرين بِحَدِيث ابْن مَسْعُود أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم ذهب لِحَاجَتِهِ وَقَالَ إئتني بأحجار فَأَتَاهُ بحجرين وروثة فَأخذ الحجرين وَألقى الروثة وَقَالَ هَذِه ركس ثمَّ خالفوه فِيمَا هُوَ نَص فِيهِ فأجازوا الِاسْتِنْجَاء بالروث وَاسْتَدَلُّوا بِهِ على مَالا يدل عَلَيْهِ من الِاكْتِفَاء بالحجرين
وَاحْتَجُّوا على أَن مس الْمَرْأَة لَا ينْقض الْوضُوء بِصَلَاة النَّبِي صلى الله عليه وسلم حَامِلا أُمَامَة بنت أبي الْعَاصِ بن الرّبيع إِذا قَامَ حملهَا وَإِذا ركع أَو سجد وَضعهَا ثمَّ قَالُوا من صلى كَذَلِك بطلت صلَاته وَصَلَاة من ائتم بِهِ قَالَ بعض اهل الْعلم وَمن الْعجب إبطالهم هَذِه الصَّلَاة وتصحيحهم الصَّلَاة بِقِرَاءَة {مدهامتان} بِالْفَارِسِيَّةِ ثمَّ يرْكَع قدر نفس ثمَّ يرفع قدر حد السَّيْف أَو لَا يرفع بل يخر كَمَا هُوَ سَاجِدا وَلَا يضع على الأَرْض يَدَيْهِ وَلَا رجلَيْهِ وَإِن أمكن أَن لَا يضع رُكْبَتَيْهِ صَحَّ
ذَلِك وَلَا جَبهته بل يَكْفِيهِ وضع رَأس أَنفه كَقدْر نفس وَاحِد ثمَّ يجلس مِقْدَار التَّشَهُّد ثمَّ يفعل فعلا يُنَافِي الصَّلَاة من فسَاء أَو ضراط أَو ضحك أَو نَحْو ذَلِك
وَاحْتَجُّوا على تَحْرِيم وَطْء المسبية والمملوكة قبل الِاسْتِبْرَاء بقول النَّبِي صلى الله عليه وسلم لَا تُوطأ حَامِل حَتَّى تضع وَلَا حَائِض حَتَّى تستبرأ بِحَيْضَة ثمَّ خالفوا صَرِيحه فَقَالُوا إِن أعْتقهَا وَزوجهَا وَقد وَطئهَا البارحة حل للزَّوْج أَن يَطَأهَا اللَّيْلَة
وَاحْتَجُّوا فِي ثُبُوت الْحَضَانَة للخالة بِخَبَر ابْنة حَمْزَة وَأَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قضى بهَا لخالتها ثمَّ خالفوه فَقَالُوا لَو تزوجت الْخَالَة بِغَيْر محرم للْبِنْت كَابْن عَمها سَقَطت حضانتها
وَاحْتَجُّوا على الْمَنْع من التَّفْرِيق بَين الْأَخَوَيْنِ بِحَدِيث عَليّ فِي نَهْيه عَن التَّفْرِيق بَينهمَا ثمَّ خالفوه فَقَالُوا لَا يرد البيع إِذا وَقع كَذَلِك وَفِي الحَدِيث الْأَمر برده
وَاحْتَجُّوا على جَرَيَان الْقصاص بَين الْمُسلم وَالَّذِي وَالَّذِي بِخَبَر رُوِيَ أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم أقاد يَهُودِيّا من مُسلم لطمه ثمَّ خالفوه فَقَالُوا لَا قَود فِي اللَّطْمَة والضربة لَا بَين مُسلمين وَلَا بَين مُسلم وَكَافِر
وَاحْتَجُّوا على أَنه لَا قصاص بَين العَبْد وسيده بقوله ص من لطم عَبده فَهُوَ حر ثمَّ خالفوه فَقَالُوا لَا يعْتق بذلك
وَاحْتَجُّوا ايضا بِالْحَدِيثِ الَّذِي فِيهِ من مثل بِعَبْدِهِ عتق عَلَيْهِ فَقَالُوا لم يُوجب عَلَيْهِ الْقود ثمَّ قَالُوا لَا يعْتق عَلَيْهِ
وَاحْتَجُّوا بِحَدِيث عَمْرو بن شُعَيْب فِي الْعين نصف الدِّيَة ثمَّ خالفوه فِي عدَّة مَوَاضِع مِنْهَا قَوْله وَفِي الْعين الْقَائِمَة السَّادة لموضعها ثلث الدِّيَة وَمِنْهَا قَوْله فِي السنى السَّوْدَاء ثلث الدِّيَة
وَاحْتَجُّوا على جَوَاز تَفْضِيل بعض الْأَوْلَاد على بعض بِحَدِيث النُّعْمَان بن بشير وَفِيه أشهد على هَذَا غَيْرِي ثمَّ خالفوه صَرِيحًا فَإِن فِي الحَدِيث نَفسه إِن هَذَا لَا يصلح وَفِي لفظ إِنِّي لَا أشهد على جور فَقَالُوا بل هَذَا يصلح وَلَيْسَ بجور وَلكُل أحد أَن يشْهد عَلَيْهِ
وَاحْتَجُّوا على أَن النَّجَاسَة تَزُول بِغَيْر المَاء من الْمَائِعَات بِحَدِيث إِذا وطئ أحدكُم الْأَذَى بنعليه فَإِن التُّرَاب لَهما طهُور ثمَّ خالفوه فَقَالُوا لَو وطئ الْعذرَة بخفيه لم يطهرهما التُّرَاب
وَاحْتَجُّوا على جَوَاز الْمسْح على الْجَبِيرَة بِحَدِيث صَاحب الشَّجَّة ثمَّ خالفوه صَرِيحًا فَقَالُوا لَا يجمع بَين المَاء وَالتُّرَاب بل إِمَّا أَن يقْتَصر على غسل الصَّحِيح إِن كَانَ أَكثر وَلَا يتَيَمَّم وَإِمَّا أَن يقْتَصر على التَّيَمُّم إِن كَانَ الجريح أَكثر وَلَا يغسل الصَّحِيح
وَاحْتَجُّوا على جَوَاز تَوْلِيَة أُمَرَاء أَو حكام أَو متولين مرَّتَيْنِ وَاحِدًا بعد وَاحِد بقول النَّبِي صلى الله عليه وسلم أميركم زيد فَإِن قتل فعبد الله بن رَوَاحَة فَإِن قتل فجعفر ثمَّ خالفوا الحَدِيث نَفسه فَقَالُوا لَا يَصح تَعْلِيق الْولَايَة بِالشّرطِ وَنحن نشْهد بِاللَّه أَن هَذِه الْولَايَة من أصح ولَايَة على وَجه الأَرْض وَإِنَّهَا أصح من كل ولاياتهم من أولهاإلى آخرهَا
وَاحْتَجُّوا على تضمين الْمُتْلف مَا أتْلفه وَيملك هُوَ مَا أتْلفه بِحَدِيث الْقَصعَة الَّتِي كسرتها إِحْدَى أُمَّهَات الْمُؤمنِينَ فَرد النَّبِي صلى الله عليه وسلم على صَاحِبَة الْقَصعَة نظيرتها ثمَّ خالفوه
جهارا فَقَالُوا إِنَّمَا يضمن بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِير وَلَا يضمن بِالْمثلِ
وَاحْتَجُّوا على ذَلِك أَيْضا بِخَبَر الشَّاة الَّتِي ذبحت بِغَيْر إِذن صَاحبهَا وَأَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم لم يردهَا على صَاحبهَا ثمَّ خالفوه صَرِيحًا فَإِن النَّبِي صلى الله عليه وسلم لم يملكهَا الذَّابِح بل أَمر بإطعامها الْأُسَارَى
وَاحْتَجُّوا فِي سُقُوط الْقطع بِسَرِقَة الْفَوَاكِه وَمَا يسْرع إِلَيْهِ الْفساد بِخَبَر لَا قطع فِي ثَمَر وَلَا كثر ثمَّ خالفواالحديث نَفسه فِي عدَّة مَوَاضِع أَحدهَا أَن فِيهِ فَإِذا آواه الجرين فَفِيهِ الْقطع وَعِنْدهم لَا قطع فِيهِ آواه الجرين أَو لم يؤوه الثَّانِي أَنه قَالَ إِذا بلغ ثمن الْمِجَن وَفِي الصَّحِيح أَن ثمن الْمِجَن كَانَ ثَلَاثَة دَرَاهِم وَعِنْدهم لَا يقطع فِي هَذَا الْقدر الثَّالِث أَنهم قَالُوا لَيْسَ الجرين حرْزا فَلَو سرق مِنْهُ تَمرا يَابسا وَلم يكن هُنَاكَ حَافظ لم يقطع
وَاحْتَجُّوا فِي مَسْأَلَة الْآبِق يَأْتِي بِهِ الرجل أَن لَهُ أَرْبَعِينَ درهما بِخَبَر فِيهِ أَن من جَاءَ بآبق من خَارج الْحرم فَلهُ عشرَة دَرَاهِم أَو دِينَار وخالفوه جهرة فأوجبوا أَرْبَعِينَ
وَاحْتَجُّوا على خِيَار الشُّفْعَة على الْفَوْر بِحَدِيث ابْن الْبَيْلَمَانِي الشُّفْعَة كحل العقال وَلَا شُفْعَة لصغير وَلَا لغَائِب وَمن مثل بِهِ فَهُوَ حر فخالفوا جَمِيع ذَلِك إِلَّا قَوْله الشُّفْعَة كحل العقال
وَاحْتَجُّوا على امْتنَاع الْقود بَين الْأَب وَالِابْن وَالسَّيِّد وَالْعَبْد بِحَدِيث لَا يُقَاد وَالِد بولده وَلَا سيد بِعَبْدِهِ وخالفوا الحَدِيث نَفسه فَإِن تَمَامه وَمن مثل بِعَبْدِهِ فَهُوَ حر
وَاحْتَجُّوا على أَن الْوَلَد يلْحق بِصَاحِب الْفراش دون الزَّانِي بِحَدِيث ابْن وليدة زَمعَة وَفِيه الْوَلَد للْفراش ثمَّ خالفوا الحَدِيث نَفسه صَرِيحًا فَقَالُوا الْأمة لَا تكون فراشا وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا الْقَضَاء فِي أمة وَمن الْعجب أَنهم قَالُوا إِذا عقد على أمه وَابْنَته وَأُخْته وَوَطئهَا لم يحد بِالشُّبْهَةِ وَصَارَت فراشا بِهَذَا العقد الْبَاطِل الْمحرم وَأم وَلَده وسريته الَّتِي يَطَؤُهَا لَيْلًا وَنَهَارًا لَيست فراشا لَهُ وَمن الْعَجَائِب أَنهم احْتَجُّوا على جَوَاز صَوْم رَمَضَان بنية ينشئها
من النَّهَار قبل الزَّوَال بِحَدِيث عَائِشَة أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم كَانَ يدْخل عَلَيْهَا فَيَقُول هَل من غداء فَتَقول لَا فَيَقُول فَإِنِّي صَائِم ثمَّ قَالُوا لَو فعل ذَلِك فِي صَوْم التَّطَوُّع لم يَصح صَوْمه والْحَدِيث إِنَّمَا هُوَ فِي التَّطَوُّع نَفسه
وَاحْتَجُّوا على الْمَنْع من بيع الْمُدبر بِأَنَّهُ قد انْعَقَد فِيهِ سَبَب الْحُرِّيَّة وَفِي بَيْعه إبِْطَال لذَلِك وَأَجَابُوا عَن بيع النَّبِي صلى الله عليه وسلم الْمُدبر بِأَنَّهُ قد بَاعَ خدمته ثمَّ قَالُوا لَا يجوز بيع خدمَة الْمُدبر أَيْضا
وَاحْتَجُّوا على إِيجَاب الشُّفْعَة فِي الْأَرَاضِي وَالْأَشْجَار التابعة لَهَا بقوله قضى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بِالشُّفْعَة فِي كل شرك فِي ربعَة أَو حَائِط ثمَّ خالفوا نَص الحَدِيث نَفسه فَإِن فِيهِ وَلَا يحل لَهُ أَن يَبِيع حَتَّى يُؤذن شَرِيكه فَإِن بَاعَ وَلم يُؤذنهُ فَهُوَ أَحَق بِهِ فَقَالُوا يحل لَهُ أَن يَبِيع قبل إِذْنه وَيحل لَهُ أَن يتحيل لإِسْقَاط الشُّفْعَة وَإِن بَاعَ بعد إِذن شَرِيكه فَهُوَ أَحَق أَيْضا بِالشُّفْعَة وَلَا أثر للإستئذان وَلَا لعدمه
وَاحْتَجُّوا على الْمَنْع من بيع الزَّيْت بالزيتون إِلَّا بعد الْعلم بِأَن مَا فِي الزَّيْتُون من الزَّيْت أقل من الزَّيْت الْمُفْرد بِالْحَدِيثِ الَّذِي فِيهِ النَّهْي عَن بيع اللَّحْم بِالْحَيَوَانِ ثمَّ خالفوه نَفسه فَقَالُوا يجوز بيع اللَّحْم بِالْحَيَوَانِ من نَوعه وَغير نَوعه
وَاحْتَجُّوا على أَن عَطِيَّة الْمَرِيض المنجزة كَالْوَصِيَّةِ لَا تنفذ إِلَّا فِي الثُّلُث بِحَدِيث عمرَان بن حُصَيْن أَن رجلا أعتق سِتَّة مملوكين عِنْد مَوته لَا مَال لَهُ سواهُم فجزأهم النَّبِي صلى الله عليه وسلم ثَلَاثَة أَجزَاء وأقرع بَينهم فَأعتق اثْنَيْنِ وأرق أَرْبَعَة ثمَّ خالفوه فِي موضِعين فَقَالُوا لَا يقرع بَينهم الْبَتَّةَ وَيعتق من كل وَاحِد سدسه وَهَذَا كثير جدا
وَالْمَقْصُود أَن التَّقْلِيد حكم عَلَيْكُم بذلك وقادكم إِلَيْهِ قهرا وَلَو حكمتم الدَّلِيل على التَّقْلِيد لم تقعوا فِي مثل هَذَا فَإِن هَذِه الْأَحَادِيث إِن كَانَت حَقًا وَجب الانقياد لَهَا وَالْأَخْذ بِمَا فِيهَا وَإِن لم تكن صَحِيحَة لم يُؤْخَذ بِشَيْء مِمَّا فِيهَا فإمَّا أَن تصحح وَيُؤْخَذ بهَا فِيمَا وَافق قَول الْمَتْبُوع وتضعف
أَو ترد إِذا خَالَفت قَوْله أَو تؤول فَهَذَا من أعظم الْخَطَأ والتناقض
فَإِن قُلْتُمْ عَارض مَا خالفناه مِنْهَا مَا هُوَ أقوى مِنْهُ وَلم يُعَارض مَا وافقناه مِنْهَا مَا يُوجب الْعُدُول عَنهُ واطراحه قيل لَا تَخْلُو هَذِه الْأَحَادِيث وأمثالها أَن تكون مَنْسُوخَة أَو محكمَة فَإِن كَانَت مَنْسُوخَة لم يحْتَج بمنسوخ الْبَتَّةَ وَإِن كَانَت محكمَة لم يجز مُخَالفَة شَيْء مِنْهَا الْبَتَّةَ
فَإِن قيل هِيَ مَنْسُوخَة فِيمَا خالفناها فِيهِ ومحكمة فِيمَا وَافَقْنَاهَا فِيهِ
قيل هَذَا مَعَ أَنه ظَاهر الْبطلَان يتَضَمَّن مَالا علم لمدعيه بِهِ قَائِل مَالا دَلِيل لَهُ عَلَيْهِ فَأَقل مَا فِيهِ أَن معارضنا لَو قلب عَلَيْهِ هَذِه الدَّعْوَى بِمِثْلِهَا سَوَاء لكَانَتْ دَعْوَاهُ من جنس دَعْوَاهُ وَلم يكن بَينهمَا فرق وَلَا فرق وَكِلَاهُمَا مُدع مَالا يُمكنهُ إثْبَاته فَالْوَاجِب اتِّبَاع سنَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وتحكيمها والتحاكم إِلَيْهَا حَتَّى يقوم الدَّلِيل الْقَاطِع على نسخ الْمَنْسُوخ مِنْهَا أَو تجمع الْأمة على الْعَمَل بِخِلَاف شَيْء مِنْهَا وَهَذَا الثَّانِي محَال قطعا فَإِن الْأمة وَللَّه الْحَمد لم تجمع على ترك الْعَمَل بِسنة وَاحِدَة إِلَّا سنة ظَاهِرَة النّسخ مَعْلُوم للْأمة ناسخها وَحِينَئِذٍ يتَعَيَّن الْعلم بالناسخ دون الْمَنْسُوخ وَأما أَن تتْرك السّنَن لقَوْل أحد من النَّاس فَلَا كَائِنا من كَانَ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق
الْوَجْه التَّاسِع عشر أَن فرقة التَّقْلِيد قد ارتكبت مُخَالفَة أَمر الله وَأمر رَسُوله وهدي أَصْحَابه وأحوال أئمتهم وسلكوا ضد طَرِيق أهل الْعلم أما أَمر الله فَإِنَّهُ أَمر برد مَا تنَازع فِيهِ الْمُسلمُونَ إِلَيْهِ وَإِلَى رَسُوله والمقلدون قَالُوا إِنَّمَا نرده إِلَى من قلدناه وَأما أَمر رَسُوله فَإِنَّهُ ص أَمر عِنْد الِاخْتِلَاف بِالْأَخْذِ بسنته وَسنة خلفائه الرَّاشِدين المهديين وَأمر أَن يتَمَسَّك بهَا ويعض عَلَيْهَا بالنواجذ وَقَالَ المقلدون بل عِنْد الِاخْتِلَاف نتمسك بقول من قلدناه ونقدمه على كل مَا عداهُ وَأما هدي الصَّحَابَة فَمن الْمَعْلُوم بِالضَّرُورَةِ أَنه لم يكن فيهم شخص وَاحِد يُقَلّد رجلا وَاحِدًا فِي جَمِيع أَقْوَاله وَيُخَالف من عداهُ من الصَّحَابَة بِحَيْثُ لَا يرد من أَقْوَاله شَيْئا وَلَا يقبل من أَقْوَالهم شَيْئا وَهَذَا من أعظم الْبدع وأقبح الْحَوَادِث وَأما مخالفتهم لأئمتهم فَإِن الْأَئِمَّة نهوا عَن تقليدهم وحذروا مِنْهُ كَمَا تقدم ذكر بعض ذَلِك عَنْهُم وَأما سلوكهم ضد طَرِيق أهل الْعلم فَإِن طريقهم طلب أَقْوَال الْعلمَاء وضبطها وَالنَّظَر فِيهَا وعرضها على الْقُرْآن وَالسّنة الثَّابِتَة عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وأقوال خلفائه الرَّاشِدين فَمَا وَافق ذَلِك مِنْهَا قبلوه ودانوا الله تَعَالَى بِهِ وقضوا بِهِ وأفتوا بِهِ وَمَا خَالف ذَلِك مِنْهَا لم يلتفتوا إِلَيْهِ وردوه ومالم يتَبَيَّن لَهُم كَانَ عِنْدهم من مسَائِل الِاجْتِهَاد الَّتِي غايتها أَن تكون سَائِغَة الِاتِّبَاع لَا وَاجِبَة الِاتِّبَاع من غير أَن يلزموا بهَا أحدا وَلَا يَقُولُونَ أَنَّهَا الْحق دون مَا خالفها هَذِه طَريقَة أهل الْعلم سلفا وخلفا
وَأما هَؤُلَاءِ الْخلف فعكسوا الطَّرِيق وقلبوا أوضاع الدّين فزيفوا كتاب الله سُبْحَانَهُ وَسنة رَسُوله ص وأقوال خلفائه وَجَمِيع أَصْحَابه وعرضوها على أَقْوَال من قلدوه فَمَا وافقها مِنْهَا
قَالُوا لنا وانقادوا لَهُ مذعنين وَمَا خَالف أَقْوَال متبوعهم مِنْهَا قَالُوا احْتج الْخصم بِكَذَا وَكَذَا وَلم يقبلوه وَلم يدينوا بِهِ واحتال فضلاؤهم فِي ردهَا بِكُل مُمكن وتطلبوا لَهَا وُجُوه الْحِيَل الَّتِي تردها حَتَّى إِذا كَانَت مُوَافقَة لمذهبهم وَكَانَت تِلْكَ الْوُجُوه بِعَينهَا قَائِمَة فِيهَا شنعوا على منازعهم وأنكروا عَلَيْهِم ردهَا بِمثل تِلْكَ الْوُجُوه بِعَينهَا وَقَالُوا لَا ترد النُّصُوص بِمثل هَذَا وَمن لَهُ همة تسمو إِلَى الله ومرضاته وَنصر الْحق الَّذِي بعث بِهِ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَيْن كَانَ وَمَعَ من كَانَ لَا يرضى لنَفسِهِ بِمثل هَذَا المسلك الوخيم والخلق الذميم
الْوَجْه الْعشْرُونَ أَن الله سُبْحَانَهُ ذمّ الَّذين فرقوا دينهم وَكَانُوا شيعًا كل حزب بِمَا لديهم فَرِحُونَ وَهَؤُلَاء هم أهل التَّقْلِيد بأعيانهم بِخِلَاف أهل الْعلم فَإِنَّهُم وَإِن اخْتلفُوا لم يفرقُوا دينهم وَلم يَكُونُوا شيعًا بل شيعَة وَاحِدَة متفقة على طلب الْحق وإيثاره عِنْد ظُهُوره وتقديمه على كل مَا سواهُ فهم طَائِفَة وَاحِدَة قد اتّفقت مقاصدهم وطريقهم فالطريق وَاحِدَة وَالْقَصْد وَاحِد والمقلدون بِالْعَكْسِ مقاصدهم شَتَّى وطرقهم مُخْتَلفَة فليسوا مَعَ الْأَئِمَّة فِي الْقَصْد وَلَا فِي الطَّرِيق
الْوَجْه الْحَادِي وَالْعشْرُونَ إِن الله سُبْحَانَهُ ذمّ الَّذين تقطعوا أَمرهم بَينهم زبرا كل حزب بِمَا لديهم فَرِحُونَ والزبر الْكتب المصنفة الَّتِي رَغِبُوا بهَا عَن كتاب الله تَعَالَى وَمَا بعث بِهِ رَسُوله فَقَالَ تَعَالَى {يَا أَيهَا الرُّسُل كلوا من الطَّيِّبَات وَاعْمَلُوا صَالحا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عليم وَإِن هَذِه أمتكُم أمة وَاحِدَة وَأَنا ربكُم فاتقون فتقطعوا أَمرهم بَينهم زبرا كل حزب بِمَا لديهم فَرِحُونَ} فَأمر تَعَالَى الرُّسُل بِمَا أَمر بِهِ أممهم أَن يَأْكُلُوا من الطَّيِّبَات وَأَن يعملوا الصَّالِحَات وَأَن يعبدوه وَحده ويطيعوا أمره وَحده وَأَن لَا يتفرقوا فِي الدّين فمضت الرُّسُل وأتباعهم على ذَلِك مُسلمين لأمر الله تَعَالَى قابلين لِرَحْمَتِهِ حَتَّى نشأت خلوف قطعُوا أَمرهم بَينهم زبرا كل حزب بِمَا لديهم فَرِحُونَ فَمن تدبر هَذِه الْآيَات ونزلها على الوقائع تبين لَهُ حَقِيقَة الْحَال وَعلم من أَي الحزبين هُوَ وَالله الْمُسْتَعَان
الْوَجْه الثَّانِي وَالْعشْرُونَ أَن الله تَعَالَى قَالَ {ولتكن مِنْكُم أمة يدعونَ إِلَى الْخَيْر ويأمرون بِالْمَعْرُوفِ وَينْهَوْنَ عَن الْمُنكر وَأُولَئِكَ هم المفلحون} فَخص هَؤُلَاءِ بالفلاح دون من عداهم والداعون إِلَى الْخَيْر هم الداعون إِلَى كتاب الله تَعَالَى وَسنة رَسُوله ص لَا الداعون إِلَى رَأْي فلَان وَفُلَان
الْوَجْه الثَّالِث وَالْعشْرُونَ أَن الله سبحانه وتعالى ذمّ من إِذا دعِي إِلَى الله وَرَسُوله أعرض وَرَضي بالتحاكم إِلَى غَيره وَهَذَا شَأْن أهل التَّقْلِيد قَالَ تَعَالَى {وَإِذا قيل لَهُم تَعَالَوْا إِلَى مَا أنزل الله وَإِلَى الرَّسُول رَأَيْت الْمُنَافِقين يصدون عَنْك صدودا} فَكل من أعرض عَن الدَّاعِي إِلَى مَا أنزل الله على رَسُوله إِلَى غَيره فَلهُ نصيب من هَذَا فمستكثر ومستقل
الْوَجْه الرَّابِع وَالْعشْرُونَ أَن يُقَال لفرقة التَّقْلِيد دين الله عنْدكُمْ وَاحِد وَهُوَ فِي القَوْل وضده فدينه هوالأقوال الْمُخْتَلفَة المتضادة الَّتِي يُنَاقض بَعْضهَا بَعْضًا وَيبْطل بَعْضهَا بَعْضًا كلهَا دين الله
فَإِن قَالُوا بل هَذِه الْأَقْوَال المتضادة المتعارضة الَّتِي يُنَاقض بَعْضهَا بَعْضًا كلهَا دين الله خَرجُوا عَن نُصُوص أئمتهم فَإِن جَمِيعهم على أَن الْحق فِي وَاحِد من الْأَقْوَال كَمَا أَن الْقبْلَة فِي جِهَة من الْجِهَات وَخَرجُوا عَن نُصُوص الْقُرْآن وَالسّنة والمعقول الصَّرِيح وَجعلُوا دين الله تَابعا لآراء الرِّجَال وَإِن قَالُوا الصَّوَاب الَّذِي لَا صَوَاب غَيره أَن دين الله وَاحِد وَهُوَ مَا أنزل الله بِهِ كِتَابه وَأرْسل بِهِ رَسُوله وارتضاه لِعِبَادِهِ كَمَا أَن نبيه وَاحِد والقبلة وَاحِدَة فَمن وَافقه فَهُوَ الْمُصِيب وَله أَجْرَانِ وَمن أخطأه فَلهُ أجر وَاحِد على اجْتِهَاده لَا على خطأه قيل لَهُم فَالْوَاجِب إِذا طلب الْحق وبذل الِاجْتِهَاد فِي الْوُصُول إِلَيْهِ بِحَسب الْإِمْكَان لِأَن الله سُبْحَانَهُ أوجب على الْخلق تقواه بِحَسب الِاسْتِطَاعَة وتقواه فعل مَا أَمر بِهِ وَترك مَا نهي عَنهُ فَلَا بُد أَن يعرف العَبْد مَا أَمر بِهِ ليفعله وَمَا نهي عَنهُ ليجتنبه وَمَا أُبِيح لَهُ ليَأْتِيه وَمَعْرِفَة هَذَا لَا يكون إِلَّا بِنَوْع الِاجْتِهَاد وَطلب وتحر للحق فَإِذا لم يَأْتِ بذلك فَهُوَ فِي عُهْدَة الْأَمر ويلقى الله وَلما يقْض مَا أمره بِهِ
الْوَجْه الْخَامِس وَالْعشْرُونَ أَن دَعْوَة النَّبِي صلى الله عليه وسلم عَامَّة لمن كَانَ فِي عصره وَلمن يَأْتِي بعده إِلَى يَوْم الْقِيَامَة وَالْوَاجِب على من بعد الصَّحَابَة هُوَ الْوَاجِب عَلَيْهِم بِعَيْنِه وَإِن تنوعت صِفَاته وكيفياته باخْتلَاف الْأَحْوَال وَمن الْمَعْلُوم بالاضطرار أَن الصَّحَابَة لم يَكُونُوا يعرضون مَا يسمعونه مِنْهُ ص على أَقْوَال عُلَمَائهمْ بل لم يكن لعلمائهم قَول غير قَوْله فَلم يكن أحد يتَوَقَّف فِي قبُول مَا سَمعه مِنْهُ على مُوَافقَة مُوَافق أَو رَأْي ذِي رَأْي اصلا وَكَانَ هَذَا هُوَ الْوَاجِب الَّذِي لَا يتم الْإِيمَان إِلَّا بِهِ وَهُوَ بِعَيْنِه الْوَاجِب علينا وعَلى سَائِر الْمُكَلّفين إِلَى يَوْم الْقِيَامَة وَمَعْلُوم أَن هَذَا الْوَاجِب لَا ينْسَخ بعد مَوته وَلَا هُوَ مُخْتَصّ بالصحابة فَمن خرج عَن ذَلِك فقد خرج عَن نفس مَا يُوجِبهُ الله تَعَالَى وَرَسُوله ص
الْوَجْه السَّادِس وَالْعشْرُونَ أَن أَقْوَال الْعلمَاء وآراءهم لَا تنضبط وَلَا تَنْحَصِر وَلم تضمن لَهَا الْعِصْمَة إِلَّا إِذا اتَّفقُوا وَلم يَخْتَلِفُوا فَلَا يكون اتِّفَاقهم إِلَّا حَقًا وَمن الْمحَال أَن يحيلنا الله تَعَالَى وَرَسُوله ص على مَالا يَنْضَبِط وَلَا ينْحَصر وَلم يضمن لنا عصمته من الْخَطَأ وَلم يقم لنا دَلِيلا على أَن أحد الْقَائِلين أولى بِأَن نَأْخُذ بقوله كُله من الآخر بل نَتْرُك قَول هَذَا كُله ونأخذ قَول هَذَا كُله هَذَا محَال أَن يشرعه الله تَعَالَى ويرضى بِهِ إِلَّا إِذا كَانَ أحد الْقَائِلين رَسُولا وَالْآخر كَاذِبًا على الله سُبْحَانَهُ
فالغرض حِينَئِذٍ بَيَان أَن مَا يعتمده هَؤُلَاءِ المقلدون مَعَ متبوعهم ومخالفهم غير منضبط فمحال أَن يحيلنا الله تَعَالَى وَرَسُوله ص على ذَاك
الْوَجْه السَّابِع وَالْعشْرُونَ أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ بَدَأَ الدّين غَرِيبا وَسَيَعُودُ غَرِيبا كَمَا بَدَأَ وَأخْبر أَن الْعلم يقل فَلَا بُد من وُقُوع مَا أخبر بِهِ الصَّادِق وَمَعْلُوم أَن كتب المقلدين
قد طبقت شَرق الأَرْض وغربها وَلم تكن فِي وَقت قطّ أَكثر مِنْهَا فِي هَذَا الْوَقْت وَنحن نرَاهَا كل عَام فِي ازدياد وَكَثْرَة والمقلدون يحفظون مِنْهَا مَا يُمكن حفظه بِحُرُوفِهِ وشهرتها فِي النَّاس بِخِلَاف الغربة بل هِيَ الْمَعْرُوف الَّتِي لَا يعْرفُونَ غَيرهَا فَلَو كَانَت هِيَ الْعلم الَّذِي بعث الله تَعَالَى بِهِ رَسُوله ص لَكَانَ الدّين كل وَقت فِي ظُهُور وَزِيَادَة وَالْعلم فِي شهرة وَظُهُور وَهُوَ خلاف مَا أخبر بِهِ الصَّادِق
الْوَجْه الثَّامِن وَالْعشْرُونَ أَن الِاخْتِلَاف كثير فِي كتب المقلدين وأقوالهم وَمَا كَانَ من عِنْد الله فَلَا اخْتِلَاف فِيهِ بل هُوَ حق يصدق بعضه بَعْضًا وَيشْهد بعضه لبَعض وَقد قَالَ الله تَعَالَى {وَلَو كَانَ من عِنْد غير الله لوجدوا فِيهِ اخْتِلَافا كثيرا}
الْوَجْه التَّاسِع وَالْعشْرُونَ أَنه لَا يجب على العَبْد أَن يُقَلّد زيدا دون عَمْرو بل يجوز لَهُ الِانْتِقَال من تَقْلِيد هَذَا إِلَى تَقْلِيد الآخر عِنْد المقلدين فَإِن كَانَ قَول من قَلّدهُ أَولا هُوَ الْحق لَا سواهُ فقد جوزتم لَهُ الِانْتِقَال عَن الْحق إِلَى خِلَافه وَهَذَا محَال وَإِن كَانَ الثَّانِي هُوَ الْحق وَحده فقد جوزتم الْإِقَامَة على خلاف الْحق وَإِن قُلْتُمْ الْقَوْلَانِ المتضادان حق فَهُوَ أَشد حَالَة وَلَا بُد لكم من قسم من هَذِه الْأَقْسَام الثَّلَاثَة
الْوَجْه الثَّلَاثُونَ أَن يُقَال للمقلد بِأَيّ شَيْء عرفت أَن الصَّوَاب مَعَ من قلدته دون من لَا تقلده فَإِن قَالَ عرفت بِالدَّلِيلِ فَلَيْسَ بمقلد وَإِن قَالَ عَرفته تقليدا لَهُ فَإِنَّهُ أفتى بِهَذَا القَوْل ودان بِهِ وَعلمه وَدينه وَحسن ثَنَاء الْأمة عَلَيْهِ مَنعه أَن يَقُول غير الْحق قيل لَهُ فمعصوم هُوَ عنْدك أم يجوز عَلَيْهِ الْخَطَأ فَإِن قَالَ بعصمته أبطل وَإِن جوز عَلَيْهِ الْخَطَأ قيل لَهُ فَمَا يُؤمنك أَنه قد أخطا فِيمَا قلدته فِيهِ وَخَالفهُ فِيهِ غَيره فَإِن قَالَ وَإِن أَخطَأ فَهُوَ مأجور قيل أجل هُوَ مأجور لإجتهاده وَأَنت غير مأجور لِأَنَّك لم تأت بِمُوجب الْأجر بل قد فرطت فِي اتِّبَاع الْوَاجِب فَأَنت إِذا مأزور فَإِن قَالَ كَيفَ يأجره الله تَعَالَى على مَا أفتى بِهِ ويمدحه عَلَيْهِ ويذم المستفتي على قَوْله وَهل يعقل هَذَا قيل لَهُ المستفتي إِن هُوَ قصر وفرط فِي معرفَة الْحق مَعَ قدرته عَلَيْهِ لحقه الذَّم والوعيد وَإِن بذل جهده وَلم يقصر فِيمَا أَمر بِهِ وَاتَّقَى الله مَا اسْتَطَاعَ فَهُوَ مأجور أَيْضا وَأما المتعصب الَّذِي جعل قَول متبوعه عيارا على الْكتاب وَالسّنة وأقوال الصَّحَابَة يزنها بهَا فَمَا وَافق قَول متبوعه مِنْهَا قبله وَمَا خَالفه رده فَهَذَا إِلَى الذَّم وَالْعِقَاب أقرب مِنْهُ إِلَى الْأجر وَالثَّوَاب وَإِن قَالَ وَهُوَ الْوَاقِع اتبعته وقلدته وَلَا أَدْرِي على صَوَاب هُوَ أم لَا فالعهدة على الْقَائِل وَأَنا حاك لأقواله قيل لَهُ فَهَل تتخلص بِهَذَا من الله تَعَالَى عِنْد السُّؤَال لَك عَمَّا حكمت بِهِ بَين عباد الله وأفتيتهم بِهِ فوَاللَّه إِن للحكام والمفتين لموقفا للسؤال لَا يتَخَلَّص فِيهِ إِلَّا من عرف الْحق وَحكم بِهِ وعرفه وَأفْتى بِهِ وَأما من عداهما فسيعلم عِنْد انكشاف الْحَال أَنه لم يكن على شَيْء
الْوَجْه الْحَادِي وَالثَّلَاثُونَ أَن يُقَال أَخَذْتُم بقول فلَان لِأَن فلَانا قَالَه أَو لِأَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَه فَإِن قُلْتُمْ لِأَن فلَانا قَالَه جعلتم قَول فلَان حجَّة وَهَذَا عين الْبَاطِل وَإِن قُلْتُمْ لِأَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَه كَانَ هَذَا أعظم وأقبح فَإِنَّهُ مُتَضَمّن للكذب على رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وتقولكم عَلَيْهِ مالم يقلهُ وَهُوَ أَيْضا كذب على الْمَتْبُوع فَإِنَّهُ لم يقل هَذَا قَول رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فقد دَار أَمركُم بَين أَمريْن لَا ثَالِث لَهما إِمَّا جعل قَول غير الْمَعْصُوم حجَّة وَإِمَّا تقويل الْمَعْصُوم مالم يقلهُ وَلَا بُد من وَاحِد من الْأَمريْنِ فَإِن قُلْتُمْ بل مِنْهُمَا وَبَقِي قسم ثَالِث وَهُوَ أَنا قُلْنَا كَذَا لِأَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أمرنَا بِأَن نتبع من هُوَ أعلم منا ونسأل أهل الذّكر إِن كُنَّا لَا نعلم ونرد مالم نعلمهُ إِلَى استنباط أهل الْعلم فَنحْن فِي ذَلِك متبعون مَا أمرنَا بِهِ نَبينَا ص قيل وَهل ندندن إِلَّا حول أمره فَحَيَّهَلا بالموافقة على هَذَا الأَصْل الَّذِي لَا يتم الْإِيمَان وَالْإِسْلَام إِلَّا بِهِ فنناشدكم بِالَّذِي أرْسلهُ إِذا جَاءَ أمره وَجَاء قَول من قلدتموه هَل تتركون قَوْله لأَمره ص وتضربون بِهِ الْحَائِط وتحرمون الْأَخْذ بِهِ وَالْحَالة هَذِه حَتَّى تتَحَقَّق الْمُتَابَعَة كَمَا زعمتم أم تأخذون بقوله وتفوضون أَمر الرَّسُول صلى الله عليه وسلم إِلَى الله وتقولون هُوَ أعلم بالرسول صلى الله عليه وسلم منا وَلم يُخَالف هَذَا الحَدِيث إِلَّا وَهُوَ عِنْده مَنْسُوخ أَو معَارض بِمَا هُوَ أقوى مِنْهُ أَو غير صَحِيح عِنْده فتجعلون قَول الْمَتْبُوع محكما وَقَول الرَّسُول متشابها فَلَو كُنْتُم قائلين بقوله لكَون الرَّسُول أَمركُم بِالْأَخْذِ بقوله لقدمتم قَول الرَّسُول أَيْن كَانَ
ثمَّ نقُول فِي الْوَجْه الثَّانِي وَالثَّلَاثِينَ أَيْن أَمركُم الرَّسُول صلى الله عليه وسلم بِأخذ قَول وَاحِد من الْأمة بِعَيْنِه وَترك قَول نَظِيره وَمن هُوَ أعلم مِنْهُ وَأقرب إِلَى الرَّسُول وَهل هَذَا إِلَّا نِسْبَة إِلَى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَنه أَمر بِمَا لم يُؤمر بِهِ قطّ
يُوضحهُ الْوَجْه الثَّالِث وَالثَّلَاثِينَ أَن مَا ذكرْتُمْ بِعَيْنِه حجَّة عَلَيْكُم فَإِن الله سبحانه وتعالى أمرنَا بسؤال أهل الذّكر وَالذكر هُوَ الْقُرْآن والْحَدِيث الَّذِي أَمر الله تَعَالَى نسَاء نبيه ص أَن يذكرنه بقوله {واذكرن مَا يُتْلَى فِي بيوتكن من آيَات الله وَالْحكمَة} فَهَذَا هُوَ الذّكر الَّذِي أمرنَا باتباعه وَأمر من لَا علم عِنْده أَن يسْأَل أَهله وَهَذَا هُوَ الْوَاجِب على كل أحد أَن يسْأَل اهل الْعلم بِالذكر الَّذِي أنزل الله تَعَالَى على رَسُوله ليخبروا بِهِ فَإِذا أَخْبرُوهُ بِهِ لم يَسعهُ غير اتِّبَاعه وَهَكَذَا كَانَ شَأْن أَئِمَّة أهل الْعلم لم يكن لَهُم مقلد معِين يتبعونه فِي كل مَا قَالَ فَكَانَ عبد الله بن عَبَّاس يسْأَل الصَّحَابَة عَمَّا قَالَه رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَو فعله أَو سنه لَا يسألهم عَن غير ذَلِك وَكَذَلِكَ الصَّحَابَة كَانُوا يسْأَلُون أُمَّهَات الْمُؤمنِينَ خُصُوصا عَائِشَة عَن فعل رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فِي بَيته وَكَذَلِكَ التابعون كَانُوا يسْأَلُون الصَّحَابَة عَن شَأْن نَبِيّهم ص فَقَط وَكَذَلِكَ أَئِمَّة الْفِقْه كَمَا قَالَ الإِمَام الشَّافِعِي لِأَحْمَد يَا أَبَا عبد الله أَنْت أعلم بِالْحَدِيثِ مني فَإِذا صَحَّ الحَدِيث
فَأَعْلمنِي حَتَّى أذهب إِلَيْهِ شاميا كَانَ أَو كوفيا أَو بصريا وَلم يكن أحد من أهل الْعلم قطّ يسْأَل عَن رَأْي رجل بِعَيْنِه ومذهبه فَيَأْخُذ بِهِ وَحده وَيُخَالف مَا سواهُ
الْوَجْه الرَّابِع وَالثَّلَاثُونَ أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا أرشد الْمُفْتِينَ لصَاحب الشَّجَّة بالسؤال عَن حكمه وسنته فَقَالَ قَتَلُوهُ قَتلهمْ الله فَدَعَا عَلَيْهِم حِين أفتوه بِغَيْر علم وَفِي هَذَا تَحْرِيم الْإِفْتَاء بالتقليد فَإِنَّهُ لَيْسَ علما بِاتِّفَاق النَّاس فَإِن مَا دعى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم على فَاعله فَهُوَ حرَام وَذَلِكَ أحد أَدِلَّة التَّحْرِيم فَمَا احْتج بِهِ المقلدون هُوَ من أكبر الْحجَج عَلَيْهِم وَالله الْمُوفق
وَكَذَلِكَ سُؤال أبي العسيف الَّذِي زنى بِامْرَأَة مستأجرة لأهل الْعلم لأَنهم لما أَخْبرُوهُ بِسنة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فِي الْبكر الزَّانِي أقره على ذَلِك وَلم يُنكره فَلم يكن سُؤَالهمْ عَن رَأْيهمْ ومذاهبهم
الْوَجْه الْخَامِس وَالثَّلَاثُونَ قَوْلهم إِن عمر قَالَ فِي الْكَلَالَة إِنِّي لأستحيي من الله أَن أُخَالِف أَبَا بكر وَهَذَا تَقْلِيد مِنْهُ لَهُ
فَجَوَابه من خَمْسَة أوجه أَحدهَا أَنهم اختصروا الحَدِيث وحذفوا مِنْهُ مَا يبطل استدلالهم بِهِ وَنحن نذكرهُ بِتَمَامِهِ قَالَ شُعْبَة عَن عَاصِم الْأَحول عَن الشّعبِيّ أَن أَبَا بكر قَالَ فِي الْكَلَالَة أَقْْضِي فِيهَا برأيي فَإِن يكن صَوَابا فَمن الله وَإِن يكن خطأ فمني وَمن الشَّيْطَان وَالله بَرِيء
مِنْهُ وَهُوَ مَا دون الْوَلَد وَالْوَالِد فَقَالَ عمر إِنِّي لأستحيي من الله أَن أُخَالِف أَبَا بكر فاستحى عمر من مُخَالفَة أبي بكر فِي اعترافه بِجَوَاز الْخَطَأ عَلَيْهِ وَأَنه لَيْسَ كَلَامه كُله صَوَابا مَأْمُونا عَلَيْهِ الْخَطَأ وَيدل على ذَلِك أَن عمر بن الْخطاب اقر عِنْد مَوته أَنه لم يقْض فِي الْكَلَالَة بِشَيْء وَقد اعْترف أَنه لم يفهمها
الْوَجْه الثَّانِي أَن خلاف عمر لأبي بكر أشهر من أَن يذكر كَمَا خَالفه فِي سبي أهل الرِّدَّة فسباهم أَبُو بكر وَخَالفهُ عمر وَبلغ خِلَافه إِلَى أَن ردهن حرائر إِلَى أهلهن إِلَّا من ولدت لسَيِّدهَا مِنْهُنَّ وَنقض حكمه وَمن جملتهن خَوْلَة الْحَنَفِيَّة أم مُحَمَّد بن عَليّ فَأَيْنَ هَذَا من فعل المقلدين بمتبوعهم وَخَالفهُ فِي أَرض العنوة فَقَسمهَا أَبُو بكر ووقفها عمر وَخَالفهُ فِي المفاضلة فِي الْعَطاء فَرَأى أَبُو بكر التَّسْوِيَة وَرَأى عمر المفاضلة وَمن ذَلِك مُخَالفَته لَهُ فِي الِاسْتِخْلَاف وَصرح بذلك فَقَالَ إِن أستخلف فقد اسْتخْلف أَبُو بكر وَإِن لم أستخلف إِن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لم يسْتَخْلف قَالَ ابْن عمر فوَاللَّه مَا هُوَ إِلَّا أَن ذكر رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَعلمت أَنه لَا يعدل برَسُول الله صلى الله عليه وسلم أحدا وَأَنه غير مستخلف فَهَكَذَا يفعل أهل الْعلم حِين تتعارض عِنْدهم سنة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَقَول غَيره لَا يعدلُونَ بِالسنةِ شَيْئا سواهَا لَا كَمَا يُصَرح بِهِ المقلدون صراحا
وخلافه فِي الْجد والأخوة مَعْلُوم أَيْضا الثَّالِث أَنه لَو قدر تَقْلِيد عمر لأبي بكر فِي كل مَا قَالَه لم يكن فِي ذَلِك مستراح لمقلدي من هُوَ بعد الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ مِمَّن لَا يداني الصَّحَابَة وَلَا يقاربهم فَإِن كَانَ كَمَا زعمتم لكم أُسْوَة بعمر فقلدوا أَبَا بكر واتركوا تَقْلِيد غَيره وَالله وَرَسُوله وَجَمِيع عباده يحمدونكم على هَذَا التَّقْلِيد مَالا يحمدونكم على تَقْلِيد غير أبي بكر الرَّابِع إِن المقلدين لأئمتهم لم يستحيوا مِمَّا اتسحيى مِنْهُ عمر لأَنهم يخالفون أَبَا بكر وَعمر مَعَه وَلَا يستحيون من ذَلِك لقَوْل من قلدوه من الْأَئِمَّة بل قد صرح بعض غلاتهم فِي بعض كتبه الْأُصُولِيَّة أَنه لَا يجوز تَقْلِيد أبي بكر وَعمر وَيجب تَقْلِيد الشَّافِعِي فيا لله الْعجب مَا الَّذِي أوجب تَقْلِيده عَلَيْكُم وَحرم عَلَيْكُم تَقْلِيد أبي بكر وَعمر وَنحن نشْهد الله علينا شَهَادَة نسْأَل عَنْهَا يَوْم نَلْقَاهُ أَنه إِذا صَحَّ عَن الخليفتين الرَّاشِدين اللَّذين أمرنَا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم باتباعهما والاقتداء بهما قَول وأطبق أهل الأَرْض على خِلَافه لم نلتفت إِلَى أحد مِنْهُم وَنَحْمَد الله تَعَالَى على أَن عَافَانَا مِمَّا ابتلى بِهِ من حرم تقليدهما وَأوجب تَقْلِيد متبوعه من الْأَئِمَّة
وَبِالْجُمْلَةِ فَلَو صَحَّ تَقْلِيد عمر لأبي بكر لم يكن فِي ذَلِك رَاحَة لمقلدي من لم يَأْمر الله تَعَالَى وَلَا رَسُوله ص بتقليده وَلَا جعله عيارا على كِتَابه وَسنة رَسُوله وَلَا هُوَ جعل نَفسه كَذَلِك
الْخَامِس أَن غَايَة هَذَا أَن يكون عمر قد قلد أَبَا بكر فِي مَسْأَلَة وَاحِدَة فَهَل فِي هَذَا دَلِيل على جَوَاز اتِّخَاذ أَقْوَال رجل بِعَيْنِه بِمَنْزِلَة نُصُوص الشَّارِع وَلَا يلْتَفت إِلَى قَول من سواهُ بل وَلَا إِلَى نُصُوص الشَّارِع إِلَّا إِذا وافقته فَهَذَا وَالله هُوَ الَّذِي أَجمعت الْأَئِمَّة على أَنه محرم فِي دين الله تَعَالَى وَلم يظْهر فِي الْأمة إِلَّا بعد انْقِرَاض الْقُرُون الفاضلة
الْوَجْه السَّادِس وَالثَّلَاثُونَ قَوْلهم أَن عمر قَالَ لأبي بكر رَأينَا لرأيك تبع فَالظَّاهِر أَن المحتج بِهَذَا سمع النَّاس يَقُولُونَ كلمة تَكْفِي الْعَاقِل فاقتصر من هَذَا الحَدِيث على هَذِه الْكَلِمَة وَاكْتفى بهَا والْحَدِيث من أعظم الْأَشْيَاء إبطالا لقَوْله فَفِي صَحِيح البُخَارِيّ عَن طَارق بن شهَاب قَالَ جَاءَ وَفد بزاخة من أَسد وغَطَفَان إِلَى أبي بكر يسْأَلُون الصُّلْح فَخَيرهمْ بَين الْحَرْب المجلية وَالسّلم المخزية فَقَالُوا هَذِه المجلية قد عرفناها فَمَا المخزية قَالَ ننزع مِنْكُم الْحلقَة والكراع ونغنم مَا أصبْنَا مِنْكُم وتردون علينا مَا أصبْتُم منا وتدون لنا قَتْلَانَا وَيكون قَتْلَاكُمْ فِي النَّار وتتركون أَقْوَامًا يتبعُون أَذْنَاب الْإِبِل حَتَّى يرى الله خَليفَة رَسُوله والمهاجرين أمرا يعذرونكم بِهِ فَعرض أَبُو بكر مَا قَالَ على الْقَوْم فَقَامَ عمر بن الْخطاب فَقَالَ قد رَأَيْت رَأيا وسنشير عَلَيْك أما مَا ذكرت من الْحَرْب المجلية وَالسّلم المخزية فَنعم مَا ذكرت وَأما مَا ذكرت من أَن نغنم مَا أصبْنَا مِنْكُم وتردون مَا أصبْتُم منا فَنعم مَا ذكرت وَأما مَا ذكرت من أَن تدون قَتْلَانَا وَيكون قَتْلَاكُمْ فِي النَّار فَإِن قَتْلَانَا قَاتَلت فقتلت على أَمر الله أجورها على الله لَيْسَ لَهَا ديات فتتابع الْقَوْم على مَا قَالَ عمر فَهَذَا هُوَ الحَدِيث الَّذِي فِي بعض أَلْفَاظه قد رَأينَا ورأينا لرأيك تبع فَأَيْنَ مستراح فِي هَذَا لفرقة التَّقْلِيد
الْوَجْه السَّابِع وَالثَّلَاثُونَ قَوْلهم إِن ابْن مَسْعُود كَانَ يَأْخُذ بقول عمر فخلاف ابْن مَسْعُود لعمر أشهر من أَن يتَكَلَّف إِيرَاده وَإِن كَانَ يُوَافقهُ كَمَا يُوَافق الْعَالم الْعَالم وَحَتَّى لَو أَخذ بقوله تقليدا فَإِنَّمَا ذَلِك كَانَ فِي نَحْو أَرْبَعَة مسَائِل نعدها إِذْ كَانَ من عماله وَكَانَ عمر أَمِير الْمُؤمنِينَ وَأما مُخَالفَته لَهُ فَفِي نَحْو مائَة مسئلة
مِنْهَا أَن ابْن مَسْعُود صَحَّ عَنهُ أَن أم الْوَلَد تعْتق من نصيب وَلَدهَا
وَمِنْهَا أَنه كَانَ يطبق فِي الصَّلَاة إِلَى أَن مَاتَ وَعمر كَانَ يضع يَدَيْهِ على رُكْبَتَيْهِ
وَمِنْهَا أَن ابْن مَسْعُود كَانَ يَقُول فِي الْحَرَام هِيَ يَمِين وَعمر يَقُول هِيَ طَلَاق وَاحِدَة
وَمِنْهَا أَن ابْن مَسْعُود كَانَ يحرم نِكَاح الزَّانِيَة على الزَّانِي أبدا وَعمر كَانَ يتوبهما وينكح أَحدهمَا الآخر وَمِنْهَا أَن ابْن مَسْعُود كَانَ يرى بيع الْأمة طَلاقهَا وَعمر يَقُول لَا تطلق بذلك إِلَى قضايا كَثِيرَة
وَالْعجب أَن المحتجين بِهَذَا الْأَثر لَا يرَوْنَ تَقْلِيد ابْن مَسْعُود وَلَا تَقْلِيد عمر وتقليد مَالك وَأبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ أحب إِلَيْهِم وآثر عِنْدهم
ثمَّ كَيفَ ينْسب إِلَى ابْن مَسْعُود تَقْلِيد الرِّجَال وَهُوَ يَقُول لقد علم أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَنِّي أعلمهم بِكِتَاب الله وَلَو أعلم أَن أحدا أعلم مني لرحلت إِلَيْهِ فِيهِ قَالَ شَقِيق فَجَلَست فِي حَلقَة من أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَمَا سَمِعت وَاحِدًا يرد ذَلِك عَلَيْهِ وَكَانَ يَقُول وَالَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ مَا من كتاب الله سُورَة إِلَّا أَنا أعلم حَيْثُ نزلت وَمَا من آيَة إِلَّا أَنا أعلم فِيمَا نزلت وَلَو أعلم
أحدا هُوَ أعلم بِكِتَاب الله مني تبلغه الْإِبِل لركبت إِلَيْهِ وَقَالَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ كُنَّا حينا وَمَا نرى ابْن مَسْعُود وَأمه إِلَّا منم أهل بَيت النَّبِي صلى الله عليه وسلم من كَثْرَة دُخُولهمْ ولزومهم لَهُ وَقَالَ أَبُو مَسْعُود البدري وَقد قَامَ عبد الله بن مَسْعُود مَا أعلم رَسُول الله صلى الله عليه وسلم ترك بعده أعلم بِمَا أنزل الله من هَذَا الْقَائِم فَقَالَ أَبُو مُوسَى لقد كَانَ يشْهد إِذا مَا غبنا وَيُؤذن لَهُ إِذا حجبنا وَكتب عمر إِلَى أهل الْكُوفَة إِنِّي بعثت إِلَيْكُم عمارا أَمِيرا وعبد الله معلما ووزيرا وهما من النجباء وَمن أَصْحَاب مُحَمَّد ص وَمن أهل بدر فَخُذُوا عَنْهُمَا وَاقْتَدوا بهما فَإِنِّي آثرتكم بعبد الله على نَفسِي وَقد صَحَّ عَن ابْن عمر أَنه استفتى ابْن مَسْعُود فِي الْبَتَّةَ وَأخذ بقوله وَلم يكن ذَلِك تقليدا لَهُ بل لما سمع قَوْله فِيمَا تبين لَهُ أَنه الصَّوَاب فَهَذَا هُوَ الَّذِي كَانَ يَأْخُذ بِهِ الصَّحَابَة من أَقْوَال بَعضهم بَعْضًا
وَقد صَحَّ عَن ابْن مَسْعُود أَنه قَالَ أغد عَالما أَو متعلما وَلَا تكونن إمعة فَأخْرج الإمعة وَهُوَ الْمُقَلّد من زمرة الْعلمَاء والمتعلمين وَهُوَ كَمَا قَالَ فَإِنَّهُ لَا مَعَ الْعلمَاء وَلَا مَعَ المتعلمين للْعلم وَالْحجّة كَمَا هُوَ مَعْرُوف ظَاهر لمن تَأمله
الْوَجْه الثَّامِن وَالثَّلَاثُونَ قَوْلهم أَن عبد الله كَانَ يدع قَوْله لقَوْل عمر وَأَبُو مُوسَى يدع قَوْله لقَوْل عَليّ وَكَانَ زيد يدع قَوْله لقَوْل أبي بن كَعْب
فَجَوَابه أَنهم لم يَكُونُوا يدعونَ مَا يعرفونه من السّنة تقليدا لهَؤُلَاء الثَّلَاثَة كَمَا يَفْعَله فرقة التَّقْلِيد بل من تَأمل سيرة الْقَوْم رأى أَنهم كَانُوا إِذا ظَهرت لَهُم السّنة لم يَكُونُوا يدعونها لقَوْل أحد كَائِنا من كَانَ وَكَانَ ابْن عمر يدع قَول عمر إِذا ظَهرت لَهُ السّنة وَابْن عَبَّاس يُنكر على من يُعَارض مَا بلغه من السّنة بقوله قَالَ أَبُو بكر وَعمر وَيَقُول يُوشك أَن ينزل عَلَيْكُم حِجَارَة من السَّمَاء أَقُول قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وتقولون قَالَ أَبُو بكر وَعمر فرحم الله ابْن عَبَّاس وَرَضي عَنهُ لَو شَاهد خلفنا هَؤُلَاءِ الَّذين إِذا قيل لَهُم قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالُوا قَالَ فلَان وَفُلَان لمن لَا يداني الصَّحَابَة وَلَا قَرِيبا من قريب وَإِنَّمَا كَانُوا يدعونَ أَقْوَالهم لأقوال هَؤُلَاءِ لِأَن هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ القَوْل فَيكون الدَّلِيل مَعَهم فيرجعون إِلَيْهِم وَيدعونَ أَقْوَالهم كَمَا يفعل أهل الْعلم الَّذِي هُوَ أحب إِلَيْهِم مِمَّا سواهُ وَهَذَا عكس طَريقَة فرقة التَّقْلِيد من كل وَجه وَهَذَا هُوَ الْجَواب عَن قَول مَسْرُوق وَمَا كنت أدع قَول ابْن مَسْعُود لقَوْل أحد من النَّاس
الْوَجْه التَّاسِع وَالثَّلَاثُونَ قَوْلهم أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ قد سنّ لكم معَاذ فَاتَّبعُوهُ
فعجبا لمحتج بِهَذَا على تَقْلِيد الرِّجَال فِي دين الله وَهل صَار مَا سنه معَاذ سنة إِلَّا بقول رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَاتَّبعُوهُ كَمَا صَار الْأَذَان سنة لقَوْله ص وَإِقْرَاره وشرعه لَا بِمُجَرَّد الْمَنَام
فَإِن قيل فَمَا معنى الحَدِيث قيل مَعْنَاهُ أَن معَاذًا فعل فعلا جعله الله تَعَالَى لكم سنة وَإِنَّمَا صَار سنة لنا حِين أقره النَّبِي صلى الله عليه وسلم لَا لِأَن معَاذًا فعله فَقَط وَقد صَحَّ عَن معَاذ أَنه قَالَ كَيفَ تَصْنَعُونَ بِثَلَاث دنيا تقطع أَعْنَاقكُم وزلة عَالم وجدال مُنَافِق بِالْقُرْآنِ فَأَما الْعَالم فَإِن اهْتَدَى فَلَا تقلدوه دينكُمْ إِلَى آخر مَا تقدم فِي الْمُقدمَة فصدع رضي الله عنه بِالْحَقِّ وَنهى عَن التَّقْلِيد فِي كل شَيْء وَأمر بِاتِّبَاع ظَاهر الْقُرْآن وَأَن لَا يُبَالِي بِمن خَالف فِيهِ وَأمر بالتوقف فِيمَا أشكل وَهَذَا كُله خلاف طَرِيق المقلدين وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق
الْوَجْه الْأَرْبَعُونَ قَوْلكُم أَن الله سبحانه وتعالى أَمر بِطَاعَة أولي الْأَمر وهم الْعلمَاء وطاعتهم تقليدهم فِيمَا يفتون بِهِ فَجَوَابه إِن أولي الْأَمر قيل هم الْأُمَرَاء وَقيل هم الْعلمَاء وهما رِوَايَتَانِ عَن الإِمَام أَحْمد وَالتَّحْقِيق أَن الْآيَة تتَنَاوَل الطَّائِفَتَيْنِ وطاعتهم من طَاعَة الرَّسُول صلى الله عليه وسلم لَكِن خَفِي على المقلدين أَنهم إِنَّمَا يطاعون فِي طَاعَة الله إِذا أمروا بِأَمْر الله تَعَالَى وَرَسُوله ص فَكَانَ الْعلمَاء مبلغين لأمر الرَّسُول والأمراء منفذين لَهُ فَحِينَئِذٍ تجب طاعتهم تبعا لطاعة الله وَرَسُوله فَأَيْنَ فِي الْآيَة تَقْدِيم آراء الرِّجَال على سنة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وإيثار التَّقْلِيد عَلَيْهَا
الْوَجْه الْحَادِي وَالْأَرْبَعُونَ أَن هَذِه الْآيَة من أكبر الْحجَج عَلَيْهِم وَأَعْظَمهَا إبطالا للتقليد وَذَلِكَ من وُجُوه أَحدهَا الْأَمر بِطَاعَتِهِ الَّتِي هِيَ امْتِثَال أمره وَاجْتنَاب نَهْيه
الثَّانِي طَاعَة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَلَا يكون العَبْد مُطيعًا لله وَرَسُوله حَتَّى يكون عَالما بِأَمْر الله تَعَالَى وَرَسُوله وَمن أقرّ على نَفسه بِأَنَّهُ لَيْسَ من أهل الْعلم بأوامر الله وَرَسُوله وَإِنَّمَا هُوَ مقلد فِيهَا لأهل الْعلم لم يُمكنهُ تَحْقِيق طَاعَة الله وَرَسُوله ص الْبَتَّةَ الثَّالِث أَن أولي الْأَمر قد نهوا عَن تقليدهم كَمَا صَحَّ ذَلِك عَن معَاذ بن جبل وعبد الله بن مَسْعُود وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عَبَّاس وَغَيرهم من الصَّحَابَة وَذَكَرْنَاهُ عَن الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة وَغَيرهم وَحِينَئِذٍ فطاعتهم فِي ذَلِك إِن كَانَت وَاجِبَة بَطل التَّقْلِيد وَإِن لم تكن وَاجِبَة بَطل الِاسْتِدْلَال الرَّابِع أَنه سبحانه وتعالى قَالَ فِي الْآيَة نَفسهَا {فَإِن تنازعتم فِي شَيْء فَردُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُول إِن كُنْتُم تؤمنون بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر} وَهَذَا صَرِيح فِي إبِْطَال التَّقْلِيد وَالْمَنْع من رد الْمُتَنَازع فِيهِ إِلَى رَأْي أَو مَذْهَب أَو تَقْلِيد
فَإِن قيل فَمَا هِيَ طاعتهم المختصة بهم إِذْ لَو كَانَت الطَّاعَة فِيمَا يخبرون بِهِ عَن الله تَعَالَى وَرَسُوله ص كَانَت الطَّاعَة لله وَرَسُوله ص لَا لَهُم قيل هَذَا هُوَ الْحق وطاعتهم إِنَّمَا هِيَ تبع لَا اسْتِقْلَال وَلِهَذَا قرنها بِطَاعَة الرَّسُول وَلم يعد الْعَامِل وأفرد طَاعَة الرَّسُول وَأعَاد الْعَامِل لِئَلَّا يتَوَهَّم أَنه إِنَّمَا
يطاع تبعا كَمَا يطاع أولو الْأَمر تبعا وَلَيْسَ كَذَلِك بل طَاعَته وَاجِبَة اسْتِقْلَالا سَوَاء كَانَ مَا أَمر بِهِ وَنهي عَنهُ فِي الْقُرْآن أَو لم يكن
الْوَجْه الثَّانِي وَالْأَرْبَعُونَ قَوْلهم أَن الله سبحانه وتعالى أثنى على السَّابِقين الْأَوَّلين من الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار وَالَّذين اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَان وتقليدهم هُوَ اتباعهم بِإِحْسَان فَمَا أصدق الْمُقدمَة الأولى وَمَا أكذب الثَّانِيَة بل الْآيَة من أعظم الْأَدِلَّة ردا على فرقة التَّقْلِيد فَإِن اتباعهم هُوَ سلوك سبيلهم ومنهاجهم وَقد نهوا عَن التَّقْلِيد وَكَون الرجل إمعة أَو خبروا أَنه لَيْسَ من أهل البصيرة وَلم يكن فيهم وَللَّه الْحَمد رجل وَاحِد على مَذْهَب هَؤُلَاءِ المقلدين وَقد أعاذهم الله تَعَالَى وعافاهم مِمَّا ابْتُلِيَ بِهِ من يرد النُّصُوص لآراء الرِّجَال وتقليدها فَهَذَا ضد متابعتهم وَهُوَ عين مخالفتهم فالتابعون بِإِحْسَان حَقًا هم أولو الْعلم والبصائر الَّذين لَا يقدمُونَ على كتاب الله وَسنة رَسُوله ص رَأيا وَلَا قِيَاسا وَلَا معقولا وَلَا قَول أحد من الْعَالمين وَلَا يجْعَلُونَ مَذْهَب رجل عيارا على الْقُرْآن وَالسّنَن فَهَؤُلَاءِ أتباعهم حَقًا جعلنَا الله تَعَالَى مِنْهُم بفضله وَرَحمته
يُوضحهُ الْوَجْه الثَّالِث وَالْأَرْبَعُونَ أَن اتباعهم لَو كَانُوا هم المقلدين الَّذين هم مقرون على أنفسهم وَجَمِيع أهل الْعلم أَنهم لَيْسُوا من أهل الْعلم لَكَانَ سَادَات الْعلمَاء الدائرون مَعَ الْحجَّة لَيْسُوا من اتباعهم وَلَكِن الْجُهَّال أسعد باتبَاعهمْ مِنْهُم وَهَذَا عين الْمحَال بل من خَالف وَاحِدًا مِنْهُم للحجة فَهُوَ المتبع لَهُ دون من أَخذ قَوْله بِغَيْر حجَّة وَهَكَذَا القَوْل فِي اتِّبَاع الْأَئِمَّة معَاذ الله أَن يَكُونُوا هم المقلدين لَهُم الَّذين ينزلون آراءهم منزلَة النُّصُوص بل يتركون لَهَا النُّصُوص فَهَؤُلَاءِ لَيْسُوا من أتباعهم وَإِنَّمَا أتباعهم من كَانَ على طريقتهم واقتفى منهاجهم وَلَقَد أنكر بعض المقلدين على شيخ الْإِسْلَام أَعنِي ابْن تَيْمِية فِي تدريسه بمدرسة ابْن الْحَنْبَلِيّ وَهِي وقف على الْحَنَابِلَة والمجتهد لَيْسَ مِنْهُم فَقَالَ أَنا أتناول مَا أتناوله مِنْهَا بمعرفتي مَذْهَب أَحْمد لَا على تقليدي لَهُ وَمن الْمحَال أَن يكون هَؤُلَاءِ الْمُتَأَخّرُونَ على مَذْهَب الْأَئِمَّة دون أَصْحَابهم الَّذين لم يَكُونُوا يقلدونهم فَاتبع النَّاس لمَالِك بن وهب وطبقته مِمَّن يحكم الْحجَّة وينقاد للدليل إِن كَانَ وَكَذَلِكَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد اتبع لأبي حنيفَة من المقلدين لَهُ مَعَ كَثْرَة مخالفتهما لَهُ وَكَذَلِكَ البُخَارِيّ وَمُسلم وَأَبُو داد والأثرم وَهَذِه الطَّبَقَة من أَصْحَاب أَحْمد اتبع لَهُ من المقلدين الْمَحْض المنتسبين إِلَيْهِ وعَلى هَذَا فالوقف على اتِّبَاع الْأَئِمَّة أهل الْحجَّة وَالْعلم أَحَق بِهِ من المقلدين فِي نفس الْأَمر
الْوَجْه الرَّابِع وَالْأَرْبَعُونَ قَوْلهم يَكْفِي فِي صِحَة التَّقْلِيد الحَدِيث الْمَشْهُور أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ جَوَابه من وُجُوه أَحدهَا أَن هَذَا الحَدِيث قد رُوِيَ من طَرِيق الْأَعْمَش عَن ابْن سُفْيَان عَن جَابر وَمن حَدِيث سعيد بن الْمسيب عَن ابْن عمر وَمن
طَرِيق حَمْزَة الْجَزرِي عَن نَافِع عَن ابْن عمر وَلَا يثبت شَيْء مِنْهَا
قلت قَالَ ابْن عبد البر فِي كتاب الْعلم حَدثنَا مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن سعيد قِرَاءَة عَلَيْهِ أَن مُحَمَّد بن أَحْمد بن يحيى حَدثهمْ قَالَ حَدثنَا أَبُو الْحسن مُحَمَّد بن ايوب الرقي قَالَ قَالَ لنا أَبُو بكر أَحْمد بن عمر بن عبد الخالق الْبَزَّار سَأَلتهمْ عَمَّا يرْوى عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم من مَا فِي أَيدي الْعَامَّة يَرْوُونَهُ عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ إِنَّمَا مثل أَصْحَابِي كَمثل النُّجُوم أَو أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ فبأيها اقتدوا اهتدوا وَهَذَا الْكَلَام لَا يَصح عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم رَوَاهُ عبد الرحيم بن زيد الْعَمى عَن أَبِيه عَن سعيد بن الْمسيب عَن ابْن عمر عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَرُبمَا رَوَاهُ عبد الرحيم عَن أَبِيه عَن ابْن عمر وَإِنَّمَا أَتَى ضعف هَذَا الحَدِيث من قبل عبد الرحيم بن زيد لِأَن أهل الْعلم قد سكتوا عَن الرِّوَايَة لحديثه وَالْكَلَام أَيْضا مُنكر عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَقد رُوِيَ عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم بِإِسْنَاد صَحِيح عَلَيْكُم بِسنتي وَسنة الْخُلَفَاء الرَّاشِدين المهديين بعدِي فعضوا عَلَيْهَا بالنواجذ وَهَذَا الْكَلَام يُعَارض حَدِيث عبد الرحيم لَو ثَبت فَكيف وَلم يثبت وَالنَّبِيّ صلى الله عليه وسلم لَا يُبِيح الِاخْتِلَاف بعده من أَصْحَابه وَالله تَعَالَى أعلم هَذَا آخر كَلَام الْبَزَّار قَالَ أَبُو عمر قد روى أَبُو شهَاب الحناط عَن حَمْزَة الْجَزرِي عَن نَافِع عَن ابْن عمر قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا أَصْحَابِي مثل النُّجُوم فَأَيهمْ أَخَذْتُم بقوله اهْتَدَيْتُمْ وَهَذَا إِسْنَاد لَا يَصح وَلَا يرويهِ عَن نَافِع من يحْتَج بِهِ وَلَيْسَ كَلَام الْبَزَّار بِصَحِيح على كل حَال لِأَن الِاقْتِدَاء بأصحاب النَّبِي صلى الله عليه وسلم منفردين إِنَّمَا هُوَ لمن جهل مَا يسْأَل عَنهُ وَمن كَانَت هَذِه حَاله فالتقليد لَازم لَهُ وَلم يَأْمر أَصْحَابه أَن يَقْتَدِي بَعضهم بِبَعْض إِذا تأولوا تَأْوِيلا سائغا جَائِزا مُمكنا فِي الْأُصُول وَإِنَّمَا كل وَاحِد مِنْهُم نجم جَائِز أَن يَقْتَدِي بِهِ الْعَاميّ الْجَاهِل بِمَعْنى مَا يحْتَاج إِلَيْهِ من دينه وَكَذَلِكَ سَائِر الْعلمَاء مَعَ الْعَامَّة وَالله أعلم وَقد رُوِيَ فِي هَذَا الحَدِيث إِسْنَاد غير مَا ذكر الْبَزَّار حَدثنَا أَحْمد بن عمر حَدثنَا عبد الله بن أَحْمد قَالَ حَدثنَا عَليّ بن عمر قَالَ حَدثنَا القَاضِي أَحْمد بن كَامِل قَالَ حَدثنَا عبد الله بن روح قَالَ حَدثنَا سَلام بن سليم قَالَ حَدثنَا الْحَرْث بن غصين عَن الْأَعْمَش عَن أبي سُفْيَان عَن جَابر قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ
قَالَ أَبُو عمر هَذَا إِسْنَاد لَا تقوم بِهِ حجَّة لِأَن الْحَرْث بن غضين مَجْهُول حَدثنَا عبد الوارث بن سُفْيَان حَدثنَا قَاسم بن أصبغ قَالَ حَدثنَا أَحْمد بن زُهَيْر قَالَ حَدثنِي أبي قَالَ حَدثنَا سعيد بن عَامر قَالَ حَدثنَا شُعْبَة عَن الحكم بن عتيبة قَالَ لَيْسَ أحد من خلق الله إِلَّا يُؤْخَذ من قَوْله وَيتْرك إِلَّا النَّبِي صلى الله عليه وسلم انْتهى
قَالَ ابْن الْقيم فِي أَعْلَام الموقعين الثَّانِي أَن يُقَال لهَؤُلَاء المقلدين فَكيف استجزتم ترك تَقْلِيد النُّجُوم الَّتِي يهتدى بهَا وقلدتم من هُوَ دونهم بمراتب كَثِيرَة فَكَانَ تَقْلِيد مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأبي حنيفَة وَأحمد آثر عنْدكُمْ من تَقْلِيد أبي بكر وَعمر وَعُثْمَان وَعلي رضي الله عنه فَمَا دلّ عَلَيْهِ الحَدِيث خالفتموه صَرِيحًا واستدللتم بِهِ على تَقْلِيد من لم يتَعَرَّض لَهُ بِوَجْه الثَّالِث أَن هَذَا يُوجب عَلَيْكُم تَقْلِيد من ورث الْجد مَعَ الْأُخوة مِنْهُم وَمن أسقط الْأُخوة بِهِ وتقليد من قَالَ الْحَرَام يَمِين وَمن قَالَ هُوَ طَلَاق وتقليد من حرم الْجمع بَين الْأُخْتَيْنِ بِملك الْيَمين وَمن أَبَاحَهُ وتقليد من جوز للصَّائِم أكل الْبرد وَمن منع مِنْهُ وتقليد من قَالَ تَعْتَد الْمُتَوفَّى عَنْهَا بأقصى الْأَجَليْنِ وَمن قَالَ بِوَضْع الْحمل وتقليد من قَالَ يحرم على الْمحرم اسْتِدَامَة الطّيب وتقليد من أَبَاحَهُ وتقليد من جوز بيع الدِّرْهَم بِالدِّرْهَمَيْنِ وتقليد من حرمه وتقليد من أوجب الْغسْل من الأكسال وتقليد من أسْقطه وتقليد من ورث ذَوي الْأَرْحَام وَمن أسقطهم وتقليد من رأى التَّحْرِيم برضاع الْكَبِير وَمن لم يره وتقليد من منع تيَمّم الْجنب وَمن أوجبه وتقليد من رأى الطَّلَاق الثَّلَاث وَاحِدَة وَمن رَآهُ ثَلَاثًا وتقليد من أوجب فسخ الْحَج إِلَى الْعمرَة وَمن منع مِنْهُ وتقليد من أَبَاحَ لُحُوم الْحمر الْأَهْلِيَّة وَمن منع مِنْهَا وتقليد من رأى النَّقْض بِمَسّ الذّكر وَمن لم يره وتقليد من رأى بيع الْأمة طَلاقهَا وَمن لم يره وتقليد من وقف الْمولى عِنْد الْأَجَل وَمن لم يقفه وأضعاف أَضْعَاف ذَلِك مِمَّا اخْتلف فِيهِ أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَإِن سوغتم هَذَا فَلَا تحتجوا بقول على قَول وَلَا بِمذهب على مَذْهَب بل اجعلوا الرجل مُخَيّرا فِي الْأَخْذ بِأَيّ قَول شَاءَ من أَقْوَالهم وَلَا تنكروا على من خَالف مذاهبكم وَاتبع قَول أحدهم وَإِن لم تسوغوه فَأنْتم أول مُبْطل لهَذَا الدَّلِيل ومخالف لَهُ وَقَائِل بضد مُقْتَضَاهُ وَهَذَا مِمَّا لَا انفكاك لكم مِنْهُ الرَّابِع أَن الِاقْتِدَاء بهم هُوَ اتِّبَاع الْقُرْآن وَالسّنة وَقبُول كل مَا دعوا إِلَيْهِ فالاقتداء بهم يحرم عَلَيْكُم التَّقْلِيد وَيُوجب الِاسْتِدْلَال وتحكيم الدَّلِيل كَمَا كَانَ عَلَيْهِ الْقَوْم رضي الله عنهم وَحِينَئِذٍ فَالْحَدِيث من أقوى الْحجَج عَلَيْكُم وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق
الْوَجْه الْخَامِس وَالْأَرْبَعُونَ قَوْلكُم قَالَ عبد الله بن مَسْعُود من كَانَ مستنا مِنْكُم فَليَسْتَنَّ بِمن قد مَاتَ أُولَئِكَ أَصْحَاب مُحَمَّد ص فَهَذَا من أكبر
الْحجَج عَلَيْكُم من وُجُوه فَإِنَّهُ نهى عَن الاستنان بالأحياء وَأَنْتُم تقلدون الْأَحْيَاء والأموات
الثَّانِي أَنه عين المستن بهم بِأَنَّهُم خير الْخلق وَأبر الْأمة وأعلمهم وهم الصَّحَابَة رضي الله عنهم وَأَنْتُم معاشر المقلدين لَا ترَوْنَ تقليدهم وَلَا الاستنان بهم وَإِنَّمَا ترَوْنَ تَقْلِيد فلَان وَفُلَان مِمَّن هُوَ دونهم بِكَثِير الثَّالِث أَن الاستنان بهم هُوَ الِاقْتِدَاء بهم وَهُوَ أَن يَأْتِي الْمُقْتَدِي بِمثل مَا أَتَوا بِهِ وَيفْعل كَمَا فعلوا وَهَذَا مُبْطل قبُول قَول أحد بِغَيْر حجَّة كَمَا كَانَ الصَّحَابَة عَلَيْهِ الرَّابِع أَن ابْن مَسْعُود رضي الله عنه قد صَحَّ عَنهُ النَّهْي عَن التَّقْلِيد وَأَن يكون الرجل إمعة لَا بَصِيرَة لَهُ فَعلم أَن الاستنان عِنْده غير التَّقْلِيد
الْوَجْه السَّادِس وَالْأَرْبَعُونَ قَوْلكُم قد صَحَّ عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ عَلَيْكُم بِسنتي وَسنة الْخُلَفَاء الرَّاشِدين المهديين من بعدِي وَقَالَ اقتدوا باللذين من بعدِي فَهَذَا من أكبر حجَجنَا عَلَيْكُم فِي بطلَان مَا أَنْتُم عَلَيْهِ من التَّقْلِيد فَإِنَّهُ خلاف سنتهمْ وَمن الْمَعْلُوم بِالضَّرُورَةِ أَن أحدا مِنْهُم لم يكن يدع السّنة إِذا ظَهرت بقول غَيره كَائِنا مَا كَانَ وَلم يكن لَهُ مَعهَا قَول الْبَتَّةَ وَطَرِيقَة فرقة التَّقْلِيد خلاف ذَلِك
يُوضحهُ الْوَجْه السَّابِع وَالْأَرْبَعُونَ أَنه ص قرن سنتهمْ بسنته فِي وجوب الِاتِّبَاع وَالْأَخْذ بسنتهم لَيْسَ تقليدا لَهُم بل اتِّبَاع لرَسُول الله صلى الله عليه وسلم كَمَا كَانَ الْأَخْذ بِالْأَذَانِ لم يكن تقليدا لمن رَآهُ فِي الْمَنَام وَالْأَخْذ بِقَضَاء مَا فَاتَ الْمَسْبُوق من صلَاته بعد سَلام الإِمَام لم يكن تقليدا لِمعَاذ بل اتبَاعا لمن أمرنَا بِالْأَخْذِ بذلك فَأَيْنَ التَّقْلِيد الَّذِي أَنْتُم عَلَيْهِ من هَذَا
ويوضحه الْوَجْه الثَّامِن وَالْأَرْبَعُونَ إِنَّكُم أول مُخَالف لهذين الْحَدِيثين فَإِنَّكُم لَا ترَوْنَ الْأَخْذ بسنتهم وَلَا الِاقْتِدَاء بهم وَاجِبا وَلَيْسَ قَوْلهم عنْدكُمْ حجَّة وَقد صرح بعض غلاتكم بِأَنَّهُ لَا يجوز تقليدهم وَيجب تَقْلِيد الشَّافِعِي فَمن الْعَجَائِب احتجاجكم بِشَيْء أَنْتُم أَشد النَّاس خلافًا لَهُ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق
يُوضحهُ الْوَجْه التَّاسِع وَالْأَرْبَعُونَ أَن الحَدِيث بجملته حجَّة عَلَيْكُم من كل وَجه فَإِنَّهُ أَمر عِنْد كَثْرَة الِاخْتِلَاف بسنته وَسنة خلفائه وأمرتم أَنْتُم براي فلَان وَمذهب فلَان
الثَّانِي أَنه حذر من محدثات الْأُمُور وَأخْبر أَن كل محدثة بِدعَة وكل بِدعَة ضَلَالَة وَمن الْمَعْلُوم
بالاضطرار أَن مَا أَنْتُم عَلَيْهِ من التَّقْلِيد الَّذِي ترك لَهُ كتاب الله سُبْحَانَهُ وَسنة رَسُوله ص ويعرض الْقُرْآن وَالسّنة عَلَيْهِ ويجعله معيارا عَلَيْهِمَا من أعظم المحدثات والبدع الَّتِي برأَ الله سُبْحَانَهُ مِنْهَا الْقُرُون الَّتِي فَضلهَا وَخَيرهَا على غَيرهَا وَبِالْجُمْلَةِ فَمَا سنه الْخُلَفَاء الراشدون أَو أحدهم للْأمة فَهُوَ حجَّة وَلَا يجوز الْعُدُول عَنْهَا فَأَيْنَ هَذَا من قَول فرقة التَّقْلِيد لَيست سنتهمْ حجَّة وَلَا يجوز تقليدهم فِيهَا
يُوضحهُ الْوَجْه الْخَمْسُونَ أَنه ص قَالَ فِي نفس هَذَا الحَدِيث فَإِنَّهُ من يَعش مِنْكُم بعدِي فسيرى اخْتِلَافا كثيرا وَهَذَا ذمّ للمختلفين وتحذير من سلوك سبيلهم وَإِنَّمَا كَثْرَة الِاخْتِلَاف وتفاقم أمره سَبَب التَّقْلِيد وَأَهله هم الَّذين فرقوا الدّين وصيروا أَهله شيعًا كل فرقة تنصر متبوعها وَتَدْعُو إِلَيْهِ وتذم من خالفها وَلَا يرَوْنَ الْعَمَل بقَوْلهمْ حَتَّى كَأَنَّهُمْ مِلَّة أُخْرَى سواهُم يدأبون ويكدحون فِي الرَّد عَلَيْهِم وَيَقُولُونَ كتبهمْ وكتبنا وأئمتهم وأئمتنا ومذهبهم ومذهبنا هَذَا وَالنَّبِيّ وَاحِد وَالْقُرْآن وَاحِد وَالدّين وَاحِد والرب وَاحِد فَالْوَاجِب على الْجَمِيع أَن ينقادوا إِلَى كلمة سَوَاء بَينهم كلهم أَلا يطيعوا إِلَّا الرَّسُول صلى الله عليه وسلم وَلَا يجْعَلُوا مَعَه من تكون أَقْوَاله كنصوصه وَلَا يتَّخذ بَعضهم بَعْضًا أَرْبَابًا من دون الله وَلَو اتّفقت كلمتهم على ذَلِك وانقاد كل مِنْهُم لمن دَعَاهُ إِلَى الله تَعَالَى وَرَسُوله ص وتحاكموا كلهم إِلَى السّنة وآثار الصَّحَابَة لقل الِاخْتِلَاف وَإِن لم يعْدم من الأَرْض وَلِهَذَا تَجِد أقل النَّاس اخْتِلَافا أهل السّنة والْحَدِيث فَلَيْسَ على وَجه الأَرْض طَائِفَة أَكثر اتِّفَاقًا وَأَقل اخْتِلَافا مِنْهُم لما بنوا على هَذَا الأَصْل وَكلما كَانُوا عَن الحَدِيث أبعد كَانَ اخْتلَافهمْ فِي أنفسهم أَشد وَأكْثر فَإِن من رد الْحق مرج عَلَيْهِ أمره وَاخْتَلَطَ عَلَيْهِ والتبس عَلَيْهِ وَجه الصَّوَاب فَلم يدر أَيْن يذهب كَمَا قَالَ تَعَالَى {بل كذبُوا بِالْحَقِّ لما جَاءَهُم فهم فِي أَمر مريج}
الْوَجْه الْحَادِي وَالْخَمْسُونَ قَوْلكُم أَن عمر رضي الله عنه كتب إِلَى شُرَيْح أَن اقْضِ بِمَا فِي كتاب الله فَإِن لم يكن فِي كتاب الله فبسنة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَإِن لم يكن فِي سنة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فبمَا قضى بِهِ الصالحون فَهَذَا من أظهر الْحجَج عَلَيْكُم وعل بطلَان التَّقْلِيد فَإِنَّهُ أمره أَن يقدم الحكم بِكِتَاب الله تَعَالَى على كل مَا سواهُ فَإِن لم يجده فِي الْكتاب ووجده فِي السّنة لم يلْتَفت إِلَى غَيرهَا فَإِن لم يجد فِي السّنة قضى بِمَا قضى بِهِ الصَّحَابَة وَنحن نناشد الله تَعَالَى فرقة التَّقْلِيد هَل هم كَذَلِك أَو قريب من ذَلِك وَهل إِذا نزلت بهم نازلة حدث أحدهم نَفسه أَن يَأْخُذ حكمهَا من كتاب الله ثمَّ ينفذهُ فَإِن لم يجدهَا فِي كتاب الله أَخذهَا من سنة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَإِن لم يجدهَا فِي سنة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أفتى فِيهَا بِمَا أفتى بِهِ الصَّحَابَة وَالله شَهِيد عَلَيْهِم وَمَلَائِكَته وهم شاهدون على أنفسهم بِأَنَّهُم إِنَّمَا يَأْخُذُونَ حكمهَا من قَول من قلدوه وَإِن استبان
لَهُم فِي الْكتاب وَالسّنة وأقوال الصَّحَابَة خلاف ذَلِك لم يلتفتوا إِلَيْهِ وَلم يَأْخُذُوا بِشَيْء مِنْهُ إِلَّا بقول من قلدوه وَكتاب عمر من أعظم الْأَشْيَاء وأكثرها لقَولهم بطلانا وَهَذَا كَانَ سير السّلف الْمُسْتَقيم وهديهم القويم فَلَمَّا انْتَهَت الْفَتْوَى إِلَى الْمُتَأَخِّرين سَارُوا عكس هَذِه السّير وَقَالُوا إِذا نزلت هَذِه النَّازِلَة بالمفتي أَو الْحَاكِم فَعَلَيهِ أَن ينظر أَولا هَل فِيهَا خلاف أَو لَا فَإِن لم يكن فِيهَا خلاف لم ينظر فِي كتاب وَلَا سنة بل يُفْتِي وَيَقْضِي فِيهَا بِالْإِجْمَاع وَإِن كَانَ فِيهَا اخْتِلَاف اجْتهد فِي أقرب الْأَقْوَال إِلَى الدَّلِيل فَأفْتى بِهِ وَحكم بِهِ وَهَذَا خلاف مادل عَلَيْهِ حَدِيث معَاذ وَكتاب عمر وأقوال الصَّحَابَة وَالَّذِي دلّ عَلَيْهِ الْكتاب وَالسّنة وأقوال الصَّحَابَة أولى فَإِنَّهُ مَقْدُور مَأْمُور فَإِن علم الْمُجْتَهد بِمَا دلّ عَلَيْهِ الْكتاب وَالسّنة أسهل عَلَيْهِ بِكَثِير من علمه بِاتِّفَاق النَّاس فِي شَرق الأَرْض وغربها على الحكم وَهَذَا إِن لم يكن متعذرا فَهُوَ أصعب شَيْء وأشقه إِلَّا فِيمَا هُوَ من لَوَازِم الْإِسْلَام فَكيف يحيلنا الله تَعَالَى وَرَسُوله ص على مَالا وُصُول لنا إِلَيْهِ وَيتْرك الْحِوَالَة على كِتَابه وَسنة رَسُوله اللَّذين هدَانَا بهما ويسرهما لنا وَجعل لنا إِلَى معرفتهما طَرِيقا سهلة التَّنَاوُل من قرب ثمَّ مَا يدريه فَلَعَلَّ النَّاس اخْتلفُوا وَهُوَ لَا يعلم وَلَيْسَ عدم الْعلم بالنزاع علما بِعَدَمِهِ فَكيف يقدم عدم الْعلم على أصل الْعلم كُله ثمَّ كَيفَ يسوغ ترك الْحق الْمَعْلُوم إِلَى أَمر لَا علم لَهُ بِهِ وغايته أَن يكون موهوما وَأحسن أَحْوَاله ان يكون مشكوكا فِيهِ شكا مُتَسَاوِيا أَو راجحا ثمَّ كَيفَ يَسْتَقِيم هَذَا على رَأْي من يَقُول إِن انْقِرَاض عصر المجمعين شَرط فِي صِحَة الْإِجْمَاع فَمَا لم ينقرض عصرهم فَلِمَنْ نَشأ فِي زمنهم أَن يخالفهم فَصَاحب هَذِه الشكوك لَا يُمكنهُ أَن يحْتَج بِالْإِجْمَاع حَتَّى يعلم أَن الْعَصْر انقرض وَلم ينشأ فِيهِ مُخَالف لأَهله وَهل أحَال الله تَعَالَى الْأمة فِي الاهتداء بكتابه وَسنة رَسُوله ص على مَا لَا سَبِيل لَهُم إِلَيْهِ وَلَا اطلَاع لأفرادهم عَلَيْهِ وَترك إحالتهم على مَا هُوَ بَين أظهرهم حجَّة عَلَيْهِم بَاقِيَة إِلَى آخر الدَّهْر متمكنون من الاهتداء بِهِ وَمَعْرِفَة الْحق مِنْهُ هَذَا من أمحل الْمحَال
وَحين نشأت هَذِه الطَّرِيقَة تولدت عَنْهَا مُعَارضَة النُّصُوص بِالْإِجْمَاع الْمَجْهُول وَفتح بَاب دَعْوَاهُ وَصَارَ من لم يعرف الْخلاف من المقلدين إِذا احْتج عَلَيْهِ بِالْقُرْآنِ وَالسّنة قَالَ هَذَا خلاف الْإِجْمَاع وَهَذَا هُوَ الَّذِي أنكرهُ أَئِمَّة الْإِسْلَام وعابوا من كل نَاحيَة على من يرتكبه وكذبوا من ادَّعَاهُ فَقَالَ الإِمَام أَحْمد فِي رِوَايَة ابْنه عبد الله من ادّعى الْإِجْمَاع فَهُوَ كَاذِب لَعَلَّ النَّاس اخْتلفُوا وَلم يبلغهُ هَذِه دَعْوَى بشر المريسي والأصم وَلَكِن يَقُول لَا نعلم النَّاس اخْتلفُوا أَو لم يبلغنَا وَقَالَ فِي رِوَايَة الْمروزِي كَيفَ يجوز للرجل أَن يَقُول أَجمعُوا إِذا سمعتهم يَقُولُونَ أَجمعُوا فَاتَّهمهُمْ لَو قَالَ إِنِّي لم أعلم مُخَالفا كَانَ صَوَابا وَقَالَ فِي رِوَايَة أبي طَالب هَذَا كذب مَا علم أَن النَّاس يجمعُونَ وَلَكِن يَقُول مَا أعلم فِيهِ اخْتِلَافا فَهُوَ أحسن من قَوْله أجمع النَّاس وَقَالَ فِي رِوَايَة أبي الْحَرْث لَا يَنْبَغِي لأحد أَن يَدعِي الْإِجْمَاع لَعَلَّ النَّاس اخْتلفُوا وَلم تزل أَئِمَّة الْإِسْلَام على تَقْدِيم
الْكتاب وَالسّنة على الْإِجْمَاع وَجعل الْإِجْمَاع فِي الْمرتبَة الثَّالِثَة قَالَ الشَّافِعِي الْحجَّة كتاب الله عز وجل وَسنة رَسُوله ص واتفاق الْأَئِمَّة رحمهم الله وَقَالَ فِي كتاب اختلافه مَعَ مَالك وَالْعلم طَبَقَات الأولى الْكتاب وَالسّنة الثَّانِيَة الْإِجْمَاع فِيمَا لَيْسَ فِيهِ كتاب وَلَا سنة الثَّالِثَة أَن يَقُول الصَّحَابِيّ فَلَا يعلم لَهُ مُخَالف من الصَّحَابَة الرَّابِعَة اخْتِلَاف الصَّحَابَة الْخَامِسَة الْقيَاس فَقدم النّظر فِي الْكتاب وَالسّنة على الْإِجْمَاع ثمَّ أخبر أَنه إِنَّمَا يصير إِلَى الْإِجْمَاع فِيمَا لم يعلم فِيهِ كتاب وَلَا سنة وَهَذَا هُوَ الْحق
وَقَالَ أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ الْعلم عندنَا مَا كَانَ عَن الله تَعَالَى من كتاب نَاطِق نَاسخ غير مَنْسُوخ وَمَا صحت بِهِ الْأَخْبَار عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم مِمَّا لَا معَارض لَهُ وَمَا جَاءَ عَن الْأَوَّلين من الصَّحَابَة مَا اتَّفقُوا عَلَيْهِ فَإِذا اخْتلفُوا لم يخرج عَن اخْتلَافهمْ وَإِذا خَفِي ذَلِك وَلم يفهم فَعَن التَّابِعين فَإِذا لم يجد عَن التَّابِعين فَعَن أَئِمَّة الْهدى من أتباعهم مثل أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ وَحَمَّاد بن زيد وَحَمَّاد ابْن سَلمَة وسُفْيَان وَمَالك وَالْأَوْزَاعِيّ وَالْحسن بن صَالح ثمَّ مَا لم يُوجد عَن أمثالهم فَعَن مثل عبد الرحمن بن مهْدي وعبد الله بن الْمُبَارك وعبد الله بن إِدْرِيس وَيحيى بن آدم وَابْن عُيَيْنَة ووكيع بن الْجراح وَمن بعدهمْ مُحَمَّد بن إِدْرِيس الشَّافِعِي وَزيد بن هَارُون والْحميدِي وَأحمد بن حَنْبَل وَإِسْحَاق بن رَاهَوَيْه الْحَنْظَلِي وَأبي عبيد الْقَاسِم بن سَلام انْتهى فَهَذَا طَرِيق أهل الْعلم وأئمة الدّين جعل أَقْوَال هَؤُلَاءِ بَدَلا عَن الْكتاب وَالسّنة وأقوال الصَّحَابَة بِمَنْزِلَة التَّيَمُّم إِنَّمَا يُصَار إِلَيْهِ عِنْد عدم المَاء فَعدل هَؤُلَاءِ الْمُتَأَخّرُونَ المقلدون إِلَى التَّيَمُّم وَالْمَاء بَين أظهرهم أسهل من التَّيَمُّم بِكَثِير ثمَّ حدث بعد هَؤُلَاءِ فرقة هم أَعدَاء الْعلم وَأَهله فقالو إِذا نزلت بالمفتي أَو الْحَاكِم نازلة لم يجز لَهُ أَن ينظر فِيهَا فِي كتاب الله سبحانه وتعالى وَلَا سنة رَسُوله ص وَلَا أَقْوَال الصَّحَابَة بل إِلَى مَا قَالَ مقلده ومتبوعه وَمن جعله معيارا على الْكتاب وَالسّنة فَمَا وَافق قَوْله أفتى بِهِ وَحكم بِهِ وَمَا خَالفه لم يجز أَن يُفْتِي بِهِ وَلَا ان يقْضِي بِهِ فَإِن فعل ذَلِك تعرض لعزله عَن منصب الْفَتْوَى وَالْحكم واستفتى عَلَيْهِ مَا تَقول السَّادة الْفُقَهَاء فِيمَن ينتسب إِلَى إِمَام معِين يقلده دون غَيره ثمَّ يَنْفِي أَو يحكم بِخِلَاف مذْهبه هَل يجوز لَهُ ذَلِك أم لَا وَهل يقْدَح ذَلِك فِيهِ أم لَا فينغض المقلدون رُءُوسهم وَيَقُولُونَ لَا يجوز لَهُ ذَلِك ويقدح فِيهِ وَلَعَلَّ القَوْل الَّذِي عدل إِلَيْهِ هُوَ قَول أبي بكر وَعمر وَابْن مَسْعُود وَأبي بن كَعْب ومعاذ بن جبل وأمثالهم فيجيب هَذَا الَّذِي انتصب للتوقيع عَن الله تَعَالَى وَرَسُوله ص بِأَنَّهُ لَا يجوز لَهُ مُخَالفَة قَول متبوعه لأقوال من هُوَ أعلم بِاللَّه وَرَسُوله مِنْهُ وَإِن كَانَ مَعَ أَقْوَالهم كتاب الله وَسنة رَسُوله وَهَذَا من أعظم جنايات التَّقْلِيد على الدّين وَلَو أَنهم لزموا حَدهمْ ومرتبتهم وأخبروا إِخْبَارًا مُجَردا عَمَّا وجدوه من السوَاد فِي الْبيَاض من أَقْوَال لَا علم لَهُم بصحيحها من باطلها لَكَانَ لَهُم
عذر مَا عِنْد الله تَعَالَى وَلَكِن هَذَا مبلغهم من الْعلم وَهَذِه معاداتهم لأَهله وللقائمين لله تَعَالَى بحججه وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق
الْوَجْه الثَّانِي وَالْخَمْسُونَ قَوْلكُم منع عمر بيع أُمَّهَات الْأَوْلَاد وَتَبعهُ الصَّحَابَة وألزم بِالطَّلَاق الثَّلَاث وتبعوه أَيْضا جَوَابه من وُجُوه أَحدهَا أَنهم لم يتبعوه تقليدا لَهُ بل أداهم اجتهادهم فِي ذَلِك إِلَى مَا أَدَّاهُ إِلَيْهِ اجْتِهَاده وَلم يقل أحد مِنْهُم قطّ إِنِّي رَأَيْت ذك تقليدا لعمر
الثَّانِي أَنهم لم يتبعوه كلهم فَهَذَا ابْن مَسْعُود يُخَالِفهُ فِي أُمَّهَات الْأَوْلَاد وَهَذَا ابْن عَبَّاس يُخَالِفهُ فِي الْإِلْزَام بِالطَّلَاق الثَّلَاث وَإِذا اخْتلفت الصَّحَابَة وَغَيرهم فالحاكم الْحجَّة الثَّالِث أَنه لَيْسَ فِي اتِّبَاع قَول عمر فِي هَاتين المسسألتين وتقليد الصَّحَابَة لَو فرض ذَلِك مَا يسوغ تَقْلِيد من هُوَ دونه بِكَثِير فِي كل مَا يَقُوله وَترك قَول من هُوَ مثله وَمن هُوَ فَوْقه وَأعلم مِنْهُ هَذَا من أبطل الِاسْتِدْلَال وَهُوَ تعلق بَيت العنكبوت فقلدوا عمر واتركوا تَقْلِيد فلَان وَفُلَان وَأَنْتُم تصرحون أَن عمر لَا يُقَلّد وَأَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ وَمَالك يقلدون فَلَا يمكنكم الِاسْتِدْلَال بِمَا أَنْتُم مخالفون لَهُ فَكيف يجوز للرجل أَن يحْتَج بِمَا لَا يَقُول بِهِ
الْوَجْه الثَّالِث وَالْخَمْسُونَ قَوْلكُم أَن عَمْرو بن الْعَاصِ قَالَ لعمر لما احْتَلَمَ خُذ ثوبا غير ثَوْبك فَقَالَ لَو فعلت صَارَت سنة فَأَيْنَ فِي هَذَا من الْإِذْن من عمر فِي تَقْلِيده والإعراض عَن كتاب الله تَعَالَى وَسنة رَسُوله ص وَغَايَة هَذَا أَنه تَركه لِئَلَّا يَقْتَدِي بِهِ من يرَاهُ يفعل ذَلِك وَيَقُول لَوْلَا أَن هَذَا سنة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم مَا فعله عمر وَهَذَا هُوَ الَّذِي خشيه عمر وَالنَّاس مقتدون بعلمائهم شَاءُوا أَو أَبَوا فَهَذَا هُوَ الْوَاقِع وَإِن كَانَ الْوَاجِب فِيهِ تَفْصِيل
الْوَجْه الرَّابِع وَالْخَمْسُونَ قَوْلكُم قد قَالَ أبي بن كَعْب مَا اشْتبهَ عَلَيْك فكله إِلَى عالمه فَهَذَا حق وَهُوَ الْوَاجِب على من سوى الرَّسُول صلى الله عليه وسلم فَإِن كل أحد بعد الرَّسُول لَا بُد أَن يشْتَبه عَلَيْهِ بعض مَا جَاءَ بِهِ فَإِذا اشْتبهَ عَلَيْهِ شَيْء وَجب عَلَيْهِ أَن يكله إِلَى من هُوَ أعلم مِنْهُ فَإِن تبين لَهُ صَار عَالما بِهِ مثله وَإِلَّا وَكله إِلَيْهِ وَلم يتَكَلَّف مَالا علم لَهُ بِهِ فَهَذَا هُوَ الْوَاجِب علينا فِي كتاب رَبنَا وَسنة نبيه ص وأقوال الصَّحَابَة وَقد جعل الله سبحانه وتعالى فَوق كل ذِي علم عليما فَمن خَفِي عَلَيْهِ بعض الْحق فوكله إِلَى من هُوَ أعلم مِنْهُ فقد أصَاب فَأَي شَيْء فِي هَذَا من الْإِعْرَاض عَن الْقُرْآن وَالسّنَن وآثار الصَّحَابَة واتخاذ رجل بِعَيْنِه معيارا على ذَلِك وَترك النُّصُوص لقَوْله وعرضها عَلَيْهِ وَقبُول كل مَا أفتى بِهِ ورد كل مَا خَالفه وَهَذَا الْأَثر نَفسه من أكبر الْحجَج على بطلَان التَّقْلِيد فَإِن أَوله فمااستبان لَك فاعمل بِهِ وَإِن اشْتبهَ عَلَيْك فكله إِلَى عالمه وَنحن نناشدكم الله إِذا استبانت لكم السّنة هَل تتركون قَول من قلدتموه لَهَا وتعملون بهَا وتفتون
وتقضون بموجبها أم تتركونها وتعدلون عَنْهَا إِلَى قَوْله وتقولون هُوَ أعلم بهَا منا فَأبى رضي الله عنه مَعَ سَائِر الصَّحَابَة على هَذِه الْوَصِيَّة وَهِي مبطلة للتقليد قطعا وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق
ثمَّ نقُول هلا وكلتم مَا اشْتبهَ عَلَيْكُم من الْمسَائِل إِلَى عالمها من أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إِذْ هم أعلم الْأمة وأفضلها بل تركْتُم أَقْوَالهم وعدلتم عَنْهَا فَإِن كَانَ من قلدتموه مِمَّن يُوكل ذَلِك إِلَيْهِ فالصحابة أَحَق أَن يُوكل ذَلِك إِلَيْهِم
الْوَجْه الْخَامِس وَالْخَمْسُونَ قَوْلكُم كَانَ الصَّحَابَة يفتون وَرَسُول الله صلى الله عليه وسلم حَيّ بَين أظهرهم وَهَذَا تَقْلِيد من المستفتين لَهُم فَجَوَابه أَن فتواهم إِنَّمَا كَانَت تبليغا عَن الله تَعَالَى وَرَسُوله ص وَكَانُوا بِمَنْزِلَة المخبرين فَقَط لم تكن فتواهم تقليدا لرأي فلَان وَإِن خَالَفت النُّصُوص فهم لم يَكُونُوا يقلدون فِي فتواهم وَلَا يفتون بِغَيْر نُصُوص وَلم يكن للمستفتين لَهُم اعْتِمَاد إِلَّا على مَا يبلغونهم إِيَّاه عَن نَبِيّهم ص فَيَقُولُونَ أَمر بِكَذَا وَكَذَا وَفعل كَذَا وَكَذَا وَنهى عَن كَذَا وَكَذَا هَكَذَا كَانَت فتواهم فَهِيَ حجَّة على المستفتين كَمَا هِيَ حجَّة عَلَيْهِم وَلَا فرق بَينهم وَبَين المستفتين لَهُم فِي ذَلِك إِلَّا فِي الْوَاسِطَة بَينهم وَبَين الرَّسُول وَعدمهَا وَالله وَرَسُوله وَسَائِر أهل الْعلم يعلمُونَ أَنهم وَأَن مستفتيهم لم يعملوا إِلَّا بِمَا علموه عَن نَبِيّهم وشاهدوه وسمعوه مِنْهُ هَؤُلَاءِ بِوَاسِطَة وَهَؤُلَاء بِغَيْر وَاسِطَة وَلم يكن فيهم من يَأْخُذ قَول أحد من الْأَئِمَّة يحلل ماحلله وَيحرم مَا حرمه ويستبيح مَا أَبَاحَهُ وَقد أنكر النَّبِي صلى الله عليه وسلم على من أفتى بِغَيْر السنه مِنْهُم كَمَا أنكر على أبي السنابل وَكذبه وَأنكر على من أفتى برجم الزَّانِي الْبكر وَأنكر على من أفتى بإغتسال الجريح حَتَّى مَاتَ وَأنكر على من أفتى بِغَيْر علم كمن يُفْتِي بِمَا لَا يعلم صِحَّته وَأخْبر أَن إِثْم المستفتى عَلَيْهِ فأفتاه الصَّحَابَة فِي حَيَاته ص نَوْعَانِ أَحدهمَا كَانَ يبلغهُ ص ويقرهم عَلَيْهِ فَهُوَ حجَّة بِإِقْرَارِهِ لَا بمجرج إفتائهم الثَّانِي مَا كَانُوا يفتون بِهِ مبلغين لَهُ عَن نَبِيّهم فهم فِيهِ رُوَاة لَا مقلدون وَلَا مقلدون
وَانْظُر بَقِيَّة الْأَوْجه فِي أَعْلَام الموقعين وَقد أنهاها إِلَى مائَة وَسبعين وَجها وَأجَاب عَن بَقِيَّة شبههم شُبْهَة شُبْهَة وَفِيمَا ذَكرْنَاهُ كِفَايَة وَالله تَعَالَى الْمُوفق للصَّوَاب وَإِلَيْهِ الْمرجع والمآب
فصل فِي جَوَاز الْفَتْوَى بالآثار السلفية والفتاوى الصحابية وَأَنَّهَا أولى بِالْأَخْذِ بهَا من آراء الْمُتَأَخِّرين وفتاواهم وَأَن قربهَا إِلَى الصَّوَاب بِحَسب قرب أَهلهَا من عصر الرَّسُول صلى الله عليه وسلم
قَالَ ابْن الْقيم فِي أَعْلَام الموقعين اعْلَم أَن فتاوي الصَّحَابَة أولى أَن يُؤْخَذ بهَا من فَتَاوَى التَّابِعين وفتاوي التَّابِعين أولى من فتاوي تبع التَّابِعين وهلم جرا وَكلما كَانَ الْعَهْد بالرسول صلى الله عليه وسلم أقرب كَانَ الصَّوَاب فِيهِ أغلب وَهَذَا الحكم بِحَسب الْجِنْس لَا بِحَسب كل فَرد فَرد من الْمسَائِل كَمَا أَن عصر التَّابِعين وَإِن كَانَ أفضل من عصر تابعيهم فَإِنَّمَا هُوَ بِحَسب الْجِنْس لَا بِحَسب كل شخص شخص
وَلَكِن المفضلون فِي الْعَصْر الْمُتَقَدّم أَكثر من المفضلين فِي الْعَصْر الْمُتَأَخر وَهَكَذَا الصَّوَاب فِي أَقْوَالهم أَكثر من الصَّوَاب فِي أَقْوَال من بعدهمْ فَإِن التَّفَاوُت بَين عُلُوم الْمُتَقَدِّمين والمتأخرين كالتفاوت الَّذِي بَينهم فِي الْفضل والرأي وَلَعَلَّه لَا يسع الْمُفْتِي وَالْحَاكِم عِنْد الله أَن يُفْتِي وَيحكم بقول فلَان وَفُلَان من الْمُتَأَخِّرين من مقلدي الْأَئِمَّة وَيَأْخُذ بِرَأْيهِ وترجيحه وَيتْرك الْفَتْوَى وَالْحكم بقول البُخَارِيّ وَإِسْحَاق بن رَاهَوَيْه وَعلي بن الْمَدِينِيّ وَمُحَمّد بن نصر الْمروزِي وأمثالهم بل يتْرك قَول ابْن الْمُبَارك وَالْأَوْزَاعِيّ وسُفْيَان الثَّوْريّ وسُفْيَان بن عُيَيْنَة وَحَمَّاد بن زيد وَحَمَّاد بن سَلمَة وأمثالهم بل لَا يلْتَفت غلى قَول ابْن أبي ذِئْب وَالزهْرِيّ وَاللَّيْث بن سعد وأمثالهم بل لَا يعد قَول سعيد ابْن الْمسيب وَالْحسن وَالقَاسِم وَسَالم وَعَطَاء وَطَاوُس وَجَابِر بن زيد وَشُرَيْح وَأبي وَائِل وجعفر ابْن مُحَمَّد وأضرابهم مِمَّا يسوغ الْأَخْذ بِهِ بل يرى قَول الْمُتَأَخِّرين من أَتبَاع من قَلّدهُ مقدما على فَتْوَى أبي بكر الصّديق وَعمر وَعُثْمَان وَعلي وَابْن مَسْعُود وَأبي بن كَعْب وَأبي الدَّرْدَاء وَزيد ابْن ثَابت وعبد الله بن عَبَّاس وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير وَعبادَة بن الصَّامِت وَأبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ وأضرابهم فَلَا يدْرِي مَا عذرهمْ غَدا عِنْد الله عز وجل إِذا سوى بَين أَقْوَال أُولَئِكَ وفتاواهم وأقوال هَؤُلَاءِ وفتاواهم فَكيف إِذا رجحها عَلَيْهَا فَكيف إِذا عين الْأَخْذ بهَا حكما وإفتاءا وَمنع الْأَخْذ بقول الصَّحَابَة واستجاز عُقُوبَة من خَالف من الْمُتَأَخِّرين لَهَا وَحكم عَلَيْهِ بالبدعة والضلالة وَمُخَالفَة أهل الْعلم وَأَنه يكيد الْإِسْلَام تالله لقد أَخذ بِالْمثلِ الْمَشْهُور رمتني بدائها وانسلت وَسمي وَرَثَة الرَّسُول باسمه هُوَ وكساهم أثوابه وَرَمَاهُمْ بدائه وَكثير من هَؤُلَاءِ يُصَرح ويصرخ وَيَقُول ويعلن أَنه يجب على الْأمة كلهم الْأَخْذ بقول من قلدناه ديننَا وَلَا يجوز الْأَخْذ بقول أبي بكر وَعمر عُثْمَان وَعلي وَغَيرهم من الصَّحَابَة وَهَذَا كَلَام من أَخذ بِهِ وتقلده ولاه الله مَا تولى ويجزيه عَلَيْهِ يَوْم الْقِيَامَة الْجَزَاء الأوفى وَالَّذِي ندين الله بِهِ ضد هَذَا القَوْل وَالرَّدّ عَلَيْهِ فَنَقُول
إِذا قَالَ الصَّحَابِيّ قولا فإمَّا أَن يُخَالِفهُ صَحَابِيّ آخر أَو لَا يُخَالِفهُ فَإِن خَالفه مثله لم يكن قَول أَحدهمَا حجَّة على الآخر وَإِن خَالفه أعلم مِنْهُ كَمَا إِذا خَالف الْخُلَفَاء الرَّاشِدين أَو بَعضهم غَيرهم من الصَّحَابَة فِي حكم فَهَل يكون الشق الَّذِي فِي الْخُلَفَاء الراشدون أَو بَعضهم حجَّة على الآخرين
فِيهِ قَولَانِ للْعُلَمَاء وهما رِوَايَتَانِ عَن الإِمَام أَحْمد وَالصَّحِيح أَن الشق الَّذِي فِيهِ الْخُلَفَاء أَو بَعضهم أرجح وَأولى أَن يُؤْخَذ بِهِ من الشق الآخر فَإِن كَانَ الْأَرْبَعَة فِي شقّ فَلَا شكّ أَنه الصَّوَاب وَإِن كَانَ أَكْثَرهم فِي شقّ فَالصَّوَاب فِيهِ أغلب وَإِن كَانُوا اثْنَيْنِ واثنين فشق أبي بكر وَعمر أقرب إِلَى الصَّوَاب فَإِن اخْتلف أَبُو بكر وَعمر فَالصَّوَاب مَعَ أبي بكر وَهَذِه جملَة لَا يعرف تفصيلها إِلَّا من لَهُ خبْرَة واطلاع على مَا اخْتلف فِيهِ الصَّحَابَة وعَلى الرَّاجِح من أَقْوَالهم وَيَكْفِي فِي ذَلِك معرفَة رُجْحَان قَول الصّديق فِي الْجد والأخوة وَكَون الطَّلَاق الثَّلَاث بِفَم وَاحِد مرّة وَاحِدَة وَأَن تلفط فِيهِ بِالثلَاثِ وَجَوَاز بيع أُمَّهَات الْأَوْلَاد
وَإِذا نظر الْعَالم الْمنصف فِي أَدِلَّة هَذِه الْمسَائِل من الْجَانِبَيْنِ تبين لَهُ أَن جَانب الصّديق أرجح وَلَا يحفظ لَهُ خلاف نَص وَاحِد أبدا وَلَا يحفظ لَهُ فَتْوَى وَلَا حكم ومأخذهما ضَعِيف أبدا وَهَذَا التَّحْقِيق لكَون خِلَافَته خلَافَة نبوة
وَإِن لم يُخَالف الصَّحَابِيّ صحابيا آخر فإمَّا أَن يشْتَهر قَوْله فِي الصَّحَابَة أَو لَا يشْتَهر فَإِن اشْتهر فَالَّذِي عَلَيْهِ جَمَاهِير الطوائف من الْفُقَهَاء أَنه إِجْمَاع وَحجَّة وَقَالَت طَائِفَة مِنْهُم هُوَ حجَّة وَلَيْسَ بِإِجْمَاع وَقَالَ شرذمة من الْمُتَكَلِّمين وَبَعض الْفُقَهَاء الْمُتَأَخِّرين لَا يكون إِجْمَاعًا وَلَا حجَّة وَإِن لم يشْتَهر قَوْله أَو لم يعلم هَل اشْتهر أم لَا فَاخْتلف النَّاس هَل يكون حجَّة أم لَا فَالَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُور الْأمة أَنه حجَّة هَذَا قَول جُمْهُور الْحَنَفِيَّة صرح بِهِ مُحَمَّد بن الْحسن وَذكره عَن أبي حنيفَة نصا وَهَذَا مَذْهَب مَالك وَأَصْحَابه وتصرفه فِي موطئِهِ دَلِيل عَلَيْهِ وَهُوَ قَول إِسْحَق بن رَاهَوَيْه وَأبي عبيد وَهُوَ مَنْصُوص الإِمَام أَحْمد فِي غير مَوضِع وَاخْتِيَار جُمْهُور أَصْحَابه وَهُوَ مَنْصُوص الشَّافِعِي فِي الْقَدِيم والجديد فَأَما الْقَدِيم فأصحابه مقرون بِهِ وَأما الْجَدِيد فكثير مِنْهُم يحْكى عَنهُ أَنه لَيْسَ بِحجَّة وَفِي هَذِه الْحِكَايَة عَنهُ نظر ظَاهر جدا فَإِنَّهُ لَا يحفظ لَهُ فِي الْجَدِيد حرف وَاحِد أَن قَول الصَّحَابَة لَيْسَ بِحجَّة وَغَايَة مَا تعلق بِهِ من نقل ذَلِك أَنه يحْكى أقوالا للصحابة فِي الْجَدِيد ثمَّ يُخَالِفهَا وَلَو كَانَت عِنْده حجَّة لم يُخَالِفهَا وَهَذَا تعلق ضَعِيف جدا فَإِن مُخَالفَة الْمُجْتَهد الدَّلِيل الْمعِين لما هُوَ أقوى مِنْهُ فِي نظره لَا يدل على أَنه لَا يرَاهُ دَلِيلا من حَيْثُ الْجُمْلَة بل خَالف دَلِيلا لدَلِيل أرجح عِنْده مِنْهُ وَقد تعلق بَعضهم بِأَنَّهُ يرَاهُ فِي الْجَدِيد إِذا ذكر أَقْوَال الصَّحَابَة مُوَافقا لَهَا لَا يعْتَمد عَلَيْهَا وَحدهَا كَمَا يفعل بالمنصوص بل يعضدها بضروب من الأقيسة فَهُوَ تَارَة يذكرهَا وَيُصَرح بِخِلَافِهَا وَتارَة يُوَافِقهَا وَلَا يعْتَمد عيها بل يعضدها بِدَلِيل آخر وَهَذَا أَيْضا تعلق أَضْعَف من الَّذِي قبله فَإِن