الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تظافر الْأَدِلَّة وتعاضدها وتناصرها من عادات أهل الْعلم قَدِيما وحديثا وَلَا يدل ذكرهم دَلِيلا ثَانِيًا وثالثا على أَن مَا ذَكرُوهُ قبله لَيْسَ بِدَلِيل
وَقد صرح الشَّافِعِي فِي الْجَدِيد من رِوَايَة الرّبيع عَنهُ بِأَن قَول الصَّحَابَة حجَّة يجب الْمصير إِلَيْهِ فَقَالَ المحدثات من الْأُمُور ضَرْبَان أَحدهمَا مَا أحدث يُخَالف كتابا أَو سنة أَو إِجْمَاعًا أَو اثرا فَهَذِهِ الْبِدْعَة الضَّلَالَة وَالربيع إِنَّمَا أَخذ عَنهُ بِمصْر وَقد جعل مُخَالفَة الْأَثر الَّذِي لَيْسَ بِكِتَاب وَلَا سنة وَلَا إِجْمَاع ضَلَالَة وَهَذَا فَوق كَونه حجَّة انْتهى كَلَام صَاحب الْأَعْلَام بِطُولِهِ
قلت وَقد تقدم كَلَام الشَّافِعِي فِي كَون قَول الصَّحَابِيّ حجَّة إِن لم يُوجد كتاب وَلَا سنة فِي الْمَقْصد الثَّالِث فَرَاجعه
ولنختم الخاتمة بفوائد تتَعَلَّق بالفتوى
الأولى قَالَ ابْن الْقيم رحمه الله يَنْبَغِي للمفتي أَن يُفْتِي بِلَفْظ النَّص مهما أمكنه فَإِنَّهُ يتَضَمَّن الحكم وَالدَّلِيل مَعَ الْبَيَان التَّام فَهُوَ حكم مَضْمُون لَهُ الصَّوَاب مُتَضَمّن للدليل عَلَيْهِ فِي أحسن بَيَان وَقَول الْفَقِيه الْمعِين لَيْسَ كَذَلِك وَقد كَانَ الصَّحَابَة والتابعون وَالْأَئِمَّة الَّذين سلكوا على مناهجهم يتحرون ذَلِك غَايَة التَّحَرِّي حَتَّى خلف من بعدهمْ خلف رَغِبُوا عَن النُّصُوص واشتقوا لَهُم ألفاظا غير أَلْفَاظ النُّصُوص فَأوجب ذَلِك هجر النُّصُوص وَمَعْلُوم أَن تِلْكَ الْأَلْفَاظ لَا تفي مَا تفي بِهِ النُّصُوص من الحكم وَالدَّلِيل وَحسن الْبَيَان فتولد من هجران أَلْفَاظ النُّصُوص والإقبال على الْأَلْفَاظ الْحَادِثَة وَتَعْلِيق الْأَحْكَام بهَا على الْأمة من الْفساد مَالا يُعلمهُ إِلَّا الله فألفاظ النُّصُوص عصمَة وَحجَّة بريئة من الْخَطَأ والتناقض والتعقيد وَالِاضْطِرَاب وَلما كَانَ هِيَ عصمَة الصَّحَابَة وأصولهم الَّتِي إِلَيْهَا يرجعُونَ كَانَت علومهم أصح من عُلُوم من بعدهمْ وخطؤهم فِيمَا اخْتلفُوا فِيهِ أقل من خطأ من بعدهمْ ثمَّ التابعون بِالنِّسْبَةِ إِلَى من بعدهمْ كَذَلِك وهلم جرا
وَلما استحكم هجران النُّصُوص عِنْد أَكثر أهل الْهوى والبدع كَانَت علومهم فِي مسائلهم وأدلتهم فِي غَايَة الْفساد وَالِاضْطِرَاب والتناقض
قد كَانَ أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إِذا سئلوا عَن مَسْأَلَة يَقُولُونَ قَالَ الله تَعَالَى كَذَا قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم كَذَا وَفعل كَذَا وَلَا يعدلُونَ عَن ذَلِك مَا وجدوا إِلَيْهِ سَبِيلا قطّ فَمن تَأمل أجوبتهم وجدهَا شِفَاء لما فِي الصُّدُور فَلَمَّا طَال الْعَهْد وَبعد النَّاس من نور النُّبُوَّة صا وَهَذَا عَيْبا عِنْد الْمُتَأَخِّرين أَن يذكرُوا فِي أصُول دينهم وفروعهم قَالَ الله تَعَالَى قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أما أصُول دينهم فصرحوا فِي كتبهمْ أَن قَول الله وَرَسُوله ص لَا يُفِيد الْيَقِين فِي مسَائِل أصُول الدّين وَإِنَّمَا يحْتَج بِكَلَام الله وَرَسُوله ص فِيهَا الحشوية والمجسمة والمشبهة وَأما فروعهم فقنعوا فِيهَا بتقليد من اختصر لَهُم بعض المختصرات الَّتِي لَا يذكر فِيهَا نَص عَن الله تَعَالَى وَلَا عَن رَسُوله ص وَلَا عَن
الإِمَام الَّذِي زَعَمُوا أَنهم قلدوه دينهم بل عمدتهم فِيمَا يفتون ويقضون بِهِ وينقلون بِهِ الْحُقُوق ويبيحون بِهِ الْفروج والدماء وَالْأَمْوَال على قَول ذَلِك المُصَنّف وأجلهم عِنْد نَفسه وزعيمهم عِنْد بني جنسه من يستحضر لفظ الْكتاب وَيَقُول هَكَذَا قَالَ وَهَذَا لَفظه فالحلال مَا أحل ذَلِك الْكتاب وَالْحرَام مَا حرمه وَالْوَاجِب مَا أوجبه وَالْبَاطِل مَا أبْطلهُ وَالصَّحِيح مَا صَححهُ هَذَا وأنى لنا بهؤلاء فِي مثل هَذَا الزَّمَان فقد دفعنَا إِلَى أَمر تضج مِنْهُ الْحُقُوق إِلَى الله ضَجِيجًا وتعج مِنْهُ الْفروج وَالْأَمْوَال والدماء إِلَى رَبهَا عجيجا تبدل فِيهَا الْأَحْكَام ويقلب الْحَلَال بالحرام وَيجْعَل فِيهِ الْمَعْرُوف فِي أَعلَى مَرَاتِب الْمُنْكَرَات وَالْمُنكر الَّذِي لم يشرعه الله وَرَسُوله من أفضل القربات الْحق فِيهِ غَرِيب وَأغْرب مِنْهُ من يعرفهُ وَأغْرب مِنْهُمَا من يَدْعُو إِلَيْهِ وَينْصَح بِهِ نَفسه وَالنَّاس قد فلق بهم فالق الإصباح صبحه من غياهب الظُّلُمَات وَأَبَان الطَّرِيق الْمُسْتَقيم من بَين تِلْكَ الطّرق الجائرات فَأرَاهُ بِعَين قلبه مَا كَانَ عَلَيْهِ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابه مَعَ مَا عَلَيْهِ اكثر الْخلق من الْبدع المضلات مَا رفع لَهُ علم الْهِدَايَة فشمر إِلَيْهِ ووضح لَهُ الصِّرَاط الْمُسْتَقيم فَقَامَ واستقام عَلَيْهِ فطوبى لَهُ من وحيد على كَثْرَة السكان غَرِيب على كَثْرَة الْجِيرَان بَين قوم رُؤْيَتهمْ قذى الْعُيُون وشجى الحلوق وكرب النَّفس وَحمى الْأَرْوَاح وغم الصُّدُور وَمرض الْقُلُوب إِن أنصفتهم لم تقبل طبيعتهم الْإِنْصَاف وَإِن طلبته مِنْهُم فَأَيْنَ الثريا من يَد الملتمس فقد انتكست قُلُوبهم وعمى عَلَيْهِم مطلوبهم رَضوا بالأماني وابتلوا بالحظوظ وحصلوا على الحرمان وخاضوا بحار الْعلم لَكِن بالدعاوي الْبَاطِلَة وشقاشق الهذيان وَلَا وَالله مَا ابتلت من وشله أَقْدَامهم وَلَا زكتْ بِهِ عُقُولهمْ وأحلامهم وَلَا ابْيَضَّتْ بِهِ لياليهم وأشرقت بنوره أيامهم وَلَا ضحِكت بِالْهدى وَالْحق مِنْهُ وُجُوه الدفاتر إِذا بَكت بمدادها أقلامهم أَنْفقُوا فِي غير شَيْء نفائس الأنفاس وأتعبوا أنفسهم وحيروا من خَلفهم من النَّاس ضيعوا الْأُصُول فحرموا الْوُصُول وأعرضوا عَن الرسَالَة فوقعوا فِي مهامه الْحيرَة وبيداء الضَّلَالَة
وَالْمَقْصُود أَن الْعِصْمَة مَضْمُونَة فِي أَلْفَاظ النُّصُوص ومعانيها فِي أتم بَيَان وَأحسن تَفْسِير وَمن رام إِدْرَاك الْهدى وَدين الْحق من غير مشكاتها فَهُوَ عَلَيْهِ غير يسير
الْفَائِدَة الثَّانِيَة حكم الله وَرَسُوله يظْهر على أَرْبَعَة أَلْسِنَة لِسَان الرَّاوِي ولسان الْمُفْتِي ولسان الْحَاكِم ولسان الشَّاهِد
فالراوي يظْهر على لِسَانه لفظ حكم الله وَرَسُوله والمفتي يظْهر على لِسَانه مَعْنَاهُ وَمَا استنبطه من اللَّفْظ وَالْحَاكِم يظْهر على لِسَانه الْإِخْبَار بِحكم الله وتنفيذه وَالشَّاهِد يظْهر على لِسَانه الْأَخْبَار بِالسَّبَبِ الَّذِي يثبت حكم الشَّارِع وَالْوَاجِب على هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَة أَن يخبروا بِالصّدقِ الْمُسْتَند إِلَى
الْعلم فَيَكُونُوا عَالمين بِمَا يخبرون بِهِ صَادِقين فِي الْإِخْبَار بِهِ وَآفَة أحدهم الْكَذِب والكتمان فَمَتَى كتم الْحق أَو كذب فِيهِ فقد حاد الله فِي شَرعه وَدينه وَقد أجْرى الله سنته أَن يمحق عَلَيْهِ بركَة علمه وَدينه ودنياه وَمن الْتزم الصدْق وَالْبَيَان مِنْهُم فِي مرتبته بورك لَهُ فِي علمه وَوَقته وَدينه ودنياه وَكَانَ مَعَ النَّبِيين وَالصديقين وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحسن أُولَئِكَ رَفِيقًا ذَلِك الْفضل من الله وَكفى بِاللَّه عليما فبالكتمان يعْزل عَن سُلْطَانه وبالكذب بِقَلْبِه عَن وَجهه وَالْجَزَاء من جنس الْعَمَل فجزاء أحدهم أَن يعزله الله عَن سُلْطَان المهابة والكرامة والمحبة والتعظيم الَّذِي يلْبسهُ أهل الصدْق وَالْبَيَان ويلبسه ثوب الهوان والمقت وَالْخَوْف بَين عباده فَإِذا كَانَ يَوْم اللِّقَاء جازى الله من يَشَاء من الْكَاذِبين الكاتمين بطمس الْوُجُوه وردهَا على أدبارها كَمَا طمسوا وَجه الْحق وقلبوه عَن وَجهه جزاءا وفَاقا وَمَا رَبك بظلام للعبيد
الْفَائِدَة الثَّالِثَة لَا يجوز للمفتي أَن يشْهد على الله وَرَسُوله بِأَنَّهُ أحل كَذَا أَو حرمه أَو أوجبه أَو كرهه لما لَا يعلم أَن الْأَمر فِيهِ كَذَلِك مِمَّا نَص الله وَرَسُوله على إِبَاحَته أَو تَحْرِيمه أَو إِيجَابه أَو كراهيته وَإِذا مَا وجده فِي كِتَابه الَّذِي تَلقاهُ عَمَّن قَلّدهُ دينه فَلَيْسَ لَهُ أَن يشْهد على الله وَرَسُوله بِهِ ويغر النَّاس بذلك وَلَا علم لَهُ بِحكم الله وَرَسُوله قَالَ غير وَاحِد من السّلف ليحذر أحدكُم أَن يَقُول أحل الله كَذَا أَو حرم كَذَا فَيَقُول الله لم كذبت لم أحل كَذَا وَلم أحرمهُ وَثَبت فِي صَحِيح مُسلم عَن بُرَيْدَة بن الْحصيب أَن رَسُول الله قَالَ إِذا حاصرت قوما فسألوك أَن تنزلهم على حكم الله وَرَسُوله فَلَا تنزلهم على حكم الله وَرَسُوله فَإنَّك لَا تَدْرِي أتصيب حكم الله فيهم أم لَا وَلَكِن أنزلهم على حكمك وَحكم أَصْحَابك وَسمعت شيخ الْإِسْلَام ابْن تَيْمِية يَقُول حضرت مَجْلِسا فِيهِ الْقُضَاة وَغَيرهم فجرت حُكُومَة حكم فِيهَا أحدهم يَقُول زفر فَقلت مَا هَذِه الْحُكُومَة فَقَالَ هَذَا حكم الله فَقلت لَهُ صَار حكم زفر حكم الله الَّذِي حكم بِهِ وألزم بِهِ الْأمة هَذَا حكم زفر وَقَوله وَلَا تقل هَذَا حكم الله وَرَسُوله أَو نَحْو هَذَا من الْكَلَام
الْفَائِدَة الرَّابِعَة ليحذر الْمُفْتِي الَّذِي يخَاف مقَامه بَين يَدي الله أَن يُفْتِي السَّائِل بِمذهب الَّذِي يقلده وَهُوَ يعلم أَن مَذْهَب غَيره فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَة أرجح من مذْهبه وَأَصَح دَلِيلا فتحمله الرياسة على أَن يقتحم الْفَتْوَى بِمَا يغلب على ظَنّه أَن الصَّوَاب فِي خِلَافه فَيكون خائنا لله وَرَسُوله وغاشا لَهُ وَالله لَا يهدي كيد الخائنين وَحرم الْجنَّة على من لقِيه وَهُوَ غاش لِلْإِسْلَامِ وَأَهله وَالدّين النَّصِيحَة والغش مضاد للدّين كمضادة الْكَذِب للصدق وَالْبَاطِل للحق وَكَثِيرًا مَا نرد الْمَسْأَلَة نعتقد فِيهَا خلاف الْمذَاهب وَلَا يسعنا أَن نفتي بِخِلَاف مَا نعتقده فنحكي الْمَذْهَب ثمَّ نحكي الْمَذْهَب الرَّاجِح ونقول هَذَا هُوَ
الصَّوَاب وَهُوَ أولى مَا يُؤْخَذ بِهِ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق
الْفَائِدَة الْخَامِسَة إِذا كَانَ عِنْد الرجل الصحيحان أَو أَحدهمَا أَو كتاب من سنَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم موثوق بِمَا فِيهِ فَهَل لَهُ أَن يُفْتِي بِمَا وجده فِيهِ فَقَالَت طَائِفَة من الْمُتَأَخِّرين لَيْسَ لَهُ ذَلِك لِأَنَّهُ قد يكون مَنْسُوخا أَوله معَارض أَو يفهم من دلَالَته خلاف مَا يدل عَلَيْهِ أَو يكون أَمر ندب فيفهم مِنْهُ الْإِيجَاب أَو يكون عَاما لَهُ مُخَصص أَو مُطلقًا لَهُ مُقَيّد فَلَا يجوز لَهُ الْعَمَل بِهِ وَلَا الْفتيا بِهِ حَتَّى يسْأَل أهل الْفِقْه والفتيا وَقَالَت طَائِفَة بل لَهُ أَن يعْمل بِهِ ويفتي بِهِ بل يتَعَيَّن عَلَيْهِ كَمَا كَانَ الصَّحَابَة يَفْعَلُونَ اذا بَلغهُمْ الحَدِيث عَن رَسُول الله وَحدث بِهِ بَعضهم بَعْضًا بَادرُوا الى الْعَمَل بِهِ من غير توقف وَلَا بحث عَن معَارض وَلَا يَقُول أحد مِنْهُم قطّ هَل عمل بِهَذَا فلَان وَفُلَان وَلَو رَأَوْا من يَقُول ذَلِك لأنكروا عَلَيْهِ أَشد الْإِنْكَار وَكَذَلِكَ التابعون وَهَذَا مَعْلُوم بِالضَّرُورَةِ لمن لَهُ أدنى خبْرَة بِحَال الْقَوْم وسيرتهم وَطول الْعَهْد بِالسنةِ وَبعد الزَّمَان عَنْهَا لَا يسوغ ترك الْأَخْذ بهَا وَالْعَمَل بغَيْرهَا وَلَو كَانَت سنَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لَا يسوغ الْعَمَل بهَا بعد صِحَّتهَا حَتَّى يعْمل بهَا فلَان أَو فلَان لَكَانَ قَول فلَان أَو فلَان معيارا على السّنَن ومزكيا لَهَا وشرطا فِي الْعَمَل بهَا وَهَذَا من أبطل الْبَاطِل وَقد أَقَامَ الله الْحجَّة بِرَسُولِهِ ص دون آحَاد الْأمة وَقد أَمر النَّبِي صلى الله عليه وسلم بتبليغ سنته ودعا لمن بلغَهَا فَلَو كَانَ من بلغته لَا يعْمل بهَا حَتَّى يعْمل بهَا الامام فلَان والامام فلَان لم يكن فِي تبليغها فَائِدَة وَحصل الِاكْتِفَاء بقول فلَان وَفُلَان
قَالُوا والنسخ الْوَاقِع فِي الْأَحَادِيث الَّذِي أَجمعت عَلَيْهِ الْأمة لَا يبلغ عشرَة أَحَادِيث الْبَتَّةَ بل وَلَا شطرها فتقدير وُقُوع الْخَطَأ فِي الذّهاب الى الْمَنْسُوخ أقل بِكَثِير من وُقُوع الْخَطَأ فِي تَقْلِيد من يُصِيب ويخطئ وَيجوز عَلَيْهِ التَّنَاقُض وَالِاخْتِلَاف وَيَقُول القَوْل وَيرجع عَنهُ ويحكي عَنهُ فِي الْمَسْأَلَة الْوَاحِدَة عدَّة أَقْوَال وَوُقُوع الْخَطَأ فِي فهم كَلَام الْمَعْصُوم أقل بِكَثِير من وُقُوع الْخَطَأ فِي فهم كَلَام الْفَقِيه الْمعِين فَلَا يفْرض إحتمال خطأ لمن عمل بِالْحَدِيثِ وَأفْتى بِهِ الا وأضعاف أضعافه حَاصِل لمن أفتى بتقليد من لَا يعلم خَطؤُهُ من صَوَابه
وَالصَّوَاب فِي هَذِه الْمَسْأَلَة التَّفْصِيل فان كَانَت دلَالَة الحَدِيث ظَاهِرَة بَيِّنَة لكل من سَمعه لَا يحْتَمل غير المُرَاد فَلهُ أَن يعْمل بِهِ ويفتي بِهِ وَلَا يطْلب لَهُ التَّزْكِيَة من قَول فَقِيه وامام بل الْحجَّة قَول رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَإِن خَالفه من خَالفه وَإِن كَانَت دلَالَة خُفْيَة لَا يتَبَيَّن لَهُ المُرَاد فِيهَا لم يجز لَهُ أَن يعْمل وَلَا يُفْتِي بِمَا يتوهمه مرَادا حَتَّى يسْأَل وَيطْلب بَيَان الحَدِيث وَوَجهه وان كَانَت دلَالَته ظَاهِرَة كالعام على أَفْرَاده وَالْأَمر على الْوُجُوب وَالنَّهْي على التَّحْرِيم فَهَل لَهُ الْعَمَل وَالْفَتْوَى بِهِ يخرج على الأَصْل وَهُوَ الْعَمَل بالظواهر قبل الْبَحْث عَن الْمعَارض وَفِيه ثَلَاثَة أَقْوَال فِي مَذْهَب أَحْمد وَغَيره الْجَوَاز وَالْمَنْع وَالْفرق بَين الْعَام فَلَا يعْمل لَهُ قبل الْبَحْث عَن الْمُخَصّص
وَالْأَمر وَالنَّهْي فَيعْمل بِهِ قبل الْبَحْث عَن الْمعَارض وَهَذَا كُله اذا كَانَ ثمَّ نوع أَهْلِيَّة وَلكنه قَاصِر فِي معرفَة الْفُرُوع وقواعد الْأُصُولِيِّينَ والعربية وَأما إِذا لم يكن ثمَّ اهلية قطّ ففرضه مَا قَالَ الله {فاسألوا أهل الذّكر إِن كُنْتُم لَا تعلمُونَ} وَقَول النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَلا سَأَلُوا إِذا لم يعلمُوا إِنَّمَا شِفَاء العى السُّؤَال وَإِذا جَازَ إعتماد المستفتي على مَا يَكْتُبهُ الْمُفْتِي من كَلَامه وَكَلَام شَيْخه وَإِن علا وَصعد فاعتاد الرجل على مَا كتبه الثِّقَات من كَلَام رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أولى بِالْجَوَازِ واذا قدر أَنه لم يفهم الحَدِيث كَمَا لَو لم يفهم فَتْوَى الْمُفْتِي فَيسْأَل من يعرفهُ مَعْنَاهُ كَمَا يسْأَل من يعرفهُ معنى جَوَاب الْمُفْتِي وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق
الْفَائِدَة السَّادِسَة يحرم على الْمُفْتِي أَن يُفْتِي بضد لفظ النَّص وَإِن وَافق مذْهبه
ومثاله أَن يسْأَل عَن رجل صلى من الصُّبْح رَكْعَة ثمَّ طلعت الشَّمْس فَهَل يتم صلَاته أم لَا فَيَقُول لَا يُتمهَا وَرَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَقُول فليتم صلَاته وَمثل أَن يسْأَل عَمَّن مَاتَ وَعَلِيهِ صِيَام هَل يَصُوم عَنهُ وليه فَيَقُول لَا يَصُوم عَنهُ وليه وَصَاحب الشَّرْع يَقُول من مَاتَ وَعَلِيهِ صَوْم صَامَ عَنهُ وليه وَمثل أَن يسْأَل عَن رجل بَاعَ مَتَاعه ثمَّ أفلس المُشْتَرِي فَوَجَدَهُ بِعَيْنِه هَل هُوَ أَحَق بِهِ فَيَقُول لَيْسَ هُوَ أَحَق بِهِ وَصَاحب الشَّرْع يَقُول هُوَ أَحَق بِهِ وَمثل أَن يسْأَل عَن أكل كل ذِي نَاب هَل هُوَ حرَام فَيَقُول لَيْسَ بِحرَام وَرَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَقُول أكل كل ذِي نَاب من السبَاع حرَام وَمثل أَن يسْأَل عَن رجل لَهُ شريك فِي أَرض أَو دَار أَو بُسْتَان هَل لَهُ أَن يَبِيع حِصَّته قبل إِعْلَام الشَّرِيك بِالْبيعِ وعرضها عَلَيْهِ فَيَقُول نعم يحل لَهُ أَن يَبِيع حِصَّته قبل إِعْلَام شَرِيكه بِالْبيعِ وَصَاحب الشَّرْع يَقُول من كَانَ لَهُ شريك فِي أَرض أَو ربعَة أَو حَائِط فَلَا يحل لَهُ أَن يَبِيع حَتَّى يُؤذن شَرِيكه وَمثل
أَن يسْأَل عَن قتل الْمُسلم بالكافر فَيَقُول نعم يقتل الْمُسلم بالكافر وَصَاحب الشَّرْع يَقُول لَا يقتل الْمُسلم بالكافر وَمثل ان يسْأَل عَن الصَّلَاة الْوُسْطَى فَيَقُول لَيست الْعَصْر وَصَاحب الشَّرْع يَقُول صَلَاة الْعَصْر وَمثل ان يسْأَل عَن رفع الْيَدَيْنِ عِنْد الرُّكُوع وَالرَّفْع مِنْهُ هَل هُوَ مَشْرُوع فِي الصَّلَاة أَو لَيْسَ بمشروع أَو مَكْرُوه وَرُبمَا غلا بَعضهم فَقَالَ إِن صلَاته بَاطِلَة وَقد روى بضعَة وَعِشْرُونَ نفسا عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَنه يرفع يَدَيْهِ عِنْد الإفتتاح وَالرُّكُوع وَالرَّفْع مِنْهُ بأسانيد صَحِيحه لَا يَشكونَ فِيهَا وَمثل ان يسْأَل عَن إِكْمَال عدَّة شعْبَان ثَلَاثِينَ يَوْمًا لَيْلَة الاغمام يَقُول لَا يجوز إكماله ثَلَاثِينَ يَوْمًا وَقد قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فان غم عَلَيْكُم فأكملوا عدَّة شعْبَان ثَلَاثِينَ يَوْمًا وأمثلته كَثِيرَة وَفِيمَا ذَكرْنَاهُ كِفَايَة وَقد أنهاها ابْن الْقيم الى مائَة وَخمسين مِثَالا وَالله الْمُوفق للصَّوَاب واليه الْمرجع والمآب
الْفَائِدَة السَّابِعَة الِاجْتِهَاد هَل هُوَ يقبل التجزي والإنقسام فَيكون الرجل مُجْتَهدا فِي نوع من الْعلم مُقَلدًا فِي غَيره أَو فِي بَاب من الْأَبْوَاب كمن استفرغ وَسعه فِي نوع الْعلم بالفرائض وأدلتها وإستنباطها من الْكتاب وَالسّنة دون غَيرهَا من الْعُلُوم أَو فِي بَاب الْجِهَاد أَو الْحَج أَو غير ذَلِك فَهَذَا لَيْسَ لَهُ الْفَتْوَى فِيمَا لم يجْتَهد فِيهِ وَلَا يكون مَعْرفَته بِمَا اجْتهد فِيهِ مسوغة لَهُ الافتاء بِمَا لَا يعلم فِي غَيره وَهل لَهُ أَن يُفْتِي فِي النَّوْع الَّذِي اجْتهد فِيهِ فِيهِ ثَلَاثَة أوجه أَصَحهَا الْجَوَاز بل هُوَ الصَّوَاب الْمَقْطُوع بِهِ وَالثَّانِي الْمَنْع وَالثَّالِث الْجَوَاز فِي الْفَرَائِض دون غَيرهَا
فحجة الْجَوَاز أَنه عرف الْحق بدليله وَقد بذل جهده فِي معرفَة الصَّوَاب فَحكمه فِي ذَلِك النَّوْع حكم الْمُجْتَهد الْمُطلق
فَإِن قيل فَمَا تَقولُونَ فِيمَن بذل جهده فِي معرفَة مَسْأَلَة أَو مَسْأَلَتَيْنِ هَل لَهُ ان يُفْتِي بهَا أَو بهما قُلْنَا نعم فِي أصح الْقَوْلَيْنِ وهما وَجْهَان لأَصْحَاب أَحْمد وَهل هَذَا الا من التَّبْلِيغ عَن الله وَرَسُوله ص وجزى الله من أعَان الاسلام وَلَو بِشَطْر كلمة خيرا وَمنع هَذَا من الافتاء بِمَا علم خطأ مَحْض وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق
إنتهى كَلَام ابْن الْقيم بِطُولِهِ وبتمامه قد إنتهى مَا رمناه وَتمّ مَا أردناه وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وَالصَّلَاة وَالسَّلَام على سيد الْمُرْسلين وعَلى صآله وَصَحبه أَجْمَعِينَ