المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المقصد الثاني فيما قاله مالك بن أنس إمام دارالهجرة وما ذكره أتباعه السادة المهرة - إيقاظ همم أولي الأبصار للاقتداء بسيد المهاجرين والأنصار

[الفلاني]

فهرس الكتاب

- ‌خطْبَة الْكتاب

- ‌الْمُقدمَة فِي وجوب طَاعَة الله تَعَالَى وَرَسُوله صلى الله عليه وسلم وَاتِّبَاع الْكتاب وَالسّنة وذم الرَّأْي وَالْقِيَاس على غير أُصُوله والتحذير من إكثار الْمسَائِل وَبَيَان أصُول الْعلم وَحده مقسوما ومحازا وَمن يسْتَحق أَن يُسمى فَقِيها أَو عَالما حَقِيقَة لَا مجَازًا وَبَيَان فَسَاد التَّقْلِيد فِي دين الله

- ‌الْمَقْصد الأول فِيمَا قَالَ الإِمَام أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه أهل المناقب المنيفة

- ‌الْمَقْصد الثَّانِي فِيمَا قَالَه مَالك بن أنس إِمَام دارالهجرة وَمَا ذكره أَتْبَاعه السَّادة المهرة

- ‌الْمَقْصد الثَّالِث فِيمَا قَالَه عَالم قُرَيْش مُحَمَّد بن إِدْرِيس الشَّافِعِي وَمَا لأَصْحَابه من الْكَلَام الشافي من العي

- ‌الْمَقْصد الرَّابِع فِي ذكر مَا نقل عَن نَاصِر السّنة أَحْمد بن حَنْبَل وَمَا لأَصْحَابه من الحض على الْعَمَل بِالسنةِ وَالْكتاب الْمنزل

- ‌الأَصْل الثَّانِي من أصُول فتاوي الإِمَام أَحْمد مَا أفتى بِهِ الصَّحَابَة

- ‌الأَصْل الثَّالِث من أُصُوله إِذا اخْتلف الصَّحَابَة

- ‌الأَصْل الرَّابِع الْأَخْذ بالمرسل والْحَدِيث الضَّعِيف إِذا لم يكن فِي الْبَاب شَيْء يَدْفَعهُ

- ‌الأَصْل الْخَامِس وَهُوَ الْقيَاس

- ‌الخاتمة فِي إبِْطَال شبه المقلدين وَالْجَوَاب عَمَّا أوردوه على المتبعين أهل الْأَهْوَاء المتعصبين

- ‌ولنختم الخاتمة بفوائد تتَعَلَّق بالفتوى

الفصل: ‌المقصد الثاني فيما قاله مالك بن أنس إمام دارالهجرة وما ذكره أتباعه السادة المهرة

أعرض حَدِيثه بعد لَيْلَتي هَذِه إِلَّا على الَّذين يحكمونه فِيمَا شجر بَينهم ثمَّ لَا يَجدوا فِي أنفسهم حرجا مِمَّا قضى ويسلموا تَسْلِيمًا انْتهى

وَكثير من هَؤُلَاءِ الطَّائِفَة المتعصبة من يَدعِي عدم فهم الحَدِيث إِذا قيل لَهُ لم لَا تعْمل بِالْحَدِيثِ مَعَ ادعائه الْفَضِيلَة وتعليمه وتعلمه واستدلاله لمن قَلّدهُ وَهَذَا من أغرب الغرائب وَلَو أذهب لاذكر لَك مَا فيهم من الْعَجَائِب لطال الْكَلَام وَفِي هَذَا الْمِقْدَار كِفَايَة لمن نور الله بصيرته وأرشده إِلَى الصَّوَاب انْتهى كَلَام الشَّيْخ مُحَمَّد حَيَاة السندي بِطُولِهِ

قلت وَلَقَد صدق الشَّيْخ رحمه الله وبذل النَّصِيحَة وأرشد وَالله الْهَادِي

لقد أسمعت لَو ناديت حَيا

وَلَكِن لَا حَيَاة لمن تنادي

‌الْمَقْصد الثَّانِي فِيمَا قَالَه مَالك بن أنس إِمَام دارالهجرة وَمَا ذكره أَتْبَاعه السَّادة المهرة

حَدثنَا شيخناالمعمر وبركتنا المدخر مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد سنه حَدثنَا مُحَمَّد بن عبد الله الشريف عَن مُحَمَّد بن أركماش الْحَنَفِيّ أخبرنَا أَبُو الْفضل الْحَافِظ أَحْمد بن عَليّ بن حجر الْعَسْقَلَانِي أجازة عَن أبي إِسْحَق إِبْرَاهِيم بن أَحْمد بن عبد الواحد التنوخي سَمَاعا عَن أبي مُحَمَّد بن أبي غَالب بن عَسَاكِر عَن أبي الْحسن بن المقير عَن أبي الْفضل بن نَاصِر عَن ابي عبد الله مُحَمَّد بن فتوح الْحميدِي عَن الْحَافِظ أبي عمر بن عبد البر حَدثنَا عبد الله بن مُحَمَّد بن عبد المؤمن قَالَ حَدثنَا أَبُو عبد الله بن مُحَمَّد بن أَحْمد القَاضِي الْمَالِكِي ثَنَا مُوسَى بن إِسْحَق قَالَ ثَنَا إِبْرَاهِيم بن الْمُنْذر قَالَ أخبرنَا معن بن عِيسَى قَالَ سَمِعت مَالك بن أنس يَقُول إِنَّمَا أَنا بشر أخطئ وَأُصِيب فانظروا فِي رَأْيِي فَكل مَا وَافق الْكتاب وَالسّنة فَخُذُوهُ وكل مالم يُوَافق الْكتاب وَالسّنة فاتركوه

وَذكر أَحْمد بن مَرْوَان الْمَالِكِي عَن أبي جَعْفَر بن رشدين عَن إِبْرَاهِيم بن الْمُنْذر عَن معن عَن مَالك مثله

وَبِه إِلَى أبي عمر أخبرنَا عبد الرحمن بن يحيى قَالَ حَدثنَا أَحْمد بن سعيد قَالَ ثَنَا عبد الملك ابْن بَحر قَالَ حَدثنَا مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل الصَّائِغ حَدثنَا إِبْرَاهِيم بن الْمُنْذر حَدثنَا مطرف قَالَ سَمِعت مَالِكًا يَقُول قَالَ لي ابْن هُرْمُز لَا تسمك على شَيْء فِيمَا سَمِعت مني من هَذَا الرَّأْي فَإِنَّمَا افتجرته أَنا وَرَبِيعَة فَلَا تتمسك بِهِ

وَقَالَ سَنَد بن عنان فِي شَرحه على مدونة سَحْنُون الْمَعْرُوفَة بِالْأُمِّ مَا نَصه وَالْفِقْه مأخذه الْكتاب وَالسّنة وَالْإِجْمَاع وَالْعبْرَة وَلما كَانَ الِاسْتِقْلَال بِعلم الْفُرُوع مُسْتَندا على أَمريْن لَا بُد مِنْهُمَا أَحدهمَا معرفَة مَذَاهِب أهل الْعَصْر من أهل الْفِقْه وَالْعقد والحل وَالثَّانِي معرفَة أصُول

ص: 72

الْفِقْه وَالتَّصَرُّف فِيهَا برد الْفُرُوع إِلَى الْأُصُول فَالْأول كَانَ شرطا ليأمن الْمُتَصَرف من خرق الْإِجْمَاع وينتهج منهاج الِاقْتِدَاء والاتباع وَالثَّانِي كَانَ شرطا لتَحْصِيل الْعلم لِأَن الْعلم لَا يحصل إِلَّا بطريقة لِأَنَّهُ لَا يثبت ضَرُورَة إِذْ لَو ثَبت ضَرُورَة لاستوى الكافة فِيهِ ومالا يثبت ضَرُورَة فَإِنَّمَا يثبت نظرا وَلما كَانَت الشَّرِيعَة مستندة إِلَى الرَّسُول صلى الله عليه وسلم وَجب أَن يكون النّظر فِيمَا جَاءَ عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَالَّذِي جَاءَ عَنهُ نَوْعَانِ أَقْوَال مسموعة وَأَحْكَام مَوْضُوعَة وَالَّذِي نقل من الْأَقْوَال فنان الْقُرْآن وَالسّنة فَوَجَبَ النّظر فيهمَا بالاستنباط والاستخراج وَقد قَالَ تَعَالَى {وَلَو ردُّوهُ إِلَى الرَّسُول وَإِلَى أولي الْأَمر مِنْهُم لعلمه الَّذين يستنبطونه مِنْهُم} وَقد يُوجد الْوِفَاق من أهل الْآفَاق على حكم مَا وَإِن لم يلق فِي كتاب وَلَا سنة عَلَيْهِ نَص فَيكون الْوِفَاق طَرِيقا إِلَى إثْبَاته لأَنا نعلم أَن الْعُقَلَاء فِي مجاري الْعِبَادَات مختلفو الرتب والدرجات فِي قُوَّة الْفَرَاغ وميل الْأَغْرَاض ويتفاوتون فِي سبل النّظر وتسديد الْفِكر فيبعد عَادَة أَن يتَّفق الجم وَالْجمع الْكثير فِي مَسْأَلَة فرعية إِلَّا أَن توقيره هَذَا برهَان الْقطع بِحجَّة الْإِجْمَاع وَفِي الْجُمْلَة أَن الْعَمَل بِالْإِجْمَاع يرجع إِلَى الْعَمَل بِالنَّصِّ لِأَن الْإِجْمَاع إِنَّمَا يتَضَمَّن الْحجَّة وَوَجهه مَا بَيناهُ أَو يكون هُوَ فِي نَفسه حجَّة فيستند إثْبَاته إِلَى السّمع فِي قَوْله تَعَالَى {وَمن يُشَاقق الرَّسُول من بعد مَا تبين لَهُ الْهدى وَيتبع غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ نوله مَا تولى ونصله جَهَنَّم} وَفِي قَوْله صلى الله عليه وسلم لَا تزَال طَائِفَة من أمتِي على الْحق ظَاهِرين وَفِي البُخَارِيّ وَلنْ تزَال هَذِه الْأمة قَائِمَة على الْحق لَا يضرهم من خالفهم حَتَّى يَأْتِي أَمر الله إِلَى أَن قَالَ أما مُجَرّد الِاقْتِصَار على مَحْض التَّقْلِيد فَلَا يرضى بِهِ رجل رشيد ولسنا نقُول إِنَّه حرَام على كل فَرد بل نوجب معرفَة الدَّلِيل وأقاويل الرِّجَال ونوجب على الْعَاميّ تَقْلِيد الْعَالم

ص: 73

وَاخْتلف فِي تَقْلِيد الْمَيِّت وَالصَّحِيح أَنه يرجع إِلَيْهِ عِنْد الْحَاجة وَالْعجز عَمَّا فَوْقه فَإِذا صَحَّ نقل كتابي عَمَّن سلف من أهل الْعلم وَرَوَاهُ عَنهُ ثِقَة ثمَّ نزلت بِهِ نازلة فِي بادية وعسر عَلَيْهِ الْوُصُول إِلَى مَوَاطِن الْفُقَهَاء وَخَافَ فَوَات النَّازِلَة مثل أَن ينسى التَّسْمِيَة على الذَّبِيحَة اَوْ مَعَه امْرَأَة لَيست محرما وَلَا يدْرِي مَا يصنع لَهُ يغسلهَا اَوْ يتيممها أَو غير ذَلِك فَإِنَّهُ يعْمل بِمَا يجده فِي كتاب الْمُصَحح وَإِن قلد مَيتا فَهُوَ أولى من اتِّبَاع هَوَاهُ بِغَيْر علم لِأَن مَا يجده فِي صَحِيفَته أصل وَمَا قيل بِعلم فَهُوَ أولى من اتِّبَاع الْهوى وَإِنَّمَا نقُول نفس الْمُقَلّد لَيست على بَصِيرَة وَلَا يَتَّصِف من الْعلم بِحَقِيقَة إِذْ لَيْسَ التَّقْلِيد بطرِيق إِلَى الْعلم بوفاق أهل الْآفَاق وَإِن نوزعنا فِي ذَلِك برهانه فَنَقُول قَالَ الله تَعَالَى {فاحكم بَين النَّاس بِالْحَقِّ} وَقَالَ {لتَحكم بَين النَّاس بِمَا أَرَاك الله} وَقَالَ {وَلَا تقف مَا لَيْسَ لَك بِهِ علم} وَقَالَ {وَأَن تَقولُوا على الله مَا لَا تعلمُونَ} وَمَعْلُوم أَن الْعلم هُوَ معرفَة الْمَعْلُوم على مَا هُوَ بِهِ فَنَقُول للمقلد إِذا اخْتلفت الْأَقْوَال وتشعبت الْمذَاهب من أَيْن تعلم صِحَة قَول من قلدته دون غَيره أَو وَصِحَّة قَوْله لَهُ على قولة أُخْرَى وَلَا يُبْدِي كلَاما فِي قَول إِلَّا انعكس عَلَيْهِ فِي نقيضه سِيمَا إِذا عرض لَهُ ذَلِك فِي قولة لإِمَام مذْهبه الَّذِي قَلّدهُ وقولة يُخَالِفهَا لبَعض أَئِمَّة الصَّحَابَة وتتبع الطلبات وَلَا يبْقى لَهُ محصول

فَإِن قيل هَذَا ينعكس عَلَيْكُم فِيمَا تظنونه عِنْد جَرَيَان الْقيَاس فَمن أَيْن تعلمُونَ أَنه الْحق وَالظَّن لَا يُغني من الْحق شَيْئا

قُلْنَا نَحن نقطع ونتيقن بِمَا ذَكرْنَاهُ من تعَارض الصَّحَابَة أَن الْعَمَل يجب عِنْد قيام الظَّن الْمُسْتَند إِلَى وضع الشَّرِيعَة فَالْعَمَل إِذا عِنْد الظَّن لَيْسَ بِمُجَرَّد الظَّن وَلَكِن بِدَلِيل سَابق مَقْطُوع بِهِ وَبَيَانه بالمثال أَن الْحَاكِم يتَيَقَّن أَنه يجب عَلَيْهِ الحكم إِذا ثَبت لَهُ الظَّن عِنْد قيام الْبَيِّنَة فَإِذا قَامَت الْبَيِّنَة وَوَجَب الحكم اسْتندَ وُجُوبه إِلَى قَطْعِيّ وَلَكِن ظُهُور الْعَمَل بالقطعي إِنَّمَا هُوَ عِنْد قيام الظَّن فِي الثَّانِي كَذَا فِي الْفَتْوَى وَجب الْعَمَل عِنْد قيام الظَّن مُسْتَندا إِلَى الدَّلِيل الْقطعِي السَّابِق فافهمه

أما التَّقْلِيد فَهُوَ قبُول قَول الْغَيْر من غير حجَّة فَمن أَيْن يحصل بِهِ علم وَلَيْسَ لَهُ مُسْتَند إِلَى قطع وَهُوَ أَيْضا فِي نَفسه بِدعَة محدثة لأَنا نعلم بِالْقطعِ أَن الصَّحَابَة رضوَان الله عَلَيْهِم لم يكن فِي زمانهم وعصرهم مَذْهَب لرجل معِين يدرس ويقلد وَإِنَّمَا كَانُوا يرجعُونَ فِي النَّوَازِل إِلَى الْكتاب وَالسّنة وَإِلَى مَا يتمحض بَينهم من النّظر عِنْد فقد الدَّلِيل إِلَى القَوْل وَكَذَلِكَ تابعوهم أَيْضا كَانُوا

ص: 74

يرجعُونَ فِي النَّوَازِل إِلَى الْكتاب وَالسّنة فَإِن لم يَجدوا نظرُوا إِلَى مَا أجمع عَلَيْهِ الصَّحَابَة فَإِن لم يَجدوا اجتهدوا وَاخْتَارَ بَعضهم قَول صَحَابِيّ فَرَآهُ الْأَقْوَى فِي دين الله تَعَالَى ثمَّ كَانَ الْقُرْآن الثَّالِث وَفِيه أَبُو حنيفَة وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَابْن حَنْبَل فَإِن مَالِكًا توفّي سنة تسع وَسبعين وَمِائَة وَتُوفِّي أَبُو حنيفَة سنة خمسين وَمِائَة وَفِي هَذِه السّنة ولد الإِمَام الشَّافِعِي وَولد ابْن حَنْبَل سنة أَربع وَسِتِّينَ وَمِائَة وَكَانُوا على منهاج من مضى لم يكن فِي عصرهم مَذْهَب رجل معِين يتدارسونه وعَلى قريب مِنْهُم كَانَ أتباعهم فكم من قولة لمَالِك ولنظرائه خَالفه فِيهَا أَصْحَابه وَلَو نقلنا ذَلِك لخرجنا من مَقْصُود هَذَا الْكتاب مَا ذَاك إِلَّا لجمعهم آلَات الِاجْتِهَاد وقدرتهم على ضروب الاستنباطات وَلَقَد صدق الله تَعَالَى نبيه ص فِي قَوْله خير النَّاس قَرْني ثمَّ الَّذين يَلُونَهُمْ ثمَّ الَّذين يَلُونَهُمْ ذكر بعد قرنه قرنين أَو ثَلَاثَة والْحَدِيث فِي صَحِيح البُخَارِيّ فالعجب لأهل التَّقْلِيد كَيفَ يَقُولُونَ هَذَا هُوَ الْأَمر الْقَدِيم وَعَلِيهِ أدركنا الشُّيُوخ وَهُوَ إِنَّمَا أحدث بعد مِائَتي سنة من الْهِجْرَة وَبعد فنَاء الْقُرُون الَّتِي أثنى عَلَيْهِم الرَّسُول صلى الله عليه وسلم وَلَو قلت لأَحَدهم مَالك رحمه الله مذْهبه مَذْهَب من لم يحز جَوَابا

وَحكى أهل التواريخ أَن الَّذِي أشاع مَذْهَب مَالك رحمه الله بالأندلس إِنَّمَا هُوَ عِيسَى بن دِينَار وَإِنَّمَا كَانَ يعْمل بِمذهب الْأَوْزَاعِيّ وَمَكْحُول فَكيف يدعونَ أَنه هُوَ الْأَثر الْقَدِيم عِنْدهم وَلما أرْغم بعض أهل التَّقْلِيد الْحجَّة واستبانت لَهُ المحجة قَالَ نَحن لَا ننكر أَن أصُول الْفَتْوَى الْقُرْآن وَالسّنة وَالْإِجْمَاع وَالْقِيَاس وَلَكِن من بَقِي بشريطة النّظر ويستقل بأعبائه فَنَقُول لَهُم نَحن نقطع إِنَّه مَا من بَاب من الْعلم كَانَ يسْلك فِي عصر مَالك رحمه الله إِلَّا وَهُوَ مَفْتُوح إِلَى الْآن لمن شَاءَ أَن يسْلك وَلَا يحْتَاج النَّاظر أَن يكون فِي كل فن لَا رُتْبَة فَوْقه فَإنَّا نعلم قطعا أَن الصَّحَابَة كَانُوا مختلفي الْمَذْهَب وَكَانَ الإِمَام مِنْهُم يستفتى من هُوَ دونه وَيرى أَن نظره نَافِذ وَحكمه مَاض وَقد قَالَ الله تَعَالَى {وَفَوق كل ذِي علم عليم} وَقد مَاتَ أَبُو بكر وَعمر رضي الله عنهما وهما لم يستتما حفظ جَمِيع الْقُرْآن وَالرِّوَايَة عَن عَليّ رضي الله عنه فِي ذَلِك مُخْتَلفَة وَكَانَ عمر فِي مجَالِس عدَّة يَسْتَدْعِي الحَدِيث عَن الرَّسُول صلى الله عليه وسلم فِي بعض النَّوَازِل مِمَّن حَضَره من الصَّحَابَة

ص: 75

وَكَذَلِكَ أَبُو بكر فَإِنَّهُ قَالَ للجدة مَا علمت لَك فِي كتاب الله تَعَالَى نَصِيبا وَلَا فِي السّنة حَتَّى روى لَهُ الحَدِيث فِيهَا وَلَقَد كَانَ مَالك وَأَبُو حنيفَة ونظراؤهم غير متبحرين فِي علم الغة والنحو حَتَّى نقل عَن بَعضهم فِي ذَلِك مَالا يخفى مثله نعم لَا بُد أَن يُوجد من كل قرن أوفر حَظّ وَقد برع الْأَئِمَّة فِي ذَلِك بِسَهْم لما رَأَوْهُ أَنه لَا بُد لمن يتجرد فِي طلب الْعلم من معرفَة أُصُوله وفروعه وَوجه ارتباط فروعه بأصوله وإلحاق مَسْأَلَة بِأُخْرَى وقطعها عَن أُخْرَى وترجيح الْأَدِلَّة عِنْد تعارضها وجمعوا لذَلِك مسَائِل نظرية تشْتَمل على سَائِر فنون مسَائِل الْفُرُوع من مسَائِل الطَّهَارَة وَالصَّلَاة وَسَائِر الْعِبَادَات ثمَّ الْمُعَامَلَات من الْبيُوع والأنكحة والأقضية والشهادات والجراحات ومسائل الْجِنَايَات والتوارث وَغير ذَلِك ورسموها بِذكر الْخلاف بَين الْمذَاهب الْمَشْهُورَة فِي مَذْهَب مَالك وَأبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ رَحِمهم الله تَعَالَى فَذكرُوا فِي كل مَسْأَلَة كل مَا ورد فِيهَا من الْكتاب على وُجُوه الِاحْتِجَاج بِهِ من نَص أَو ظَاهر أَو عَام أَو مَفْهُوم أَو دَلِيل خطاب وَالْكَلَام فِي نَاسخ ذَلِك ومنسوخه ومجمله ومبينه ومطلقه ومقيده وَظَاهره ومحتمله وصريحه وكنايته وَمَا حَظّ ذَلِك من جِهَة النَّحْو كالواو فِي الْجمع وَثمّ فِي التَّرْتِيب وَالْفَاء فِي التعقيب وَالْبَاء فِي التَّبْعِيض وَمَا حَظّ ذَلِك من جِهَة اللُّغَة حَقِيقَتهَا ومستعارها كاللمس فِي الْجِمَاع وَنَحْوه

ويذكرون ماجاء فِي السّنة من حَدِيث صَحِيح أَو مَشْهُور أَو مُضْطَرب أَو مُعَلل ويميزون دَرَجَات الْأَخْبَار وَوجه مُقَابلَة الْخَبَر بالْخبر وَالْآيَة بالْخبر وَكَيف يخص الْقُرْآن بِالسنةِ أَو يُقيد وترجيح نَص السّنة على ظَاهر الْقُرْآن وَغير ذَلِك من وُجُوه النّظر الَّتِي لَا يتَوَصَّل إِلَيْهَا إِلَّا بالجهد والكد فيدرك الطَّالِب بالتدريس والممارسة فِي أقرب زمَان ويذكرون حظها من جِهَة الْإِجْمَاع وموقع الْوِفَاق والمطالبة بتحقيق ذَلِك وَوَجهه

وَكَذَلِكَ يذكرُونَ حَظّ الْمَسْأَلَة من الِاعْتِبَار وترتيب درجاته من قِيَاس جلي أَو قِيَاس تقريب وترجيح الْعِلَل بَعْضهَا على بعض وَمَعْرِفَة مَا يُفْسِدهَا من نقض أَو كسر وَعدم تَأْثِير وَتَعْلِيق ضد الْمُقْتَضى وَفَسَاد اعْتِبَار ومقابلة الْجمع بِالْفرقِ وَغير ذَلِك من فنون صَارَت بَين الطّلبَة أَهْون من حِكَايَة الْغَزَوَات والسرايا وَأَقَامُوا لذَلِك مناظرات مباحثات صَارَت لَهُم ديدنا وصنعة حَتَّى يهون على أحدهم النّظر فِي مجلدة من مسَائِل النّظر وحفظها ومعرفتها ويصعب عَلَيْهِ حفظ كراس من

ص: 76

الْمسَائِل الْمُجَرَّدَة عَن النّظر الْمُؤَلّفَة على مَحْض التَّقْلِيد فَجمعُوا بذلك بَين فروع الْفِقْه وأحواله وَكَيْفِيَّة بِنَاء الْفُرُوع على الأول فَلَا يفرغ الطَّالِب الْمُجْتَهد من الْمسَائِل الخلافيات إِلَّا وَقد أشرف على وَادي الْفَلاح وَمد يَده إِلَى حوز قصب السَّبق هَذَا وَإِن استبعده الْجَاهِل واستغلاه فَهُوَ بَين أربابه مستقرب مسترخص إِذا وجد محلا يقبله فَإِن كل تركيب لايحتمله وكل قريحة لَا تصلح لَهُ وَالْفضل بيد الله يؤتيه من يَشَاء وَالله ذُو لفضل الْعَظِيم

مَعَ أَن الْمُفْتِي لَا يشْتَرط فِي وَصفه أَن يكون متمهرا فِي علم الْكَلَام وَقد اخْتلف هَل يشْتَرط فِيهِ أصل هَذَا الْعلم أَولا فَاشْترط ذَلِك أَبُو الطّيب وأباه غَيره وَهُوَ قَول الْأَكْثَرين وَقَالُوا لَا يشْتَرط أَكثر من كَونه عَالما بِحكم الْحَادِثَة الَّتِي يُفْتى فِيهَا وَعلم الْكَلَام لَا تعلق لَهُ بالحوادث وَإِنَّمَا تعلقه بِصِحَّة الِاعْتِقَاد وَصِحَّة الِاعْتِقَاد ثبتَتْ للعامة من غير إمعان نظر على ماسلف بَيَانه

وَلَئِن قَالَ الْمُقَلّد إِن بعض مَا ذكرتموه يعسر تنَاوله على كل النَّاس قُلْنَا صدقت وَوجه الْإِمَامَة يخص الله تَعَالَى بهَا بعض النَّاس لَا كل النَّاس فليعرف لكل ذِي فضل فَضله وكل ذِي رُتْبَة رتبته وَلَا يجوز التَّقْلِيد وَالْأَخْذ بِهِ إِلَّا للجاهل لقَوْله تَعَالَى {فاسألوا أهل الذّكر إِن كُنْتُم لَا تعلمُونَ} فَأوجب الله تَعَالَى على كل من لَا يعلم بِأَن يسْأَل اهل الْعلم وَمَفْهُوم الْأَمر وجوب اتِّبَاع أهل الْعلم وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {فلولا نفر من كل فرقة مِنْهُم طَائِفَة ليتفقهوا فِي الدّين ولينذروا قَومهمْ إِذا رجعُوا إِلَيْهِم لَعَلَّهُم يحذرون} مَفْهُومه وجوب اتِّبَاع الْمُنْذرين وَأخذ الحذر مِمَّا يحذرونهم مِنْهُ وَجعل الْمُنْذرين منعوتين بنعت الْفِقْه إِذْ لم يبلغ هَذَا الْمُقَلّد قَول مَالك الَّذِي قَالَه لَا يُفْتِي الْعَالم حَتَّى يرَاهُ النَّاس أَهلا للْفَتْوَى قَالَ سَحْنُون يَعْنِي بِالنَّاسِ الْعلمَاء فَأثْبت لَهُ الْعلم ثمَّ مَنعه من الْفتيا حَتَّى يستظهر على أمره بِرَأْي الْعلمَاء

وَقد زِدْنَا من الْكَلَام فِي هَذَا الْبَاب لما رَأينَا من ركون أَكثر النَّاس إِلَى الْبِدْعَة فيتمسكون بالتقليد عصمَة ويزعمون أَنه الْحق الَّذِي مَا عداهُ بِدعَة وتعب لَا يُفِيد وَلَا غرو فَلَقَد قَالَ الفاطر الْحَكِيم فِي كِتَابه الْعَزِيز {وَإِذ لم يهتدوا بِهِ فسيقولون هَذَا إفْك قديم} وَقَالَ عَليّ رضي الله عنه من جهل شَيْئا عَادَاهُ انْتهى كَلَام سَنَد فِي طراز الْمجَالِس وفكهة الْمجَالِس

قلت وَلَقَد صدق سَنَد رحمه الله فِيمَا ذكره من ذمّ التَّقْلِيد للشَّخْص الْمعِين واتخاذ رَأْيه دينا ومذهبا وَلَو خَالف نَص السّنة وَالْكتاب الْمُبين وَلَا شكّ فِي كَون هَذَا بِدعَة مذمومة وخصلة شنيعة احتال

ص: 77

بهَا إِبْلِيس اللعين على تَفْرِيق جمَاعَة الْمُسلمين وتشتيت شملهم وإيقاع الْعَدَاوَة والبغضاء بَينهم فترى كل وَاحِد مِنْهُم يعظم إِمَامه الْمُجْتَهد تَعْظِيمًا لَا يبلغ بِهِ أحدا من أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَإِذا وجد حَدِيثا يُوَافق مذْهبه فَرح بِهِ وانقاد لَهُ وَسلم وَإِن وجد حَدِيثا صَحِيحا سالما من النّسخ والمعارض مؤيدا لمَذْهَب غير إِمَامه فتح لَهُ بَاب الِاحْتِمَالَات الْبَعِيدَة وَضرب عَنهُ الصفح والعارض ويلتمس لمَذْهَب إِمَامه أوجها من التَّرْجِيح مَعَ مُخَالفَته للصحابة وَالتَّابِعِينَ وَالنَّص الصَّرِيح وَأَن شرح كتابا من كتب الحَدِيث حرف كل حَدِيث خَالف رَأْيه الحَدِيث وَإِن عجز عَن ذَلِك كُله ادّعى النّسخ بِلَا دَلِيل أَو الخصوصية أَو عدم الْعَمَل بِهِ أَو غير ذَلِك مِمَّا يحضر ذهنه العليل وَإِن عجز عَن ذَلِك كُله ادّعى أَن إِمَامه اطلع على كل مَرْوِيّ أَو جله فَمَا ترك هَذَا الحَدِيث الشريف إِلَّا وَقد اطلع على طعن فِيهِ بِرَأْيهِ المنيف فيتخذ عُلَمَاء مذْهبه أَرْبَابًا وَيفتح لمناقبهم وكراماتهم أبوابا ويعتقد أَن كل من خَالف ذَلِك لم يُوَافق صَوَابا وَإِن نصحه أحد من عُلَمَاء السّنة اتَّخذهُ عدوا وَلَو كَانُوا قبل ذَلِك أحبابا وَإِن وجد كتابا من كتب مَذْهَب إِمَامه الْمَشْهُورَة قد تضمن نصحه وذم الرَّأْي والتقليد وحرض على اتِّبَاع الْأَحَادِيث الْمَشْهُورَة نبذه وَرَاء ظَهره وَأعْرض عَن نَهْيه وَأمره واعتقده حجرا مَحْجُورا وَجعل مختصرات الْمُتَأَخِّرين سعيا مشكورا لتركهم الدَّلِيل وتعصبهم للتقليد واعتقادهم أَنه الرَّأْي السديد وَشَاهد ذَلِك كُله أَن تتأمل مَذْهَب مَالك فترى كتب عُلَمَائهمْ الْمُتَقَدِّمين قد ملئت بالأدلة وحشيت بذم المقلدين كالمبسوط للْقَاضِي إِسْمَاعِيل والمجموعة لِابْنِ عَبدُوس والتمهيد لِابْنِ عبد البر والطراز لسند بن عنان وَقد نبذها الْمُتَأَخّرُونَ وَرَاء ظُهُورهمْ وَأَقْبلُوا كل الإقبال على مَا ابتدعه الْمُتَأَخّرُونَ من حذف الدَّلِيل فِي مختصراتهم وأولعوا بالتقليد بِلَا دَلِيل لاعتقادهم أَن الاشتعال بِهِ عناء وَتَطْوِيل إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون

فَإِن قلت قد فهمنا أَن الِاشْتِغَال بالكتب المختصرات المعتقدات فِي الْمذَاهب لَيْسَ يجدي نفعا وَإِنَّمَا هُوَ جهل مركب فَبين لي كَيْفيَّة طلب الْعلم النافع

فَالْجَوَاب أَن الْعلمَاء قد بَينُوهُ غَايَة الْبَيَان فَتَأمل مَا أنقله لَك

قَالَ أَبُو عمر بن عبد البر حَافظ الْمغرب طلب الْعلم دَرَجَات ومناقب ورتب لَا يَنْبَغِي تعديها وَمن تعداها جملَة فقد تعدى سَبِيل السّلف رحمهم الله وَمن تعدى سبيلهم عَامِدًا ضل وَمن تعداه مُجْتَهدا زل فَأول الْعلم حفظ كتاب الله عز وجل وتفهمه وكل مَا يعين على فهمه فَوَاجِب طلبه مَعَه وَلَا أَقُول أَن حفظ كُله فرض وَلَكِنِّي أَقُول أَن ذَلِك وَاجِب لَازم على من أحب أَن يكون عَالما لَيْسَ من بَاب الْفَرْض

حَدثنَا عبد الوارث بن سُفْيَان ثَنَا قَاسم بن أصبغ قَالَ ثَنَا أَحْمد بن زُهَيْر قَالَ ثَنَا سعيد بن سُلَيْمَان قَالَ ثَنَا مَيْمُون أَبُو عبد الله عَن الضَّحَّاك فِي قَوْله تَعَالَى {كونُوا ربانيين بِمَا كُنْتُم تعلمُونَ الْكتاب} قَالَ حق على

ص: 78

كل من تعلم الْقُرْآن أَن يكون فَقِيها فَمن حفظه قبل بُلُوغه ثمَّ فرغ إِلَى مَا يَسْتَعِين بِهِ على فهمه من لِسَان الْعَرَب كَانَ لَهُ ذَلِك عونا كَبِيرا على مُرَاده مِنْهُ وَمن سنَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم ثمَّ ينظر فِي نَاسخ الْقُرْآن ومنسوخه وَأَحْكَامه وَيقف على اخْتِلَاف الْعلمَاء واتفاقهم فِي ذَلِك وَهُوَ أَمر قريب على من قربه الله سُبْحَانَهُ إِلَيْهِ ثمَّ ينظر فِي السّنَن المأثورة الثَّابِتَة عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فبها يصل الطَّالِب إِلَى مُرَاد الله عز وجل فِي كِتَابه وَهِي تفتح لَهُ أَحْكَام الْقُرْآن فتحا وَفِي سير رَسُول الله صلى الله عليه وسلم تَنْبِيه على كثير من النَّاسِخ والمنسوخ فِي السّنَن وَمن طلب السّنَن فَلْيَكُن معوله على حَدِيث الْأَئِمَّة الثِّقَات الْحفاظ الَّذين جعلهم الله تَعَالَى خَزَائِن لعلم دينه وأمناء على سنَن رَسُوله ص كمالك بن أنس الَّذِي اتّفق الْمُسلمُونَ طرا على صِحَة نَقله ونقاوة حَدِيثه وَشدَّة توقيه وانتقاده وَمن جرى مجْرَاه من ثِقَات عُلَمَاء الْحجاز وَالْعراق وَالشَّام كشعبة بن الْحجَّاج وسُفْيَان الثَّوْريّ وَالْأَوْزَاعِيّ وَابْن عُيَيْنَة وَمعمر وَسَائِر أَصْحَاب ابْن شهَاب الثِّقَات كَابْن جريج وَعقيل وَيُونُس وَشُعَيْب والزبيدي وَاللَّيْث وَحَدِيث هَؤُلَاءِ عِنْد وهب وَغَيره وَكَذَلِكَ حَدِيث حَمَّاد بن زيد وَحَمَّاد بن سَلمَة وَيحيى ابْن سعيد الْقطَّان وَابْن الْمُبَارك وأمثالهم من أهل الثِّقَة وَالْأَمَانَة فَهَؤُلَاءِ أَئِمَّة الحَدِيث وَالْعلم عِنْد الْجَمِيع وعَلى حَدِيثهمْ اعْتمد المصنفون فِي السّنَن الصِّحَاح كالبخاري وَمُسلم وَأبي دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَمن سلك سبيلهم كالعقيلي وَالتِّرْمِذِيّ وَابْن السكن وَمن لَا يُحْصى كَثْرَة وَإِنَّمَا صَار مَالك وَمن ذكرنَا مَعَه أَئِمَّة عِنْد الْجَمِيع لِأَن علم الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ فِي أقطار الأَرْض انْتهى إِلَيْهِم لبحثهم عَنهُ رَحِمهم الله تَعَالَى وَالَّذِي شَذَّ عَنْهُم يسير نزر فِي جنب مَا عِنْدهم

أخبرنَا إِسْمَاعِيل بن عبد الرحمن حَدثنَا إِبْرَاهِيم بن بكر بن عمرَان حَدثنَا الْحُسَيْن بن أَحْمد الْأَزْدِيّ حَدثنِي هارن بن عِيسَى حَدثنَا أَبُو قلَابَة عبد الملك بن مُحَمَّد الرقاشِي قَالَ سَمِعت عَليّ بن الْمَدِينِيّ يَقُول دَار علم الثِّقَات على سِتَّة اثْنَيْنِ بالحجاز واثنين بِالْكُوفَةِ واثنين بِالْبَصْرَةِ فَأَما الَّذين بالحجاز فالزهري وَعَمْرو بن دِينَار واللذان بِالْكُوفَةِ أَبُو إِسْحَق السبيعِي وَالْأَعْمَش واللذان بِالْبَصْرَةِ قَتَادَة وَيحيى بن أبي كثير ثمَّ دَار علم هؤلا على ثَلَاثَة عشر رجلا ثَلَاثَة بالحجاز وَثَلَاثَة بِالْكُوفَةِ وَخَمْسَة بِالْبَصْرَةِ وَوَاحِد بواسط وَوَاحِد بِالشَّام فَالَّذِينَ بالحجاز ابْن جريج وَمَالك وَأحمد بن إِسْحَق وَالَّذين بِالْكُوفَةِ سُفْيَان الثَّوْريّ وَإِسْرَائِيل وَابْن عُيَيْنَة وَالَّذين بِالْبَصْرَةِ شُعْبَة وَسَعِيد بن أبي عرُوبَة وَهِشَام الدستوَائي وَمعمر وَحَمَّاد بن سَلمَة وَالَّذِي بواسط هشيم وَالَّذِي بِالشَّام الْأَوْزَاعِيّ قَالَ أَبُو عمر وَلم يذكر حَمَّاد بن زيد مِنْهُم لِأَنَّهُ لم يكن لَهُ استنباط فِي شَيْء من علمه وَحَمَّاد بن سَلمَة وَشعْبَة مثله

وَمِمَّا يستعان بِهِ على فهم الحَدِيث مَا ذَكرْنَاهُ من العون على كتاب الله تَعَالَى وَهُوَ علم لِسَان الْعَرَب ومواقع كَلَامهَا وسعة لغتها واستعارتها ومجازها وَعُمُوم لفظ مخاطبتها وخصوصها وَسَائِر

ص: 79

مذاهبها لمن قدر فَهُوَ شَيْء لَا يسْتَغْنى عَنهُ وَكَانَ عمر بن الْخطاب رضي الله عنه يكْتب إِلَى الْآفَاق أَن يبلغُوا السّنة والفرائض واللحن يَعْنِي النَّحْو كَمَا يتَعَلَّم الْقُرْآن وَقد تقدم ذكر هَذَا الْخَبَر عَنهُ فِيمَا سلف من كتَابنَا

وَعَن أبي عُثْمَان قَالَ كَانَ فِي كتاب عمر تعلمُوا الْعَرَبيَّة وَعَن عمر بن زيد قَالَ كتب عمر إِلَى أبي مُوسَى أما بعد فتفهموا فِي السّنة وتفقهوا فِي الْعَرَبيَّة وَعَن ابْن عمر أَنه كَانَ يضْرب وَلَده على اللّحن وَقَالَ الْخَلِيل بن أَحْمد

أَي شَيْء من اللبَاس على ذِي الثرى

وأبهى من اللِّسَان الْبَهِي

ينظم الْحجَّة السّنيَّة فِي السل

كسامن القَوْل مثل عقد الْهدى

وَترى اللّحن بالحسيب اخي الهيب

ة مثل الصدا على المشرقي

فاطلب النَّحْو للحجاج وللشعر

مُقيما للمسند الْمَرْوِيّ

وَالْخطاب البليغ عِنْد جَوَاب ال

قَول يزهى بِمثلِهِ فِي الندي

قَالَ الشَّافِعِي رحمه الله من حفظ الْقُرْآن عظمت قِيمَته وَمن طلب الْفِقْه نبل قدره وَمن كتب الحَدِيث قويت حجَّته وَمن نظر فِي النَّحْو رق طبعه وَمن لم يصن نَفسه لم يصنه الْعلم انْتهى

وَيلْزم صَاحب الحَدِيث أَن يعرف الصَّحَابَة المؤدين للدّين عَن نَبِيّهم ص ويعتني بسيرهم وفضائلهم وَيعرف أَحْوَال الناقلين عَنْهُم وأيامهم وأخبارهم حَتَّى يقف على الْعُدُول مِنْهُم غير الْعُدُول وَهُوَ أَمر قريب كُله على من اجْتهد فَمن طلب الأمامة فِي الدّين وَأحب أَن يسْلك سَبِيل الَّذين جَازَ لَهُم الْفَتْوَى نظر فِي أقاويل الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَالْأَئِمَّة فِي الْفِقْه إِن قدر على ذَلِك نأمره بِهِ كَمَا أمرناه بِالنّظرِ فِي أقاويلهم فِي تَفْسِير الْقُرْآن فَمن أحب الِاقْتِصَار على أقاويل عُلَمَاء الْحجاز اقتفى وَاكْتفى إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَإِن أحب الإشراف على مَذَاهِب الْفُقَهَاء متقدميهم ومتأخريهم بالحجاز وَالْعراق وَأحب الْوُقُوف على مَا أخذُوا أَو تركُوا من السّنَن وَمَا اخْتلفُوا تثبيته وتأويله من الْكتاب وَالسّنة كَانَ ذَلِك مُبَاحا ووجها مَحْمُودًا أَن سلم من التخلليط نَالَ دَرَجَة رفيعة وَوصل إِلَى جسيم من الْعلم وَاسع ونبل إِذا فهم مَا اطلع وَهَذَا يحصل الرسوخ لمن فقهه الله تَعَالَى وصبر على هَذَا الشَّأْن واستحلى مرارته وَاحْتمل ضيق الْمَعيشَة فِيهِ

وَاعْلَم رَحِمك الله تَعَالَى أَن طلب الْعلم فِي زَمَاننَا هَذَا وَفِي بلدنا قد حاد أَهله عَن طَرِيق سلفهم وسلكوا فِي ذَلِك مالم يعرفهُ أئمتهم وابتدعوا فِي ذَلِك مَا بَان بِهِ جهلهم وتقصيرهم عَن مَرَاتِب الْعلمَاء قبلهم فطائفة تروي الحَدِيث وتسمعه قد رضيت بالدؤب فِي جَمِيع مَالا يفهم وقنعت بِالْجَهْلِ فِي حمل مَالا يعلم فَجمعُوا الغث والسمين وَالصَّحِيح والسقيم وَالْحق وَالْكذب فِي كتاب وَاحِد وَرُبمَا فِي ورقة وَاحِدَة ويدينون بالشَّيْء وضده وَلَا يعْرفُونَ مَا فِي ذَلِك عَلَيْهِم

ص: 80

قد شغلوا أنفسهم بالاستكتاب عَن التدبر وَالِاعْتِبَار فألسنتهم تروي الْعلم وَقُلُوبهمْ قد خلت من الْفَهم غَايَة معرفَة أحدهم معرفَة الْكتب الغريبة وَالِاسْم الْغَرِيب والْحَدِيث الْمُنكر وتجده قد جهل مَالا يكَاد يسع أحدا جَهله من علم صلَاته وحجه وزكاته وَطَائِفَة هِيَ فِي الْجَهْل كتلك أَو أَشد لم يعنوا بِحِفْظ سنة وَلَا بِأَصْل من الْقُرْآن وَلَا اعتنوا بِكِتَاب الله عز وجل فحفظوا تَنْزِيله وَلَا عرفُوا مَا للْعُلَمَاء فِي تَأْوِيله وَلَا وقفُوا على أَحْكَامه وَلَا تفقهوا فِي حَلَاله وَحَرَامه وَقد طرحوا علم السّنَن والْآثَار وزهدوا فِيهَا وأضربوا عَنْهَا فَلم يعرفوا الْإِجْمَاع من الِاخْتِلَاف وَلَا فرقوا بَين التَّنَازُع والائتلاف بل عولوا على حفظ مَا دون لَهُم من الرَّأْي وَالِاسْتِحْسَان الَّذِي كَانَ عِنْد الْعلمَاء آخر الْعلم وَالْبَيَان وَكَانَ الْأَئِمَّة يَبْكُونَ على مَا سلف وَسبق لَهُم فِيهِ ويودون أَن حظهم السَّلامَة مِنْهُ

وَمن حجَّة هَذِه الطَّائِفَة فِيمَا عولوا عَلَيْهِ من ذَلِك أَنهم يقصرون وينزلون عَن مَرَاتِب من لَهُ القَوْل فِي الدّين لجهلهم بأصوله وَأَنَّهُمْ مَعَ الْحَاجة إِلَيْهِم لَا يستغنون عَن أجوبة النَّاس فِي مسائلهم وأحكامهم فَلذَلِك اعتمدوا على مَا قد كفاهم الْجَواب فِيهِ غَيرهم وهم مَعَ ذَلِك لَا ينفكون من وُرُود النَّوَازِل عَلَيْهِم فِيمَا لم يقدمهم فِيهِ إِلَى الْجَواب غَيرهم فهم يقيسون على مَا حفظوا من تِلْكَ الْمسَائِل ويعرضون الْأَحْكَام فِيهَا ويستدلون مِنْهَا ويتركون طَرِيق الِاسْتِدْلَال من حَيْثُ اسْتدلَّ الْأَئِمَّة وعلماء الْأمة فَجعلُوا مَا يحْتَاج أَن يسْتَدلّ عَلَيْهِ دَلِيلا على غَيره وَلَو علمُوا أصُول الدّين وَطَرِيق الْأَحْكَام وحفظوا السّنَن كَانَ ذَلِك قُوَّة لَهُم على مَا ينزل بهم وَلَكنهُمْ جهلوا ذَلِك فعادوه وعادوا صَاحبه فهم يفرطون فِي انتقاص الطَّائِفَة الأولى وتجهيلهم وعيبهم وَتلك تعيب هَذِه بضروب من الْعَيْب وَكلهمْ يجاوزون الْحَد فِي الذَّم وَعند كل وَاحِد من الطَّائِفَتَيْنِ خير كَبِير وَعلم كَبِير أما أُولَئِكَ فكالخزان الصَّيْد لاعبين وَهَؤُلَاء فِي جهل مَعَاني مَا حملوه مثلهم إِلَّا أَنهم كالمعالجين بِأَيْدِيهِم الْعِلَل لَا يقضون على حَقِيقَة الدَّاء المولد لَهَا وَلَا على حَقِيقَة طبيعة الدَّوَاء المعالج بِهِ فَأُولَئِك أقرب إِلَى السَّلامَة فِي العاجل والآجل وَهَؤُلَاء أَكثر فَائِدَة فِي العاجل وأكبر ضَرَرا فِي الآجل وَإِلَى الله تَعَالَى نفزع فِي التَّوْفِيق لما يقرب من رِضَاهُ وَيُوجب السَّلامَة من سخطه فَإِنَّمَا ينَال ذَلِك برحمته وفضله

وَاعْلَم يَا أخي أَن المفرط فِي حفظ المولدات لَا يُؤمن عَلَيْهِ الْجَهْل بِكَثِير من السّنَن إِذا لم يكن تقدم علمه بهَا وَأَن المفرط فِي حفظ طرق الْآثَار دون الْوُقُوف على مَعَانِيهَا وَمَا قَالَ الْفُقَهَاء فِيهَا لصِغَر من الْعلم وكلا مِنْهَا قَانِع بالشم من الْمطعم وَمن الله سُبْحَانَهُ التَّوْفِيق والحرمان

ص: 81

وَهُوَ حسبي وَبِه أَعْتَصِم

وَاعْلَم يَا أخي أَن الْفُرُوع لَا حد لَهَا يَنْتَهِي إِلَيْهِ أبدا وَلذَلِك تشعبت فَمن رام أَن يُحِيط بآراء الرِّجَال فقد رام مَالا سَبِيل لَهُ وَلَا لغيره إِلَيْهِ لِأَنَّهُ لَا يزَال يرد عَلَيْهِ مَالا يسمع وَلَعَلَّه أَن ينسى أول ذَلِك بِآخِرهِ لكثرته فَيحْتَاج أَن يرجع إِلَى الاستنباط الَّذِي كَانَ يفزع مِنْهُ ويجبن عَنهُ تورعا بِزَعْمِهِ أَن غَيره كَانَ أدرى بطرِيق الاستنباط فَلذَلِك عول على حفظ قَوْله ثمَّ إِن الإِمَام يضطره إِلَى الاستنباط مَعَ جَهله بالأصول فَجعل الرَّأْي أصلا واستنبط عَلَيْهِ وَأنزل الرَّأْي منزلَة كتاب الله تَعَالَى وَسنة رَسُوله ص إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون

وَاعْلَم أَنه لم يكن مناظرة بَين اثْنَيْنِ أَو جمَاعَة من السّلف إِلَّا ليتفهم وَجه الصَّوَاب فيصار إِلَيْهِ وَيعرف أصل القَوْل وعلته فتجري عَلَيْهِ أمثلته ونظائره وعَلى هَذَا النَّاس فِي كل الْبِلَاد إِلَّا عندنَا كَمَا شَاءَ رَبنَا وَعند من سلك سبيلنا من الْمغرب فَإِنَّهُم لَا يُقِيمُونَ علته وَلَا يعْرفُونَ لِلْقَوْلِ وَجها وَحسب أحدهم أَن يَقُول فِيهَا رِوَايَة لفُلَان وَرِوَايَة لفُلَان وَمن خَالف عِنْدهم الرِّوَايَة الَّتِي لَا يقف على مَعْنَاهَا وَأَصلهَا وَصِحَّة وَجههَا فَكَأَنَّهُ قد خَالف نَص الْكتاب وثابت السّنة ويجيزون حمل الرِّوَايَات المتضادة فِي الْحَلَال وَالْحرَام وَذَلِكَ خلاف أصل مَالك رَحمَه الله تَعَالَى وَكم لَهُم من خلاف أصُول مذْهبه مِمَّا لَو ذكرنَا لطال الْكتاب بِذكرِهِ ولتقصيرهم عَن علم أصُول مَذْهَبهم صَار أحدهم إِذا لَقِي مُخَالفا مِمَّن يَقُول بقول أبي حنيفَة أَو الشَّافِعِي وَغَيرهم من الْفُقَهَاء وَخَالفهُ فِي أصل قَوْله بَقِي متحيرا وَلم يكن عِنْده أَكثر من حِكَايَة قَول صَاحبه فَقَالَ هَذَا قَالَ فلَان وَهَكَذَا روينَا ولجأ إِلَى أَن يذكر فضل مَالك ومنزلته فَإِن عَارضه الآخر بِذكر فضل إِمَامه أَيْضا صَار فِي الْمثل كَمَا قَالَ الأول

شَكَوْنَا إِلَيْهِم خراب الْعرَاق

فعابوا علينا شحوم الْبَقر

وَفِي مثل ذَلِك يَقُول مُنْذر بن سعيد

عذيري من قوم يَقُولُونَ كلما

طلبت دَلِيلا هَكَذَا قَالَ مَالك

وَإِن عدت قَالُوا هَكَذَا قَالَ أَشهب

وَقد كَانَ لَا يخفى عَلَيْهِ المسالك

وَإِن زِدْت قَالُوا قَالَ سَحْنُون مثله

وَمن لم يقل مَا قَالَه فَهُوَ آفك

فَإِن قلت قَالَ الله ضجوا أَو أَكْثرُوا

وَقَالُوا جَمِيعًا أَنْت قرن مماحك

وَإِن قلت قد قَالَ الرَّسُول فَقَوْلهم

أَتَت مَالِكًا فِي ترك ذَاك المآلك

ص: 82

وأجازوا النّظر فِي اخْتِلَاف أهل مصر وَغَيرهم من أهل الْمغرب فِيمَا خالفوا فِيهِ مَالِكًا من غير أَن يعرفوا وَجه قَول مَالك وَلَا وَجه قَول مخالفه وَلم يبيحوا النّظر فِي كتب من خَالف مَالِكًا إِلَى دَلِيل يُبينهُ وَوجه يقيمه لقَوْله وَقَول مَالك جهلا مِنْهُم وَقلة نصح وخوفا من أَن يطلع الطَّالِب على مَا هم فِيهِ من النَّقْص والقصور فيزهد فيهم وهم مَعَ مَا وَصفنَا يعيبون من خالفهم ويغتابونه ويتجاوزون الْقَصْد فِي ذمه ليوهموا السَّامع أَنهم على حق وَأَنَّهُمْ أولى باسم الْعلم وهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن مَاء حَتَّى إِذا جَاءَهُ لم يجده شَيْئا وَأَن اشبه الْأُمُور بِمَا هم عَلَيْهِ مَا قَالَه مَنْصُور الْفَقِيه

خالفوني وأنكروا مَا أَقُول

قلت لَا تعجلوا فَإِنِّي سئول

مَا تَقولُونَ فِي الْكتاب فَقَالُوا

هُوَ نور على الصَّوَاب دَلِيل

وَكَذَا سنة الرَّسُول وَقد أَفْلح

من قَالَ مَا يَقُول الرَّسُول

واتفاق الْجَمِيع أصل وَمَا يُنكر

هَذَا وَذَا وَذَاكَ الْعُقُول

وَكَذَا الحكم بِالْقِيَاسِ فَقُلْنَا

من جميل الرِّجَال يَأْتِي الْجَمِيل

فتعالوا نرد من كل قَول

مَا نفى الأَصْل أَو نفته الْأُصُول

فَأَجَابُوا فنوظروا فَإِذا الْعلم

لديهم هُوَ الْيَسِير الْقَلِيل

فَعَلَيْك يَا أخي بِحِفْظ الْأُصُول والعناية بهَا وَاعْلَم أَن من عني بِحِفْظ السّنَن وَالْأَحْكَام المنصوصة فِي الْقُرْآن وَنظر فِي أقاويل الْفُقَهَاء فَجعله عونا لَهُ على اجْتِهَاده ومفتاحا لطريق النّظر وَتَفْسِير لمجمل السّنَن المحتملة للمعاني وَلم يُقَلّد أحدا مِنْهُم تَقْلِيد السّنَن الَّتِي يجب الانقياد إِلَيْهَا على كل حَال وَدون نظرا وَلم يرح نَفسه مِمَّا أَخذ الْعلمَاء بِهِ أنفسهم من حفظ السّنَن وتدبرها واقتدائهم فِي الْبَحْث والتفهم وَالنَّظَر وَالشُّكْر لَهُم سَعْيهمْ فِيمَا أفادوه ونبهوا عَلَيْهِ وحمدهم على صوابهم الَّذِي هُوَ أَكثر أَقْوَالهم وَلم يبرئهم من الزلل عَمَّا لم يبرءوا أنفسهم مِنْهُ فَهَذَا الطَّالِب المتمسك بِمَا عَلَيْهِ السّلف الصَّالح وَهُوَ الْمُصِيب لحظه والمعاين لرشده والمتبع لسنة نبيه ص وهدي صحابته وَمن أعفى نَفسه من النّظر وأضرب عَمَّا ذكرنَا وعارض السّنَن بِرَأْيهِ ورام أَن يردهَا إِلَى مبلغ نظره فَهُوَ ضال مضل وَمن جهل ذَلِك كُله أَيْضا وتقحم فِي الْفَتْوَى فَهُوَ أَشد عمى وأضل سَبِيلا

لقد أسمعت لَو ناديت حَيا

وَلَكِن لَا حَيَاة لمن تنادي

وَلَقَد علمت أَنِّي لَا اسْلَمْ من جَاهِل معاند لَا يعلم

وَلست بناج من مقَالَة طَاعن

وَلَو كنت فِي غَار على جبل وعر

وَمن ذَا الَّذِي ينجو من النَّاس سالما

وَلَو غَابَ عَنْهُم بَين خافيتي نسر

ص: 83

وَاعْلَم يَا أخي أَن السّنَن وَالْقُرْآن هما اصل الرَّأْي والعيار عَلَيْهِ وَلَيْسَ الرَّأْي بالعيار على السّنة بل السّنة عيار عَلَيْهِ وَمن جهل الأَصْل لم يصب الْفَرْع أبدا وَقَالَ ابْن وهب حَدثنِي مَالك أَن أياس بن مُعَاوِيَة قَالَ لِرَبِيعَة إِن الشَّيْء إِذا بني على عوج لم يكد يعدل قَالَ مَالك يُرِيد بذلك الْمُفْتِي الَّذِي يتَكَلَّم على غير أصل بنى عَلَيْهِ كَلَامه

قَالَ أَبُو عمر وَلَقَد أحسن صَالح بن عبد القدوس حَيْثُ يَقُول

يَا أَيهَا الدارس علما أَلا

تلمس العون على درسه

لن تبلغ الْفَرْع الَّذِي رمته

إِلَّا ببحث مِنْك عَن أسه

ولمحمود الْوراق

القَوْل مَا صدقه الْفِعْل

وَالْفِعْل مَا صدقه القَوْل

لَا يثبت الْفَرْع إِذا لم يكن

يقلهُ من تحتام الأَصْل

وَمن أَبْيَات لِابْنِ معدان

وكل ساع بِغَيْر علم

فرشده غير مستبان

وَالْعلم حق لَهُ ضِيَاء

فِي الْقلب وَالْعقل وَاللِّسَان

وَعَن أبي الدَّرْدَاء أَنه كَانَ يَقُول لن تزالوا بِخَير مَا أَحْبَبْتُم خياركم وَمَا قيل فِيكُم الْحق فعرفتموه فَإِن عارفه كفاعله

وَقَالَ ابْن وهب عَن مَالك سَمِعت ربيعَة يَقُول لَيْسَ الَّذِي يَقُول الْخَيْر ويفعله بِخَير من الَّذِي يسمعهُ ويقبله

وَقَالَ مَالك قَالَ ذَاك الْمثنى على عمر بن الْخطاب مَا كَانَ بأعلمنا وَلكنه كَانَ أَسْرَعنَا رُجُوعا إِذا سمع الْحق

قَالَ أَبُو عمر رحمه الله الْقَائِل

لقد بَان للنَّاس الْهدى غير أَنهم

غدوا بجلابيب الْهوى قد تجلببوا

وَقد صَحَّ أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ لَا تزَال طَائِفَة من أمتِي على الْحق منصورين حَتَّى يَأْتِي أَمر الله

وَقَالَ أَبُو الْعَتَاهِيَة

رَأَيْت الْحق لَا تخفى ولاتحصى شواكله

لعمرك مَا اسْتَوَى فِي الْأَمر عالمه وجاهله

وَله أَيْضا

إِذا اتَّضَح الصَّوَاب فَلَا تَدعه

فَإنَّك كلما ذقت الصوابا

ص: 84

.. وجدت لَهُ على اللهوات بردا

كبرد المَاء حِين صفا وطابا

وَلَيْسَ بحاكم من لَا يُبَالِي

أأخطأ فِي الْحُكُومَة أم أصابا

قَالَ الْحَافِظ أَبُو عمر بن عبد البر فِي كتاب الْعلم الَّذِي عَلَيْهِ جمَاعَة فُقَهَاء الْمُسلمين وعلماؤهم ذمّ الْإِكْثَار يَعْنِي من الحَدِيث دون تفقه فِيهِ وَلَا تدبر وَالْمُكثر لَا يَأْمَن من مواقعة الْكَذِب على رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لرِوَايَة عَمَّن يُؤمن وَعَمن لَا يُؤمن وَقَالَ فِي مَوضِع آخر أما طلب الحَدِيث على مَا يَطْلُبهُ كثير من أهل عصرنا الْيَوْم دون تفقه فِيهِ وَلَا تدبر لمعانيه فمكروه عِنْد جمَاعَة أهل الْعلم وروى بِسَنَدِهِ إِلَى يحيى بن الْيَمَان أَنه قَالَ يكْتب أحدكُم الحَدِيث وَلَا يتفهم وَلَا يتدبر فَإِذا سُئِلَ أحدكُم عَن مَسْأَلَة جلس كَأَنَّهُ مكاسب قَالَ أَبُو عمر وَفِي مثل هَذَا يَقُول الشَّاعِر

زوامل للأسفار لَا علم عِنْدهم

بجيدها إِلَّا كعلم الأباعر

لعمرك لَا يدْرِي الْبَعِير إِذا غدى

بأحماله أَو رَاح مَا فِي الغرائر

وَقَالَ عمار الْكَلْبِيّ

إِن الروَاة على جهل بِمَا حملُوا

مثل الْجمال عَلَيْهَا يحمل الودع

لَا الودع يَنْفَعهُ حمل الْجمال لَهُ

وَلَا الْجمال بِحمْل الودع تنْتَفع

وَأنْشد الْخُشَنِي رحمه الله

قطعت بِلَاد الله للْعلم طَالبا

فَحملت أسفارا فصرت حمارها

إِذا مَا اراد الله حتفا بنملة

أتاح أباحين لَهَا فأطارها

وَقَالَ الْمُنْذر بن سعيد

أنْفق بِمَا شِئْت تَجِد أنصارا

وَدم أسفارا تَجِد حمارا

تحمل مَا وضعت من أسفار

مثلته كَمثل الْحمار

يحمل أسفارا لَهُ وَمَا درى

أَكَانَ مَا فِيهَا صَوَابا أم خطا

إِن سئلوا قَالُوا كَذَا روينَا

لَا إِن كذبنَا لَا وَلَا اعتدينا

كَبِيرهمْ يصغر عِنْد الْفَحْل

لِأَنَّهُ قلد أهل الْجَهْل

انْتهى

قلت وَلَقَد صدق أَبُو عمر فِي محدثي زَمَانه أهل الْمِائَة الْخَامِسَة فَكيف بمحدثي الْقرن الثَّالِث عشر الَّذين يقرءُون الحَدِيث كَمَا يقْرَأ صغَار الْكتاب الْقُرْآن بل قِرَاءَة صغَار الْكتاب الْقُرْآن أحسن لِأَن صغَار الْكتاب يُقِيمُونَ أَلْفَاظه أحسن إِقَامَة ومحدثوا زَمَاننَا يلحنون فِي الحَدِيث لحنا فَاحِشا لَا يشتغلون بفهم مَعْنَاهُ وَإِذا دلّ الحَدِيث على حكم شَرْعِي دلَالَة ظَاهِرَة يحذرون الْعَوام الَّذين يحْضرُون دروسهم بِأَن الْعَمَل لَيْسَ على هَذَا الحَدِيث وَيَقُولُونَ لَا يجوز الْعَمَل بِالْحَدِيثِ بل يكره

ص: 85

تَحْرِيمًا وَأَن الْعَامِل بِالْحَدِيثِ يصب على فَمه الرصاص والنحاس ويخشى عَلَيْهِ سوء الخاتمة وَنَحْو هَذِه الالفاظ ولعمري إِن لم يكن فِي هَذَا ارتداد فَهُوَ قريب مِنْهُ وَمِنْهُم من يَقُول لَو ورد عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم مائَة حَدِيث صَحِيح سَالم عَن الْمعَارض لَا يعْمل بهَا إِلَّا إِذا عمل بهَا إِمَامه الَّذِي يَقْتَدِي بِهِ فَتَأمل هَذِه الْعبارَة الشنيعة إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون

وَقَالَ الْحَافِظ أَبُو عمر أَيْضا لَا خلاف بَين أَئِمَّة الْإِنْصَاف فِي فَسَاد التَّقْلِيد فأغنى ذَلِك عَن الْإِكْثَار

وَقَالَ ايضا يُقَال لمن قَالَ بالتقليد لم قلت بِهِ وخالفت السّلف فِي ذَلِك فَإِنَّهُم لم يقلدوا فَإِن قَالَ قلدت لِأَن كتاب الله عز وجل لَا علم لي بتأويله وَسنة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لم أحصها وَالَّذِي قلدته قد علم ذَلِك فقلدت من هُوَ أعلم مني قيل لَهُ أما الْعلمَاء إِذا أَجمعُوا على شَيْء من تَأْوِيل الْكتاب أَو حِكَايَة سنة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَو اجْتمع رَأْيهمْ على شَيْء فَهُوَ الْحق لَا شكّ فِيهِ وَلَكِن قد اخْتلفُوا فِيمَا قلدت فِيهِ بَعضهم دون بعض فَمَا حجتك فِي تَقْلِيد بعض دون بعض وَكلهمْ عَالم وَلَعَلَّ الَّذِي رغبت عَن قَوْله أعلم من الَّذِي ذهبت إِلَى مذْهبه فَإِن قَالَ قلدته لِأَنِّي علمت أَنه صَوَاب قيل لَهُ علمت ذَلِك من كتاب أَو سنة أَو إِجْمَاع فَإِن قَالَ نعم فقد أبطل التَّقْلِيد وطولب بِمَا ادَّعَاهُ من الدَّلِيل وَإِن قَالَ قلدته لِأَنَّهُ أعلم مني قيل لَهُ فقلد كل من هُوَ أعلم مِنْك فَإنَّك تَجِد من ذَلِك خلقا كثيرا وَلَا يخص من قلدته إِذْ علتك فِيهِ أَنه أعلم مِنْك فَإِن قَالَ قلدته لِأَنَّهُ أعلم النَّاس قيل لَهُ فَهُوَ إِذا أعلم من الصَّحَابَة وَكفى بقول مثل هَذَا قبحا وَإِن قَالَ إِنَّمَا أقلد بعض الصَّحَابَة قيل لَهُ فَمَا حجتك فِي ترك من لم تقلد مِنْهُم وَلَعَلَّ من تركت قَوْله مِنْهُم أفضل مِمَّن أخذت بقوله على أَن القَوْل لَا يَصح لفضل قَائِله وَإِنَّمَا يَصح بِدلَالَة الدَّلِيل عَلَيْهِ

وَقد ذكر ابْن فرين عَن عِيسَى بن دِينَار عَن ابْن الْقَاسِم عَن مَالك قَالَ لَيْسَ كل مَا قَالَ رجل قولا وَإِن كَانَ لَهُ فضل يتبع عَلَيْهِ لقَوْل الله تَعَالَى {الَّذين يَسْتَمِعُون القَوْل فيتبعون أحْسنه} فَإِن قَالَ قصري وَقلة همتي وَعلمِي يحملني على التَّقْلِيد قيل لَهُ أما من قلد فِي نازلة مُعينَة تنزل بِهِ من أَحْكَام الشَّرِيعَة عَالما يتَّفق لَهُ على علمه فيصدر فِي ذَلِك علما يخبر بِهِ فمعذور لِأَنَّهُ قد أَتَى مَا عَلَيْهِ وَأدّى مَا لزمَه فِيمَا نزل بِهِ لجهله وَلَا بُد لَهُ من تَقْلِيد عالمه فِيمَا جله لإجتماع الْمُسلمين أَن المكفوف يُقَلّد من يَثِق بِخَبَرِهِ فِي الْقبْلَة لِأَنَّهُ لَا يقدر على أَكثر من ذَلِك وَلَكِن من كَانَت هَذِه حَاله هُوَ يجوز لَهُ الْفَتْوَى فِي شرائع دين الله تَعَالَى فَيحمل غَيره على إِبَاحَة الْفروج وإراقة الدِّمَاء واسترقاق الرّقاب وَإِزَالَة الْأَمْلَاك وتصييرها إِلَى غير من كَانَت فِي يَده بقول لَا يعرف صِحَّته وَلَا قَامَ لَهُ الدَّلِيل عَلَيْهِ وَهُوَ مقرّ أَن قَائِله يُخطئ ويصيب وَإِن خَالفه فِي ذَلِك رُبمَا كَانَ الْمُصِيب فِيمَا خَالفه فِيهِ فَإِن أجَاز الْفَتْوَى لمن جهل الأَصْل وَالْمعْنَى لحفظه الْفُرُوع لزمَه أَن يُجِيزهُ للعامة

ص: 86

وَكفى بِهَذَا جهلا وردا لِلْقُرْآنِ قَالَ الله تَعَالَى {وَلَا تقف مَا لَيْسَ لَك بِهِ علم} وَقَالَ {أتقولون على الله مَا لَا تعلمُونَ} وَقد أجمع الْعلمَاء أَن مالم يتَبَيَّن ويستيقن فَلَيْسَ بِعلم وَإِنَّمَا هُوَ الظَّن وَالظَّن لَا يُغني من الْحق شَيْئا انْتهى

قلت وَقد مضى فِي الْمُقدمَة مَا يدل على فَسَاد التَّقْلِيد من الْآثَار فَلَا وَجه للإعادة والتكرار وَقَالَ الْحَافِظ أَبُو عمر بن عبد البر فِي التَّمْهِيد عِنْد كَلَامه على حَدِيث أبي هُرَيْرَة أكل كل ذِي نَاب من السبَاع حرَام وَهُوَ أول حَدِيث لإسماعيل بن أبي حَكِيم مَا نَصه قَالَ أَبُو عمر لَيْسَ أحد إِلَّا هُوَ يُؤْخَذ من قَوْله وَيتْرك إِلَّا النَّبِي صلى الله عليه وسلم فَإِنَّهُ لَا يتْرك من قَوْله إِلَّا مَا يتْرك هُوَ وينسخه قولا وَعَملا وَالْحجّة مَا قَالَه ص لَيْسَ فِي قَول غَيره لَا حجَّة وَمن ترك قَول عَائِشَة فِي رضَاع الْكَبِير وَلبن الْفَحْل وَقَول ابْن عَبَّاس فِي الْمُتْعَة وَغير ذَلِك من أقاويله وَترك قَول عمر فِي تبدية الْمُدعى عَلَيْهِ بِالْيَمِينِ فِي الْقسَامَة وَفِي أَن الْجنب لَا يتَيَمَّم وَترك قَول ابْن عمر فِي كَرَاهَة الْوضُوء بِمَاء الْبَحْر وسؤر الْجنب وَالْحَائِض وَغير ذَلِك وَترك قَول عَليّ عليه السلام فِي أَن الْمُحدث فِي الصَّلَاة يبْنى على مامضى مِنْهَا وَفِي أَن بني تغلب لَا تُؤْكَل ذَبَائِحهم

ص: 87

وَغير ذَلِك مَا من روى عَنهُ كَيفَ يستوحش من مُفَارقَة وَاحِد مِنْهُم وَمَعَهُ السّنة الثَّابِتَة عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَهُوَ الملجأ عِنْد الِاخْتِلَاف وَغير نَكِير أَن يخفى على الصاحب والصاحبين وَالثَّلَاثَة السّنة المأثورة عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَلا ترى أَن عمر فِي سَعَة علمه وَكَثْرَة لُزُومه لرَسُول الله صلى الله عليه وسلم قد خَفِي عَلَيْهِ من تَوْرِيث الْمَرْأَة من دِيَة زَوجهَا وَحَدِيث دِيَة الْجَنِين وَحَدِيث الاسْتِئْذَان مَا علمه غَيره وخفي على ابي بكر حَدِيث تَوْرِيث الْجدّة فغيرهما أَحْرَى أَن يخفى عَلَيْهِ السّنة فِي خَواص الْأَحْكَام وَلَيْسَ شَيْء من هَذَا بضارهم وَقد كَانَ ابْن شهَاب وَهُوَ حبر عَظِيم من أَحْبَار هَذَا الدّين يَقُول مَا سَمِعت بِالنَّهْي عَن أكل كل ذِي نَاب من السبَاع حَتَّى دخلت الشَّام وَالْعلم الْخَاص لَا يُنكر أَن يخفى على الْعَالم انْتهى

وَقَالَ فِي مَوضِع آخر روى ابْن الْقَاسِم عَن مَالك السبَاع إِذا ذكيت بِجُلُودِهَا حل بيعهَا ولباسها وَالصَّلَاة عَلَيْهَا وروى أَشهب عَن مَالك أَن مَالا يُؤْكَل لَحْمه لَا يطهر جلده بالدباغ وَقَالَ مُحَمَّد بن عبد الحكم وَحَكَاهُ عَن أَشهب لَا يجوز تذكية السبَاع وَإِن ذكيت بِجُلُودِهَا لم يحل الِانْتِفَاع بِشَيْء من جلودها إِلَّا أَن يدبغ قَالَ أَبُو عمر قَول ابْن عبد الحكم وَمَا حَكَاهُ أَيْضا عَن أَشهب عَلَيْهِ الْفُقَهَاء من أجل النّظر والأثر بالحجاز وَالْعراق وَالشَّام وَهُوَ الصَّحِيح الَّذِي يشبه أصل مَالك فِي ذَلِك وَلَا يَصح أَن يتقلد غَيره لوضوح الدَّلَائِل عَلَيْهِ وَلَو لم يعْتَبر ذَلِك إِلَّا بِمَا ذبحه الْمحرم أَو ذبح فِي الْحرم إِذْ ذَاك لَا يكون ذَكَاة لأجل النَّهْي الْوَارِد وبالخنزير أَيْضا وَقد أجمع الْمُسلمُونَ أَن الْخلاف لَيْسَ بِحجَّة وَأَن عِنْده يلْزم طلب الدَّلِيل وَالْحجّة لتبين الْحق مِنْهُ وَقد بَان الدَّلِيل الْوَاضِح من السّنة الثَّابِتَة فِي تَحْرِيم السبَاع ومحال أَن تعْمل فِيهَا الذَّكَاة وَإِذا لم تعْمل فِيهَا الذَّكَاة فَأكْثر أحوالها أَن تكون ميتَة فَتطهر بالدباغ هَذَا أصح الْأَقَاوِيل فِي هَذَا الْبَاب وَلما رَوَاهُ أَشهب عَن مَالك وَجه أَيْضا وَأما مَا رَوَاهُ ابْن الْقَاسِم عَن مَالك فَلَا وَجه لَهُ يَصح إِلَّا مَا ذكرنَا من تأويلهم فِي النَّهْي أَنه على التَّنْزِيه لَا على التَّحْرِيم وَهَذَا تَأْوِيل ضَعِيف لَا يعضده دَلِيل صَحِيح وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق انْتهى

قلت فقد بَان بِمَا ذكره أَبُو عمر ضعف مَا أَصله الْمُتَأَخّرُونَ من مُقْتَضى الْمَالِكِيَّة أَن قَول مَالك فِي الْمُدَوَّنَة مقدم على قَول غَيره فِيهَا وَفِي غَيرهَا وَقَول ابْن الْقَاسِم فِي الْمُدَوَّنَة مقدم على قَول غَيره فِيهَا وَفِي غَيرهَا إِلَى آخر مَا أصلوا وَأَن القَوْل إِنَّمَا يتَرَجَّح بِالدَّلِيلِ من الْكتاب وَالسّنة أَو الْإِجْمَاع أَو الْقيَاس عَلَيْهَا لَا بِمُجَرَّد وجوده فِي كتاب معِين كالمدونة لِأَن رِوَايَة ابْن الْقَاسِم الَّتِي ضعفها أَبُو عمر هُنَا فِي الْمُدَوَّنَة وَقَول أَشهب وَابْن عبد الحكم الَّذِي صَححهُ هُنَا لَيْسَ

ص: 88

فِي الْمُدَوَّنَة وَإِنَّمَا هُوَ فِي الْعُتْبِيَّة وَقد لهج الْمُتَأَخّرُونَ من الْمَالِكِيَّة بترجيح القَوْل وَالرِّوَايَة بِمُجَرَّد وجودهَا فِي الْمُدَوَّنَة وَلَو خَالف الْكتاب وَالسّنة الصَّحِيحَة الْمجمع على صِحَّتهَا كَمَا فِي مَسْأَلَة سدل الْيَدَيْنِ فِي الصَّلَاة وردوا الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة السالمة من الْمُعَارضَة والنسخ وتركوها لأجل رِوَايَة ابْن الْقَاسِم فِي الْمُدَوَّنَة عَن مَالك مَعَ أَن رِوَايَة الْقَبْض ثَابِتَة عَن مَالك وَأَصْحَابه بروايات الثِّقَات من أَصْحَابه وَغَيرهم

وَقَالَ الْمُحَقق الْعَلامَة الْمقري فِي قَوَاعِده لَا يجوز اتِّبَاع ظَاهر نَص الإِمَام مَعَ مُخَالفَته لأصول الشَّرِيعَة عِنْد حذاق الشُّيُوخ قَالَ الْبَاجِيّ لَا أعلم قولا أَشد خلافًا على مَالك من أهل الأندلس لِأَن مَالِكًا لَا يُجِيز تَقْلِيد الروَاة عَنهُ عِنْد مخالفتهم الْأُصُول وهم لَا يعتمدون على ذَلِك انْتهى وَقَالَ أَيْضا قَاعِدَة لَا يجوز رد الْأَحَادِيث إِلَى الْمَذْهَب على وَجه ينقص من بهجتها وَيذْهب بالثقة بظاهرها فَإِن ذَلِك فَسَاد لَهَا وَحط من منزلتها لَا أصلح الله الْمذَاهب لفسادها وَلَا رَفعهَا بخفض درجاتها فَكل كَلَام يُؤْخَذ مِنْهُ وَيرد إِلَّا مَا صَحَّ لنا عَن مُحَمَّد ص بل لَا يجوز الرَّد مُطلقًا لِأَن الْوَاجِب أَن ترد الْمذَاهب إِلَيْهَا كَمَا قَالَ الشَّافِعِي وَغَيره لَا أَن ترد هِيَ إِلَى الْمذَاهب كَمَا تسَامح فِيهِ بعض الْحَنَفِيَّة خُصُوصا وَالنَّاس عُمُوما إِذْ ظَاهرهَا حجَّة على من خالفها حَتَّى يَأْتِي بِمَا يقاومها فنطلب الْجمع مُطلقًا وَمن وَجه على وَجه لَا يصير الْحجَّة أحجية وَلَا يُخرجهَا عَن طرق المخاطبات الْعَامَّة الَّتِي ابتنى عَلَيْهَا الشَّرْع وَلَا يخل بطرق البلاغة والفصاحة الَّتِي جرت من صَاحبه مجْرى الطَّبْع فَإِن لم يُوجد طلب التَّارِيخ للنسخ فَإِن لم يكن طلب التَّرْجِيح وَلَو بِالْأَصْلِ وَإِلَّا تساقطا فِي حكم المناظرة وَسلم لكل مَا عِنْده وَوَجَب الْوَقْف والتخيير فِي حكم الِانْتِقَال وَجَاز الِانْتِقَال على الاصح قَاعِدَة لَا يجوز التعصب للمذاهب بالانتصاب للانتصار بِوَضْع الْحجَّاج وتقريرها على الطّرق الجدلية مَعَ اعْتِقَاد الْخَطَأ والمرجوحية عِنْد الْمُجيب كَمَا يَفْعَله أهل الْخلاف إِلَّا على وَجه التدريب على نصب الْأَدِلَّة والتعليم لسلوك الطَّرِيق بعد بَيَان مَا هُوَ الْحق فَالْحق أَعلَى من أَن يعلى وأغلب من أَن يغلب وَذَلِكَ أَن كل من يَهْتَدِي لنصب الْأَدِلَّة وَتَقْرِير الْحجَّاج لَا يرى الْحق أبدا فِي جِهَة رجل قطعا ثمَّ إِنَّا لَا نرى منصفا فِي الْخلاف ينتصر لغير مَذْهَب صَاحبه مَعَ علمنَا بِرُؤْيَة الْحق فِي بعض آراء مخالفيه وَهَذَا تَعْظِيم للمقلدين بتحقير الدّين وإيثار الْهوى على الْهدى وَلم يتبع الْحق أهواءهم وَللَّه در عَليّ رضي الله عنه أَي بَحر علم ضم جنباه إِذْ قَالَ لكميل بن زِيَاد لما قَالَ لَهُ أترانا نعتقد أَنَّك على الْحق وَإِن طَلْحَة وَالزُّبَيْر على الْبَاطِل أعرف الرِّجَال بِالْحَقِّ وَلَا تعرف الْحق بِالرِّجَالِ أعرف الْحق لتعرف رِجَاله وَمَا أحسن قَول أرسطو لما خَالف أستاذه أفلاطون تخاصم الْحق وأفلاطون وَكِلَاهُمَا صديق لي وَالْحق أصدق مِنْهُ وَقَالَ الشَّيْخ أَحْمد زَرُّوق فِي عُمْدَة

ص: 89

المريد الصَّادِق مَا نَصه قَالَ أَبُو إِسْحَاق الشاطبي كل مَا عمل بِهِ المتصوفة المعتبرون فِي هَذَا الشَّأْن يَعْنِي كالجنيد وَأَمْثَاله لَا يَخْلُو إِمَّا أَن يكون مِمَّا ثَبت لَهُ أصل فِي الشَّرِيعَة فهم حلفاؤه كَمَا أَن السّلف من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ حلفاء بذلك وَإِن لم يكن لَهُ أصل فِي الشَّرِيعَة فَلَا أعمل عَلَيْهِ لِأَن السّنة حجَّة على جَمِيع الْأمة وَلَيْسَ عمل أحد من الْأمة حجَّة على السّنة لِأَن السّنة معصومة عَن الْخَطَأ وصاحبها مَعْصُوم وَسَائِر الْأمة لم تثبت لَهُم الْعِصْمَة إِلَّا مَعَ إِجْمَاعهم خَاصَّة وَإِذا أَجمعُوا تضمن إِجْمَاعهم دَلِيلا شَرْعِيًّا فالصوفية والمجتهدون كغيرهم مِمَّن لم يثبت لَهُم الْعِصْمَة وَيجوز لَهُم الْخَطَأ وَالنِّسْيَان وَالْمَعْصِيَة كبيرها وصغيرها والبدعة محرمها ومكروهها وَلذَا قَالَ الْعلمَاء كل كَلَام مِنْهُ مَأْخُوذ وَمِنْه مَتْرُوك إِلَّا مَا كَانَ من كَلَامه عليه الصلاة والسلام قَالَ وَقد قرر ذَلِك الْقشيرِي رحمه الله أحسن تَقْرِير فَقَالَ فَإِن قيل فَهَل يكون الْوَلِيّ مَعْصُوما قيل أما وجوبا كَمَا يكون للأنبياء فَلَا وَأما أَن يكون مَحْفُوظًا حَتَّى لَا يصر على الذُّنُوب وَإِن حصلت منهيات أَو زلات فِي أَوْقَات فَلَا يمْنَع فِي وَصفهم قَالَ وَلَقَد قيل للجنيد الْعَارِف يَزْنِي فَأَطْرَقَ مَلِيًّا ثمَّ رفع رَأسه وَقَالَ {وَكَانَ أَمر الله قدرا مَقْدُورًا} وَقَالَ فَهَذَا كَلَام منصف فَكَمَا يجوز على غَيرهم الْمعاصِي بالابتداع وَغير ذَلِك وَيجوز عَلَيْهِم الْبدع فَالْوَاجِب علينا أَن نقف مَعَ الِاقْتِدَاء بِمن يمْتَنع عَلَيْهِ الْخَطَأ ونقف عَن الِاقْتِدَاء بِمن يجوز عَلَيْهِ إِذا ظهر فِي الِاقْتِدَاء بِهِ إِشْكَال بل يعرض مَا جَاءَ عَن الْأَئِمَّة على الْكتاب وَالسّنة فَمَا قبلاه قبلناه ومالم يقبلاه تَرَكْنَاهُ وَمَا علمنَا بِهِ إِذا قَامَ لنا الدَّلِيل على اتِّبَاع الشَّارِع وَلم يقم لنا الدَّلِيل على اتِّبَاع أَقْوَال الْفُقَهَاء والصوفية وأعمالهم إِلَّا بعد عرضهَا وَبِذَلِك رَضِي شيوخهم علينا وَأَن مَا جَاءَ بِهِ صَاحب الوجد والذوق من الْعُلُوم وَالْأَحْوَال والفهوم يعرض على الْكتاب وَالسّنة فَإِن قبلاه صَحَّ وَإِلَّا لم يَصح

قَالَ ثمَّ نقُول ثَانِيًا إِن نَظرنَا فِي رسومهم الَّتِي حددوها وأعمالهم الَّتِي امتازوا بهَا عَن غَيرهم بِحَسب تَحْسِين الظَّن والتماس احسن المخارج وَلم نَعْرِف لَهُ مخرجا فَالْوَاجِب التَّوَقُّف عَن الِاقْتِدَاء وَإِن كَانُوا من جنس من يقْتَدى بهم لَا ردا لَهُ وَلَا اعتراضا عَلَيْهِ بل لأَنا لم نفهم وَجه رُجُوعه إِلَى الْقَوَاعِد الشَّرْعِيَّة كَمَا فهمنا غَيره

ثمَّ قَالَ بعد كَلَام فَوَجَبَ بِحَسب الجريان على آرائهم فِي السلوك أَن لَا يعْمل بِمَا رسموه مِمَّا فِيهِ مُعَارضَة بأدلة الشَّرْع ونكون فِي ذَلِك متبعين لآثارهم مهتدين بأنوارهم خلافًا لمن يعرض عَن الْأَدِلَّة ويجمد على تقليدهم فِيهِ فِيمَا لَا يَصح تقليدهم على مَذْهَبهم فالأدلة الشَّرْعِيَّة والأنظار الْفِقْهِيَّة والرسوم الصُّوفِيَّة تذمه وترده وتحمد من تحرى واحتاط وَتوقف عِنْد الِاشْتِبَاه واستبرأ لدينِهِ وَعرضه وَهُوَ من مَكْنُون الْعلم وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق انْتهى

قلت قد فهمنا من كَلَام هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّة أَن كل من قلد وَاحِدًا من الْعلمَاء الْمُجْتَهدين فِي نازلة من

ص: 90

النَّوَازِل بعد ظُهُور كَون رأى ذَلِك الإِمَام مُخَالفا لنَصّ كتاب أَو سنة أَو إِجْمَاع أَو قِيَاس جلي عِنْد الْقَائِل بِهِ وَعلم الْمُقَلّد النَّص الْمَذْكُور فصمم على التَّقْلِيد فَهُوَ كَاذِب فِي دَعْوَاهُ اقتداءا بِالْإِمَامِ الْمَذْكُور وكاذب فِي تَقْلِيده بل هُوَ مُتبع لهواه وعصبيته وَالْأَئِمَّة كلهم بريئون مِنْهُ فَهُوَ مَعَ الْأَئِمَّة بِمَنْزِلَة أَحْبَار اهل الْكتاب مَعَ أَنْبِيَائهمْ فَإِنَّهُم يدعونَ اتِّبَاع أَنْبِيَائهمْ مَعَ أَن الْأَنْبِيَاء قد أمروهم بِاتِّبَاع مُحَمَّد ص وَالْإِيمَان بِهِ وَنَصره وهم يكذبُون النَّبِي صلى الله عليه وسلم ويؤذونه وَيلْزم من تكذيبهم للنَّبِي ص تكذيبهم جَمِيع الْأَنْبِيَاء لِأَن كل وَاحِد مِنْهُم قد آمن بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأخذ الْمِيثَاق على أمته أَن يصدقُوا بِمُحَمد ص وينصرونه كَمَا أَخذ الله تبارك وتعالى مِنْهُم الْمِيثَاق بذلك فدعوى أَحْبَار أهل الْكتاب الَّذين كذبُوا مُحَمَّدًا ص كَونهم على دين مُوسَى وَعِيسَى عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام كَاذِبَة فموسى وَعِيسَى وَجَمِيع الْأَنْبِيَاء صلوَات الله وَسَلَامه عَلَيْهِم بريئون من هَؤُلَاءِ الْأَحْبَار وهم مكذبون بِجَمِيعِ الْأَنْبِيَاء صلوَات الله عَلَيْهِم وَهَكَذَا شَأْن من جمد على التَّقْلِيد لأحد الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة فِي مَسْأَلَة خَالف رَأْي ذَلِك الْمُجْتَهد إِحْدَى الْأُصُول الْمَذْكُورَة وَعلم الْمُقَلّد الْمَذْكُور أَن رَأْي الإِمَام الْمَزْبُور خَالف أصُول الشَّرِيعَة فصمم على التَّقْلِيد فَهُوَ كَاذِب فِي دَعْوَاهُ التَّقْلِيد ومخالف لإمامه بل هُوَ مُخَالف للأئمة الْأَرْبَعَة لِأَن كل وَاحِد مِنْهُم قد حذر أَصْحَابه من مُخَالفَة الْأُصُول الشَّرْعِيَّة الْمَذْكُورَة فالأئمة الْأَرْبَعَة بريئون مِنْهُ وَهُوَ بَرِيء مِنْهُم وَهُوَ مُبْتَدع مُتبع لهواه ضال مضل لَا يشك كل مُسلم فِي ذَلِك

قَالَ عُثْمَان بن عمر جَاءَ رجل إِلَى مَالك بن أنس فَسَأَلَهُ عَن مَسْأَلَة فَقَالَ لَهُ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم كَذَا وَكَذَا فَقَالَ الرجل أَرَأَيْت فَقَالَ مَالك {فليحذر الَّذين يخالفون عَن أمره أَن تصيبهم فتْنَة أَو يصيبهم عَذَاب أَلِيم} قَالَ مَالك لم تكن من فتيا النَّاس أَن يُقَال لَهُم لم قلت هَذَا كَانُوا يكتفون بالرواية ويرضون بهَا

قَالَ الْجُنَيْد رضي الله عنه الطّرق كلهَا مسدودة إِلَّا على من اقتفى أثر الرَّسُول صلى الله عليه وسلم

وَقَالَ أَيْضا علمنَا مُقَيّد بِالْكتاب وَالسّنة فَمن لم يسمع الحَدِيث ويجالس الْفُقَهَاء وَيَأْخُذ أدبه عَن المتأدبين أفسد من يتبعهُ

وَقَالَ سهل بن عبد الله التسترِي بنيت اصولنا على سِتَّة أَشْيَاء كتاب الله تَعَالَى وَسنة رَسُوله ص وَأكل الْحَلَال وكف الْأَذَى وَاجْتنَاب الآثام وَأَدَاء الْحُقُوق

وَقَالَ أَبُو عُثْمَان الْحِمْيَرِي رضي الله عنه من أَمر السّنة على نَفسه قولا وفعلا نطق بالحكمة وَمن أَمر الْهوى على نَفسه نطق بالبدعة

قلت وَهُوَ أَن يَأْتِي بِأَمْر لَا وَجه لَهُ وَلَا دَلِيل من صَاحب الشَّرِيعَة كَانَ خيرا أَو غَيره ثمَّ قَالَ قَالَ الله تَعَالَى {وَإِن تطيعوه تهتدوا} وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاس بن عَطاء الله رَضِي الله عَنهُ

ص: 91

من ألزم نَفسه آدَاب السّنة نور الله قلبه بِنور الْمعرفَة وَلَا مقَام أشرف من مُتَابعَة الحبيب ص فِي أَفعاله وَأمره وأقواله وأخلاقه وَقَالَ أَبُو حَمْزَة الْبَغْدَادِيّ لَا دَلِيل على طرق الله إِلَّا بمتابعة الرَّسُول صلى الله عليه وسلم فِي أَفعاله وَأمره وأقواله وأحواله وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَان الدَّارَانِي إِنَّه لتقع النُّكْتَة من كَلَام الْقَوْم فِي قلبِي فَأَقُول لَهَا لَا أقبلك إِلَّا بشاهدي عدل الْكتاب وَالسّنة

وَسُئِلَ الشبلي عَن التصوف فَقَالَ هُوَ اقْتِدَاء برَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَقَالَ الله تَعَالَى {قل هَذِه سبيلي أَدْعُو إِلَى الله على بَصِيرَة أَنا وَمن اتبعني} فَتبين أَن التبصر فِي الدّين أصل من أُصُوله وَأَن من أَخذ الْأُمُور أما لَهُ فِي عماية فَلَيْسَ بمتبع للشَّرْع لَكِن النَّاس ثَلَاثَة عَالم مُتَمَكن وتبصره فِي الْمسَائِل لطلب الدَّلِيل وَإِن لم يكن مُجْتَهدا ومتوسط فِي الْأَمريْنِ بَين الْعَامَّة وَالْعُلَمَاء فَلَا يَصح أَتْبَاعه إِلَّا لمن تبصر فِي شَأْنه وَأوجب لَهُ مَا علم من الشَّرِيعَة إِن هَذَا مِمَّن يقْتَدى بِهِ ثمَّ لَا يَأْخُذ مِنْهُ مَا يأباه مَا علمه من قَوَاعِد الشَّرِيعَة إِذْ لَا يجوز لأحد أَن يتَعَدَّى {وَلَا تقف مَا لَيْسَ لَك بِهِ علم} وعامي وَحقه أَن يقف مَعَ مَالا يشك فِي حَقِيقَته من تقوى الله تَعَالَى وَذكره وَالْعَمَل على الجادة الَّتِي لَا يشك فِيهَا وَإِلَّا فَهُوَ مستهزئ بِدِينِهِ ومتلاعب بِهِ فَاعْلَم ذَلِك وَإِن لم يكن الْفَتْح فِيمَا جَاءَ عَن الله وَرَسُوله ص فَفِي أَي شَيْء يكون نسْأَل الله تَعَالَى السَّلامَة

وَقَالَ أَحْمد بن حصرويه الدَّلِيل لائح وَالطَّرِيق وَاضح والداعي قد أسمع فَمَا التحير بعد هَذَا إِلَّا من الْعَمى

وَقَالَ ابْن عَطاء الله فِي حكمه لَا نَخَاف عَلَيْك أَن تَلْتَبِس الطَّرِيق عَلَيْك وَإِنَّمَا نَخَاف عَلَيْك من غَلَبَة الْهوى عَلَيْك وَقَالَ أَيْضا تمكن حلاوة الْهوى من الْقلب هُوَ الدَّاء العضال قَالَ بَعضهم نحت الْجبَال بالأظافير أيسر من زَوَال الْهوى إِذا تمكن قَالَ الله تَعَالَى {أَفَرَأَيْت من اتخذ إلهه هَوَاهُ وأضله الله على علم} الْآيَة {وَمن لم يَجْعَل الله لَهُ نورا فَمَا لَهُ من نور} انْتهى كَلَام الشَّيْخ زَرُّوق

قَالَ الْقَرَافِيّ فِي الفروق من قَوَاعِده مَا نَصه تَنْبِيه كل شَيْء أفتى بِهِ الْمُجْتَهد فَوَقَعت فتواه فِيهِ على خلاف الْإِجْمَاع أَو الْقَوَاعِد أَو النَّص أَو الْقيَاس الْجَلِيّ السَّالِم عَن الْمعَارض الرَّاجِح لَا يجوز لمقلده أَن يَنْقُلهُ إِلَى النَّاس وَلَا يُفْتِي بِهِ فِي دين الله تَعَالَى فَإِن هَذَا الحكم لَو حكم بِهِ حَاكم لنقضناه وَمَا لَا نقره شرعا بعد تقرره بِحكم الْحَاكِم الْمُجْتَهد أولى أَن لَا نقره شرعا إِذا لم يتَأَكَّد وَهَذَا لم يتَأَكَّد فَلَا نقره شرعا والفتيا بِغَيْر شرع حرَام فالفتيا بِهَذَا الحكم حرَام وَإِن كَانَ الإِمَام الْمُجْتَهد الَّذِي أفتى بِهِ غير عَاص بِهِ بل مثاب عَلَيْهِ لِأَنَّهُ بذل جهده على حسب مَا أَمر بِهِ وَقد ورد إِذا اجْتهد الْحَاكِم فَأَخْطَأَ فَلهُ أجر وَاحِد وَإِن أصَاب فَلهُ أَجْرَانِ فعلى هَذَا يجب

ص: 92

على أهل الْعَصْر تفقد مذاهبهم وكل مَا وجدوه من هَذَا النَّوْع يحرم عَلَيْهِم الْفتيا بِهِ وَلَا يعرو مَذْهَب من الْمذَاهب عَنهُ لكنه قد يقل وَقد يكثر غير أَنه لَا يقدر أَن يعلم هَذَا فِي مذْهبه إِلَّا من عرف الْقَوَاعِد وَالْقِيَاس الْجَلِيّ وَالنَّص الصَّرِيح وَعدم الْمعَارض وَذَلِكَ بعد تَحْصِيل أصُول الْفِقْه وتبحره فِي الْفِقْه فَإِن الْقَوَاعِد لَيست مستوعبة فِي أصُول الْفِقْه بل للشريعة قَوَاعِد كَثِيرَة جدا عِنْد أَئِمَّة الْفَتْوَى وَالْفُقَهَاء لَا تُوجد فِي كتب أصُول الْفِقْه أصلا وَذَلِكَ هُوَ الْبَاعِث لنا على وضع هَذَا الْكتاب لتنضبط تِلْكَ الْقَوَاعِد بِحَسب مَا يُفْتى بِهِ وَبِاعْتِبَار هَذِه الشُّرُوط يحرم على أكثرالناس الْفَتْوَى فَتَأمل ذَلِك فَهُوَ أَمر لَازم وَلذَلِك كَانَ السّلف الصَّالح يتوقفون فِي الفتاوي توقفا شَدِيدا وَقَالَ مَالك لَا يَنْبَغِي للْعَالم أَن يُفْتِي حَتَّى يرَاهُ النَّاس أَهلا لذَلِك وَيرى هُوَ نَفسه أَهلا لذَلِك يُرِيد تثبيت أَهْلِيَّته عِنْد الْعلمَاء وَيكون هُوَ مطابقا لما قَالَه الْعلمَاء فِي حَقه من الْأَهْلِيَّة لِأَنَّهُ قد يظْهر من الْإِنْسَان أَمر على خلاف مَا هُوَ عَلَيْهِ فَإِذا كَانَ هُوَ مطلعا على مَا وَصفه بِهِ النَّاس حصل الْيَقِين فِي ذَلِك فَالنَّاس مهملون لَهُ إهمالا شَدِيدا وهجموا على الْفتيا فِي دين الله والتخريج على قَوَاعِد الْأَئِمَّة بِغَيْر شُرُوط التَّخْرِيج بل صَار يُفْتِي من لم يحط بالتقليدات وَلَا بالتحقيقات من منقولات إِمَامه وَذَلِكَ لعب فِي دين الله تَعَالَى وفسوق مِمَّن يَعْتَقِدهُ أَو مَا علمُوا بِأَن الْمُفْتِي مخبر عَن الله تَعَالَى وَأَن من كذب على الله تَعَالَى أَو أخبر عَنهُ مَعَ عدم ضبط ذَلِك الْخَبَر فَهُوَ عِنْد الله بِمَنْزِلَة الْكَاذِب

ص: 93

عَلَيْهِ وليتق الله تَعَالَى أمره فِي نَفسه وَلَا يقدم على قَول وَفعل بِغَيْر شَرط انْتهى

قَالَ ابْن شاش فِي الْجَوَاهِر الثمينة فِي مَذْهَب عَالم الْمَدِينَة وَلَيْسَ للْإِمَام أَن يشْتَرط على القَاضِي الحكم بِخِلَاف اجْتِهَاده أَو بِخِلَاف معتقده إِذا جَوَّزنَا تَوْلِيَة الْمُقَلّد عِنْد الضَّرُورَة قَالَ الْأُسْتَاذ الإِمَام أَبُو بكر الطرطوشي يجوز لمن اعْتقد مذهبا من الْمذَاهب مثل مَذْهَب مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأبي حنيفَة وَغَيرهم أَن يولي الْقَضَاء من يعْتَقد خلاف مذْهبه لِأَن الْوَاجِب أَن يجْتَهد رَأْيه فِي قَضَائِهِ لَا يلْزم أحدا من الْمُسلمين أَن يُقَلّد فِي النَّوَازِل وَالْأَحْكَام من يعتزي إِلَى مذْهبه فَمن كَانَ مالكيا لم يلْزمه الْمصير فِي الْأَحْكَام إِلَى قَول مَالك وَهَكَذَا القَوْل فِي سَائِر الْمذَاهب بل أَيْنَمَا أَدَّاهُ اجْتِهَاده فِي الدَّلِيل من الْأَحْكَام صَار إِلَيْهِ قَالَ فَإِن شَرط على القَاضِي أَن يحكم بِمذهب إِمَام معِين من أَئِمَّة الْمُسلمين وَلَا يحكم بِغَيْرِهِ فَالْعقد صَحِيح وَالشّرط بَاطِل كَانَ مُوَافقا لمَذْهَب الْمُشْتَرط أَو مخالفه قَالَ وَأَخْبرنِي القَاضِي ابو الْوَلِيد الْبَاجِيّ قَالَ كَانَ الْوُلَاة عندنَا بقرطبة إِذا ولوا الْقَضَاء رجلا شرطُوا عَلَيْهِ فِي سجله أَن لَا يخرج عَن قَول ابْن الْقَاسِم وَمَا وجده قَالَ الْأُسْتَاذ هَذَا جهل عَظِيم مِنْهُم انْتهى

قَالَ الْقَرَافِيّ يُرِيد أَن الْحق لَيْسَ محصورا فِي رَأْي شخص معِين وَنَقله الْقَرَافِيّ فِي الذَّخِيرَة وَابْن الْحَاجِب وَأَقَرَّاهُ

قلت تَأمل هَذَا يظْهر لَك أَن التَّقْلِيد بِمذهب إِمَام معِين من غير نظر إِلَى الدَّلِيل من الْكتاب وَالسّنة جهل عَظِيم لِأَنَّهُ مُجَرّد هوى وعصبية وَالْأَئِمَّة المجتهدون قاطبة على خِلَافه لِأَنَّهُ صَحَّ عَن كل وَاحِد مِنْهُم ذمّ التَّقْلِيد بِغَيْر دَلِيل وإبطاله وَظهر أَنه يجوز لمن تقيد بِمذهب معِين أَن يجْتَهد وَينظر إِلَى الدَّلِيل حسب جهده وطاقته فَمَتَى وجد دَلِيلا يدل على خلاف رَأْي إِمَامه تَركه وَتمسك بِالدَّلِيلِ وَيكون بذلك مُتبعا لإمامه وَسَائِر الْأَئِمَّة ومتبعا لكتاب الله تَعَالَى وَسنة رَسُوله ص وَلَا يكون بذلك خَارِجا عَن مَذْهَب إِمَامه وَإِنَّمَا يكون خَارِجا عَن مَذْهَب إِمَامه وَعَن سَائِر مَذَاهِب الْمُجْتَهدين إِذا صمم وجمد على تَقْلِيد إِمَامه بعد ظُهُور الدَّلِيل من كتاب أَو سنة أَو إِجْمَاع على خلاف رَأْي إِمَامه فَمن صمم فِي هَذِه الْحَالة على التَّقْلِيد فقد خَالف إِمَامه الَّذِي تمسك بمذهبه لِأَنَّهُ لَو بلغه الحَدِيث السَّالِم من الْمعَارض لترك رَأْيه وَاتبع الحَدِيث فالمصمم على التَّقْلِيد فِي هَذِه الْحَالة عَاص لله تَعَالَى وَرَسُوله ص مُتبع لهواه قد برِئ من الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة وَصَارَ من حزب الشَّيْطَان والهوى {أَفَرَأَيْت من اتخذ إلهه هَوَاهُ وأضله الله على علم} الْآيَة وَقَالَ تَعَالَى {فَمن يهديه من بعد الله} فقد انْتَفَى نور الْإِيمَان من قلبه {وَمن لم يَجْعَل الله لَهُ نورا فَمَا لَهُ من نور} أجارنا الله تَعَالَى من الْعَمى بعد الْهدى

وَقَالَ أَبُو عمر بن عبد البر فِي الْكَافِي وَالَّذِي يجب على القَاضِي أَن يقْضِي بِهِ وَلَا يتعداه مَا فِي

ص: 94

كتاب الله عز وجل فَإِن لم يجد فِيهِ نظر فِيمَا أَتَى عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَإِن لم يجد فِيمَا جَاءَ عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم نظر فِيمَا جَاءَ عَن أَصْحَابه رضي الله عنهم فَإِن كَانُوا قد اخْتلفُوا تخير من أقاويلهم أحْسنهَا وأشبهها بِالْكتاب وَالسّنة وَكَذَلِكَ يفعل بأقاويل الْعلمَاء بعدهمْ وَلَيْسَ لَهُ أَن يخالفهم ويبتدع شَيْئا من رَأْيه فَإِن لم يجد اجْتهد رَأْيه واستخار الله تَعَالَى وأمعن النّظر وَإِن اشكل عَلَيْهِ الْأَمر شاور من يَثِق بفهمه وَدينه من أهل الْعلم ثمَّ نظر إِلَى أحسن أقاويلهم وأشبهها بِالْحَقِّ وَقضى بِهِ وَلَا يبطل من قَضَاء نَفسه إِلَّا مَا يبطل من قَضَاء غَيره قبله وَذَلِكَ مَا خَالف الْكتاب وَالسّنة وَالْإِجْمَاع فَإِن لم يكن ذَلِك أَمْضَاهُ وَقضى فِي الْمَسْأَلَة بِمَا يرَاهُ بعد أَن لَا يكون قضى بتقليده بعض الْفُقَهَاء ثمَّ رأى الصَّوَاب فِي غَيره من أقاويل الْعلمَاء فَإِن بَان ذَلِك نقض قَضَاءَهُ بالتقليد وَقضى بِمَا رَآهُ مُجْتَهدا بعده انْتهى

قلت انْظُر كَيفَ صرح بِأَن القَاضِي إِذا حكم بتقليد بعض الْفُقَهَاء ثمَّ رأى الصَّوَاب فِي غير رَأْي من قَلّدهُ أَنه ينْقض حكمه الَّذِي قضى بالتقليد بِخِلَاف مالو اجْتهد القَاضِي فَحكم ثمَّ ظهر لَهُ الْخَطَأ فِي اجْتِهَاده فَإِنَّهُ لَا ينْقض حكمه الأول مالم يُخَالف نَص كتاب أَو سنة أَو قِيَاس جلي كَمَا تقدم وَظَاهره سَوَاء كَانَ القَاضِي متقيدا بِمذهب أَو لَا كَمَا صرح بِهِ ابْن عبد السلام وَغَيره قَائِلا لَا يُقَال إِن قَوْلكُم بِخِلَاف مالو اجْتهد فَإِنَّهُ يُنَافِي كَونه مُقَيّدا بِمذهب لأَنا نقُول المُرَاد بالمجتهد الْمُجْتَهد فِي الْمَسْأَلَة لَا الْمُجْتَهد الْمُطلق وَلَا شكّ أَن الْمُجْتَهد فِي مَسْأَلَة قد يكون متقيدا بِمذهب انْتهى

وَقَالَ الإِمَام الأعدل القَاضِي أَبُو الْقَاسِم سَلمُون بن عَليّ بن سَلمُون الْكِنَانِي فِي وثائقه وَشرط القَاضِي أَن يكون ذكرا بَالغا حرا عَاقِلا مُسلما عادلا مُجْتَهدا فَإِن لم يُوجد مُجْتَهد فمقلد عِنْده من الْعلم مَا يُمَيّز بِهِ بَين الْحق وَالْبَاطِل هَذِه شُرُوط القَاضِي الَّتِي لَا تَنْعَقِد الْولَايَة إِلَّا بهَا وَإِذا كَانَ مُقَلدًا فَقيل يلْزمه الْعَمَل بقول مقلده وَقيل لَا يلْزمه وَقيل لَا يحكم إِلَّا بِاجْتِهَادِهِ قَالَ أَبُو عمر فِي الْكَافِي وَلَا يجوز لَهُ أَن يشاور فِيمَا يحكم بِهِ وَهُوَ جَاهِل لَا يُمَيّز بَين الْحق وَالْبَاطِل لِأَنَّهُ إِذا أُشير عَلَيْهِ وَهُوَ جَاهِل الحكم لم يعلم إِن كَانَ حكم ذَلِك بِحَق أَو بَاطِل وَلَا يجوز لحَاكم أَن يحكم بِمَا لم يعلم أَنه الْحق لقَوْله من اشار بتقليد حَتَّى تبين للَّذي أَشَارَ عَلَيْهِ بِدلَالَة تظهر لَهُ إِلَى أَن قَالَ وَإِن لم يتَبَيَّن لَهُ فِي الْأَمر شَيْء تَركه وَلَا يحكم بِهِ وَفِي قلبه مِنْهُ شكّ وَإِذا أشكل عَلَيْهِ شَيْء تَركه وَلَا يحكم بالتخمين فَإِنَّهُ فسق وجور انْتهى

قَالَ فِي التَّوْضِيح عِنْد قَول ابْن الْحَاجِب وَقيل لَا يجوز إِلَّا الِاجْتِهَاد أَي وَقيل لَا يجوز لهَذَا الْمُقَلّد إِذا أَدَّاهُ اجْتِهَاده إِلَى خلاف مذْهبه أَن يحكم إِلَّا بِاجْتِهَادِهِ وَلَا يُقَال قَوْله إِلَّا بِالِاجْتِهَادِ يُنَافِي فرض الْمَسْأَلَة إِذْ الْكَلَام فِي عدم الْمُجْتَهد لِأَن المُرَاد عدم الْمُجْتَهد الْمُطلق وَبِقَوْلِهِ إِلَّا بِاجْتِهَادِهِ الِاجْتِهَاد

ص: 95

الْمُقَيد وَهُوَ الِاجْتِهَاد فِي مذْهبه والاطلاع على مدارك إِمَامه انْتهى

قلت تَأمل فِي كَلَام ابْن سَلمُون وَكَلَام ابْن الْحَاجِب وَصَاحب التَّوْضِيح وَمَا تقدم عَن ابْن شاش وَأبي بكر الطرطوشي وَابْن عبد البر يظْهر لَك أَن مُرَادهم بالمقلد الَّذِي لَهُ علم يُمَيّز بِهِ بَين الْحق وَالْبَاطِل وَهُوَ الْمُجْتَهد فِي الْمَذْهَب وَهُوَ الَّذِي أحَاط بأصول إِمَامه ومداركه وَهِي أدلته الَّتِي بنى مذْهبه عَلَيْهَا وَلَا شكّ أَن أعظم أَدِلَّة إِمَامه كتاب الله تَعَالَى وَسنة رَسُوله ص وَالْإِجْمَاع وأقوال الصَّحَابَة وَاخْتِلَاف الْعلمَاء وَغير ذَلِك مِمَّا هُوَ مَبْسُوط فِي مَحَله وَلَيْسَ مُرَادهم بالمقلد الْمُقَلّد الْمَحْض الَّذِي يشْتَغل بِحِفْظ المختصرات الْمُجَرَّدَة عَن الدَّلِيل والتوجيه فِي التَّعْلِيل وَلَا يلْتَفت إِلَى الدَّلِيل وَلَا يُمَيّز بَين الْفَرْع الْمُوَافق لأصل إِمَامه وَبَين الْمُخَالف وَلَا بَين الْمَسْأَلَة الْمُوَافقَة لدَلِيل إِمَامه والمخالفة لَهُ وَلَا يلْتَفت إِلَى أصُول إِمَامه وأدلته وَلَا يرفع بهَا راسا بل نِهَايَة دَلِيله أَن يرى الْمَسْأَلَة مَنْصُوصا عَلَيْهَا فِي مختصرات مذْهبه خَالِيَة عَن قيود وخصوصياته وتتماته وَهِي مختصرات معقدات الْعبارَات مولدات مستعجمة لَا يفهمها على الْوَجْه الصَّحِيح لخلوها عَن الْبَيَان والوضوح وجهله بالقواعد الْعَرَبيَّة والمنطقية والأصولية واصطلاحاتهم وَهِي مشحونة بهَا فَمن كَانَ حَاله هَكَذَا لَا يخْتَلف عُلَمَاء السّلف الصَّالح فِي تَحْرِيم تَوليته الْقَضَاء وَعدم نُفُوذ حكمه إِذا حكم وعَلى أَنه لَا يعْمل بفتواه إِذا أفتى وَأما عُلَمَاء الْوَقْت الَّذِي صَار فِيهِ الْمُنكر مَعْرُوفا وَالْمَعْرُوف مُنْكرا فالقضاء وَالْفَتْوَى عِنْدهم بِلبْس الكوربان وَالْفراء ورحم الله الْقَائِل

فرغ الْقلب عَن مسَائِل نَحْو

واشتغل بالرطانة التركية

وألبس الكوربان والفرو تفقه

ذهب الْيَوْم دولة الْعَرَبيَّة

وبفقه أبي حنيفَة فاقرأ

ذهب الْيَوْم دولة الأثرية

إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون

وَيُؤَيّد مَا ذَكرْنَاهُ من أَن المُرَاد بالمقلد من لَهُ علم يُمَيّز بِهِ بَين الْحق وَالْبَاطِل مَا ذكره ابْن رشد فِي أجوبته كَمَا نَقله الْبُرْزُليّ وَابْن سَلمُون عَنهُ

وَنَصه سُئِلَ ابْن رشد فِي الْفَتْوَى وَصفَة الْمُفْتِي على طَريقَة أهل الْمَذْهَب وَمَا هُوَ اللَّازِم فِي مَذْهَب مَالك لمن أَرَادَ أَن يكون مفتيا بمذهبه وَفِي صفة القَاضِي الملزم بِمذهب مَالك وَلَيْسَ فِي الْقطر من بلغ دَرَجَة الْفتيا وَهل تمْضِي أَحْكَامه وفتواه مُطلقًا أَو ترد مُطلقًا أَو يخْتَلف جوابها فَأجَاب ابْن رشد بِمَا حَاصله أَن من اعْتقد مَذْهَب مَالك فقلده بِغَيْر دَلِيل فألزم نَفسه حفظ مُجَرّد أَقْوَاله وأقوال أَصْحَابه فِي مسَائِل الْفِقْه دون التفقه فِي مَعَانِيهَا يُمَيّز الصَّحِيح مِنْهَا والسقيم فَلَيْسَ لَهُ أَن يُفْتِي بِمَا حفظه من الْأَقْوَال إِذْ لَا علم عِنْده بِصِحَّة شَيْء من ذَلِك فَلَا يصلح لفتوى وَلَا لقَضَاء بِمُجَرَّد التَّقْلِيد بِغَيْر علم وَأما من اعْتقد صِحَة مَذْهَب مَالك بِمَا بَان لَهُ من صِحَة الْأَدِلَّة

ص: 96

الَّتِي بنى مذْهبه عَلَيْهَا وَحفظ أَقْوَاله وأقوال أَصْحَابه فِي مسَائِل الْفِقْه وتفقه فِي مَعَانِيهَا حَتَّى ميز الصَّحِيح مِنْهَا الْجَارِي على أُصُوله من جِهَة الدَّلِيل من السقيم الْمُخَالف للدليل غير أَنه لم يبلغ دَرَجَة التَّحْقِيق لعلم الْأُصُول حَتَّى يعرف كَيْفيَّة قِيَاس الْفَرْع على الْأُصُول فَيصح لهَذَا أَن يُفْتِي بِمَا علم دَلِيله من قَول مَالك وَأَصْحَابه بِشَرْط كَون الْمَسْأَلَة مَنْصُوصا عَلَيْهَا بقيودها وَلَيْسَ لَهُ أَن يقيس غير الْمَنْصُوص على الْمَنْصُوص لجهله بكيفية الْقيَاس وشروطها الْمَعْرُوفَة فِي علم الْأُصُول وَأما من كَانَ حَاله كَحال الثَّانِي إِلَّا أَنه بلغ دَرَجَة التَّحْقِيق بِمَعْرِِفَة قِيَاس الْفَرْع على الأَصْل لكَونه عَارِفًا بِأَحْكَام الْقُرْآن من ناسخه ومنسوخه والمفصل من الْمُجْمل وَالْخَاص وَالْعَام وَمَعْرِفَة السّنَن من الْأَحْكَام وتمييز صحيحها من سقيمها وَمَعْرِفَة أَقْوَال الْعلمَاء من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَمن بعدهمْ من فُقَهَاء الْأَمْصَار وَمَا اتَّفقُوا عَلَيْهِ وَاخْتلفُوا فِيهِ وَيعرف من علم اللِّسَان مَا يعرف بِهِ الْأَحْكَام وَيكون بَصيرًا بِوَجْه الْقيَاس عَارِفًا بِموضع الْأَدِلَّة ومواقعها فَهَذَا الَّذِي تصح الْفَتْوَى لَهُ عُمُوما بِالِاجْتِهَادِ وَالْقِيَاس على الْأُصُول الَّتِي هِيَ الْكتاب وَالسّنة وَإِجْمَاع الْأمة بِالْمَعْنَى الْجَامِع بَينهَا وَبَين النَّازِلَة أَو على مَا قيس عَلَيْهَا إِن عدم الْقيَاس عَلَيْهَا أَو على مَا قيس على مَا قيس عَلَيْهَا وَهَكَذَا

وَالْقِيَاس خَفِي وجلي وَلَا يرجع إِلَى الْخَفي إِلَّا عِنْد عدم الْجَلِيّ وَقد أَتَى مَا ذَكرْنَاهُ على مَا سَأَلت عَنهُ من بَيَان صفة الْمُفْتِي الَّتِي يَنْبَغِي أَن يكون عَلَيْهَا باخْتلَاف الأعصر

وَأما السُّؤَال عَن بَيَان مَا يلْزم فِي مَذْهَب مَالك لمن أَرَادَ أَن يُفْتِي بمذهبه فَإِنَّهُ سُؤال فَاسد إِذْ لَيْسَ أحد بِالْخِيَارِ فِي أَن يُفْتِي على مَذْهَب مَالك أَو على مَذْهَب غَيره من الْعلمَاء بالتقليد بل يلْزمه ذَلِك إِذا قَامَ عِنْده الدَّلِيل على صِحَّته وَلَا يَصح لَهُ إِن لم يقم عِنْده الدَّلِيل على صِحَّته

وَالسُّؤَال عَن الحكم فِي أَمر القَاضِي إِذا كَانَ مُلْتَزما لمَذْهَب الْمَالِكِي وَلَيْسَ فِي قطره من نَالَ دَرَجَة الْفَتْوَى وَلَا هُوَ فِي نَفسه أهل لذَلِك قد مضى الْجَواب عَنهُ فِي حَال الْقسم الأول وَالثَّانِي انْتهى

قلت وَحَاصِل مَا فهمناه من كَلَام ابْن رشد أَنه لَا يجوز لأحد أَن يُفْتِي إِلَّا فِيمَا عرف دَلِيله من الْكتاب وَالسّنة وَالْإِجْمَاع سَوَاء الْتزم مذهبا معينا أم لَا كَانَ مالكيا أَو لَا وَالله تَعَالَى أعلم

وَقَالَ أَبُو الْقَاسِم بن مُحرز فِي تبصرته عِنْد قَول مَالك فِي الْمُدَوَّنَة إِذا قضى القَاضِي بقضية ثمَّ تبين لَهُ الصَّوَاب فِي غَيرهَا أَنه يرد قَضيته مَا ملخصه إِن خَالف حكم الْكتاب أَو السّنة أَو إِجْمَاع الْأمة فَإِنَّهُ يفْسخ هَذَا الحكم وَلَو لم يفسخه حَتَّى ولى غَيره لَكَانَ على من يَأْتِي بعده أَن يفسخه لِأَن هَذَا الحكم مِمَّا يقطع على بُطْلَانه وَلَا يجوز الْإِقْرَار عَلَيْهِ وَلذَلِك قَالَ عمر بن عبد العزيز مَا فت طِينَة عِنْدِي بِأَهْوَن من نقض قَضَاء قضيت بِهِ فَرَأَيْت الْحق فِي خِلَافه وَسَوَاء حكم بِهَذَا الحكم مُتَعَدِّيا أَو مخطئا وَهَذَا لَا يخْتَلف فِيهِ وَكَذَلِكَ لَو حكم بِحكم ظنا أَو تخمينا من غير

ص: 97

قصد إِلَى اجْتِهَاد فِي الْأَدِلَّة لجهله فَذَلِك أَيْضا بَاطِل لِأَن الحكم بِمُجَرَّد الظَّن فسق وظلم وَخلاف الْحق وَيفْسخ هَذَا الحكم القَاضِي نَفسه وَغَيره وَلَو وَافق الْحق إِذا ثَبت عِنْده أَنه على هَذَا الْوَجْه حكم انْتهى وَالله تَعَالَى أعلم

وَقَالَ الْحطاب عِنْد قَول خَلِيل ونبذ حكم جَائِر جَاهِل الخ الْجَاهِل إِن لم يشاور الْعلمَاء تطرح أَحْكَامه مُطلقًا أَي وَافق الصَّوَاب أم لَا لِأَن أَحْكَامه كلهَا بَاطِلَة لِأَنَّهَا بالتخمين قَالَ الرنشرشي فِي معياره وَأما مسح الْوَجْه باليدين عقب الدُّعَاء فَقَالَ مَالك فِيهِ لما سُئِلَ عَنهُ مَا عَلمته قَالَ الرنشرشي فقد جَازَ ذَلِك فِي الحَدِيث الصَّحِيح لخَبر التِّرْمِذِيّ عَن عمر رضي الله عنه قَالَ كَانَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم إِذا رفع يَدَيْهِ فِي الدُّعَاء لم يحطهما حَتَّى يمسح بهما وَجهه

قَالَ أَبُو عِيسَى صَحِيح غَرِيب فَأَنت ترى هَذَا الْخَبَر الصَّحِيح كَيفَ أثبت الْمسْح وَمَعَ ثُبُوت الْخَبَر لَا يسع مُخَالفَته لَا سِيمَا وَالْإِمَام رضي الله عنه إِنَّمَا قَالَ لما سُئِلَ عَن ذَلِك مَا علمت فَدلَّ كَلَامه على أَنه لم يبلغهُ خبر بِهِ أَو بلغه مِمَّن لَا يوثق بِهِ فَلَمَّا وجده أَبُو عِيسَى وَهُوَ مِمَّن يوثق بِهِ وَجب الْمصير إِلَيْهِ كَمَا قَالَ الشَّافِعِي إِذا صَحَّ الحَدِيث فَهُوَ مذهبي وَإِلَّا فاضربوا بمذهبي عرض هَذَا الْحَائِط وَمِمَّنْ أَخذ بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُور ابْن رشد وَابْن رشيد وَالْغَزالِيّ وَالنَّوَوِيّ وَغَيرهم وَقد ذكرت أَن فِي مَسْأَلَة الْمسْح اخْتِلَافا وَالرَّاجِح مَا وَافق الحَدِيث الصَّحِيح من ذَلِك وَهُوَ اسْتِعْمَاله انْتهى

وَذكر نور الدّين السنهوري أَنه ثَبت عَن مَالك نَحْو مَا ثَبت عَن الشَّافِعِي فقد قَالَ ابْن مسدى فِي منسكه روينَا عَن معن بن عِيسَى قَالَ سَمِعت مَالِكًا يَقُول إِنَّمَا أَنا بشر أخطئ وَأُصِيب فانظروا فِي رَأْيِي كل مَا وَافق الْكتاب وَالسّنة فَخُذُوا بِهِ ومالم يُوَافق الْكتاب وَالسّنة فاتركوه انْتهى قَالَ ابْن مسدى فقد علم أَن كل مَا خَالف الْكتاب وَالسّنة من آراء مَالك فَلَيْسَ بِمذهب لَهُ بل مذْهبه مَا وَافق الْكتاب وَالسّنة كَمَا هُوَ مَذْهَب الشَّافِعِي وَالله تَعَالَى أعلم

قلت وَقد نقل الأَجْهُورِيّ والخرشي هَذَا الْكَلَام وَأَقَرَّاهُ فِي شرحهما على مُخْتَصر الْخَلِيل

وَقَالَ الشَّيْخ أَبُو الْحُسَيْن فِي شَرحه على رِسَالَة ابْن أبي زيد عِنْد قَوْله فَإِن شَاءَ غسل رجلَيْهِ وَإِن شَاءَ أخرهما إِلَى آخر غسله مَا نَصه دَلِيل الْمَشْهُور على مَا فِي الْمُوَطَّأ أَنه عَلَيْهِ وعَلى آله الصَّلَاة وَالسَّلَام كَانَ إِذا اغْتسل من الْجَنَابَة توضأوضوءه للصَّلَاة الحَدِيث فَظَاهره أَنه كمل وضوءه قَالَ شَيخنَا وَالْقَوْل بِالتَّأْخِيرِ أظهر من الْمَشْهُور لما فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنه عليه الصلاة والسلام كَانَ يُؤَخر غسل رجلَيْهِ إِلَى آخر غسله فيغسلهما إِذْ ذَاك وَهَذَا صَرِيح وَمَا تقدم ظَاهر وأنى يُقَاوم الظَّاهِر الصَّرِيح فَيكون هذاالقول هُوَ الْمَشْهُور بناءا على أَن الْمَشْهُور مَا قوي دَلِيله انْتهى

ص: 98

قلت وَقد صحّح ابْن بشير وَابْن خويز منداد أَن الْمَشْهُور مَا قوي دَلِيله وَقد حققته فِي تَقْوِيم الكفة فَمَا للْعُلَمَاء من حَدِيث الْجُبَّة والكف إِذا علمت أَن مَا خَالف الْكتاب وَالسّنة وَالْإِجْمَاع من أَقْوَال الْمُجْتَهدين وآرائهم لَيْسَ مذهبا لَهُم فَتعين على المتمسكين بمذاهبهم أَن يفتوا بِالْكتاب وَالسّنة وأقوال الْعلمَاء ليعلموا بذلك مَا هُوَ مَذْهَب لإمامهم وَمَا لَيْسَ مذهبا لإمامهم خلاف مَا لهج بِهِ الْمُتَأَخّرُونَ من فُقَهَاء الْمذَاهب الْأَرْبَعَة من اقتصارهم على المختصرات الخالية عَن الدَّلِيل وإعراضهم كل الْإِعْرَاض عَن كتب الحَدِيث وَالْخلاف وأصول الحَدِيث وَالْفِقْه فهم على هَذَا اجهل النَّاس لمذاهب أئمتهم جهلا مركبا لِأَن الآراء الَّتِي يَعْتَقِدُونَ أَنَّهَا مَذَاهِب أئمتهم بَعْضهَا مُخَالف للْكتاب اَوْ السّنة أَو الْإِجْمَاع وَالْأَئِمَّة بريئون من كل مَا يُخَالف الْكتاب وَالسّنة وَالْإِجْمَاع

وَقد قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله تَعَالَى مَا من أحد إِلَّا وَتذهب عَلَيْهِ سنة لرَسُول الله صلى الله عليه وسلم وتعزب عَنهُ وَقد جمع ابْن دَقِيق الْعِيد رَحمَه الله تَعَالَى الْمسَائِل الَّتِي خَالف مَذْهَب كل وَاحِد من الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة الحَدِيث الصَّحِيح انفرادا واجتماعا فِي مُجَلد ضخم وَذكر فِي أَوله أَن نِسْبَة هَذِه الْمسَائِل إِلَى الْأَئِمَّة الْمُجْتَهدين حرَام وَأَنه يجب على الْفُقَهَاء المقلدين لَهُم مَعْرفَتهَا لِئَلَّا يعزوها إِلَيْهِم فيكذبوا عَلَيْهِم هَكَذَا نَقله عَنهُ تِلْمِيذه الأدفوي نقلته من تذكرة الشَّيْخ عِيسَى الثعالبي الْجَعْفَرِي الجزائري منشأ الْمَكِّيّ وَفَاة رَحمَه الله تَعَالَى

وَقَالَ الْهَيْثَم بن جميل قلت لمَالِك بن أنس يَا أَبَا عبد الله إِن عندنَا قوما وضعُوا كتبا يَقُول أحدهم حَدثنَا فلَان عَن فلَان عَن عمر بن الْخطاب بِكَذَا وَكَذَا فلَان عَن إِبْرَاهِيم بِكَذَا ونأخذ بقول إِبْرَاهِيم قَالَ مَالك وَصَحَّ عِنْدهم قَول عمر قلت إِنَّمَا هِيَ رِوَايَة كَمَا صَحَّ عِنْدهم قَول إِبْرَاهِيم فَقَالَ مَالك هَؤُلَاءِ يستتابون ذكره ابْن الْقيم بِسَنَدِهِ إِلَى مَالك ثمَّ قَالَ فَإِذا كَانَ تَارِك قَول عمر يُسْتَتَاب فَكيف من ترك قَول الله عز وجل وَقَول رَسُوله ص بقول من هُوَ دون إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ أَو مثله انْتهى

قلت وَيَعْنِي فَيكون عِنْد مَالك من أكفر الْكَافرين بِحَيْثُ لَا يُسْتَتَاب بل هُوَ زنديق وَالله تَعَالَى أعلم

قَالَ ابْن قيم وَقَالَ ابْن وهب سَمِعت مَالِكًا يَقُول الزم مَا قَالَه رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فِي حجَّة الْوَدَاع أَمْرَانِ تركتهما فِيكُم لن تضلوا مَا تمسكتم بهما كتاب الله وَسنة نبيه ص وَقَالَ مَالك كَانَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إِمَام الْمُسلمين وَسيد الْعَالمين إِذا سُئِلَ عَن الشَّيْء فَلَا يُجيب حَتَّى يَأْتِيهِ الْوَحْي من السَّمَاء فَإِذا كَانَ رَسُول رب الْعَالمين لَا يُجيب إِلَّا بِالْوَحْي وَإِلَّا لم يجب فَمن الجرأة الْعَظِيمَة إِجَابَة من أجَاب بِرَأْيهِ أَو قِيَاس أَو تَقْلِيد من يحسن الظَّن بِهِ أَو عرف أَو عَادَة أَو سياسة أَو ذوق أَو كشف أَو مَنَام أَو اسْتِحْسَان أَو حرص وَالله الْمُسْتَعَان على كل من يُبدل دينه انْتهى من أَعْلَام الموقعين

ص: 99