الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يستكمله من الْعقل مَا يكون أفضل من عقل جَمِيع أمته وَعَسَى أَن يكون فِي أمته من هُوَ أَشد مِنْهُ اجْتِهَادًا بِبدنِهِ وجوارحه وَلما تضمن النَّبِي صلى الله عليه وسلم فِي عقله وَنِيَّته وفكره أفضل من عبَادَة جَمِيع الْمُجْتَهدين انْتهى كَلَام ابْن عبد البر بِطُولِهِ
قلت وَاعْلَم أَيهَا النَّاظر فِيمَا جمعناه أَن جَمِيع مَا ذَكرْنَاهُ من الْآثَار من أول الْمُقدمَة إِلَى آخرهَا كلهَا مَرْوِيّ بأسانيد جِيَاد حذفناها اختصارا وجلها لحافظ الْمغرب أبي عمر بن عبد البر من كتاب الْعلم والتمهيد والاستذكار والاستيعاب كلهَا لَهُ وَمَا عداهُ فَمن كَلَام حَافظ الْمشرق أبي بكر الْبَيْهَقِيّ وَقَلِيل مِنْهُ نقلته بِسَنَدِهِ من رِسَالَة عَلامَة الْمُجْتَهدين مُحَمَّد بن إِدْرِيس الشَّافِعِي وَالله الْمُوفق للصَّوَاب وَإِلَيْهِ الْمرجع والمآب
الْمَقْصد الأول فِيمَا قَالَ الإِمَام أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه أهل المناقب المنيفة
قَالَ فِي خزانَة الرِّوَايَات فصل فِي كَيْفيَّة الِاجْتِهَاد وَبَعض مسَائِل التَّقْلِيد وَالْفَتْوَى وَجَوَاز الْعَمَل على النُّصُوص وَالْأَخْبَار وَالْعَمَل على غير مذْهبه إِلَى أَن قَالَ وَفِي دستور السالكين فَإِن قيل لَو كَانَ الْمُقَلّد غير الْمُجْتَهد عَالما مستدلا يعرف قَوَاعِد الْأُصُول ومعاني النُّصُوص وَالْأَخْبَار هَل يجوز لَهُ أَن يعْمل عَلَيْهَا وَكَيف يجوز لِأَنَّهُ قيل لَا يجوز لغير الْمُجْتَهد أَن يعْمل إِلَّا على رِوَايَات مذْهبه وفتاوي إِمَامه وَلَا يشْتَغل بمعاني النُّصُوص وَالْأَخْبَار وَالْعَمَل عَلَيْهَا كالعامي قيل هَذَا فِي الْعَاميّ الصّرْف وَالْجَاهِل الَّذِي لَا يعرف معنى النُّصُوص وَالْأَحَادِيث وتأويلاتها وَأما الْعَالم الَّذِي يعرف معنى النُّصُوص وَالْأَخْبَار وَهُوَ من أهل الدِّرَايَة وَثَبت عِنْده صِحَّتهَا من الْمُحدثين أَو من كتبهمْ الموثوقة الْمَشْهُورَة المتداولة فَيجوز لَهُ أَن يعْمل عَلَيْهَا وَإِن كَانَ مُخَالفا لمذهبه يُؤَيّدهُ قَول أبي حنيفَة وَمُحَمّد وَالشَّافِعِيّ وَأَصْحَابه وَقَول صَاحب الْهِدَايَة وَفِي رَوْضَة الْعلمَاء الرندوسية فِي فضل الصَّحَابَة لأبي حنيفَة إِذا قلت قولا وَكتاب الله يُخَالِفهُ قَالَ اتركواقولي لكتاب الله فَقيل إِذا كَانَ خبر الرَّسُول صلى الله عليه وسلم يُخَالِفهُ قَالَ اتْرُكُوا قولي لخَبر الرَّسُول صلى الله عليه وسلم قيل إِذا كَانَ قَول الصَّحَابَة يُخَالِفهُ قَالَ اتْرُكُوا قولي لقَوْل الصَّحَابَة
وَفِي الإمتاع روى الْبَيْهَقِيّ فِي السّنَن عِنْد الْكَلَام على الْقُرْآن بِسَنَدِهِ قَالَ قَالَ الشَّافِعِي إِذا قلت قولا وَكَانَ عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم خلاف قولي فَمَا يَصح من حَدِيث النَّبِي صلى الله عليه وسلم أولى فَلَا تقلدوني وَنقل إِمَام الْحَرَمَيْنِ فِي نهايته عَن الشَّافِعِي أَنه قَالَ إِذا صَحَّ خبر يُخَالف مذهبي فَاتَّبعُوهُ وَاعْلَمُوا أَنه مذهبي وَقد صَحَّ فِي منصوصاته أَنه قَالَ إِذا بَلغَكُمْ عني مَذْهَب وَصَحَّ عنْدكُمْ خبر على مُخَالفَته فاعلموا أَن مذهبي مُوجب الْخَبَر
وروى الْخَطِيب بِإِسْنَادِهِ أَن الداركي من الشَّافِعِيَّة كَانَ يستفتي وَرُبمَا يُفْتِي بِغَيْر مَذْهَب الشَّافِعِي
وَأبي حنيفَة فَيُقَال لَهُ هَذَا يُخَالف قَوْلهمَا فَيَقُول وَيْلكُمْ حدث فلَان عَن فلَان عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم بِكَذَا وَكَذَا وَالْأَخْذ بِالْحَدِيثِ أولى من الْأَخْذ بقولهمَا إِذا خالفا وَكَذَا يُؤَيّدهُ مَا ذكره فِي الْهِدَايَة فِي مَسْأَلَة صَوْم المحتجم وَلَو احْتجم فَظن أَن ذَلِك يفْطر ثمَّ أكل مُتَعَمدا عَلَيْهِ الْقَضَاء وَالْكَفَّارَة لِأَن الظَّن مَا اسْتندَ إِلَى دَلِيل شَرْعِي إِلَّا إِذا أفتاه فَقِيه بِالْفَسَادِ لِأَن الْفَتْوَى دَلِيل شَرْعِي فِي حَقه وَلَو بلغه الحَدِيث وَاعْتَمدهُ فَكَذَلِك عِنْد مُحَمَّد رحمه الله لِأَن قَول رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لَا ينزل عَن قَول الْمُفْتِي وَفِي الْكَافِي والْحميدِي أَولا يكون أدنى دَرَجَة من قَول الْمُفْتِي وَقَول الْمُفْتِي يصلح دَلِيلا شَرْعِيًّا فَقَوْل الرَّسُول أولى وَعَن ابي يُوسُف خلاف ذَلِك لِأَن على الْعَاميّ الِاقْتِدَاء بالفقهاء لعدم الاهتداء فِي حَقه إِلَى معرفَة الْأَحَادِيث وَإِن عرف تَأْوِيله تجب الْكَفَّارَة وَفِي كتاب السيافري الِاتِّفَاق وَأما الْجَواب عَن قَول أبي يُوسُف أَن على الْعَاميّ الِاقْتِدَاء بالفقهاء فَمَحْمُول على الْعَاميّ الصّرْف الْجَاهِل الَّذِي لَا يعرف معنى الْأَحَادِيث وتأويلاتها لِأَنَّهُ أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله لعدم الاهتداء إِلَى معرفَة الْأَحَادِيث وَكَذَا قَوْله وَإِن عرف تَأْوِيله تجب الْكَفَّارَة يُشِير إِلَى أَن المُرَاد بالعامي غير الْعَالم وَفِي الْحميدِي الْعَاميّ مَنْسُوب إِلَى الْعَامَّة وهم الْجُهَّال فَعلم من هَذِه الإشارات أَن مُرَاد أبي يُوسُف رحمه الله أَيْضا عَن الْعَاميّ الْجَاهِل الَّذِي لَا يعرف معنى النَّص وتأويله فَفِيمَا ذكر من قَول أبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ وَمُحَمّد رحمهم الله ينْدَفع قَول الْقَائِل بِوُجُوب الْعَمَل بالرواية بِخِلَاف النَّص انْتهى كَلَام صَاحب الخزانة قَالَ الْفَقِيه أَبُو اللَّيْث نصر بن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم السَّمرقَنْدِي
بَاب من يصلح للْفَتْوَى
قَالَ الْفَقِيه لَا يَنْبَغِي لأحد أَن يُفْتِي إِلَّا أَن يعرف أقاويل الْعلمَاء يَعْنِي أَبَا حنيفَة وصاحبيه وَيعلم من أَيْن قَالُوا وَيعرف معاملات النَّاس فَإِن عرف أقاويل الْعلمَاء وَلم يعرف مذاهبهم فَإِن سَأَلَ عَن مَسْأَلَة يعلم أَن علماءه الَّذين ينتحل مذاهبهم قد أفتوا عَلَيْهِ فَلَا بَأْس بِأَن يَقُول هَذَا جَائِز وَهَذَا لَا يجوز وَيكون قَوْله على سَبِيل الْحِكَايَة وَإِن كَانَت مَسْأَلَة قد اخْتلف فِيهَا فَلَا بَأْس أَن يَقُول هَذَا جَائِز على قَول فلَان وَلَا يجوز فِي قَول فلَان وَلَا يجوز لَهُ أَن يخْتَار قولا ويجيب بقول بَعضهم مالم يعرف حجَّته
حَدثنَا إِبْرَاهِيم بن يُوسُف عَن أبي حنيفَة أَنه قَالَ لَا يحل لأحد أَن يُفْتِي بقولنَا مالم يعلم من أَيْن قُلْنَا وَرُوِيَ عَن عَاصِم بن يُوسُف أَنه قيل لَهُ إِنَّك تكْثر الْخلاف لأبي حنيفَة فَقَالَ إِن أَبَا حنيفَة قد أُوتِيَ مالم نُؤْت فَأدْرك فهمه مَا لَا ندرك وَنحن لم نُؤْت من الْفَهم إِلَّا مَا أوتينا وَلَا
يسعنا أَن نفتي بقوله مالم نفهم من أَيْن قَالَ وَرُوِيَ عَن عِصَام بن يُوسُف أَنه قَالَ كنت فِي مأتم فَاجْتمع فِيهِ أَرْبَعَة من أَصْحَاب أبي حنيفَة زفر بن الْهُذيْل وَأَبُو يُوسُف وعافية بن يزِيد وَآخر فكلهم أَجمعُوا أَنه لَا يحل لأحد أَن يُفْتِي بقولنَا مالم يعلم من أَيْن قُلْنَاهُ انْتهى قلت وَمعنى قَوْله من أَيْن قُلْنَاهُ أَي مالم يعلم دَلِيل قَوْلنَا وحجته وَفِي كَلَام هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّة إِشَارَة إِلَى أَنهم لَا يبيحون لغَيرهم أَن يقلدوهم فِيمَا يَقُولُونَ بِغَيْر أَن يعلمُوا دَلِيل قَوْلهم وَهَذَا الَّذِي ذكره أَبُو اللَّيْث نقل فِي خزانَة الرِّوَايَات مثله عَن السِّرَاجِيَّة وَغَيرهَا قَالَ فِي أَعْلَام الموقعين قَالَ شَدَّاد بن حَكِيم عَن زفر بن الْهُذيْل إِنَّمَا نَأْخُذ بِالرَّأْيِ إِذا لم نجد الْأَثر فَإِذا جَاءَ الْأَثر تركنَا الرَّأْي وعملنا بالأثر انْتهى
قلت وَفِي أصُول اللامشي وَلَا عيب على من اتبع الْأَثر فَمن قَالَ إِن الرِّوَايَة حَقِيقَة بِالْعَمَلِ لَا الحَدِيث فقد أهان الحَدِيث والإهانة كفر وَقَالَ شيخ مَشَايِخنَا مُحَمَّد بن حَيَاة قَالَ ابْن الشّحْنَة فِي نِهَايَة النِّهَايَة وَإِن كَانَ أَي ترك الإِمَام الحَدِيث لضعف فِي طَرِيقه فينظران كَانَ لَهُ طَرِيق غير الطَّرِيق الَّذِي ضعفه بِهِ فَيَنْبَغِي أَن تعْتَبر فَإِن صَحَّ عمل بِالْحَدِيثِ وَيكون ذَلِك مذْهبه وَلَا يخرج مقلده عَن كَونه حنفيا بِالْعَمَلِ بِهِ فقد صَحَّ أَنه قَالَ إِذا صَحَّ الحَدِيث فَهُوَ مذهبي كَذَا قَالَ بعض مِمَّن صنف فِي هَذَا الْمَقْصُود وَقَالَ فِي الْبَحْر وَإِن لم يستفت وَلَكِن بلغه الْخَبَر وَهُوَ قَوْله عَلَيْهِ وعَلى آله الصَّلَاة وَالسَّلَام أفطر الحاجم والمحجوم وَقَوله الْغَيْبَة تفطر الصَّائِم وَلم يعرف النّسخ وَلَا تَأْوِيله فَلَا كَفَّارَة عَلَيْهِ عِنْدهمَا لِأَن ظَاهر الحَدِيث وَاجِب الْعَمَل خلافًا لأبي يُوسُف لِأَنَّهُ قَالَ لَيْسَ للعامي الْعَمَل بِالْحَدِيثِ لعدم علمه بالناسخ والمنسوخ قَالَ ابْن الْعِزّ فِي حَاشِيَة الْهِدَايَة قَوْله وَلَو بلغه الحَدِيث وَاعْتَمدهُ يَعْنِي أفطر الحاجم والمحجوم فَكَذَلِك عِنْد مُحَمَّد يَعْنِي أَنه لَا كَفَّارَة عَلَيْهِ إِذا احْتجم ثمَّ أكل على ظن أَن الْحجامَة فطرته مُعْتَمدًا على الحَدِيث لِأَن قَول الرَّسُول صلى الله عليه وسلم لَا ينزل عَن قَول الْمُفْتِي فِي الْعبارَة مُسَامَحَة بل هُوَ خطأ وَالْأَمر أعظم من ذَلِك وَعَن أبي يُوسُف خلاف ذَلِك يَعْنِي عَلَيْهِ الْكَفَّارَة فَإِن على الْعَاميّ الِاقْتِدَاء بالفقهاء لعدم الاهتداء فِي حَقه إِلَى معرفَة الْأَحَادِيث فِي تَعْلِيل نظر فَإِن الْمَسْأَلَة إِذا كَانَت مَسْأَلَة النزاع بَين الْعلمَاء وَقد بلغ الْعَاميّ الحَدِيث الَّذِي احْتج بِهِ أحد الْفَرِيقَيْنِ كَيفَ يُقَال فِي هَذَا أَنه غير مَعْذُور فَإِن قيل هُوَ مَنْسُوخ فقد تقدم أَن الْمَنْسُوخ مَا يُعَارضهُ وَمن سمع الحَدِيث فَعمل بِهِ وهومنسوخ فَهُوَ مَعْذُور إِلَى أَن يبلغهُ النَّاسِخ وَلَا يُقَال لمن سمع الحَدِيث الصَّحِيح لَا تعْمل بِهِ حَتَّى تعرضه على رَأْي فلَان أَو فلَان وَإِنَّمَا يُقَال لَهُ أنظر هَل هُوَ مَنْسُوخ أم لَا أما إِذا كَانَ الحَدِيث قد اخْتلف فِي نسخه كَمَا فِي هَذِه الْمَسْأَلَة فالعامل بِهِ فِي غَايَة الْعذر فَإِن تطرق الِاحْتِمَال إِلَى خطأ الْمُفْتِي أولى من تطرف الِاحْتِمَال إِلَى نسخ مَا سَمعه من الحَدِيث إِلَى أَن قَالَ وَأَيْضًا فالمنسوخ من السّنة فِي غَايَة الْقلَّة وَقد جمعه ابْن الْجَوْزِيّ فِي وَرَقَات وَقَالَ أفرد فِيهَا قدر مَا صَحَّ نسخه أَو احْتمل وَأعْرض عَمَّا لَا وَجه لنسخه وَلَا احْتِمَال وَقَالَ
فَمن سمع الحَدِيث يدع النّسخ وَلَيْسَ فِيهَا فهاتيك دَعْوَى ثمَّ قَالَ وَقد تدبرته فَإِذا هِيَ أحد وَعِشْرُونَ حَدِيثا فَإِذا كَانَ الْعَاميّ يسوغ لَهُ الْأَخْذ بقول الْمُفْتِي بل يجب عَلَيْهِ مَعَ احْتِمَال خطأ الْمُفْتِي كَيفَ لَا يسوغ الْأَخْذ بِالْحَدِيثِ فَلَو كَانَت سنة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لَا يجوز الْعَمَل بهَا بعد صِحَّتهَا حَتَّى يعْمل بهَا فلَان وَفُلَان لَكَانَ قَوْلهم شرطا فِي الْعَمَل بهَا وَهَذَا من أبطل الْبَاطِل وَلذَا أَقَامَ الله تَعَالَى الْحجَّة بِرَسُولِهِ ص دون آحَاد الْأمة وَلَا يفْرض احْتِمَال خطأ لمن عمل بِالْحَدِيثِ وَأفْتى بِهِ بعد فهمه إِلَّا وأضعاف أضعافه حَاصِل لمن أفتى بتقليد من لَا يعلم خطأه من صَوَابه وَيجوز عَلَيْهِ التَّنَاقُض وَالِاخْتِلَاف وَيَقُول القَوْل وَيرجع عَنهُ ويحكى عَنهُ عدَّة أَقْوَال وهذاكله فِيمَن لَهُ نوع أَهْلِيَّة وَأما إِذا لم يكن لَهُ أَهْلِيَّة ففرضه مَا قَالَ الله تَعَالَى {فاسألوا أهل الذّكر إِن كُنْتُم لَا تعلمُونَ} وَإِذا جَازَ اعْتِمَاد المستفتي على مَا يكْتب لَهُ من كَلَامه أَو كَلَام شَيْخه وان علا فلَان يجوز اعْتِمَاد الرجل على مَا كتبه الثِّقَات من كَلَام رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أولى بِالْجَوَازِ وَإِذا قدر أَنه لم يفهم الحَدِيث فَكَمَا لم يفهم فَتْوَى الْمُفْتِي فَيسْأَل من يعرف مَعْنَاهَا فَكَذَلِك الحَدِيث انْتهى
وَقَالَ ابْن الْعِزّ أَيْضا وَمَا يَقع لأئمة الْفَتْوَى من هَذَا أَي من ترك الْعَمَل بِالْحَدِيثِ فهم مأجورون مغْفُور لَهُم وَمن تبين لَهُ شَيْء من ذَلِك لَا يعْذر فِي التَّقْلِيد فَإِن أَبَا حنيفَة وَأَبا يُوسُف رحمه الله قَالَا لَا يحل لأحد أَن يَأْخُذ بقولنَا مالم يعلم من أَيْن أخذناه فَإِن كَانَ الرجل مُتبعا لأبي حنيفَة أَو مَالك أَو الشَّافِعِي أَو أَحْمد رحمهم الله وَرَأى فِي بعض الْمسَائِل أَن مَذْهَب غَيره أقوى مِنْهُ فَاتبعهُ كَانَ قد أحسن فِي ذَلِك وَلم يقْدَح ذَلِك فِي دينه وَلَا فِي عَدَالَته بِلَا نزاع بل هَذَا أولى بِالْحَقِّ وَأحب إِلَى الله تَعَالَى وَرَسُوله صلى الله عليه وسلم فَمن يتعصب لوَاحِد معِين غير رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَيرى أَن قَوْله هُوَ الصَّوَاب الَّذِي يجب اتِّبَاعه دون الْأَئِمَّة الْمُتَأَخِّرين فَهُوَ ضال جَاهِل بل قد يكون كَافِرًا يُسْتَتَاب فَإِن تَابَ وَإِلَّا قتل فَإِنَّهُ مَتى اعْتقد أَنه يجب على النَّاس اتِّبَاع وَاحِد بِعَيْنِه من هَذِه الْأَئِمَّة رضي الله عنهم دون الآخرين فقد جعله بِمَنْزِلَة النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَذَلِكَ كفر بل غَايَة مَا يُقَال إِنَّه يسوغ أَو يجب على الْعَاميّ أَن يُقَلّد وَاحِدًا من الْأَئِمَّة من غير تعْيين زيد وَلَا عَمْرو أما من كَانَ محبا للأئمة مواليا لَهُم يُقَلّد كل وَاحِد مِنْهُم فِيمَا يظْهر لَهُ أَنه مُوَافق للسّنة فَهُوَ محسن فِي ذَلِك وَالصَّحَابَة وَالْأَئِمَّة بعدهمْ كَانُوا مؤتلفين متفقين وَإِن تنازعوا فِي بعض فروع الشَّرِيعَة فإجماعهم حجَّة قَاطِعَة وَاخْتِلَافهمْ رَحْمَة وَاسِعَة وَمن تعصب لوَاحِد بِعَيْنِه من الْأَئِمَّة دون التَّابِعين فَهُوَ بِمَنْزِلَة من يتعصب لوَاحِد من الصَّحَابَة دون البَاقِينَ كالرافضي والناصبي والخارجي فَهَذِهِ طرق أهل الْبدع والأهواء الَّذين ثَبت بِالْكتاب وَالسّنة وَالْإِجْمَاع أَنهم مذمومون خارجون عَن الشَّرِيعَة وَمن تبين لَهُ من الْعلم مَا كَانَ خفِيا عَلَيْهِ فَاتبعهُ
فقد أصَاب زَاده الله هدى وَقد قَالَ الله تَعَالَى {وَقل رب زِدْنِي علما} وَمن جملَة أَسبَاب تسليط الفرنج على بعض بِلَاد الْمغرب والتتر على بِلَاد الْمشرق كَثْرَة التعصب والتفرق والفتن بَينهم فِي الْمذَاهب وَغَيرهَا وكل ذَلِك من اتِّبَاع الظَّن وَمَا تهوى الْأَنْفس وَلَقَد جَاءَهُم من رَبهم الْهدى وَنقل عَن الْمُضْمرَات أَن الْخَبَر فِي كَونه حجَّة فَوق الِاجْتِهَاد فَإِن خَالَفت الرِّوَايَة الحَدِيث الصَّحِيح تركت وصاحبها فَالْعَمَل بِالْحَدِيثِ أولى من الرِّوَايَة وَنقل عَن الْكِفَايَة أَن الْعَمَل بِنَصّ صَرِيح أولى من الْعَمَل بِالْقِيَاسِ
قَالَ بعض أهل التَّحْقِيق بل الْوَاجِب على من لَهُ أدنى دراية بِالْكتاب وَتَفْسِيره والْحَدِيث وفنونه أَن يتتبع كل التتبع ويميز الصَّحِيح عَن الضَّعِيف وَالْقَوِي عَن غَيره فَيتبع وَيعْمل بِمَا ثَبت صِحَّته وَكَثُرت رِوَايَته وَإِن كَانَ الَّذِي قَلّدهُ على خِلَافه وَلَا يخفى أَن الِانْتِقَال من مَذْهَب إِلَى مَذْهَب مَا كَانَ ملوما فِي الصَّدْر الأول وَقد انْتقل كبار الْعلمَاء من مَذْهَب إِلَى مَذْهَب وَهَكَذَا كَانَ من كَانَ من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَالْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة ينتقلون من قَول إِلَى قَول وَالْحَاصِل أَن الْعَمَل بِالْحَدِيثِ بِحَسب مَا بدا لصَاحب الْفَهم الْمُسْتَقيم من الْمصلحَة الدِّينِيَّة هُوَ الْمَذْهَب عِنْد الْكل وَهَذَا الإِمَام الْهمام أَبُو حنيفَة رحمه الله كَانَ يُفْتِي وَيَقُول هَذَا مَا قَدرنَا عَلَيْهِ فِي الْعلم فَمن وجد أوضح مِنْهُ فَهُوَ أولى بِالصَّوَابِ كَذَا فِي تَنْبِيه المغترين
وَعنهُ أَنه قَالَ لَا يحل لأحد أَن يَأْخُذ بقولنَا مالم يعرف مأخذه من الْكتاب وَالسّنة أَو إِجْمَاع الْأمة أَو الْقيَاس الْجَلِيّ فِي الْمَسْأَلَة وَقَالَ ملا عَليّ الْقَارِي فِي رسَالَته وَأما مَا اشْتهر بَين الْحَنَفِيَّة من أَن الْحَنَفِيّ إِذا انْتقل إِلَى مَذْهَب الشَّافِعِي يُعَزّر وَإِذا كَانَ بِالْعَكْسِ يخلع فَهُوَ قَول مُبْتَدع ومخترع نعم لَو انْتقل طاعنا فِي مَذْهَب الأول سَوَاء كَانَ حنفيا أَو شافعيا يُعَزّر وَكَذَا مَا قيل لَو انْتقل حَنَفِيّ إِلَى شَافِعِيّ لم تقبل شَهَادَته وَإِن كَانَ عَالما كَمَا فِي آخر الْجَوَاهِر وَهَذَا كَمَا ترى لَا يجوز لمُسلم أَن يتفوه بِمثلِهِ فَإِن الْمُجْتَهدين من أهل السّنة وَالْجَمَاعَة كلهم أهل الْهِدَايَة وَلَا يجب على أحد من هَذِه الْأمة أَن يكون حَنِيفا أَو شافعيا أَو مالكيا بل يجب على آحَاد النَّاس إِذا لم يكن مُجْتَهدا أَن يُقَلّد وَاحِدًا من هَؤُلَاءِ الْأَعْلَام لقَوْله تَعَالَى {فاسألوا أهل الذّكر إِن كُنْتُم لَا تعلمُونَ} وَلقَوْل بعض مَشَايِخنَا من تبع عَالما لَقِي الله سالما انْتهى وَفِي شرح عين الْعلم يسْتَحبّ الْأَخْذ بالأحوط إِذا رأى لِلْقَوْلِ الْمُخَالف لمَذْهَب إِمَامه دَلِيلا راجحا إِذْ الْمُكَلف مَأْمُور بِاتِّبَاع سيد الْأَنْبِيَاء
عَلَيْهِ وعَلى آله الصَّلَاة وَالسَّلَام
وَقَالَ عبد الحق الدهلوي فِي شرح الصِّرَاط الْمُسْتَقيم إِن التَّحْقِيق فِي قَوْلهم إِن الصُّوفِي لَا مَذْهَب لَهُ أَنه يخْتَار من رِوَايَات مذْهبه الَّذِي الْتَزمهُ للْعَمَل عَلَيْهِ مَا يكون أحوط ويوافق حَدِيثا صَحِيحا وَإِن لم يكن ظَاهر رِوَايَات ذَلِك الْمَذْهَب ومشهورها نقل عَنهُ أَنه قَالَ فِي الشَّرْح الْمَذْكُور إِذا وجد تَابع الْمُجْتَهد حَدِيثا صَحِيحا مُخَالفا لمذهبه هَل لَهُ أَن يعْمل بِهِ وَيتْرك مذْهبه فِيهِ اخْتِلَاف فَعِنْدَ الْمُتَقَدِّمين لَهُ ذَلِك قَالُوا لِأَن الْمَتْبُوع والمقتدى بِهِ هُوَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَمن سواهُ فَهُوَ تَابع لَهُ فَبعد أَن علم وَصَحَّ أَنه قَوْله ص فالمتابعة لغيره غير معقولة وَهَذِه طَريقَة الْمُتَقَدِّمين انْتهى وَفِي الظَّهِيرِيَّة وَمن فعل فعلا مُجْتَهدا أَو تقلد بمجتهد فَلَا عَار عَلَيْهِ وَلَا شناعة وَلَا إِنْكَار انْتهى وَأما الَّذِي لم يكن من أهل الِاجْتِهَاد فانتقل من قَول إِلَى قَول من غير دَلِيل لَكِن لما يرغب من عرض الدُّنْيَا وشهواتها فَهُوَ المذموم الآثم كَذَا فِي الحمادي وَأما مَا يُورد على الْأَلْسِنَة من أَن الْعَمَل على الْفِقْه لَا على الحَدِيث فتفوه لَا معنى لَهُ إِذْ من الْبَين أَن مبْنى الْفِقْه لَيْسَ إِلَّا الْكتاب وَالسّنة وَأما الْإِجْمَاع وَالْقِيَاس فَكل وَاحِد مِنْهُمَا يرجع إِلَى كل من الْكتاب وَالسّنة فَمَا معنى إِثْبَات الْعَمَل على الْفِقْه وَنفي الْعَمَل بِالْحَدِيثِ فَإِن الْعَمَل بالفقه عين الْعَمَل بِالْحَدِيثِ كَمَا عرفت وَغَايَة مَا يُمكن فِي تَوْجِيهه أَن يُقَال أَن ذَلِك حكم مَخْصُوص بشخص مَخْصُوص وَهُوَ من لَيْسَ من أهل الْخُصُوص بل من الْعَوام الَّذين هم كالهوام لَا يفهمون معنى الحَدِيث وَمرَاده وَلَا يميزون بَين صَحِيحه وضعيفه ومقدمه ومؤخره ومجمله ومفسره وموضوعه وَغير ذَلِك من أقسامه بل كل مَا يُورد عَلَيْهِم بعنوان قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَقَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم فهم يعتمدون عَلَيْهِ ويستندون إِلَيْهِ من غير تميز وَمَعْرِفَة بِأَن قَائِل ذَلِك من نَحْو الْمُحدثين أم من غَيرهم وعَلى تَقْدِير كَونه من الْمُحدثين أعدل وثقة أم لَا وَإِن كَانَ جيد الْحِفْظ أَو سيئه أَو غير ذَلِك من فنونه فَإِن ورد على الْعَاميّ حَدِيث وَيُقَال لَهُ أَنه يعْمل على الحَدِيث فَرُبمَا يكون ذَلِك الحَدِيث مَوْضُوعا وَيعْمل عَلَيْهِ لعدم التميز وَرُبمَا يكون ذَلِك الحَدِيث ضَعِيفا والْحَدِيث الصَّحِيح على خِلَافه فَيعْمل على ذَلِك الحَدِيث الضَّعِيف وَيتْرك الحَدِيث الصَّحِيح وعَلى هَذَا الْقيَاس فِي كل أَحْوَاله يغلط أَو يخلط فَيُقَال لأمثاله إِنَّه يعْمل بِمَا جَاءَ عَن الْفَقِيه لَا يعْمل بِمُجَرَّد سَماع الحَدِيث لعدم ضَبطه وَأما من كَانَ من أهل الْخُصُوص وَأهل الْخِبْرَة للْحَدِيث وفنونه فحاشا أَن يُقَال لَهُ أَنه يعْمل بِمَا جَاءَ عَن فَقِيه وَإِن كَانَت الْأَحَادِيث الْوَارِدَة فِيهِ على خلاف ذَلِك لِأَن الْعَمَل على الْفِقْه لَا على الحَدِيث هَذَا ثمَّ مَعَ هَذَا لَا يخفى مَا فِي هَذَا اللَّفْظ من سوء الْأَدَب والشناعة والبشاعة فَإِن التفوه بِنَفْي الْعَمَل على الحَدِيث على الْإِطْلَاق مِمَّا لَا يصدر من عَاقل فضلا عَن فَاضل وَلَو قيل بالتوجيه الَّذِي ذَكرْنَاهُ أَن الْعَمَل بالفقه لَا على الحَدِيث لقَالَ قَائِل بِعَين ذَلِك
التَّوْجِيه أَن الْعَمَل على الْفِقْه لَا على الْكتاب فَإِن الْعَاميّ لَا يفهم شَيْئا من الْكتاب وَلَا يُمَيّز بَين محكمه ومتشابهه وناسخه ومنسوخه ومفسره ومجمله وعامه وخاصه وَغير ذَلِك من أقسامه فصح أَن يُقَال إِن الْعَمَل على الْفِقْه لَا على الْكتاب والْحَدِيث وفساده أظهر من أَن يظْهر وشناعته أجلى من أَن تستر بل لَا يَلِيق بِحَال الْمُسلم الْمُمَيز أَن يصدر عَنهُ أَمْثَال هَذِه الْكَلِمَات على مَالا يخفى على ذَوي الفطانة والدراية وَإِذا تحققت مَا تلونا عَلَيْك عرفت أَنه لَو لم يكن نَص من الإِمَام على المرام لَكَانَ من المتبعين على أَتْبَاعه من الْعلمَاء الْكِرَام فضلا عَن الْعَوام أَن يعملوا بِمَا صَحَّ عَن سيد الْأَنَام عَلَيْهِ وعَلى آله أفضل الصَّلَاة وَالسَّلَام وَمن أنصف وَلم يتعسف عرف أَن هَذَا سَبِيل أهل التدين من السّلف وَالْخلف وَمن عدل عَن ذَلِك فَهُوَ هَالك لوصف الْجَاهِل المعاند المكابر وَلَو كَانَ عِنْد النَّاس من الأكابر وأنشدوا فِي هَذَا الْمَعْنى شعرًا
…
أهل الحَدِيث همو أهل النَّبِي وَإِن
…
لم يصحبوا نَفسه أنفاسه صحبوا
…
أماتنا الله سبحانه وتعالى على محبَّة الْمُحدثين واتباعهم من الْأَئِمَّة الْمُجْتَهدين وحشرنا مَعَ الْعلمَاء العاملين تَحت لِوَاء سيد الْمُرْسلين وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين انْتهى مَا قَالَ الْمُحَقق مُلَخصا
قلت قَوْله لَو لم يكن نَص من الإِمَام على المرام الخ المُرَاد بالمرام هَهُنَا الْعَمَل بِمَا صَحَّ عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم مَعَ كَون مَذْهَب الإِمَام مُخَالفا لَهُ وَحَاصِل كَلَامه أَنه لَو لم يُوجد نَص من الإِمَام الْمُجْتَهد على وجوب الْعَمَل بِمَا صَحَّ عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لوَجَبَ على المتبعين لَهُ من الْعلمَاء والعوام الْعَمَل بِمَا صَحَّ عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَكيف مَعَ وجود النَّص مِنْهُ على ذَلِك والحض عَلَيْهِ وَالْوَصِيَّة بِهِ فَالْعَمَل بِهِ وَاجِب على اتِّبَاع الْأمة بِمُوجب مَا ثَبت عَنْهُم من الحض عَلَيْهِ وَالْوَصِيَّة بِهِ فَمن لم يعْمل بِمَا ثَبت عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم فقد خَالف إِمَامه وَكذب فِي دَعْوَى تَقْلِيده أُمُوره ومرامه
وَقَالَ ملا عَليّ الْقَارِي فِي رسَالَته فِي إِشَارَة المسبحة وَقد أغرب الكيد أَنِّي حَيْثُ قَالَ الْعَاشِر من الْمُحرمَات الْإِشَارَة بالسبابة كَأَهل الحَدِيث أَي مثل جمَاعَة يجمعهُمْ الْعلم بِحَدِيث الرَّسُول صلى الله عليه وسلم وَهَذَا مِنْهُ خطأ عَظِيم جرم جسيم منشأه الْجَهْل بقواعد الْأُصُول ومراتب الْفُرُوع من الْمَنْقُول وَلَوْلَا حسن الظَّن بِهِ وَتَأْويل كَلَام نَفسه لَكَانَ كفره صَرِيحًا وارتداده صَحِيحا فَهَل لمُؤْمِن أَن يحرم مَا ثَبت فعله مِنْهُ صلى الله عليه وسلم بِمَا كَاد نَقله ان يكون متواترا وَيمْنَع جَوَاز مَا عَلَيْهِ عَامَّة الْعلمَاء كَابِرًا عَن كَابر مكابرا وَالْحَال أَن الإِمَام الْأَعْظَم والهمام الأقدم قَالَ لَا يحل لأحد أَن يَأْخُذ بقولنَا مالم يعلم مأخذه من الْكتاب وَالسّنة وَإِجْمَاع الْأمة وَالْقِيَاس الْجَلِيّ فِي الْمَسْأَلَة فَإِذا عرفت هَذَا فَاعْلَم أَنه لَو لم يكن نَص للْإِمَام على المرام لَكَانَ من الْمُتَعَيّن على أَتْبَاعه من الْعلمَاء الْكِرَام فضلا عَن الْعَوام أَن يعملوا بِمَا صَحَّ عَنهُ عَلَيْهِ وعَلى آله الصَّلَاة وَالسَّلَام وَكَذَا لَو صَحَّ عَن
الإِمَام فرضا نفى الْإِشَارَة وَصَحَّ إِثْبَاتهَا عَن صَاحب الْإِشَارَة فَلَا شكّ فِي تَرْجِيح الْمُثبت الْمسند إِلَيْهِ صلى الله عليه وسلم كَيفَ وَقد وجد نَقله الصَّرِيح بِمَا ثَبت بِالْإِسْنَادِ الصَّحِيح فَمن أنصف وَلم يتعسف عرف أَن هَذَا سَبِيل أهل التدين من السّلف وَالْخلف وَمن عدل عَن ذَلِك فَهُوَ هَالك يُوصف بالجاهل المعاند المكابر وَلَو كَانَ عِنْد النَّاس من الأكابر انْتهى
قَالَ فِي الْبَحْر الرَّائِق يجوز تَقْلِيد من شَاءَ من الْمُجْتَهدين وَإِن دونت الْمذَاهب كَالْيَوْمِ فَلهُ الِانْتِقَال من مذْهبه انْتهى قَالَ شيخ مشائخنا مُحَمَّد بن حَيَاة وَهَذَا الَّذِي ذكره هُوَ الَّذِي دلّ عَلَيْهِ الْكتاب وَالسّنة وأقوال الْعلمَاء الأخيار من السَّابِقين واللاحقين وَلَا عِبْرَة بقول من قَالَ خلاف هَذَا فَإِن كل قَول يُخَالف كتاب الله وَسنة رَسُوله صلى الله عليه وسلم وأقوال الْعلمَاء الَّذين هم صُدُور الدّين فَهُوَ مَرْدُود على قَائِله وَلَا أَظُنهُ إِلَّا عديم الْعلم كثير التعصب وَالله الْمُوفق لما يحب ويرضى انْتهى
وَقَالَ فِي أَعْلَام الموقعين أَصْحَاب أبي حنيفَة رحمه الله مجمعون على أَن مَذْهَب أبي حنيفَة أَن ضَعِيف الحَدِيث مقدم على الْقيَاس والرأي وعَلى ذَلِك بِنَاء مذْهبه كَمَا قدم حَدِيث القهقهة مَعَ ضعفه على الْقيَاس والرأي وَقدم حَدِيث الْوضُوء بنبيذ التَّمْر فِي السّفر مَعَ ضعفه على الرَّأْي وَالْقِيَاس وَمنع قطع السَّارِق بِسَرِقَة أقل من عشرَة دَرَاهِم والْحَدِيث فِيهِ ضَعِيف وَجعل أَكثر الْحيض عشرَة أَيَّام والْحَدِيث فِيهِ ضَعِيف وَترك الْقيَاس الْمَحْض فِي مسَائِل الابار لآثار فِيهَا غير مَرْفُوعَة فتقديم الحَدِيث الضَّعِيف وآثار الصَّحَابَة على الْقيَاس والرأي هُوَ قَول أبي حنيفَة وَأحمد انْتهى
قَالَ شيخ مَشَايِخنَا الْمُحَقق أَبُو الْحسن السندي فِي حَوَاشِيه على فتح الْقَدِير عِنْد قَوْله لِأَن الحكم فِي حق الْعَاميّ فَتْوَى مفتيه أَفَادَ أَنه لايتعين فِي حق الْعَاميّ الْأَخْذ بِمذهب معِين لعدم اهتدائه لما هُوَ أولى وَأَحْرَى إِلَّا على وَجه الْهوى كَمَا عَلَيْهِ الْعَوام الْيَوْم وَلَا يتَعَيَّن لَهُ بِمثلِهِ الْأَخْذ بذلك الْمَذْهَب إِذْ لَا عِبْرَة لمثله فِي الشرعيات وَالتَّرْجِيح بِلَا مُرَجّح وَالتَّعْيِين بِلَا معِين مِمَّا لَا سَبِيل إِلَيْهِ فَالْوَاجِب على هَذَا فِي حَقه الْأَخْذ بقول عَالم يوثق بِهِ فِي الدّين لقَوْله تَعَالَى {فاسألوا أهل الذّكر إِن كُنْتُم لَا تعلمُونَ} وَمثله مَا قَالَ فِي الْبَحْر بعد مَا نقل من الْمُحِيط كلَاما بسيطا قَالَ وَقد علم من هَذَا أَن مَذْهَب الْعَاميّ فَتْوَى مفتيه من غير تَقْيِيد بِمذهب وَلِهَذَا قَالَ فِي فتح الْقَدِير الحكم فِي حق الْعَاميّ فَتْوَى مفتيه انْتهى
قلت وَرَأَيْت مثله مَنْقُولًا عَن بعض الْفُقَهَاء الشَّافِعِيَّة أَيْضا فعلى هَذَا لَا يَنْبَغِي ترك الِاقْتِدَاء بالعلماء وَأهل الصّلاح معللين بِأَنَّهُم مخالفون لمذهبهم إِذْ لَا مَذْهَب لَهُم فضلا عَن أَن يكون أحد مُخَالفا لَهُم فِي الْمَذْهَب فالعجب مِمَّن يفتيهم بِذَاكَ وَالله أعلم انْتهى قلت وَرَأَيْت للمحقق الْمَذْكُور
كلَاما نفيسا فِيمَا نَحن بصدده ذكره فِي حَاشِيَته عل فتح الْقَدِير فلننقله بِطُولِهِ وَإِن كَانَ فِي بعضه تكْرَار مَعَ بعض مَا تقدم قَالَ عِنْد قَول الْمُحَقق ابْن الْهمام لِأَن قَول الْمُفْتِي يُورث الشُّبْهَة المسقطة فَقَوْل رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وعَلى أفضل الصَّلَوَات وأشرف التسليمات أولى نَصه هَذَا أحسن من كَلَام صَاحب الْهِدَايَة لِأَن قَول الرَّسُول عليه الصلاة والسلام لَا ينزل عَن قَول الْمُفْتِي قَالَ ابْن الْعِزّ فِي عبارَة الْهِدَايَة مُسَامَحَة بل خطأ وَالْأَمر أعظم من ذَلِك لَكِن يُفِيد كَلَام الْمُحَقق أَن قَول الرَّسُول صلى الله عليه وسلم أولى بإيراث الشُّبْهَة فِي حق الْعَاميّ لَا أَنه أولى بِصِحَّة الْعَمَل بِهِ فِي حق لعامي وَإِلَيْهِ يُشِير قَوْله لِأَن الحكم فِي حق الْعَاميّ فَتْوَى مفتيه إِلَّا أَن يُقيد بِأَن ذَلِك قبل بُلُوغ الْخَبَر كَمَا هُوَ الظَّاهِر من شَأْنه لَكِن هَذَا خلاف مَا يُفِيد كَلَام الْكَافِي والْحميدِي كَمَا سَيَجِيءُ وَخلاف التَّحْقِيق الْحقيق بِالْقبُولِ وَلذَا قَالَ ابْن الْعِزّ فِي تَعْلِيل أبي يُوسُف نظر فَإِن الْمَسْأَلَة إِذا كَانَت مَحل نزاع بَين الْعلمَاء وَقد بلغ الْعَاميّ الحَدِيث الَّذِي احْتج بِهِ أحد الْفَرِيقَيْنِ فَأخذ بِهِ فَكيف يُقَال فِي هَذَا أَنه غير مَعْذُور قلت إِذا بلغه أَن الْمَسْأَلَة مَحل النزاع فيكفيه ذَلِك فِي الشُّبْهَة لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَة فَتْوَى الْمُفْتِي فَكيف إِذا بلغه مَعَ ذَلِك الحَدِيث أَيْضا فَمحل الْكَلَام مَا إِذا لم يبلغهُ أَن الْمَسْأَلَة مَحل النزاع وبلغه الحَدِيث فَقَط وَالظَّاهِر أَنه مَعْذُور فِي هَذِه الصُّورَة أَيْضا لِأَن الحَدِيث حجَّة فِي نَفسه ثمَّ قَالَ مَا حَاصله أَن احْتِمَال النّسخ لَا يضر فَإِن من سمع الحَدِيث الصَّحِيح فَعمل بِهِ وَهُوَ مَنْسُوخ فَهُوَ مَعْذُور إِلَى أَن يبلغهُ النَّاسِخ وَلَا يُقَال لمن سمع الحَدِيث الصَّحِيح لَا يعْمل بِهِ حَتَّى يعرضه على رَأْي فلَان أَو فلَان فَإِنَّمَا يُقَال لَهُ انْظُر هَل هُوَ مَنْسُوخ أم لَا أما إِذا كَانَ الحَدِيث قد اخْتلف فِي نسخه كَمَا فِي هَذِه الْمَسْأَلَة فالعامل بِهِ فِي غَايَة الْعذر فَإِن تطرق الِاحْتِمَال إِلَى خطأ الْمُفْتِي أقوى من تطرق الِاحْتِمَال إِلَى نسخ مَا سَمعه من الحَدِيث
قَالَ أَبُو عمر بن عبد البر لما ذكر قَول النَّبِي صلى الله عليه وسلم لَا تستقبلوا الْقبْلَة بغائط وَلَا بَوْل وَلَا تستدبروا بهما قَالَ أَبُو أَيُّوب فقدمنا الشَّام فَوَجَدنَا مراحيض قد بنيت قبل الْقبْلَة فننحرف عَنْهَا ونستغفر الله عز وجل هَكَذَا يجب على كل من بلغه شَيْء يَسْتَعْمِلهُ على عُمُومه حَتَّى يثبت عِنْده مَا يَخُصُّهُ أَو ينسخه انْتهى
قَالَ الشَّافِعِي رحمه الله أجمع الْمُسلمُونَ على أَن من استبان لَهُ سنة من رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لم يحل لَهُ أَن يَدعهَا لقَوْل أحد وَأَيْضًا فَإِن الْمَنْسُوخ من السّنة فِي غَايَة الْقلَّة حَتَّى عده بعهضم إِحْدَى وَعشْرين حَدِيثا وَإِذا كَانَ الْعَاميّ يسوغ لَهُ الْأَخْذ بقول الْمُفْتى بل يجب عَلَيْهِ مَعَ احْتِمَال خطأ الْمُفْتِي كَيفَ لَا يسوغ لَهُ الْأَخْذ بِالْحَدِيثِ إِذا فهم مَعْنَاهُ وَإِن احْتمل النّسخ وَلَو كَانَت سنة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لَا يسوغ الْعَمَل بهَا بعد صِحَّتهَا حَتَّى يعْمل بهَا فلَان وَفُلَان لَكَانَ قَوْلهم شرطا فِي الْعَمَل بهَا وَهَذَا من أبطل الْبَاطِل وَقد أَقَامَ الله تَعَالَى الْحجَّة بِرَسُولِهِ
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دون آحَاد الْأمة وَلَا يعرض احْتِمَال الْخَطَأ لمن عمل بِالْحَدِيثِ وَأفْتى بِهِ بعد فهمه إِلَّا وأضعاف أضعافه حَاصِل لمن أفتى بتقليد من لَا يعلم خَطؤُهُ من صَوَابه وَيجْرِي عَلَيْهِ التَّنَاقُض والاختلال وَيَقُول القَوْل وَيرجع عَنهُ ويحكى عَنهُ فِي الْمَسْأَلَة عدَّة أَقْوَال وَهَذَا كُله فِيمَن لَهُ نوع أَهْلِيَّة أما إِذا لم يكن لَهُ أَهْلِيَّة ففرضه مَا قَالَ الله تَعَالَى {فاسألوا أهل الذّكر إِن كُنْتُم لَا تعلمُونَ} وَإِذا جَازَ اعْتِمَاد المستفتي على مَا يَكْتُبهُ لَهُ الْمُفْتِي من كَلَامه أَو كَلَام شَيْخه وَإِن علا فَلِأَن يجوز اعْتِمَاد الرجل على مَا كتبه الثِّقَات من كَلَام رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أولى بِالْجَوَازِ وَلَو قدر أَنه لم يفهم الحَدِيث فَكَمَا لَو لم يفهم فَتْوَى الْمُفْتِي يسْأَل من يعرفهَا فَكَذَلِك الحَدِيث انْتهى كَلَامه
قلت لَعَلَّ أَبَا يُوسُف أَرَادَ بالعامي من لَا أَهْلِيَّة لَهُ وَإِلَيْهِ يُشِير كَلَام الْأَكْمَل فِي الْعِنَايَة وَغَيره فَلَا يُنَافِي كَلَامه مَا ذكر ابْن الْعِزّ فِيمَن لَهُ نوع أَهْلِيَّة لَكِن قد يُقَال الْكَلَام فِيمَن عرف الحَدِيث الصَّحِيح بِمَعْنَاهُ وَهَذَا الرجل بعد الْمعرفَة لَيْسَ بعامي فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَة حَتَّى يحْتَاج إِلَى السُّؤَال لقَوْله تَعَالَى {فاسألوا أهل الذّكر إِن كُنْتُم لَا تعلمُونَ بِالْبَيِّنَاتِ والزبر} وَهَذَا الرجل قد علم بِالْبَيِّنَةِ فِي هَذِه الْمَسْأَلَة لِأَن الحَدِيث بعد مَا علم صِحَّته حجَّة لمن علم بِمَعْنَاهُ وَهُوَ الْمَفْرُوض فِي الْمَسْأَلَة إِلَّا أَن يُقَال إِن ذَلِك حجَّة وَبَيِّنَة لمن علم عدم الْمعَارض علما يعْتد بِهِ وَلَا اعْتِدَاد بِعلم مثل هَذَا الْعَاميّ إِن علم عدم الْمعَارض فَكيف إِذا لم يعلم لَكِن ذَلِك إِذا لم يعلم أَن أحدا مِمَّن يعْتد بِعِلْمِهِ أَخذ بِهَذَا الحَدِيث وَعمل بِهِ وَأما إِذا علم ذَلِك يصير حجَّة لمعْرِفَة عدم الْمعَارض عِنْد من يعْتد بِعِلْمِهِ وَعلم من يعْتد بِعِلْمِهِ عدم الْمعَارض كَمَا هُوَ كَاف فِي الْعَمَل وحجية الحَدِيث لذَلِك الْعَالم كَاف لمن أخبرهُ ذَلِك الْعَالم أَو لمن علم بِعِلْمِهِ بِوَجْه مَا وَلَا يظْهر الْفرق وإبداء الْفرق يتَكَلَّف لَا ينفع بل هُوَ تحكم وَالله تَعَالَى أعلم بَقِي أَن الحَدِيث وَإِن لم يكن حجَّة فِي حق الْعَاميّ إِلَّا بِالشّرطِ الْمَذْكُور لَكِن لَا أقل من أَن يكون شُبْهَة فِي حَقه فِي دَرْء الْكَفَّارَة إِذْ لَا شكّ أَن الشُّبْهَة أدنى من الْحجَّة فنفي كَونه حجَّة لَا يسْتَلْزم نفي كَونه شُبْهَة وَقد يُقَال لَا يكون الحَدِيث حجَّة مَعَ مُخَالفَة الْإِجْمَاع والعامي لَا يعرف ذَلِك فَلَا يكون الحَدِيث حجَّة فِي حَقه لَكِن يَدْفَعهُ أَنا قد فَرضنَا الْكَلَام فِيمَا إِذا أَخذ بِالْحَدِيثِ من يعْتد بِعِلْمِهِ وَلَا شكّ أَن أَخذه بِالْحَدِيثِ يتَضَمَّن نفي علمه بِإِجْمَاع سَابق على خلاف الحَدِيث وَقد فَرضنَا أَن علمه كَاف لَهُ فِي الْأَخْذ بِالْحَدِيثِ بَقِي أَنه يُمكن أَن يكون هُنَاكَ إِجْمَاع لَاحق على خِلَافه وَهُوَ ينْدَفع بِأَن يفْرض ذَلِك الْعَالم مِمَّن يمْنَع خِلَافه اتِّفَاقًا من انْعِقَاد إِجْمَاع لَاحق بِأَن يسْتَمر خِلَافه كالأئمة الْأَرْبَعَة رحمهم الله وَلَا يخفى أَنه لَا مَانع حِينَئِذٍ فِي حق هَذَا الْعَاميّ من الْعَمَل بِالْحَدِيثِ وَهُوَ حجَّة فِي نَفسه فَيَنْبَغِي أَن يجب عَلَيْهِ الْعَمَل بِهِ كَمَا وَجب على ذَلِك الْعَالم الَّذِي يعْتد بِعِلْمِهِ لظُهُور أَنَّهُمَا اسْتَويَا فِي فهم مَعْنَاهُ وَقد علم أَن فهم ذَلِك الْعَالم هُوَ منَاط التَّكْلِيف فِي حَقه فكونه لَا يكون مناطا فِي حق هَذَا الْعَاميّ مَعَ علمه بِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي كَانَ مناطا فِي حق ذَلِك الْعَالم وَمَعَ فرض أَنه لَا مَانع من نسخ أَو معَارض أَو إِجْمَاع يمْنَع الْعَمَل وَإِلَّا لما سَاغَ لذَلِك
الْعَالم الْعَمَل بِهِ وَقد تحقق علمه بِهِ بِحكم بحت عِنْد النّظر السديد وَلَا أقل من أَن يجوز لَهُ الْعَمَل بِهِ حِينَئِذٍ فَإِن قلت ذهن الْعَاميّ لَا يَخْلُو عَن دغدغة معَارض يتَمَسَّك بِهِ من خَالف هَذَا الحَدِيث فَكيف يكون الحَدِيث حجَّة فِي حَقه قلت ذَلِك معَارض متوهم فَلَا يمْنَع الْعَمَل بِمَا هُوَ الْمَوْجُود فِي حَقه إِذْ الأَصْل عدم الْمعَارض وَلَو كَانَ مثله مَانِعا لَكَانَ مَانِعا لذَلِك الْعَالم أَيْضا وَقد علم أَنه لَيْسَ بمانع فِي حَقه فَلَا يصير مَانِعا فِي حق هَذَا الْعَاميّ أَيْضا وَأما الَّذِي خَالف هَذَا الحَدِيث فَيجوز أَن خِلَافه بِنَاء على عدم وُصُول هَذَا الحَدِيث إِلَيْهِ فَشَا رَأْيه وَلَا يجوز الْأَخْذ بِالرَّأْيِ فِي مُقَابلَة النَّص بعد ظُهُوره فَيجب تَركه والمصير إِلَى النَّص وَمُجَرَّد الدغدغة لَا تصلح للاعتذار بعد ظُهُور الْبُرْهَان وَلَا يحل التَّمَسُّك بهَا فِي مُقَابلَة الْحجَج والتبيان ثمَّ الْعجب أَنه كَيفَ يجوز لَهُ أَن يَأْخُذ بقول فَقِيه يتَوَهَّم أَن يكون حجَّة وَيتْرك نَص رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بِهَذِهِ الدغدغة فَهَل هَذَا إِلَّا كالقيام تَحت الْمِيزَاب والفرار من الْمَطَر نعم هَذَا إِذا بلغه الحَدِيث أَو حديثان متوافقان مثلا وَأما إِذا بلغه الْأَحَادِيث من الطَّرفَيْنِ فَلَا يتَمَكَّن من الْعَمَل بِالْحَدِيثِ وَمن تَمْيِيز الرَّاجِح من الْمَرْجُوح اسْتِقْلَالا إِلَّا من لَهُ أَهْلِيَّة نعم يجوز لَهُ الْعَمَل بِأحد الْحَدِيثين تبعا لعالم يعْتد بِعِلْمِهِ وَذَلِكَ فِي الْحَقِيقَة يرجع إِلَى الْأَخْذ بقوله فتلخص من مَجْمُوع هذاالكلام أَنه إِذا بلغ الْعَاميّ حَدِيث صَحِيح من أَحَادِيث الرَّسُول صلى الله عليه وسلم وَعلم صِحَّته وَمَعْنَاهُ وَوَافَقَ فهمه فهم عَالم يعْتد بِعِلْمِهِ وَعلم بِتِلْكَ الْوَاقِعَة وَبِأَن ذَلِك الْعَالم أَخذ بذلك الحَدِيث فَفِي هَذِه الصُّورَة يَنْبَغِي أَن يجب عَلَيْهِ الْعَمَل بذلك الحَدِيث قَالَ كَانَ الله لَهُ وَإِن لم يجب الْعَمَل بِالْحَدِيثِ فَلَا أقل من الْجَوَاز وَذَلِكَ لِأَن الْمَوَانِع من الْعَمَل من النَّاسِخ والمعارض وَالْإِجْمَاع قُصُور الْفَهم فِي مَعْنَاهُ منتفية بموافقة ذَلِك الْعَالم وَالْأَخْذ بِهِ كَمَا تقرر فَمَا بَقِي إِلَّا أَن لَا يكون ذَلِك الحَدِيث حجَّة وَذَلِكَ لَا يَقُول بِهِ مُسلم وَبعد ذَلِك فَمن يَقُول إِنَّه لَا يجب عَلَيْهِ الْعَمَل أَو لَا يجوز فَلَا نرَاهُ إِلَّا أَنه يُرِيد وضع حجَّة من حجج الله تَعَالَى الْقَائِمَة على نَفسه بِمُجَرَّد التَّوَهُّم والتخيل وَلَيْسَ هَذَا شَأْن الْمُسلم لله عز وجل وَرَسُوله صلى الله عليه وسلم
قَالَ شَيخنَا إِمَام الْحَرَمَيْنِ مؤلف هَذِه الرسَالَة قَوْله وقصور الْفَهم قلت بل عذر الْقُصُور فِي الْفَهم غير مُسلم فقد صَرَّحُوا بِالْفرقِ بَين الْقيَاس وَالدّلَالَة بِأَن الْمَفْهُوم بِالْقِيَاسِ لَا يفهمهُ إِلَّا أهل الِاجْتِهَاد بِخِلَاف الْمَفْهُوم بِالدّلَالَةِ فَإِنَّهُ يُشَارِكهُ فِيهِ أهل الرَّأْي وَغَيرهم وَهَذَا مِمَّا صَرَّحُوا بِهِ فِي الْأُصُول وَغَيره فَإِذا كَانَ حَال الدّلَالَة هَذِه فَمَا حَال صَرِيح النَّص فالاعتذار بِعَدَمِ الْفَهم بَاطِل قطعا وَالْعجب من الَّذِي يَقُول أَمر الحَدِيث عَظِيم وَلَيْسَ لمثلنا أَن يفهم فَكيف يعْمل بِهِ وَجَوَابه بعد أَن فَرضنَا مُوَافقَة فهمه لفهم ذَلِك الْعَالم الَّذِي يعْتد بِعِلْمِهِ وفهمه بِالْإِجْمَاع أَنه إِن كَانَ الْمَقْصُود بِهَذَا تَعْظِيم الحَدِيث وتوقيره فَالْحَدِيث أعظم وَأجل لَكِن من جملَة تَعْظِيمه وتوقيره أَنه يعْمل
بِهِ وَيسْتَعْمل فِي مواده فَإِن ترك المقالات بِهِ إهانة لَهُ نَعُوذ بِاللَّه مِنْهُ وَقد حصل فهمه على الْوَجْه الَّذِي هُوَ منَاط التَّكْلِيف حَيْثُ وَافق فهم ذَلِك الْعَالم فَترك الْعَمَل بذلك الْفَهم لَا يُنَاسب التَّعْظِيم والإجلال فَمُقْتَضى التَّعْظِيم والإجلال الْأَخْذ بِهِ لَا بِتَرْكِهِ وَإِن كَانَ الْمَقْصُود مُجَرّد الرَّد عَن نَفسه بعد ظُهُور الْحق فَهَذَا لَا يَلِيق بشأن مُسلم فَإِن الْحق أَحَق بالاتباع إِذْ لَا يعلم ذَلِك الرجل أَن الله عز وجل قد أَقَامَ بِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم الْحجَّة على من هُوَ أغبى مِنْهُ من الْمُشْركين الَّذين كَانُوا يعْبدُونَ الْأَحْجَار وَقد قَالَ تَعَالَى فيهم {أُولَئِكَ كالأنعام بل هم أضلّ} فَهَل أَقَامَ عَلَيْهِم الْحجَّة من غير فهم أَو فَهموا كَلَام رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَإِن فهم هَؤُلَاءِ الأغبياء فَكيف لَا يفهم الْمُؤمن مَعَ تأييد الله تَعَالَى لَهُ بِنور الْإِيمَان وَبعد هَذَا فَالْقَوْل بِأَنَّهُ لَا يفهم قريب من إِنْكَار البديهيات وَكثير مِمَّن يعْتَذر بِهَذَا الِاعْتِذَار يحضر دروس الحَدِيث أَو يدرس الحَدِيث فلولا فهم أَو أفهم كَيفَ قَرَأَ أَو أَقرَأ فَهَل هَذَا إِلَّا من بَاب مُخَالفَة القَوْل الْفِعْل والاعتذار بِأَن ذَلِك الْفَهم لَيْسَ مناطا للتكليف بَاطِل إِذْ لَيْسَ الْكتاب وَالسّنة إِلَّا لذَلِك الْفَهم فَلَا يجوز الِاسْتِعْمَال بهما والبحث عَنْهُمَا بِالنّظرِ إِلَى الْمعَانِي الَّتِي لَا يعْمل بهما كَيفَ وَقد أنزل الله تَعَالَى كِتَابه الشريف للْعَمَل بِهِ وتعقل مَعَانِيه ثمَّ أَمر رَسُوله ص بِالْبَيَانِ للنَّاس عُمُوما فَقَالَ تَعَالَى {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبيا لَعَلَّكُمْ تعقلون} وَقَالَ {لتبين للنَّاس مَا نزل إِلَيْهِم} فَكيف يُقَال إِن كَلَامه ص الَّذِي هُوَ بَيَان للنَّاس غير مَفْهُوم لَهُم إِلَّا لوَاحِد مِنْهُم بل فِي هَذَا الْوَقْت لَيْسَ مفهوما لأحد بناءا على زعمهم أَنه لَا مُجْتَهد فِي الدُّنْيَا مُنْذُ كم سِنِين وَلَعَلَّ أَمْثَال هَذِه الْكَلِمَات صدرت من بعض من أَرَادَ أَن لَا ينْكَشف حَقِيقَة رَأْيه للعوام بِأَنَّهُ مُخَالف للْكتاب وَالسّنة فتوصل إِلَى ذَلِك بِأَن جعل فهم الْكتاب وَالسّنة على الْوَجْه الَّذِي هُوَ منَاط للْأَحْكَام مَقْصُور على أهل الِاجْتِهَاد ثمَّ نفى عَن الدُّنْيَا أهل الِاجْتِهَاد ثمَّ شاعت هَذِه الْكَلِمَات بَينهم وَالله أعلم بِحَقِيقَة الْأَمر وَلَعَلَّ بَعضهم لما رأى أَنه إِن منع ذَلِك يُمكن أَن يمِيل بعض إِلَى تَرْجِيح بعض الْمذَاهب الْمُوَافقَة لظَاهِر الْكتاب وَالسّنة فيأخذها زَاد على ذَلِك عدم جَوَاز الِانْتِقَال من مَذْهَب إِلَى مَذْهَب وَعدم التلفيق وَنَحْوه لِئَلَّا يجد النَّاس إِلَى التَّرْجِيح سَبِيلا حَتَّى قَالَ قَائِل مِنْهُم إِن الْعَاميّ إِذا انْتقل من مذْهبه يصير أفسق الْفَاسِقين وَإِذا انْتقل الْعَالم يصير مبتدعا وضالا فبذلك لَا يطْمع أحد فِي التَّرْجِيح لما يرى أَنه لَا فَائِدَة تترتب عَلَيْهِ وَمَعْلُوم عِنْد أهل البصائر أَن مِثَال هَذِه المقالات لَا عين مِنْهَا فِي دين الله تَعَالَى وَلَا أثر بل كثير مِنْهَا مُخَالف لِلْعَقْلِ وَالنَّقْل وَمَعَ ذَلِك فترى كثيرا من أهل الْفَهم ينحرفون عَن طَاعَة الرَّسُول صلى الله عليه وسلم مَعَ أَنَّهَا فرض لَازم لقَوْله تَعَالَى {وَمَا أرسلنَا من رَسُول إِلَّا ليطاع بِإِذن الله} وَنَحْوه وَلَا يلتفتون إِلَى كَلَامه الَّذِي يرويهِ الثِّقَات الْأَثْبَات عَنهُ صلى الله عليه وسلم بأسانيد صِحَاح ثَابِتَة إِلَى رِوَايَات من أَصْحَاب الْمذَاهب الْمَذْكُورَة فِي كتب الْمَذْهَب من غير إِسْنَاد وَكثير من أهل الْكتاب
يخالفون فِي نقل تِلْكَ الرِّوَايَات أَيْضا لعدم الْإِسْنَاد اعْتِمَادًا على هَذِه الْكَلِمَات الشائعة بَينهم فَإِذا رَأَوْا أحدا يمِيل إِلَى تَرْجِيح قَول إِمَام بِالْحَدِيثِ وَالْكتاب يعدونه ضَالًّا مبتدعا فَانْظُر إِلَى أَمْثَال هَذِه الْحَوَادِث فَإنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون وَلَا أقل أَن يعرف الرجل أَن هَذِه الْكَلِمَات الشائعة هَل هِيَ أَقْوَال للمجتهدين من عُلَمَاء الدّين أَو هِيَ لبَعض المقلدين غير المعتمدين فَإِن كَانَت للمجتهدين فَلَا بُد أَن يعرف أَنَّهَا لمن وَنحن نجزم بِأَن أَمْثَال هَذِه الْكَلِمَات لَا يُمكن أَن تكون من الْعُقَلَاء فضلا عَن أهل الِاجْتِهَاد وَكَيف يسوغ لمُسلم أَن يتفوه بِكَلَام فِي دين الله تَعَالَى من غير أَن يقوم بِهِ حجَّة وبرهان من الله تَعَالَى وَإِن كَانَت للمقلدين فَكيف يجْتَمع الِاعْتِمَاد عَلَيْهَا عِنْدهم مَعَ اعْتِقَاد أَن لَا عِبْرَة بفهم المقلدين أصلا فَانْتقضَ أحد الْأَمريْنِ بِالْآخرِ وأعجب من هَذَا أَن كثيرا مِنْهُم يتَوَقَّف على أَن الْعلمَاء مَذْهَبهم هَل جوزوا الْعَمَل بِالْحَدِيثِ أم لَا فنظن أَنه لَا يَصح الْعَمَل بِالسنةِ إِلَّا بقول عَالم بِهِ فَنَقُول إِن قَول الْعلمَاء يحْتَاج فِي ثُبُوته وَصِحَّته وَكَونه يصلح للْعَمَل بِهِ إِلَى الْكتاب وَالسّنة حَتَّى إِن مَا خَالف الْكتاب وَالسّنة وَلَا يوافقهما برد أَولا ترى كتب الْفُقَهَاء يَقُولُونَ فِي كل قَول وَحكم لقَوْل الله عز وجل أَو لقَوْل رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَكيف يحْتَاج الْعَمَل بِالْكتاب وَالسّنة إِلَى قَول الْعلمَاء وَهل هَذَا إِلَّا شبه الدّور الْمَمْنُوع وقلب للمعقول وَنقض لِلْأُصُولِ وَجعل الْفُرُوع أصلا وَالْأَصْل فرعا فَهَذَا الَّذِي ذكرنَا يُفِيد أَن جَوَاز الْعَمَل بِالْحَدِيثِ لمن فَرضنَا لَهُ من أجل البديهيات وَمَعَ ذَلِك فَالرِّوَايَة والدراية سوى هَذَا الَّذِي ذكرنَا متوافقات على ذَلِك فَمن الرِّوَايَة مَا ذكر فِي الْهِدَايَة بقوله لِأَن قَول الرَّسُول صلى الله عليه وسلم لَا ينزل عَن قَول الْمُفْتِي وَفِي الْكَافِي والْحميدِي أَي لَا يكون أدنى دَرَجَة من قَول الْمُفْتِي وَقَول الْمُفْتِي يصلح دَلِيلا شَرْعِيًّا أَي للعامي فَقَوْل الرَّسُول صلى الله عليه وسلم أولى وَهَذَا الَّذِي ذكر فِي الْهِدَايَة أَنه مَذْهَب مُحَمَّد ذكر فِي مُحِيط السَّرخسِيّ وَغَيره أَنه قَول أبي حنيفَة وَمُحَمّد فَيلْزم مِنْهُ جَوَاز الْعَمَل للعامي بِالْحَدِيثِ عِنْدهمَا مُطلقًا من غير اشْتِرَاط أَنه أَخذ بِهِ من يعْتد بِعِلْمِهِ إِذْ يجوز للعامي الْأَخْذ بقول الْمُفْتِي بل يجب عَلَيْهِ كَمَا قَالَ فِي الْفَتْح أَن الحكم فِي حق الْعَاميّ فَتْوَى مفتية وَفِي الْبَحْر أَن مَذْهَب الْعَاميّ فَتْوَى مفتية من تقيد بِمذهب فَكيف لَا يجوز أَولا يجب عَلَيْهِ الْعَمَل بِهِ إِذا علم أَنه أَخذ بِهِ من يعْتد بِعِلْمِهِ لإجتماع الْفَتْوَى والْحَدِيث حِينَئِذٍ فِي حَقه
وَذكر فِي الخزانة عَن الرَّوْضَة الزندويسية سُئِلَ أَبُو حنيفَة إِذا قلت قولا وَكتاب الله يُخَالِفهُ قَالَ اتْرُكُوا قولي لكتاب الله فَقيل إِذا كَانَ خبر الرَّسُول صلى الله عليه وسلم يُخَالِفهُ قَالَ اتْرُكُوا قولي لخَبر رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَذكر فِي المثانة عَن الرَّوْضَة الزندويسية عَن كل من أبي حنيفَة وَمُحَمّد أَنه قَالَ إِذا قلت قولا يُخَالف كتاب الله وَخبر الرَّسُول صلى الله عليه وسلم فاتركوا قولي
وَذكر ابْن الشّحْنَة فِي نِهَايَة النِّهَايَة أَنه صَحَّ عَن أبي حنيفَة أَنه قَالَ إِذا صَحَّ الحَدِيث فَهُوَ مذهبي
ذكره الشَّيْخ إِبْرَاهِيم البيدي فِي رِسَالَة لَهُ فِي منع الْإِشَارَة فِي التَّشَهُّد وَأما مَا اشْتهر عَن الشَّافِعِي أَنه قَالَ إِذا صَحَّ الحَدِيث على خلاف قولي فاضربوا قولي بِالْحَائِطِ أَو نَحوه فَذَلِك مَعْلُوم مَذْكُور فِي كتب أَصْحَاب مذْهبه وَقد بنى أَصْحَابه الْمَذْهَب على طبق هَذَا الْكَلَام فَكلما أورد عَلَيْهِم حَدِيث وَرَأَوا قَول الشَّافِعِي مُخَالفا لَهُ أخذُوا بِهِ وَتركُوا قَوْله وَجعلُوا ذَلِك مَذْهَبهم قَالَ بعض أَصْحَاب التَّحْقِيق فِي رِسَالَة لَهُ فِي علم أصُول الحَدِيث فِي تَحْقِيق الحَدِيث الضَّعِيف أَنه يجوز عِنْد الْعلمَاء التساهل فِي رِوَايَة الضَّعِيف دون الْمَوْضُوع بِأَن لم يبين ضعفه فِي المواعظ والقصص وفضائل الْأَعْمَال لَا فِي صِفَات الله تَعَالَى وَأَحْكَام الْحَرَام والحلال قيل كَانَ من مَذْهَب النَّسَائِيّ أَن يخرج عَن كل من لم يجمع على تَركه وَأَبُو دَاوُد كَانَ يَأْخُذ مأخذه وَيخرج الضَّعِيف إِذا لم يجد فِي الْبَاب غَيره ويرجحه على رَأْي الرِّجَال
وَعَن الشّعبِيّ مَا حَدثَك هَؤُلَاءِ عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم فَخذ بِهِ وَمَا قَالُوهُ برأيهم فالقه فِي الحش وَقَالَ الرَّأْي بِمَنْزِلَة الْميتَة إِذا اضطررت إِلَيْهَا أكلتها وَعَن الشَّافِعِي مهما قلت من قَول أَو أصلت من أصل فِيهِ عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم خلاف ماقلت فَالْقَوْل مَا قَالَه رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَهُوَ قولي وَجعل يردده انْتهى كَلَامه
وَفِي الْبَاب رِوَايَات يطول الْكَلَام بذكرها وَقد جمع بعض أهل التَّحْقِيق فِي رسَالَته فِي بَيَان جَوَاز الْعَمَل بِالْحَدِيثِ للعامي رِوَايَات أهل المذهبين ثمَّ قَالَ وَالَّذِي يظْهر لي بعد التَّأَمُّل فِي مَأْخَذ الْمَسْأَلَة رِوَايَة ودراية أَن الْعَمَل بِمَا هُوَ دَلِيل شَرْعِي فِي ذَاته إِذا احْتمل عرُوض عَارض مَانع من الْعَمَل بِهِ كالحديث الَّذِي وصل إِلَى الْعَاميّ إِذا احْتمل أَن يكون مَنْسُوخا أَو مُخَالفا للْإِجْمَاع جَائِز إِذا كَانَ الِاحْتِمَال غير نَاشِئ عَن دَلِيل وَأما إِذا كَانَ ناشئا عَن دَلِيل فَمحل توقف وَلَو قيل إِن عدم جَوَاز الْعَمَل حِينَئِذٍ مَا لم يفتش عَن ذَلِك الِاحْتِمَال فَلهُ نوع قرب وَالله تَعَالَى أعلم انْتهى
قلت وَقد عرفت أَن احْتِمَال النّسخ وَغَيره لَا يضر فِيمَا إِذا وَافق الْعَاميّ مُجْتَهدا فِي فهم الحَدِيث وَعلم أَن الْمُجْتَهد أَخذ بِهِ كَمَا هُوَ الْمَفْرُوض فِيمَا نَحن فِيهِ كَمَا تقدم تَحْقِيقه وَلَا يُخَالف جَوَاز الْعَمَل أَو وُجُوبه على الْعَاميّ فِي صُورَة مَفْرُوضَة مَا ذكره ابْن الْحَاجِب فِي مُخْتَصر الْأُصُول أَنه يجب على الْعَاميّ تَقْلِيد مُجْتَهد لظُهُور أَنه يحصل للعامي فِي الصُّورَة فِي الْعَمَل بِالْحَدِيثِ تَقْلِيد من أَخذ بذلك الحَدِيث أَيْضا على أَنه فِي مَحل التَّأَمُّل عِنْد أَصْحَابنَا بناءا على مَا ذكرنَا أَن كَلَام الله يُفِيد جَوَاز الْأَخْذ بِهِ للعامي من غير اشْتِرَاط فَهَذَا تَحْقِيق الْكَلَام فِي الرِّوَايَة على وَجه الِاخْتِصَار وَأما الدِّرَايَة فالنظر فِي الدَّلِيل يُعْطي الْجَوَاز مُطلقًا فَكيف مَعَ ذَلِك الشَّرْط وَذَلِكَ لما تقرر أَن الصَّحَابَة رضي الله عنهم مَا كَانُوا كلهم مجتهدين على اصْطِلَاح الْعلمَاء فَإِن فيهم الْقَرَوِي والبدوي وَمن سمع مِنْهُ ص حَدِيثا وَاحِدًا وَصَحبه مرّة وَلَا شكّ ان من سمع مِنْهُم حَدِيثا عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَو عَن وَاحِد من الصَّحَابَة رضي الله عنهم كَانَ يعْمل بِهِ حسب فهمه مُجْتَهدا
كَانَ أَولا وَلم يعرف أَن غير الْمُجْتَهد مِنْهُم كلف بِالرُّجُوعِ إِلَى الْمُجْتَهد فِيمَا سَمعه من الحَدِيث لَا فِي زَمَانه صلى الله عليه وسلم وَلَا بعده فِي زمَان الصَّحَابَة رضي الله عنهم وَهَذَا تَقْرِير مِنْهُ صلى الله عليه وسلم بِجَوَاز الْعَمَل بِالْحَدِيثِ لغير الْمُجْتَهد وَإِجْمَاع من الصَّحَابَة عَلَيْهِ وَلَوْلَا ذَلِك لأمر الْخُلَفَاء غير الْمُجْتَهد مِنْهُم سِيمَا أهل الْبَوَادِي أَن لَا يعملوا بِمَا بَلغهُمْ من النَّبِي صلى الله عليه وسلم مشافهة أَو بِوَاسِطَة حَتَّى يعرضُوا على الْمُجْتَهدين مِنْهُم وَلم يرد من هَذَا عين وَلَا أثر وَهَذَا هُوَ ظَاهر قَوْله تَعَالَى {وَمَا آتَاكُم الرَّسُول فَخُذُوهُ وَمَا نهاكم عَنهُ فَانْتَهوا} وَنَحْوه من الايات حَيْثُ لم يُقيد بِأَن ذَلِك على فهم الْفُقَهَاء وَمن هُنَا عرفت أَنه لَا يتَوَقَّف الْعَمَل بعد وُصُول الحَدِيث الصَّحِيح على معرفَة عدم النَّاسِخ أَو عدم الْإِجْمَاع على خِلَافه أَو عدم الْمعَارض بل يَنْبَغِي الْعَمَل بِهِ إِلَى أَن يظْهر شَيْء من الْمَوَانِع فَينْظر ذَلِك وَيَكْفِي فِي الْعَمَل كَون الأَصْل عدم هَذِه الْعَوَارِض الْمَانِعَة عَن الْعَمَل وَقد بنى الْفُقَهَاء على اعْتِبَار الأَصْل فِي شَيْء أحكاما كَثِيرَة فِي المَاء وَنَحْوه لاتحصى على المتتبع لكتبهم
وَمَعْلُوم أَن من أهل الْبَوَادِي والقرى الْبَعِيدَة من كَانَ يجيئ عِنْده صلى الله عليه وسلم مرّة أَو مرَّتَيْنِ وَيسمع شَيْئا ثمَّ يرجع إِلَى بِلَاده وَيعْمل بِهِ وَالْوَقْت كَانَ وَقت نسخ وتبديل وَلم يعرف أَنه ص أَمر أحدا من هَؤُلَاءِ بالمراجعة ليعرف النَّاسِخ من الْمَنْسُوخ بل أَنه ص قرر من قَالَ لَا أَزِيد على هَذَا وَلَا أنقص على مَا قَالَ وَلم يُنكر عَلَيْهِ بِأَنَّهُ يحْتَمل النّسخ بل دخل الْجنَّة إِن صدق وَكَذَلِكَ مَا أَمر الصَّحَابَة أهل الْبَوَادِي وَغَيرهم بِالْعرضِ على مُجْتَهد ليميز لَهُ النَّاسِخ من الْمَنْسُوخ فَظهر أَن الْمُعْتَبر فِي النّسخ وَنَحْوه بُلُوغ النَّاسِخ لَا وجوده وَيدل على أَن الْمُعْتَبر الْبلُوغ لَا الْوُجُود أَن الْمُكَلف مَأْمُور بِالْعَمَلِ على وفْق الْمَنْسُوخ مالم يظْهر عِنْده النَّاسِخ فَإِذا ظهر لَا يُعِيد مَا عمل على وفْق الْمَنْسُوخ بل صحّح ذَلِك حَدِيث نسخ الْقبْلَة إِلَى الْكَعْبَة المشرفة فَإِن خَبره وصل إِلَى أَطْرَاف الْمَدِينَة المنورة كَأَهل قبا وَغَيرهم بَعْدَمَا صلوا على وفْق الْقبْلَة المنسوخة فَمنهمْ من وَصله الْخَبَر فِي أثْنَاء الصَّلَاة وَمِنْهُم من وَصله بعد أَن صلى صَلَاة وَالنَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قررهم على ذَلِك وَلم يَأْمر أحدا مِنْهُم بِالْإِعَادَةِ فَلَا عِبْرَة لما قيل لَا يجوز الْعَمَل قبل الْبَحْث عَن الْمعَارض والمخصص وَإِن ادّعى عَلَيْهِ الْإِجْمَاع فَإِنَّهُ لَو سلم فإجماع الصَّحَابَة وَتَقْرِير النَّبِي صلى الله عليه وسلم مقدم على إِجْمَاع من بعدهمْ على أَن مَا ادّعى من الْإِجْمَاع قد علم خِلَافه كَمَا ذكره فِي بَحر الزَّرْكَشِيّ فِي الْأُصُول وَيَكْفِي فِي خِلَافه مَا تقدم من كَلَام الْهِدَايَة وَهَذَا بَيَان لحقيقة الْأَمر وَإِلَّا فَفِي الصُّورَة الَّتِي نَحن فِيهَا قد علم عدم الْمَوَانِع بِأخذ من يعْتد بِعِلْمِهِ بِهَذَا الحَدِيث فَالْعَمَل فِي هَذِه الصُّورَة لَا يُخَالف هَذَا الْإِجْمَاع إِن ثَبت لِأَن بحث من يعْتد بِعِلْمِهِ وَأَخذه يُغني عَن الْبَحْث ثَانِيًا فَصَارَ علمه بعدالبحث الْمُعْتَبر لَا قبله كَمَا لَا يخفى
وَهَذَا الْكَلَام كُله فِي الْعَاميّ إِذا اتّفق لَهُ معرفَة الحَدِيث بِصِحَّتِهِ وَمَعْنَاهُ وَأَن أحدا من أهل الِاجْتِهَاد قد أَخذ بِهِ وَأما من لَهُ أَهْلِيَّة فالأخذ بِالْحَدِيثِ فِي حَقه أَو كد وَأوجب إِذا أَخذ بِهِ
بعض الْأَئِمَّة وَعَمله بخلافة بعد ظُهُوره تقليدا لأحد أَي أحد كَانَ أخوف كَيفَ وَقد قَالَ تَعَالَى {فليحذر الَّذين يخالفون عَن أمره أَن تصيبهم فتْنَة أَو يصيبهم عَذَاب أَلِيم}
وَقد عرفت أَن مُقْتَضى تقليدهم أَيْضا الْأَخْذ بِالْحَدِيثِ لقَولهم اتْرُكُوا قولي لخَبر الرَّسُول صلى الله عليه وسلم فتقليدهم فِي هَذِه الصُّورَة كَمَا هُوَ ترك لخَبر رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَهُوَ ترك لتقليدهم أَيْضا حَقِيقَة سِيمَا إِذا ظهر للْإنْسَان حَدِيث على وفْق مَذْهَب أحد من الْأَئِمَّة الْمَشْهُورين وَلم يظْهر لَهُ على وفْق مَذْهَب إِمَامه شَيْء يصلح للاعتماد عَلَيْهِ خُصُوصا إِذا ظهر مِمَّن يعْتد بتبعيتهم أَنهم مَا وجدوا شَيْئا على وفْق مَذْهَب إِمَامه يصلح للاعتماد فَحِينَئِذٍ لَيْسَ من شَأْن الْمُسلم التجمد على التَّقْلِيد فَإِن تجمد مَعَ ذَلِك فَمَا أشبهه بِمن قَالَ الله تَعَالَى فيهم {وَلَئِن أتيت الَّذين أُوتُوا الْكتاب بِكُل آيَة مَا تبعوا قبلتك} فَمن ظهر لَهُ الحَدِيث الصَّحِيح الصَّالح للاعتماد وَعلم أَن من الْأَئِمَّة من أَخذ بِهِ فليأخذ بِهِ وَلَا يمنعهُ عَن ذَلِك أَنه على مَذْهَب فلَان أَو فلَان فقد قَالَ تَعَالَى {فَإِن تنازعتم فِي شَيْء فَردُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُول} وَمن جملَة الرَّد إِلَيْهِ صلى الله عليه وسلم الْأَخْذ بقوله عِنْد التَّنَازُع وَقد تحقق التَّنَازُع بَين الْأَئِمَّة فَوَجَبَ الْأَخْذ بقول الرَّسُول صلى الله عليه وسلم وَالرُّجُوع إِلَيْهِ إِذا ظهر
فَإِن قلت يَكْفِي فِي الرَّد إِلَى الله وَالرَّسُول أَن يَقُول الله وَرَسُوله أعلم
قلت مُقْتَضى هَذَا عين الرُّجُوع إِلَى قَوْلهمَا عملا إِذْ هُوَ مُقْتَضى الأعلمية وَألا يصير إِثْبَات الأعلمية بِاللِّسَانِ بِلَا عمل بقولهمَا بِمَنْزِلَة النِّفَاق وَلَيْسَ الِاسْتِدْلَال بِالْحَدِيثِ فِي الْمُتَنَازع فِيهِ إِلَّا لتحكميته صلى الله عليه وسلم فِي ذَلِك فقد وَجب فِيهِ الْأَخْذ بقوله صلى الله عليه وسلم فقد قَالَ تَعَالَى {فَلَا وَرَبك لَا يُؤمنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوك فِيمَا شجر بَينهم ثمَّ لَا يَجدوا فِي أنفسهم حرجا مِمَّا قضيت ويسلموا تَسْلِيمًا} فَمن تجمد على التَّقْلِيد وَأعْرض عَن اتِّبَاع قَوْله صلى الله عليه وسلم بعد ظُهُوره من غير مَانع لَهُ عَن الْعَمَل إِلَّا التَّقْلِيد فليحذر كل الحذر بِهَذِهِ الْآيَة وَالله تَعَالَى أعلم
قلت وَقد ظهر بِهَذَا الْبَحْث أَن مَا قيل أَن ظن الْمُقَلّد لَا عِبْرَة بِهِ فِي الْأَحْكَام وَخبر الْآحَاد لَا يُفِيد سوى الظَّن فَلَا يجوز لَهُ الْعَمَل بِهِ بَاطِل قطعا لِأَن قَول أبي حنيفَة وَمُحَمّد وَالشَّافِعِيّ بِأَنَّهُ إِذا خَالف قَوْلنَا قَول الرَّسُول صلى الله عليه وسلم فَخُذُوا بقول الرَّسُول صلى الله عليه وسلم وَنَحْوه لَيْسَ فِي حق الْمُجْتَهد لعدم احْتِيَاجه فِي ذَلِك إِلَى قَوْلهم فَذَاك فِي حق الْمُقَلّد فَقَوْلهم هَذَا
صَرِيح فِي جَوَاز الْعَمَل لَهُ بِحَدِيث الْآحَاد لظُهُور أَنهم مَا أَرَادوا جَوَاز الْعَمَل بالمتواتر فانه أقل قَلِيل
هَذَا وَلَا يُمكن أَن تَقول أَقْوَال هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّة مُخَالفَة للأحاديث المتواترة فَإِذا جَازَ الْعَمَل للمقلد عِنْد هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّة بِخَبَر الْآحَاد فَمَا معنى قَول من قَالَ لَا عِبْرَة بِظَنّ الْمُقَلّد فِي الْأَحْكَام اللَّهُمَّ الا أَن يحمل ذَاك على الظَّن الْحَاصِل بِالْقِيَاسِ وَنَحْوه ان ثَبت مِنْهُم هَذَا الْكَلَام أَو على أَن ظَنّه لَيْسَ بِحجَّة فِي حق غَيره لَا فِي جَوَاز الْعَمَل إِذْ وُجُوبه فِي حق نَفسه أَو يُقَال ذَلِك إِذا لم يُوَافق فِي ذَلِك الظَّن أحدا من الْمُجْتَهدين وَأما إِذا وَافق أحدا فَلَا فَالْمُرَاد الظَّن الصّرْف وكلامنا فِي الظَّن الَّذِي وفْق بِهِ أحدا من الْمُجْتَهدين كَمَا تقدم وان كَانَ هَذَا الْقَيْد مِمَّا لَا يَقْتَضِيهِ كَلَامهم وَذَلِكَ لما حققناه أَن عدم الْعلم هُوَ بِمَا إِذا كَانَ فهمه مُوَافقا لغهم الْمُجْتَهدين مِمَّا لَا وَجه لَهُ إِذْ قد حققنا أَنه لَا مَانع لَهُ من الْعَمَل فِي هَذِه الصُّورَة بعد ظُهُور الدَّلِيل وَكَيف لَا يجب عَلَيْهِ الْعَمَل فِي هَذِه الصُّورَة بِالْحَدِيثِ مَعَ قَوْله تَعَالَى {وَأَطيعُوا الله وَأَطيعُوا الرَّسُول} وَقَوله تَعَالَى {وَمَا أرسلنَا من رَسُول إِلَّا ليطاع بِإِذن الله} وَقَوله صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَسلم عَلَيْكُم بِسنتي وَسنة الْخُلَفَاء من بعدِي وَقَوله ليبلغ الشَّاهِد مِنْكُم الْغَائِب من غير قيد بِأَهْل الإجتهاد فَإِذا بلغت السّنة لأحد فَكيف يجوز لَهُ الْإِعْرَاض عَنْهَا هَذَا الْعذر الْبَارِد وَقد قَالَ الله تَعَالَى {فليحذر الَّذين يخالفون عَن أمره} وَالْقُرْآن مَمْلُوء من أَمْثَال ذَلِك
ثمَّ نقُول لَا بُد من حمل قَول من قَالَ لَا عِبْرَة بِظَنّ الْمُقَلّد ان ثَبت على أَنه لَا يجوز لَهُ الْأَخْذ بِمَا هُوَ ظَنِّي الأَصْل مثلا كالقياس أَو على نَحْو هَذَا كَمَا ذكر لَا على أَنه لَا يجوز لَهُ الْأَخْذ بِمَا هُوَ ظَنِّي مُطلقًا وَإِن كَانَ ظَنِّي السَّنَد قَطْعِيّ الأَصْل وَإِلَّا يشكل عَلَيْهِ أَنه حِينَئِذٍ لَا يُمكن لَهُ الْعَمَل بأقوال الْأَئِمَّة لظُهُور أَنَّهَا غير ثَابِتَة عِنْد الْعَوام قطعا بل لَيْسَ الظَّن فِي ثُبُوتهَا كالظن فِي ثُبُوت الْأَحَادِيث فاذ قُلْنَا بِعَدَمِ جَوَاز الْعَمَل بالأحاديث بِسَبَب الظَّن فِي ثُبُوتهَا عِنْد الْمُقَلّد لِأَن ظَنّه لَا عِبْرَة بِهِ فَيجب أَن لَا يكون لظَنّه عِبْرَة فِي الْأَقْوَال المنقولة عَن الْمُجْتَهدين فَحِينَئِذٍ يَنْبَغِي أَن لَا يجوز لَهُ الْعَمَل بِتِلْكَ الْأَقْوَال بل يَنْبَغِي أَن يجب عَلَيْهِ الرُّجُوع الى الْمُجْتَهدين الْأَحْيَاء وهم فرضوا أَن لَيْسَ فِي الدُّنْيَا مُجْتَهد حَيّ فَيَنْبَغِي أَن يسْقط عَن الْعَوام التَّكْلِيف بل عَن الْعَالم التكاليف غالبها لظُهُور أَنهم لَا يَأْخُذُونَ فِيهَا بالأحاديث وَلَا بأقوال الْمُجْتَهدين للُزُوم الْعَمَل بِالظَّنِّ وظنهم لَا عِبْرَة بِهِ وَلَا مُجْتَهد فيهم حَتَّى يتبعهُ غَيره وَهَذَا كَمَا ترى مُصِيبَة عَظِيمَة
قلت على أَنا لَو فَرضنَا عدم إِيجَاد الله تَعَالَى الْمُجْتَهدين سقط التَّكْلِيف عَن الْعَالم الا بِمَا بلغ اليهم قطعا وَدلَالَة على الْمَطْلُوب قطعا وَهُوَ أقل قَلِيل
ثمَّ نقُول اذا لم يجز للعوام الْعَمَل بِالظَّنِّ أصلا لما قُلْتُمْ إِنَّه لَا عِبْرَة بِظَنّ غير الْمُجْتَهد أصلا نقُول كَيفَ يثبت عَلَيْهِم وجوب الْعَمَل بأقوال الْمُجْتَهدين ان كَانَ بِدَلِيل ظَنِّي فقد عرفت ان ذَلِك يُفِيد الظَّن لَهُم وَلَا يثبت بِهِ فِي حَقهم شَيْء وان كَانَ بقطعي فمعلوم أَن الْمَسْأَلَة فِي غير قَطْعِيّ وَقد كثر الْعَمَل للعامي والمقلد بِحَدِيث وَلَا شكّ أَن ذَلِك لَا يثبت بقول الْمُجْتَهد لظُهُور أَن الْكَلَام فِي ثُبُوت قَوْله عَلَيْهِ وَوُجُوب الْعَمَل عَلَيْهِ بقوله وَقد أنكر الظَّاهِرِيَّة وَغَيرهم جَوَاز التَّقْلِيد فَكيف يُقَال بِأَن وجوب التَّقْلِيد قَطْعِيّ فَحِينَئِذٍ لَا يثبت التَّكْلِيف فِي حق الْعَاميّ أصلا الا بِمَا هُوَ قَطْعِيّ لَهُ وَأما الظني فَلَا يجوز لَهُ الْعَمَل بِهِ أصلا
ثمَّ إِذا قُلْنَا بِهَذَا الأَصْل ان الظني لَا عِبْرَة بِهِ أصلا وَلَو كَانَ ظنا فِي السَّنَد يلْزم أَن لَا تقوم الْحجَّة بالأحاديث على أحد من الْمَوْجُودين كالرافضة وَغَيرهم من الْفرق الضَّالة خذلهم الله تَعَالَى لجَوَاز أَن يَقُولُوا نَحن مقلدون لغيرنا وَالْحجّة لَا تقوم بِالظَّنِّ إِلَّا على مُجْتَهد وَقد علم من أصلكم أَنه لَا مُجْتَهد فِي الدُّنْيَا فَكيف تقيمون علينا الْحجَّة الظنية مَعَ أَنه لَا يحصل بهَا إِلَّا الظَّن وَيجب علينا أَن لَا نَأْخُذ بذلك الظَّن أَو لَا يجب علينا أَن نَأْخُذ بِهِ فَيلْزم الْعَجز عَن إِقَامَة الْحجَّة بالأحاديث
ثمَّ انْظُر الى سخافة التَّمَسُّك بِهَذَا الْكَلَام وَهُوَ أَنه لَا عِبْرَة بِظَنّ الْمُقَلّد أصلا مَعَ أَنه باطلاقه قد علم بُطْلَانه وَلم يعلم قَائِله من هُوَ وَلَو سلم أَن قَائِله مُجْتَهد وَقد أجمع عَلَيْهِ فقد سَمِعت تَأْوِيله على أَن قَول مُجْتَهد وَاحِد لَا حجَّة فِيهِ بالاجماع فِي الْمسَائِل العملية الْأَصْلِيَّة وَهَذِه الْمَسْأَلَة هُنَا وَقد عرفت مَا فِيهَا من الْمَفَاسِد اذا اجرى على إِطْلَاقه وَمَعَ ذَلِك فَنَقُول كَيفَ يكون للمقلد الْعَمَل بقول الْمُجْتَهد مَعَ أَنه فِي الأَصْل ظَنِّي مُتَضَمّن للتقليد الَّذِي هُوَ مِمَّا ذمّ الله تَعَالَى فِي مَوَاضِع من كَلَامه وانما جوز لضَرُورَة حَاجَة الْعَوام اليه وَجَوَاز الْعَمَل بِهِ لَهُ ظَنِّي ثمَّ ثُبُوته عِنْد هَذَا الْمُقَلّد ظَنِّي لم يثبت اسناده الى ذَلِك الْمُجْتَهد أصلا وَإِنَّمَا مَدَاره على حسن الظَّن بالنقلة بل قد يكون ثُبُوته وهميا أَو شكيا اذا اخْتلف النقلَة فِي نقل قَول الْمُجْتَهد فَيَقُول أحد إِنَّه كَذَا وَالْآخر إِنَّه كَذَا ثمَّ هُوَ ظَنِّي بِاعْتِبَار أَنه هَل بَقِي عَلَيْهِ ذَلِك الْمُجْتَهد أَو رَجَعَ عَنهُ وَلَا شكّ فِي ثُبُوت الظَّن سِيمَا إِذا نقلوا عدَّة أَقْوَال عَن مُجْتَهد فَحِينَئِذٍ كَون ذَلِك مِمَّا بَقِي عَلَيْهِ الْمُجْتَهد يَنْبَغِي أَن يكون مشكوكا فِيهِ فَنَقُول كَيفَ جَازَ لَهُ الْعَمَل مَعَ هَذِه الظنون بقول مُجْتَهد وَلم يجز لَهُ الْعَمَل بقول الرَّسُول صلى الله عليه وسلم مَعَ أَنه قَطْعِيّ أصلا وظني إِسْنَادًا واسناده مُتَّصِل ونقلته أوثق فَظن ثُبُوته أقوى من ظن ثُبُوت ذَلِك الْمَنْسُوب الى الْمُجْتَهد واذا كَانَ الظَّن مَانِعا من الْعَمَل فَهَلا يمْنَع لَهُ الْعَمَل بقول الْمُجْتَهد والا فلأي شئ يمنعهُ من الْعَمَل بِالْحَدِيثِ فَانْظُر فِي هَذَا وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق وَبِيَدِهِ أزمة التَّحْقِيق
بل نقُول الظنية لَازِمَة لقَوْل الْمُجْتَهد بِالنّظرِ الى الْمُقَلّد ذاتا لَا تُفَارِقهُ أصلا وان لم تكن تِلْكَ الظنية بالوجوه الْمَذْكُورَة أَيْضا وَذَلِكَ لِأَن الْمُجْتَهد وَاحِد من الْآحَاد فَيجْرِي عَلَيْهِ فِي أخباره
عَن نَفسه بِأَنَّهُ اجْتهد فَوَقع رَأْيه على كَذَا مَا يجْرِي على سَائِر الْآحَاد فانه لَيْسَ بمعصوم كالنبي صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَسلم فَيجوز عَلَيْهِ السَّهْو فِي هَذَا الاخبار وَالنِّسْيَان وَيُمكن مِنْهُ صُدُور الْكَذِب فِي هَذَا الاخبار أَيْضا على وَجه الِاحْتِمَال فَلَا يحصل الْقطع بِهَذَا الاخبار للمقلد أصلا وان تَوَاتر عَن ذَلِك الْمُجْتَهد فَإِذا لم يكن يظنّ الْمُقَلّد غَيره فَلَا يُمكن لَهُ الْعَمَل بقول مُجْتَهد أصلا
وَالْعجب أَنهم يعْرفُونَ أَن الْمُجْتَهد يُخطئ ويصيب وَهُوَ من جملَة عقائدهم وَالنَّبِيّ صلى الله عليه وسلم مَعْصُوم من الْخَطَأ ثمَّ مَعَ ذَلِك كُله يصرون على كَلَام الْمُجْتَهد كَمَا ترى وَيدعونَ كَلَام النَّبِي صلى الله عليه وسلم
ثمَّ نقُول وَلَو سلم أَن ظن الْمُقَلّد لَا عِبْرَة بِهِ أصلا وَلَا يحسن أَو لَا يجوز لَهُ أَو لَا يجب عَلَيْهِ أَن يرجع الى ظَنّه وَيتْرك قَول الْمُجْتَهد فَنَقُول لَا يلْزم فِي الصُّورَة الَّتِي نَحن فِيهَا من ترك قَول صَاحب الْمَذْهَب الى الْعَمَل بِالْحَدِيثِ الْعَمَل بظنه أصلا بل اللَّازِم فِيهَا ترك تَقْلِيد من خَالف قَوْله للْحَدِيث الى تَقْلِيد من وَافق قَوْله الحَدِيث وَلَيْسَ فِي ذَلِك ترك للتقليد وَعمل بِظَنّ نَفسه كَمَا ترى فَلَيْسَ فِيمَا قُلْنَا الا لُزُوم تَقْلِيد من يَظُنّهُ مُوَافقا للحق وَترك تَقْلِيد من يَظُنّهُ مُخَالفا للحق فِي مسالة وَلَا يخفى أَنه يَنْبَغِي أَن يكون ذَلِك وَاجِبا على الْمُقَلّد لِأَن حَقِيقَة التَّقْلِيد هُوَ حسن الظَّن بالمجتهد وَقبُول قَوْله من غير دَلِيل وَلَا يخفى أَنه اذا حصل للمقلد ظن فِي مَسْأَلَة فَلَا يُمكن أَن يحسن الظَّن فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَة بِمن يُخَالف ظَنّه لظُهُور أَن الظَّن لَا يتَعَلَّق بالنقيضين فَحِينَئِذٍ لَا يُمكن مِنْهُ تَقْلِيد الْمُخَالف أصلا فضلا عَن أَن يجوز لَهُ أَو يجب عَلَيْهِ بل معنى التَّقْلِيد لَا يتَحَقَّق مِنْهُ الا بِالنِّسْبَةِ الى الْمُوَافق فَلَيْسَ فِيمَا يَقُول الا أَنه يجب عَلَيْهِ أَن يُقَلّد من يَظُنّهُ على الْحق وَلَا يجوز لَهُ أَن يُقَلّد من يَظُنّهُ على الْخَطَأ فَكيف يتَصَوَّر من مُسلم أَن يَقُول لَا يجب عَلَيْهِ تَقْلِيد من يَظُنّهُ على الْهِدَايَة وَالصَّوَاب وَيجوز لَهُ تَقْلِيد من يَظُنّهُ على الضَّلَالَة وَالْخَطَأ فان الْخَطَأ فِي الِاجْتِهَاد عِنْدهم ضَلَالَة على مَا قَالُوا فِي تَحْقِيق حَدِيث لَا تَجْتَمِع أمتِي على ضَلَالَة ثمَّ اذا علمت أَن حَقِيقَة التَّقْلِيد الظَّن فَلَو قُلْنَا أَن ظن الْمُقَلّد لَا عِبْرَة بِهِ يرْتَفع التَّقْلِيد عَن الْعَالم لِأَنَّهُ لَيْسَ الا الظَّن فَلَا يَنْبَغِي أَن يجوز الْعَمَل بالتقليد لِأَنَّهُ من بَاب الْعَمَل بِالظَّنِّ وَهُوَ غير جَائِز فَانْظُر مَا فِي هَذَا
ثمَّ اذا قُلْنَا أَنه لَا يجوز للمقلد أَن يتبع ظَنّه الْحَاصِل لَهُ بِالنّظرِ فِي الْحجَّة الشَّرْعِيَّة وان كَانَ مُوَافقا لكثير من الْمُجْتَهدين بل يجب عَلَيْهِ تَقْلِيد غَيره كَالَّذي قَلّدهُ قبل النّظر فِي الدَّلِيل وان رَآهُ مُخَالفا لمقْتَضى الدَّلِيل فَيَنْبَغِي أَن لَا يجب على مقلد أهل الْأَهْوَاء الَّذِي حصل لَهُ الظَّن بِخِلَاف مَا عَلَيْهِ امامه أَن يتْرك قَول امامه باخبار الْآحَاد لِأَنَّهَا ظنية فَلَو فَرضنَا أَن امامه الضال قد أخبرهُ بِأَنَّهُ
يجب عَلَيْهِ أَن يسب مثلا بعض أكَابِر الصَّحَابَة كَمَا هُوَ دَاب الرافضة البطلة فِي الْأَوْقَات الشَّرِيفَة كوقت الْأَذَان وأدبار الصَّلَوَات ثمَّ حصل لَهُ الظَّن بالأحاديث أَن الْمَنْدُوب فِي هَذِه الْأَوْقَات الِاشْتِغَال بالأذكار والاوراد المسنونة وَحصل لَهُ بِأَن مُقْتَضى الدّين تَعْظِيم الصَّحَابَة لَا تحقيرهم مثلا فَيَنْبَغِي أَن نقُول لَا يجب على هَذَا الْمُقَلّد الرُّجُوع لما ظهر لَهُ بِالدَّلِيلِ بل يجب عَلَيْهِ الْبَقَاء على ذَلِك التَّقْلِيد ونقول انه بذلك الْفِعْل مثاب وَلَو ترك هَذَا الضلال الى الأوراد والأذكار يكون عَاصِيا لترك التَّقْلِيد الْوَاجِب عَلَيْهِ الى ظَنّه الَّذِي لَا عِبْرَة بِهِ وَترك الْوَاجِب عَلَيْهِ بالتقليد الى مَا هُوَ مَنْدُوب اليه بِالظَّنِّ وَمثل هَذَا لَا يَنْبَغِي أَن يصدر عَن مُسلم فَإنَّا قُلْنَا اذا ظهر عَلَيْهِ الْحق ظنا يجب عَلَيْهِ الرُّجُوع الى الْحق وَترك التَّقْلِيد الَّذِي يَظُنّهُ بَاطِلا فَأَي فرق بَين ذَلِك وَبَين من يُقَلّد اماما يَظُنّهُ أَنه خَالف الحَدِيث فِي مَسْأَلَة أَو مَسْأَلَتَيْنِ وَلَو فَرضنَا ان أحدا من الروافض ظهر لَهُ خطأ مذْهبه فِي بعض الْمسَائِل كَمَسْأَلَة السب مثلا ظنا هَل نقُول عَلَيْهِ أَنه فِي التَّقْلِيد عَاص بعد ذَلِك أم يجب عَلَيْهِ الرُّجُوع فَانْظُر هَذَا
وَالْعجب أَنه اذا ظن أحد الْمُجْتَهدين على الْحق فِي مَسْأَلَة بِوَاسِطَة ظُهُور الحَدِيث الى جَانِبه فَلَا شكّ أَن كَون الثَّانِي على الْحق عِنْده يكون مُتَوَهمًا فَنَقُول هَل يجب عَلَيْهِ أَو يجوز أَن يثبت على تَقْلِيد قَول من يتوهمه أَنه على الْحق وَلَا يجب عَلَيْهِ أَو لَا يجوز لَهُ الرُّجُوع الى قَول من يَظُنّهُ أَنه على الْحق وَمثل هَذَا مِمَّا يستبعده الْعقل جدا
وَالْعجب انهم يعدون الِانْتِقَال من مذْهبه الى مَذْهَب غَيره من أَشد أَقسَام الْفسق أَو أقبحه فَهَل يَقُول لهَذَا الرافضي لَا يجوز لَهُ الِانْتِقَال من مذْهبه وَهَذَا لَا يَقُول بِهِ مُسلم
وانما أطنبنا فِي الْكَلَام كل هَذَا الاطناب مَعَ أَن الْمَسْأَلَة استطرادية فِي الْكتاب لما أَن غرضنا من وضع هَذِه الْحَاشِيَة تَقْوِيَة الْحق بِالسنةِ السّنيَّة وَالتَّرْجِيح بهَا من غير تَقْيِيد بِمذهب معِين على خلاف مَا هُوَ دأب أهل الزَّمَان فأحببنا أَن نجْعَل هَذَا الْبَحْث مُقَدّمَة من مقدماته وَأَيْضًا فقد رَأينَا نَاسا يتساهلون فِي الْأَخْذ بِالْحَدِيثِ وَلَا يهتمون بأَمْره ويرون مَا يُخَالف مَذْهَبهم من الحَدِيث كَأَنَّهُ أَمر مَرْدُود ويتخذون مَا يُوَافقهُ مَقْبُولًا مَعَ أَن التَّحْقِيق أَن يرد مَا يُخَالف الْكتاب وَالسّنة لقَوْله صلى الله عليه وسلم من أحدث فِي أمرنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رد
فَلَعَلَّ هَذِه الْمُقدمَة ان شَاءَ الله تَعَالَى تنفعهم فِي التَّحَرُّز عَن سوء صنيعهم {وَالله يَقُول الْحق وَهُوَ يهدي السَّبِيل} انْتهى كَلَام الْمُحَقق أبي الْحسن السندي رَحمَه الله تَعَالَى بِطُولِهِ
قَالَ ابْن عبد الْبر وَقَالَ مُحَمَّد بن الْحسن الْعلم على أَرْبَعَة أوجه مَا كَانَ فِي كتاب الله النَّاطِق وَمَا أشبهه وَمَا كَانَ فِي سنة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَمَا أشبههَا وَمَا كَانَ فِيمَا اجْتمع عَلَيْهِ
الصحابه رَحِمهم الله تَعَالَى وَمَا أشبهه وَكَذَلِكَ مَا اخْتلفُوا فِيهِ لَا يخرج عَن جَمِيعه فاذا وَقع الِاخْتِيَار فِيهِ على قَول فَهُوَ علم نقيس عَلَيْهِ مَا أشبهه وَمَا استحسنه عَامَّة فُقَهَاء الْمُسلمين وَمَا أشبهه وَكَانَ نظيرا لَهُ وَقَالَ لَا يخرج الْعلم عَن هَذِه الْوُجُوه الْأَرْبَعَة
قَالَ أَبُو عمر قَول مُحَمَّد بن الْحسن وَمَا أشبهه يَعْنِي مَا أشبه الْكتاب وَكَذَلِكَ قَوْله فِي السّنة واجماع الصَّحَابَة يَعْنِي مَا أشبهه ذَلِك كُله فَهُوَ الْقيَاس الْمُخْتَلف فِيهِ فِي الاحكام وَمرَاده بِهِ الْقيَاس على هَذِه الْأُمُور قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي الْمدْخل أخبرنَا أَبُو عبد الله الْحَافِظ قَالَ سَمِعت مُحَمَّد بن الْحسن ابْن تالويه يَقُول سَمِعت أَبَا بكر مُحَمَّد بن اسحق بن خُزَيْمَة يَقُول سَمِعت أَبَا بكر الطَّبَرِيّ يَقُول سَمِعت نعيم بن حَمَّاد يَقُول سَمِعت ابْن الْمُبَارك يَقُول سَمِعت أَبَا حنيفَة يَقُول إِذا جَاءَ عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم فعلى الرَّأْس وَالْعين وَإِذا جَاءَ عَن أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عليه وسلم نَخْتَار من قَوْلهم وَإِذا جَاءَ عَن التَّابِعين زاحمناهم
وَقَالَ أَيْضا أخبرنَا أَبُو عبد الله الْحَافِظ قَالَ سَمِعت أَبَا جَعْفَر مُحَمَّد بن صَالح بن هَانِئ يَقُول سَمِعت مُحَمَّد بن عمر بن الْعَلَاء يَقُول سَمِعت بشر بن الْوَلِيد يَقُول قَالَ أَبُو يُوسُف لَا يحل لأحد أَن يَقُول مقالتنا حَتَّى يعلم من أَيْن قُلْنَا
قَالَ شيخ مَشَايِخنَا مُحَمَّد حَيَاة السندي اللَّازِم على كل مُسلم أَن يجْتَهد فِي معرفَة مَعَاني الْقُرْآن وتتبع الْأَحَادِيث وَفهم مَعَانِيهَا واخراج الْأَحْكَام مِنْهَا فَإِن لم يقدر فَعَلَيهِ أَن يُقَلّد الْعلمَاء من غير الْتِزَام مَذْهَب لِأَنَّهُ يشبه اتِّخَاذه نَبيا وَيَنْبَغِي لَهُ أَن يَأْخُذ بالأحوط من كل مَذْهَب وَيجوز لَهُ الْأَخْذ بالرخص عِنْد الضَّرُورَة وَأما بِدُونِهَا فَالْأَحْسَن التّرْك أما مَا أحدثه أهل زَمَاننَا من الْتِزَام مَذَاهِب مَخْصُوصَة لَا يرى وَلَا يجوز كل مِنْهُم الِانْتِقَال من مَذْهَب الى مَذْهَب فجهل وبدعة وتعسف وَقد رأيناهم يتركون الْأَحَادِيث الصِّحَاح غير المنسوخة ويتعلقون بمذاهبهم من غير سَنَد انا لله وانا اليه رَاجِعُون انْتهى
قلت وَقَوله يشبه اتخاده نَبيا ألخ بل هُوَ عين اتخاده رَبًّا على مَا تقدم فِي الْمُقدمَة عِنْد تَفْسِير قَوْله تَعَالَى {اتَّخذُوا أَحْبَارهم وَرُهْبَانهمْ أَرْبَابًا من دون الله} الْآيَة من حَدِيث عدي ابْن حَاتِم وَغَيره وَقد قَالَ الشَّافِعِي مَا من أحد الا وَيذْهب عَلَيْهِ سنة لرَسُول الله صلى الله عليه وسلم وتعزب عَنهُ كَمَا نَقله الْعِرَاقِيّ عَنهُ فاذا الزم نَفسه تَقْلِيد مُجْتَهد معِين وَاتفقَ أَن ذَلِك الْمُجْتَهد فَإِنَّهُ سنة دَالَّة على تَحْرِيم شئ فاجتهد فِيهِ وأحله بإجتهاده من قِيَاس أَو اسْتِحْسَان أَو غير ذَلِك وَبَلغت السّنة مُجْتَهدا غَيره فحرمه اتبَاعا للسّنة وَعلم هَذَا الْمُقَلّد السّنة الْمَذْكُورَة الدَّالَّة على تَحْرِيمه بِوَاسِطَة الْمُجْتَهد الآخر وَقد ألزم نَفسه تَقْلِيد الأول الَّذِي أحله فصمم على تَقْلِيده بتحليله مَعَ علمه بورود السّنة الدَّالَّة على تَحْرِيمه وَمنعه تَقْلِيد الأول اتِّبَاع السّنة لاعْتِقَاده عدم جَوَاز الِانْتِقَال عَن تَقْلِيد الأول فقد
اتخذ الأول رَبًّا من دون الله تَعَالَى يحل لَهُ مَا حرم الله وَيحرم عَلَيْهِ مَا أحل الله انا لله وانا اليه رَاجِعُون
وَقَالَ الشَّيْخ مُحَمَّد حَيَاة ايضا لَو تتبع الانسان من النقول لوجد أَكثر مِمَّا ذكر وَدَلَائِل الْعَمَل على الْخَيْر اكثر من أَن تذكر وَأشهر من أَن تشهر لَكِن لبس ابليس على كثير من الْبشر فَحسن لَهُم الْأَخْذ بِالرَّأْيِ لَا الْأَثر وأوهمهم أَن هَذَا هُوَ الأولى والأخير فجعلهم بِسَبَب ذَلِك محرومين عَن الْعَمَل بِحَدِيث خير الْبشر صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَسلم وَهَذِه البلية من البلايا الْكبر إِنَّا لله وَإِنَّا لله رَاجِعُون
وَمن 2 اعْجَبْ الْعَجَائِب أَنهم إِذا بَلغهُمْ عَن بعض الصَّحَابَة رضي الله عنهم مَا يُخَالف الصَّحِيح من الْخَيْر وَلم يَجدوا لَهُ محملًا جوزوا عدم بُلُوغ الحَدِيث اليه وَلم يثقل ذَلِك عَلَيْهِم وَهَذَا هُوَ الصَّوَاب واذا بَلغهُمْ حَدِيث يُخَالف قَول من يقلدونه اجتهدوا فِي تَأْوِيله الْقَرِيب والبعيد وَسعوا فِي محامله النائية والدانية وَرُبمَا حرفوا الْكَلم عَن موَاضعه واذا قيل لَهُم عِنْد عدم وجود المحامل الْمُعْتَبرَة لَعَلَّ من تقلدونه لم يبلغهُ الْخَبَر أَقَامُوا على الْقَائِل الْقِيَامَة وشنعوا عَلَيْهِ أَشد الشناعة وَرُبمَا جَعَلُوهُ من أهل البشاعة وَثقل ذَلِك عَلَيْهِم فَانْظُر أَيهَا الْعَاقِل الى هَؤُلَاءِ الْمَسَاكِين يجوزون عدم بُلُوغ الحَدِيث فِي حق أبي بكر الصّديق الْأَكْبَر وإخوانه وَلَا يجوزون ذَلِك فِي أَرْبَاب الْمذَاهب مَعَ أَن البون بَين الْفَرِيقَيْنِ كَمَا بَين السَّمَاء وَالْأَرْض وتراهم يقرأون كتب الحَدِيث ويطالعونها ويدرسونها لَا ليعلموا بهَا بل ليعلموا دَلَائِل من قلدوه وَتَأْويل مَا خَالف قَوْله ويبالغون فِي المحامل الْبَعِيدَة واذا عجزوا عَن الْمحمل قَالُوا من قلدنا اعْلَم منا بِالْحَدِيثِ أَو لَا يعلمُونَ أَنهم يُقِيمُونَ حجَّة الله تَعَالَى عَلَيْهِم بذلك وَلَا يَسْتَوِي الْعَالم وَالْجَاهِل فِي ترك الْعَمَل بِالْحجَّةِ واذا مر عَلَيْهِم حَدِيث يُوَافق قَول من قلدوه انبسطوا واذا مر عَلَيْهِم حَدِيث يُخَالف قَوْله أَو يُوَافق مَذْهَب غَيره رُبمَا انقبضوا وَلم يسمعوا قَول الله {فَلَا وَرَبك لَا يُؤمنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوك فِيمَا شجر بَينهم ثمَّ لَا يَجدوا فِي أنفسهم حرجا مِمَّا قضيت ويسلموا تَسْلِيمًا}
قَالَ الصغاني فِي مَشَارِق الْأَنْوَار أخذت مضجعي لَيْلَة الْأَحَد الْحَادِيَة عشرَة من شهر ربيع الأول سنة اثْنَيْنِ وَعشْرين وسِتمِائَة وَقلت اللَّهُمَّ أَرِنِي اللَّيْلَة نبيك مُحَمَّدًا ص فِي الْمَنَام وانك تعلم اشتياقي اليه فَرَأَيْت بعد هجعة من اللَّيْل كَأَنِّي وَالنَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فِي مشربَة وَنَفر من أَصْحَابنَا أَسْفَل منا عِنْد درج الْمشْربَة فَقلت يَا رَسُول الله مَا تَقول فِي ميت رَمَاه الْبَحْر احلال فَقَالَ وَهُوَ متبسم الى نعم فَقلت وانا أُشير إِلَى من باسفل الدرج فَقل لِأَصْحَابِي فَإِنَّهُم لَا يصدقوني فَقَالَ لقد شتموني وعابوني فَقلت كَيفَ يَا رَسُول الله فَقَالَ كلَاما لَيْسَ يحضرني لَفظه وانما مَعْنَاهُ عرضت قولي على من لَا يقبله ثمَّ أقبل عَلَيْهِم يلومهم ويعظهم فَقلت صَبِيحَة تِلْكَ اللَّيْلَة وَأَنا أعوذ بِاللَّه من أَن