الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأَصْل الْخَامِس وَهُوَ الْقيَاس
فَاسْتَعْملهُ للضَّرُورَة وَقد قَالَ فِي كتاب الْخلال سَأَلت الشَّافِعِي رحمه الله عَن الْقيَاس فَقَالَ إِنَّمَا يُصَار إِلَيْهِ عِنْد الضَّرُورَة أَو مَا هَذَا مَعْنَاهُ
فَهَذِهِ الْأُصُول الْخَمْسَة من أصُول فَتَاوِيهِ وَعَلَيْهَا مدارها وَقد يتَوَقَّف فِي الْفَتْوَى لتعارض الْأَدِلَّة عِنْده أَو لاخْتِلَاف الصَّحَابَة فِيهَا أَو لعدم اطِّلَاعه فِيهَا على أثر أَو قَول أحد من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَكَانَ شَدِيد الْكَرَاهَة وَالْمَنْع للإفتاء بِمَسْأَلَة لَيْسَ فِيهَا أثر عَن السّلف وَكَانَ كثيرا مَا سُئِلَ بِمَا فِيهِ الِاخْتِلَاف فَيَقُول لَا أَدْرِي
وَقَالَ عبد الله بن أَحْمد فِي مسَائِله سَمِعت أبي يَقُول قَالَ عبد الرحمن بن مهْدي سَأَلَ رجل من اهل الْمغرب مَالك بن أنس عَن مَسْأَلَة فَقَالَ لَا أَدْرِي فَقَالَ يَا أَبَا عبد الله تَقول لَا أَدْرِي قَالَ نعم فأبلغ من وَرَاءَك أَنِّي لَا أَدْرِي وَقَالَ عبد الله بن أَحْمد كنت أسمع كثيرا مَا يسئل فَيَقُول لَا أَدْرِي وَيقف إِذا كَانَت مَسْأَلَة فِيهَا اخْتِلَاف وَكَثِيرًا مَا يَقُول سل غَيْرِي وَقد حرم الله القَوْل عَلَيْهِ بِغَيْر علم فِي الْفتيا وَالْقَضَاء وَجعله فِي المرتية الْعليا مِنْهَا فَقَالَ تَعَالَى {قل إِنَّمَا حرم رَبِّي الْفَوَاحِش مَا ظهر مِنْهَا وَمَا بطن وَالْإِثْم وَالْبَغي بِغَيْر الْحق وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّه مَا لم ينزل بِهِ سُلْطَانا وَأَن تَقولُوا على الله مَا لَا تعلمُونَ} فرتب الْمُحرمَات على أَربع مَرَاتِب وَبَدَأَ بأسهلها وَهُوَ الْفَوَاحِش ثمَّ ثني بِمَا هُوَ أَشد تَحْرِيمًا مِنْهُ وَهُوَ الْإِثْم وَالظُّلم ثمَّ ثلث بِمَا هُوَ أعظم تَحْرِيمًا وَهُوَ الشّرك بِاللَّه سُبْحَانَهُ ثمَّ ربع بِمَا هُوَ أَشد تَحْرِيمًا من ذَلِك كُله وَهُوَ القَوْل عَلَيْهِ بِلَا علم وَهَذَا يعم القَوْل عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ بِلَا علم فِي أَسْمَائِهِ وَصِفَاته وأفعاله وأقواله وَفِي دينه وشرعه وَقَالَ تَعَالَى {وَلَا تَقولُوا لما تصف أَلْسِنَتكُم الْكَذِب هَذَا حَلَال وَهَذَا حرَام لتفتروا على الله الْكَذِب إِن الَّذين يفترون على الله الْكَذِب لَا يفلحون مَتَاع قَلِيل وَلَهُم عَذَاب أَلِيم} فَتقدم إِلَيْهِم سُبْحَانَهُ بالوعيد على الْكَذِب عَلَيْهِ فِي أَحْكَامه وَقَوْلهمْ لما لم يحرمه هَذَا حرَام وَلما لم يحله هَذَا حَلَال وَهَذَا بَيَان مِنْهُ سُبْحَانَهُ أَنه لَا يجوز للْعَبد أَن يَقُول هَذَا حرَام وَهَذَا حَلَال إِلَّا بِمَا علم أَن الله تَعَالَى أحله أَو حرمه
وَقَالَ بعض السّلف ليتق أحدكُم أَن يَقُول أحل الله كَذَا وَحرم كَذَا فَيَقُول الله تَعَالَى كذبت لم أحل كَذَا وَلم أحرم كَذَا فَلَا يَنْبَغِي أَن يَقُول لما لَا يعلم وُرُود الْوَحْي الْمُبين بتحليله وتحريمه أحل الله وَحرم الله بِمُجَرَّد التَّقْلِيد أَو بالتأويل وَقد نهى النَّبِي صلى الله عليه وسلم فِي الحَدِيث الصَّحِيح أميره بُرَيْدَة أَن ينزل عدوه إِذا حَاصَرَهُمْ على حكم الله وَقَالَ فَإنَّك لَا تَدْرِي أتصيب حكم الله فيهم أم لَا وَلَكِن أنزلهم على حكمك وَحكم أَصْحَابك فَتَأمل كَيفَ فرق الله بَين حكم الله وَحكم الْأَمِير الْمُجْتَهد وَنهى أَن يُسمى حكم الْمُجْتَهدين حكم الله وَمن هَذَا لما كتب الْكَاتِب بَين يَدي أَمِير الْمُؤمنِينَ عمر بن الْخطاب حكما حكم بِهِ فَقَالَ هَذَا مَا أرى الله امير الْمُؤمنِينَ عمر بن الْخطاب
فَقَالَ لَا تقل هَكَذَا وَلَكِن قل هَذَا مَا رأى أَمِير الْمُؤمنِينَ عمر بن الْخطاب وَقَالَ الإِمَام أَحْمد فِي رِوَايَة ابْنه صَالح عَنهُ يَنْبَغِي للرجل إِذا حمل نَفسه على الْفتيا أَن يكون عَالما بِوُجُوه الْقُرْآن عَالما بِالْأَسَانِيدِ الصَّحِيحَة عَالما بالسنن وَإِنَّمَا جَاءَ خلاف من خَالف لقلَّة معرفتهم بِمَا جَاءَ عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَقلة معرفتهم لصحيحها من سقيمها
وَقَالَ ابْن أبي دَاوُد حَدثنَا عبد الله بن أَحْمد بن حَنْبَل قَالَ سَمِعت أبي يَقُول لَا تكَاد ترى أحدا نظر فِي الرَّأْي إِلَّا وَفِي قلبه دغل وَقَالَ عبد الله بن أَحْمد أَيْضا سَمِعت أبي يَقُول الحَدِيث الضَّعِيف أحب إِلَيّ من الرَّأْي وَقَالَ عبد الله سَأَلت أبي عَن الرجل يكون بِبَلَد لَا يجد فِيهِ إِلَّا صَاحب حَدِيث لَا يعرف صَحِيحه وسقيمه وَأَصْحَاب الرَّأْي فتنزل بهم النَّازِلَة فَقَالَ أَي يسْأَل فَقَالَ يسْأَل أَصْحَاب الحَدِيث وَلَا يسْأَل أَصْحَاب الرَّأْي ضَعِيف الحَدِيث أقوى عندنَا من الرَّأْي
وَالْحَاصِل أَن السّلف كلهم على ذمّ الرَّأْي وَالْقِيَاس الْمُخَالف للْكتاب وَالسّنة وَأَنه لَا يحل الْعَمَل بِهِ لَا فتيا وَلَا قَضَاء وَإِن الرَّأْي الَّذِي لَا يعلم مُخَالفَته للْكتاب وَالسّنة وَلَا مُوَافَقَته فغايته أَن يسوغ الْعَمَل بِهِ عِنْد الْحَاجة إِلَيْهِ من غير إِلْزَام وَلَا إِنْكَار على من خَالفه
والتقليد الْمنْهِي عَنهُ منقسم على ثَلَاثَة أَقسَام أَحدهَا الْإِعْرَاض عَمَّا أنزل الله تَعَالَى وَعدم الِالْتِفَات إِلَيْهِ اكْتِفَاء بتقليد الْآبَاء الثَّانِي تَقْلِيد من لَا يعلم الْمُقَلّد أَنه أهل أَن يَأْخُذ بقوله الثَّالِث التَّقْلِيد بعد قيام الْحجَّة وَظُهُور الدَّلِيل على خلاف قَول الْمُقَلّد وَالْفرق بَين هَذَا وَبَين النَّوْع الأول أَن الأول قلد قبل تمكنه من الْعلم وَالْحجّة وَهَذَا قلد بعد ظُهُور الْحجَّة فَهُوَ أولى بالذم ومعصية الله تَعَالَى وَرَسُوله انْتهى قلت وَقد تقدم فِي الْمُقدمَة آيَات من الْقُرْآن تدل على ذمّ التَّقْلِيد بأقسامه
قَالَ ابْن الْقيم فَإِن قيل إِنَّمَا ذمّ الله تَعَالَى من قلد الْكفَّار وآباءه الَّذين لَا يعْقلُونَ شَيْئا وَلَا يَهْتَدُونَ وَلم يذم من قلد الْعلمَاء المهتدين بل قد أَمر بسؤال أهل الذّكر وهم أهل الْعلم وَذَلِكَ تَقْلِيد لَهُم فَقَالَ تَعَالَى {فاسألوا أهل الذّكر إِن كُنْتُم لَا تعلمُونَ} وَهَذَا امْر لمن لَا يعلم بتقليد من يعلم
فَالْجَوَاب أَن الله سُبْحَانَهُ ذمّ من أعرض عَمَّا أنزلهُ إِلَى تَقْلِيد الْآبَاء وَهَذَا الْقدر من التَّقْلِيد هُوَ مِمَّا اتّفق السّلف وَالْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة على ذمه وتحريمه وَأما تَقْلِيد من بذل جهده فِي اتِّبَاع مَا أنزل الله تَعَالَى وخفي عَلَيْهِ بعضه فقلد فِيهِ من هُوَ أعلم مِنْهُ فَهَذَا مَحْمُود غير مَذْمُوم ومأجور وَهُوَ التَّقْلِيد الْوَاجِب وَقَالَ تَعَالَى {وَلَا تقف مَا لَيْسَ لَك بِهِ علم} والتقليد لَيْسَ بِعلم بِاتِّفَاق أهل الْعلم قَالَ تَعَالَى {قل إِنَّمَا حرم رَبِّي الْفَوَاحِش مَا ظهر مِنْهَا وَمَا بطن وَالْإِثْم وَالْبَغي بِغَيْر الْحق وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّه مَا لم ينزل بِهِ سُلْطَانا وَأَن تَقولُوا على الله مَا لَا تعلمُونَ} وَقَالَ تَعَالَى {اتبعُوا مَا أنزل إِلَيْكُم من ربكُم وَلَا تتبعوا من دونه أَوْلِيَاء} فَأمر بِاتِّبَاع الْمنزل خَاصَّة والمقلد لَيْسَ لَهُ علم أَن
هَذَا هُوَ الْمنزل وَإِن كَانَت قد ثبتَتْ لَهُ الدّلَالَة فِي خلاف قَول من قَلّدهُ فقد علم أَن تَقْلِيده فِي خِلَافه اتِّبَاع لغير الْمنزل وَقَالَ {فَإِن تنازعتم فِي شَيْء فَردُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُول إِن كُنْتُم تؤمنون بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر ذَلِك خير وَأحسن تَأْوِيلا} فمنعنا سُبْحَانَهُ من الرَّد إِلَى غَيره وَغير رَسُوله صلى الله عليه وسلم وَهَذَا مُبْطل للتقليد وَقَالَ {أم حسبتم أَن تتركوا وَلما يعلم الله الَّذين جاهدوا مِنْكُم وَلم يتخذوا من دون الله وَلَا رَسُوله وَلَا الْمُؤمنِينَ وليجة} وَلَا وليجة أعظم من جعله رجلا بِعَيْنِه مُخْتَارًا على كَلَام الله تَعَالَى وَكَلَام رَسُوله صلى الله عليه وسلم وَكَلَام سَائِر الْأَئِمَّة يقدمهُ على ذَلِك كُله ويعرض كتاب الله وَسنة رَسُوله وَإِجْمَاع الْأمة على قَوْله فَمَا وَافقه مِنْهَا قبله لموافقته لقَوْله وَمَا خَالفه مِنْهَا عطف فِي رده وتطلب لَهُ وُجُوه الْحِيَل فَإِن لم تكن هَذِه الوليجة فَلَا نَدْرِي مَا الوليجة وَقَالَ تَعَالَى {يَوْم تقلب وُجُوههم فِي النَّار يَقُولُونَ يَا ليتنا أَطعْنَا الله وأطعنا الرسولا وَقَالُوا رَبنَا إِنَّا أَطعْنَا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا} وَهَذَا نَص فِي إبِْطَال التَّقْلِيد
فَإِن قيل إِنَّمَا ذمّ من قلد من أضلّهُ السَّبِيل وَأما من هداه السَّبِيل فَأَيْنَ ذمّ تَقْلِيده
قلت جَوَاب هَذَا السُّؤَال فِي نفس السُّؤَال فَإِنَّهُ لَا يكون العَبْد مهتديا حَتَّى يتبع مَا أنزل الله تَعَالَى على رَسُوله فَهَذَا الْمُقَلّد إِن كَانَ يعرف مَا أنزل الله تَعَالَى فَهُوَ مستهد وَلَيْسَ بمقلد وَإِن لم يعرف مَا أنزل الله تَعَالَى على رَسُوله فَهُوَ ضال جَاهِل بِإِقْرَارِهِ على نَفسه فَمن أَيْن يعرف أَنه على هدى فِي تَقْلِيده وَهَذَا جَوَاب كل سُؤال يُورد فِي هَذَا الْبَاب فِي أَنهم إِنَّمَا يقلدون أهل الْهدى فهم فِي تقليدهم على هدى
فَإِن قيل فَأنْتم تقرون أَن الْأَئِمَّة المقلدين فِي الدّين على هدى فمقلدوهم على هدى قطعا لأَنهم سالكون خَلفهم
قيل سلوكهم خَلفهم مُبْطل لتقليدهم لَهُم قطعا فَإِن طريقتهم كَانَت اتِّبَاع الْحجَّة وَالنَّهْي عَن تقليدهم كَمَا تقدم نَقله عَنْهُم فَمن ترك الْحجَّة وارتكب مَا نهوا عَنهُ وَنهى الله تَعَالَى وَرَسُوله ص عَنهُ قبلهم فَلَيْسَ على طريقتهم بل هُوَ من الْمُخَالفين لَهُم وَإِنَّمَا يكون على طريقتهم من اتبع الْحجَّة وانقاد للدليل وَلم يتَّخذ رجلا بِعَيْنِه سوى الرَّسُول صلى الله عليه وسلم يَجعله مُخْتَارًا على الْكتاب وَالسّنة يعرضهما على قَوْله وَبِهَذَا يظْهر بطلَان فهم من جعل التَّقْلِيد اتبَاعا وإبهامه وتلبيسه بل هُوَ مُخَالف لِلِاتِّبَاعِ وَقد فرق الله تَعَالَى وَرَسُوله ص وَأهل الْعلم بَينهمَا فَإِن الِاتِّبَاع سلوك طَرِيق المتبع والإتيان بِمثل مَا أَتَى بِهِ انْتهى كَلَام صَاحب أَعْلَام الموقعين
وَقد تقدم الْفرق بَينهمَا فِي الْمُقدمَة فَلَا وَجه للإعادة وَالله تَعَالَى أعلم