المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌التحولات العالمية وعنف العولمة: - ثقافة العولمة بوصفها خطابا متطرفا

[عبد الله العشي]

الفصل: ‌التحولات العالمية وعنف العولمة:

‌التحولات العالمية وعنف العولمة:

لقد تغير العالم في ربع القرن الأخير تغيرا يكاد يعيد تشكيل الخريطة الجغرافية والتاريخية والثقافية والروحية، إن لم يكن قد أعاد تشكيلها بالفعل، وهذا ما جعلنا نحس أحيانا أننا لأول مرة في التاريخ نعيش عالما جديدا بمثل هذه الجدة التي لا تعطي الإنسان فرصة للتفكير واتخاذ الموقف الملائم، بل يغرقه بفيض من الأفكار تدفعه مضطرا للانسياق وراء ما يحدث، وكأنه فقد قدرته على التحكم في توازنه.

وقد عبر عن هذا التحول الكاتب البريطاني أنطوني جيدنز حين قال: " كلما تفاقمت التغيرات التي تحدثت عنها في هذا الفصل أدت إلى تشكيل مجتمع عالمي لم يكن موجودا من قبل، ونحن أول جيل يعيش في هذا المجتمع الذي نكاد لا نرى ملامحه الآن. إنه يزعزع أنماط حياتنا أينما كنا. والآن في الأقل لا يعد هذا نظاما عالميا تمليه إرادة بشرية جماعية، وإنما هو فوضى ناجمة عن مزيج من التأثيرات ". (1)

وقد ساعد على هذا التحول الرهيب أمران أساسيان في اعتقادي:

(1) أنطون جيدنز، عالم جامح، ترجمة عباس كاظم وحسن ناظم، المركز الثقافي العربي، بيروت، الدار البيضاء، ط1، ص. 39.

ص: 3

الأول هو ثورة المعلومات التي تعد ثورة حقيقية لا مجازا، لقد أصبح ما كان في حكم الخرافي واقعا مدهشا، وأصبح " التوالد" العلمي بلا حدود. والأمر الثاني هو أن هذه الثورة العلمية أصبحت تهيمن عليها وتوجهها مؤسسات سياسية وعسكرية واقتصادية، هي نفسها التي توجه الحضارة المعاصرة لتهيمن على الكوكب الأرضي كله.

ليس ثمة من خطأ في الثورة العلمية المشار إليها، ولا أظن أن فينا من سيقف موقفا سلبيا أمام الفتوحات العلمية، ولكن الخطر يأتي من المؤسسات المحتكرة للعلم والموجهة له، لقد ثبت واقعيا أن هذه المؤسسات هي مؤسسات مؤدلجة، بمعنى أنها لا تتمتع بحياد العلم وموضوعيته، بل هي مؤسسات تحمل أفكارا رهيبة، مشروعات فكرية وسياسية أقل ما يمكن أن توصف به أنها مشروعات استعلائية متكبرة، تعتقد أن العالم على ضلال إلا من اتبعها، وأنه لا يقوى على فعل شيء ما يعتمد عليها، وترى أن هذا العالم لم يعد يتسع للجميع، فهو فقط لمحتكري الثورة العلمية، وعلى الآخرين الالتزام والتبعية والتقليد.

ص: 4

هكذا يفكر القوي في عالمنا المعاصر، لقد انتفى البعد الأخلاقي والإنساني، ونؤكد ثانية أن ذلك لم يتم بسبب العلم بل بسبب المؤسسات الموجهة لهذا العلم.

في مثل هذا المناخ ظهرت العولمة، ليس بوصفها مقولة علمية مجردة حيادية، بل بوصفها مقولة إيديولوجية استغلت نتائج العلم المعاصر من أجل الهيمنة على العالم وتوحيده خارج حدود الثقافات والهويات الخاصة، ومن أجل أن يتم ذلك كان لا بد أن تتبنى إيديولوجية.

لم تكشف عنها بشكل مباشر ولكن يمكن تبين معالمها من خلال الواقع.

ص: 5

إن العولمة تسير ضد منطق التاريخ، إذ ليس من المعقول أن يتم تهميش الهويات أو إلغاؤها وقد تشكلت عبر عشرا ت الآلاف من السنين وتحولت إلى مكون للأمم، ليس مجرد مكون ثقافي أو ديني أو أخلاقي، بل يمكن على سبيل الاستعارة أن نقول: إنها مكون بيولوجي مثل الكروموزوم المسؤول عن نوع الجنس البشري، فالبشر مختلفون ومتفقون، متميزون ويمكنهم العيش بهذا التمايز والإسهام في سعادة الإنسان، أما تحويل البشرية إلى هوية ثقافية واحدة فأمر مناقض للتاريخ، ف " ليست هناك ثقافة عالمية واحدة، وليس من المحتمل أن توجد في يوم من الأيام، وإنما وجدت، وتوجد وستوجد ثقافات متعددة متنوعة تعمل كل منها بصورة تلقائية، أو بتدخل إرادي من أهلها، على الحفاظ على كيانها ومقوماتها الخاصة. من هذه الثقافات ما يميل إلى الانغلاق والانكماش، ومنها ما يسعى إلى الانتشار والتوسع ". (1)

(1) محمد عابد الجابري. العولمة والهوية الثقافية: عشر أطروحات. مجلة فكر ونقد، الرباط، العدد 10.

ص: 6

وهي ضد منطق التاريخ أيضا، لأنها ليست تطورا طبيعيا في الحركة الثقافية أو السياسية أو الاقتصادية، كما قد يتوهم بعضهم، وإن كانت تطورا لشيء فإنما هي تطور للفكر الاستعماري الأوروبي، ومن هذا المنطلق يمكن عد العولمة هي المرحلة الاستعمارية الثالثة بعد الاستعمار العسكري والاستعمار الاقتصادي، وها هي ذي تمثل الاستعمار الشامل. وعلى الرغم من التداول الشاسع لهذا المفهوم فإنه غامض في نواح عدة، وكأن هذا الغموض متعمد حتى لا ينكشف السر، ويحل اللغز.

ص: 7