المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌هوية العولمة: - ثقافة العولمة بوصفها خطابا متطرفا

[عبد الله العشي]

الفصل: ‌ ‌هوية العولمة:

‌هوية العولمة:

ص: 8

حين يسعى الباحث إلى تقديم تعريف علمي للعولمة سوف لن يعثر على تعريف يطمئن إليه، ويتخذه مبدأ بحثه، على الرغم من الاستعمال الواسع لهذا المصطلح إلى درجة أصبح فيها مهيمنا على الكتابات السياسية والاقتصادية والإعلامية، فقد أصبح المصطلح نفسه مهيمنا، كما تسعى العولمة إلى الهيمنة، فالمؤسسات الغربية لم تستقر على تعريف موحد، أو أنها لا تريد ذلك، مع أنها تقدم تحديدات لأهداف النظام العالم الجديد الذي تعد العولمة وسيلة تطبيقه، وقد أحس بهذا الغموض والتضليل بعض الكتاب الغربيين، فقد كتب جيدنز:"نظرا لشعبية مصطلح العولمة، يجب ألا يفاجئنا عدم وضوحه في جميع الأحوال أو ما هو رد الفعل الذي تشكل ضده "(1) . وما يقدم تعريفا للعولمة إنما هو تجميع لأفكار متناثرة من هنا وهناك، ترد أحيانا على ألسنة الرؤساء وأصحاب النفوذ السياسي والعسكري والاقتصادي في العالم، ذلك أن العولمة أيضا هي مشروع لم يتم تشكيله بعد، فهو في طور التشكل المتواصل وقد يخضع للتغير في أية لحظة حسب التغيرات التاريخية، وحسب ردود أفعال المجتمعات الأخرى، ولكن هذا لا يعني أن الفكرة الجوهرية للعولمة غير معروفة. إنها معروفة، ولكن أصحابها

(1) أنطوني جيدنز. عالم جامح. ترجمة عباس كاظم وحسن ناظم. المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء بيروت. ط1. 2003. ص. 26.

ص: 9

يرفضون البوح بها، حتى تظل عيوبها وأهدافها البعيدة مجهولة. ويعود أمر غياب التعريف المحدد للعولمة في اعتقادي إلى كونها مقولة يود أصحابها إبقاءها بعيدا عن الفهم الكامل والصحيح وتقديمها في بعض مظاهرها الاقتصادية والإعلامية الإيجابية، حتى تظل سرا من جهة، ومن جهة ثانية حتى يتركوا فرصة للمجتمعات الأخرى لتعطيها المفهوم الذي تتصوره لتظهر وكأنها انبثقت من داخل هذه المجتمعات ولم ترد إليها من خارجها، وهذا أسوأ أشكال الاستعمار الفكري كما يشرحه مالك بن نبي في كتابه الصراع الفكري. فتصبح العولمة في هذه الحالة عولمة ذاتية وهذه أخطر أنواع العولمة. لأن المجتمعات تتصور أنها تطور طبيعي في حركتها بينما هي قد سيقت مجبرة إليها.

ص: 10

وقد حاول بعض المعرفين اختصار هوية العولمة فحددها في كونها تقوم في أساسها على: " على تصيير المحلي عالميا، فهي وصف لعمل مستمر تدل عليه كلمة Globalisation، لكنها في الوقت نفسه وصف لبعض نتائج هذا التعولم. النتيجة النهائية للعولمة أن تكون للعالم كله لغة أو لغات مشتركة وأن تكون التجارة فيه مفتوحة ومتيسرة بين كل بلدان العالم، وأن يسود فيه نظام اقتصادي واحد ونظام سياسي واحد وأن تسود فيه عقيدة واحدة، وأن تكون للناس فيه قيم مشتركة في مسائل كحقوق الإنسان والعلاقة بين الجنسين، وأن يكون هناك أدب عالمي يتذوقه الناس كلهم، وأن يسود فيه تبعا لذلك نظام تعليمي واحد، وأن تكون كل هذه الأمور التي تعولمت مناسبة للناس من حيث كونهم بشرا، ومساعدة لهم على تحقيق طموحاتهم المادية. هذا هو الهدف النهائي المثالي. لكن العولمة قد تكون ناقصة، وقد تكون تامة من غير أن تكون مناسبة للبشر بل مفروضة عليهم لظروف طارئة ". (1)

(1) جعفر شيخ إدريس. العولمة وصراع الحضارات. مقال. - مجلة البيان. اقتباس من موقعها في شبكة الإنترنت.

ص: 11

ولو كانت مثل هذه الأفكار والطموحات والأحلام من تأملات الفلاسفة والمفكرين والعلماء مطروحة بوصفها علم الإنسانية التي تسعى إلى الرقي بنفسها إلى مستوى آخر أفضل من الوجود والعيش والحضارة، من غير أن تكون ملزمة لأحد بل متروكة للمجتمعات تسعى إلى تحقيقها كلما كانت الحالة الحضارية مناسبة من غير إكراه أو عنف ولا تضحيات بالثقافة واللغة والدين والتاريخ، لكان الأمر مقبولا كما قبلت من قبل مشروعات المدن الفاضلة. أما أن يتحول المشروع إلى نظام يفرض بكل أشكال العنف والإرهاب فلن يزرع إلا فوضى عارمة في العالم، والحروب قمة أشكال هذه الفوضى.

ص: 12

وقد دخل المصطلح إلى مجال المعجمات، فأصبح يعني:" مذهب القائلين بأن الرأسمالية هي ديانة الإنسانية، وأن النسبية الفكرية ستكون لها الغلبة على المطلقات الإيديولوجية، وأن النسبية الثقافية هو المعول عليه، وليس مبدأ مركزية الثقافات، وأن العالم ينتقل حاليا ونهائيا وشموليا والتسلط إلى الديموقراطية والتعددية وتشمله ثورة معلوماتية تنتشر في كل مكان من شأنها إلغاء الحدود بين الدول بحيث يصبح من السهل انتقال الناس والمعلومات على نطاق العالم كله، ويتم ذلك من خلال المنافسة والحوار والمحاكاة. . . . وفي العولمة تحويل العالم إلى الرأسمالية، وتتم السيطرة عليه في هيمنة دول المركز وسيادة النظام العالمي الواحد، وبذلك تتهافت الدولة القومية وتضعف فكرة السيادة الوطنية. ويؤول الأمر مع الثقافة إلى صياغة ثقافة عالمية واحدة تضمحل إلى جوارها الخصوصيات الثقافية ". (1)

(1) عبد المنعم الحنفي. المعجم الشامل لمصطلحات الفلسفة. مكتبة مدبولي. القاهرة. ط. 3. 2000م. ص. 569.

ص: 13

ومع ذلك فثمة مفهومان للعولمة، مفهوم نظري لعولمة لم تتشكل بعد على أرض الواقع وهو ما ورد في التعريف المعجمي السابق، ومفهوم عملي وهو يتعلق بالجانب الذي تم تحققه من العولمة بالفعل ويتمثل في المكاسب التي حققها النظام العالمي الجديد الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية. وهذا المفهوم الثاني هو مرحلة أولى من مراحل العولمة التي تتطور بسرعة لا يستطيع المتابع أن يضبط حركتها.

وقد ذهب بعضهم إلى أن العولمة ظاهرة تاريخية، عرفتها البشرية في تطورها الحضاري، ففي كل مرحلة كانت حضارة ما تهيمن على بقية الحضارات، وفي زمن ما كانت الحضارة الإسلامية حضارة عالمية. هذا الطرح من الناحية الوصفية صحيح لكنه من حيث الأهداف الكبرى أمر متحفظ عليه، فثمة فرق كبير بين عالمية الحضارة الإسلامية والعولمة المعاصرة.

ص: 14