المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

برزت سبق الجياد في مهلٍ … وقصرت دون سعيك العرب فالتفت - ثمرات الأوراق في المحاضرات - جـ ١

[الحموي، ابن حجة]

الفصل: برزت سبق الجياد في مهلٍ … وقصرت دون سعيك العرب فالتفت

برزت سبق الجياد في مهلٍ

وقصرت دون سعيك العرب

فالتفت يزيد إلى مولى له وقال: أعطه نجم هذا الأسبوع ونصبر على العذاب إلى السبت الآخر.

قال الأصمعي حضرت مجلس الرشيد وفيه مسلم بن الوليد إذ دخل أبو نواس فقال له الرشيد ما أحدثت بعدنا يا أبا نواس فقال يا أمير المؤمنين ولو في الخمر فقال: قاتلك الله ولو في الخمر فأنشد:

يا شقيق النفسٍ من حكمِ

نمتَ عن ليلي ولم أنم

حتى انتهى إلى آخرها فقال:

فتمشت في مفاصلهم

كتمشي البرءِ في السَّقمِ

فقال أحسنت والله يا غلام أعطه عشرة آلاف درهم وعشر خلع فأخذها وخرج قال الأصمعي: فلما خرجنا من عنده قال لي مسلم بن الوليد: ألم تر إلى الحسن بن هانىء كيف سرق شعري وأخذ به مالا وخلعا فقلت له وأي معنى سرق لك قال قوله فتمشت في مفاصلهم البيت. فقلت وأي شيء قلت فقال:

كأنَّ قلبي وشاحاها إذا خطرت

وقلبها في الصمت والخرس

تجري محبتها في قلب وأمقِها

جري السلافة في أعضاء منتكس

‌ترجمة المعتزلة

المعتزلة طائفة من المسلمين يرون أن أفعال الخير من الله وأفعال الشر من

ص: 13

الإنسان وأن القرآن مخلوق محدث ليس بقديم وأن الله تعالى غير مرئي يوم القيامة وأن المؤمن إذا ارتكب الذنب مثل الزنا وشرب الخمر كان في منزلة بين منزلتين يعنون بذلك أنه ليس بمؤمن ولا كافر وأن إعجاز القرآن في الصرفة لا أنه في نفسه معجز ولو لم يصرف الله العرب عن معارضته لأتوا بما يعارضه وأن من دخل النار لم يخرج منها وإنما سموا معتزلة لأن واصل بن عطاء كان يجلس إلى الحسن البصري رضي الله تعالى عنه فلما ظهر الخلاف وقالت الخوارج بكفر مرتكب الكبائر وقال المجاعة بأنهم مؤمنون وإن فسقوا بالكبائر خرج واصل عن الفريقين وقال إن الفاسق عن الفريقين وقال إن الفاسق من هذه الأمة لا مؤمن ولا كافر بل هو في منزلة بين منزلتين فطرده الحسن رضي الله تعالى عنه عن مجلسه فاعتزل عنه فقيل لأتباعه معتزلة. ولم يزل مذهب الأعتزال ينمو إلى أيام الرشيد فظهر بشر المريسي وأحضر الشافعي مكبلا في الحديد فساله بشر والسؤال ما تقول يا قرشي في القرآن؟ فقال: إياي تعني؟ قال: نعم قال: مخلوق فخلى عنه وأحس الشافعي رضي الله عنه بالشر وأنه الفتنة تشتد في إظهار القول بخلق القرآن فهرب من بغداد إلى مصر ولم

ص: 14

يقل الرشيد رحمه الله بخلق القرآن فكان الأمر بين أخذ وترك إلى أن ولي المأمون فقال بخلق القرآن وبقي يقدم رجلا ويؤخر أخرى في الدعوة إلى ذلك، إلى أن قوي عزمه في السنة التي مات فيها وطلب الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه، فأخبر في الطريق أنه توفي فبقي الإمام محبوساً بالرقة حتى بويع المعتصم فأحضر إلى بغداد وعقد له مجلس المناظرة وفيه عبد الرحمن بن إسحق، والقاضي أحمد بن أبي دؤاد وغيرهما فناظروه ثلاثة أيام فلم يقطع في بحث، وسفه أقوال الجميع فأمر به فضرب بالسياط إلى أن أغمي عليه ورمي على بارية وهو مغشي عليه ثم حمل وصار إلى منزله ولم يقل بخلق القرآن ومكث في السجن ثمانية وعشرين شهراً ولم يزل يحضر الجمعة ويفتي ويحدث حتى مات المعتصم وولي الواثق فأظهر ما أظهر من المحنة وقال للامام أحمد لا تجمعن إليك أحداً ولا تساكني في بلد أنا فيه، فاختفى الإمام أحمد لا يخرج إلى صلاة ولا غيرها، حتى مات الواثق وولي المتوكل، فأحضره وأكرمه وأطلق عليه مالا فلم يقبله وفرقه، وأجرى على أهله وولده في كل شهر أربعة آلاف درهم ولم تزل جارية إلى أن مات المتوكل، وفي أيامه

ص: 15

ظهرت السنة وكتب إلى الآفاق برفع ما توقع من المحنة وإظهار السنَّة وتكلم في مجلس بالسنة ولم يزالوا أعني المعتزلة في قوة إلى أيام المتوكل ولم يكن في هذه الأمة الإسلامية أهل بدعة أكثر منهم. ومن مشاهيرهم على ما ذكروا من الفضلاء والأعيان الجاحظ وواصل بن عطاء والقاضي عبد الجبار والرماني النحوي وأبو علي الفارسي وأقضى القضاة الماوردي الشافعي وهذا غريب، ومن المعتزلة أيضاً الصاحب بن عباد وصاحب الكشاف والفراء النحوي والسيرافي وابن جني والله أعلم.

ومما جنيته من ثمرات الأوراق أن الرشيد ساله جعفراً عن جواريه فقال يا أمير المؤمنين كنت في الليلة الماضية مضطجعاً وعندي جاريتان وهما يكسباني فتناومت عنهما لأنظر صنيعهما وإحداهما مكية والأخرى مدنية فمدت المدنية يدها إلى ذلك الشيء فلعبت به فانتصب قائما فوثبت المكية وقعدت عليه فقالت المدنية أنا أحق به لأنني حدثت عن مالك عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: من أحيا أرضاً ميتة فهي له. فقالت المكية: وأنا حدثت عن معمر عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ليس الصيد لمن أثاره إنما

ص: 16

الصيد لمن أخذه، فضحك الرشيد حتى استلقى على قفاه وقال هل من سلوة عنهما فقال جعفر هما ومولاهما بحكم أمير المؤمنين وحملهما إليه.

ومن ذلك ما حكي عن بعض المطربين أنه غنى في جماعة عند بعض الأمراء:

إذا أنت أعطيت السعادة لم تُبَل

ولو نظرت شزراً إليك القبائل

وإن فوق الأعداء نحوك أسهماً

ثنتها على أعقابهن المناصل

فطرب الأمير إلى الغاية ولما زاد طربه قال لبعض مماليكه هات خلعة لهذا المغني ولم يفهم المغني ما يقوله الأمير فقام لقلة حظه إلى بين الخلاء وفي غيبته جاء المملوك بالخلعة فوجد المغني غائباً وقد حصل في المجلس عربدة وأمر الأمير بإخراج الجميع فقيل للمغني بعدما خرج: إن الأمير كان قد أمر لك بخلعة فلما كان بعد أيام حضر المغني عند ذلك الأمير وغنى فقال:

إذا أنت أعطيت السعادة لم تَبُلْ

ولو نظرت شزراً إليك القبائل

بفتح التاء وضم الباء، فأنكروا عليه فقال نعم لأني لما بلت في ذلك اليوم فاتتني السعادة من الأمير فأوضحوا له القصة فضحك وأعجبه ذلك وأمر له بخلعة.

ومن المنقول

ص: 17

أن عبد الله بن المعتز من خلفاء بني العباس مع كماله وغزارة فضله كان لم يزل منغصا في مدة حياته بويع له بالخلافة وظن أن الحظ قد تنبه له فلم يتم الأمر له إلا يوما واحداً ثم قبض عليه وقتل رحمه الله تعالى على أنه ما وافق على ولاية الآمر حتى اشترط عليهم أن لا يسفكوا في واقعته دما ومحله من الأدب لا يخفى وشمعة فضله كالصبح لا تقط ولا تطفى وقد قيل:

لله درك من ملكٍ بمضيعةٍ

ناهيك في العلم والعلياء والحسب

ما فيه لو ولا ليتٌ تنقصُهُ

وإنما أدركتهُ حرفةُ الأدب

وقال ابن الساعاتي:

عفتُ القريضَ فلا أسمو له أبداً

حتى لقد عفتُ أن أرويه في الكتب

هجرت نظمي له لا من مهانته

لكنها خفيةٌ من حرفة الأدب

قلت وما برح الزمان مولعا بخمول أهل الأدب وخمود نارهم. كان الملك الأفضل نور الدين علي بن صلاح الدين يوسف من كبار أهل الأدب، وكان حسن السيرة متدينا قل أن عاقب على ذنب وله المناقب الجميلة وكان أكبر إخواته، ومع كمال صفاته وآدابه التي سارت بها الركبان ما صفاه له الدهر ولا هناه بالملك بعد أبيه السلطان صلاح

ص: 18

الدين، رحمه الله تعالى، لبث مدة يسيرة بدمشق المحروسة ثم حضر إليه عمه أبو بكر العادل وأخوه الملك العزيز عثمان، فأخرجهما من ملكه بدمشق إلى صرخد ثم جهزاه إلى سميساط وفي ذلك كتب إلى الإمام الناصر ببغداد:

مولاي إنَّ أبا بكرٍ وصاحبهُ

عثمان قد منعا بالسيف حق علي

فأنظر إلى حظ هذا الإسم كيف لقي

من الأواخر ما لاقى من الأول

فكتب الناصر الجواب: ولكن الفرق مثل الصبح

وافي كتابُك يا ابن يوسف معلناً

بالصدق يخبر أن أصلك طاهر

غصبوا علياًّ حقّه إذ لم يكن

بعد النبي له بيثرب ثائر

فاصبر فإن غداً عليه حسابهمْ

وابشر فناصرك الإمام الناصر

ولم ينصره الإمام الناصر بل توفي فجأة بسميساط، رحمه الله تعالى، ومن شعره ما ذكره ابن واصل في مفرج الكروب:

يا من يسود شعرهُ بخضابه

فعساه من أهل الشبيبة يحصل

ها فاختضب بسواد حظي مرةً

ولك الأمانُ بأنه لا ينصل

قلت ومثله الملك الناصر داود ابن الملك المعظم وكان

ص: 19

داود صاحب الكرك ما برح مع كمال فضله منكداً مشتتا في البلاد توجه إلى بغداد ومعه فخر القضاة ابن بصاقة والشيخ شمس الدين الخرشاهي وقد استصحب جواهر نفيسة والتجأ إلى الإمام الناصر وطلب الحضور بين يديه ليشاهده في الملا فما قدر له ذلك ولا وافق الخليفة عليه حتى امتدحه بقصيدته البائية التي مطلعها:

ورانٍ ألمت بالكثيب ذوائبه

وجنح الدجى وحفٌ تجول غياهبه

تقهقه في تلك الربوع رعودُهُ

وتبكي على تلك الطلول سحائبه

وقال منها في حكاية حاله مع الخليفة:

أيحسن في شرع المعالي ودينها

وأنت الذي تُعزي إليه مذاهبُه

بأني أخوض الدو والدو مقفرٌ

سباريته مقفرةٌ وسباسبه

ويأتيك غيري من بلادٍ قريبةٍ

له الأمن فيها صاحبٌ لا يجانبه

فيلقى دنوا منك لم ألق مثلهُ

ويحظى ولا أحظى بما أنا طالبه

وينظر في لألاء قدسك نظرةً

فيرجع والنورُ الإمامي صاحبه

ولو كان يعلوني بنفسٍ ورتبةٍ

وصدق ولاءٍ لست فيه أصاقبه

ص: 20

لكنت أسلي النفس مما ترومُه

وكنت أذود العين عما تراقبه

ولكنه مثلي ولو قلت إنني

أزيد عليه لم يعب ذاك عائبه

الناصر يشير إلى مظفر الدين كوكبوري بن كوجك فإنه قدم إلى الديوان فطلب الحضور، فأذن له وبرز له الخليفة وشاهد وجهه، ولما وقفت الخليفة على هذه القصيدة أعجبته غاية الإعجاب، وهي من النظم البديع في غاية لاتدرك، فاستدعاه بعد شطر من الليل واجتمع به خلوة، وما تم له ما ظفر به مظفر الدين المذكور، وسبب ذلك أن الخليفة راعى عمه المذكور، والذي ثبت عند أهل التاريخ أن عمه العادل ما فعل ذلك إلا حسدا له على كمال أدواته وبلاغة آدابه وقيل: إنه كتب خطا منسوبا أزرى بالحدائق المدبجة.

وحكى صاحب الريحان والريعان قال حضر شاب ذكي بعض مجالس الأدب، فقال بعضهم: ما تصحيف نصحت فخنتني قال تصحيف حسن فاستغرب إسراعه، وكان بالمجلس شاعر من أهل بلنسية فاتهم الشاب وقال مختبراً له ما تصحيف بلنسية فأطرق ساعة، ثم قال أربعة أشهر فجعل البلنسي يقول صدق ظني أنك تدعي وتنتحل، ما تقول، والفتى يضحك ثم قال له أشعرت أنت يا شاعر فقال له وأي نسبة بين أربعة أشهر وبين بلنسية فقال له إن لم يكن في اللفظ، فهو في المعنى ثم قام وهو

ص: 21

يقول ذل، فتنبه بعض الحاضرين ونظر فإذا أربعة أشهر ثلث سنة وهو تصحيف بلنسية فخجل الشاعر المنازع ومضى إلى الشاب معترفا ومعتذراً انتهى. وهذا المعنى في بلنسية نظمه الشيخ بدر الدين الدماميني أحجية فقال:

أيا واحد العصر ما بلدةً

محاسنها في الورى تذكر

حجى ما يرادف تصحيفها

وحقك أربعةٌ أشهر

ومن الغريب ما نقل عن الفقيه عمارة اليمني الشاعر أنه مر بمصلوب فقال:

ومدَّ على صليب الصلب منه

يميناً لا تطولُ إلى الشمال

ونكس رأسه لعتاب قلبٍ

دعاه إلى الغواية والضلال

فلم يمض ثلاثة أيام حتى صلب بين القصرين مع الجماعة الغرماء. وكان الفقيه نجم الدين عمارة أديباً ماهراً فقيهاً شافعي المذهب من أهل السنة قدم في دولة الفاطميين إلى الديار المصرية وصاحبها يومئذ الفائز بن الظافر ووزيره الصالح بن زريك فكان عنده في أكرم محل وأعز جانب واتحد به على ما كان بينهما من الاختلاف في العقيدة ثم رحل إلى اليمن وعاد إلى مصر وأقام بها إلى أن زالت دولة الفاطميين على يد السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب ورثى أهل القصر بقصيدته التي أولها:

ص: 22

رميت يا دهر كفَّ المجد بالشللِ

ورعته بعد حسن الحلي بالعطلِ

ومنها:

قدمت مصر فأولتني خلائقها

من المكارم ما أربى على الأمل

قومٌ عرفتُ بهم كسب الألوف ومن

تمامها أنها جاءت ولم أسل

يا لائمي في هوى أبناءِ فاطمةٍ

لك الملامةُ إن قصرت في عذل

بالله زر ساحة القصرين وابكِ معي

عليهما لا على صفين والجمل

ماذا ترى كانت الإفرنج فاعلةً

بنسلٍ آلِ أمير المؤمنين علي

وهي طويلة في غاية الحسن فلما بلغت السلطان صلاح الدين تغير عليه وقيل إنه استفتى عليه في قوله من قصيدته الميمية:

وكان مبدأ هذا الأمر من رجلٍ

سعى فأصبح يُدعى سيدَ الأمم

فأفتى الفقهاء بقتله وقالوا إن هذا الكلام رأي الفلاسفة في النبوات وأنها بالتكسب وهي إحدى المسائل التي كفروا بها والصحيح أنه يجتبي من رسله من يشاء ولم يكن أحد من الأنبياء عنده شعور بأنه يكون فيما بعد نبيا والذي يظهر أن هذا مفتعل على الفقيه عمارة نظمه بعض أعدائه على لسانه ودسه في تلك القصيدة وما يبعد أن القاضي الفاضل رحمه الله كان

ص: 23

له ميل إلى هلاكه لأنه لما استشاره السلطان صلاح الدين في ضربه قال الكلب يسكت ثم ينبح قال فيسجن قال: يرجى له الخلاص قال فيقتل قال كذا الملوك إذا أرادوا شيئاً فعلوه ونهض فأمر بصلبه مع الغرماء فلما أمسكوه مروا به على باب الفاضل فلما رآه مقبلا قام ودخل إلى بيته وأغلق الباب فقال الفقيه عمارة:

عبد الرحيم قد احتجب

إن الخلاص من العجب

نكتة أدبية قال ابن سناء الملك من أبيات:

صليني وهذا الحسن باقٍ فربما

يُعزَّل بيت الحسن منه ويكنس

فوقف القاضي الفاضل رحمه الله على هذه القصيدة وكتب إلى ابن سناء الملك من جملة فصل، وما قلت هذه الغاية إلا وتعلمني أنها البداية ولا قلت هذا البيت آية القصيدة، إلا وتلي ما بعده وما نريهم من آية أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون ولا عيب في هذه المحاسن إلا قصور الأفهام وتقصير الأنام وإلا فقد لهج الناس بما تحتها ودنوا ما دونها والقصيدة فائقة في حسنها بديعة في فنها ولكن بيت يعزل ويكنس أردت أن أكنسه من القصيدة فإن لفظه الكنس غير لائقة بمكانها انتهى. فأجاب ابن سناء الملك

ص: 24

قائلا قد علم المملوك ما نبه عليه مولانا من أمر البيت الذي أراد أن يكنسه من القصيدة وقد كان المملوك مشغوفاً بهذا البيت مستحلياً له معجبا به معتقداً أن قافية بيته أميرة ذلك الشعر وسيدة قوافيه وما أوقعه في الكنس إلا ابن المعتز حيث يقول:

وقوامي مثل القناة من الخط

وخدي من لحيتي مكنوس

والمولى يعلم أن المملوك لم يزل يجري خلف هذا الرجل ويتعثر ويطلب مطالبه فتتعسر عليه وتتعذر وما مال المملوك إلا إلى طريق من ميله إليه طبعه ولا سار إلا إلى من دله عليه سمعه ورأى المملوك أبا عبادة قد قال:

ويا عاذلي في عبرةٍ قد سفحتها

لبينٍ وأخرى قبلها للتحببِ

تحاول مني شيمةً غير شيمتي

وتطلبُ مني مذهباً غير مذهبي

وقال:

وما زارني إلَاّ ولهت صبابةً

إليه وإلا قلت أهلاً ومرحبا

فعلم المملوك، أن هذه طريقة لا تسلك، وعقيلة لا تملك، وغاية لا ندرك، ووجد المملوك أبا تمام قد قال:

سلم على الربع من سلمى بذي سلم

ص: 25

ووجدته أيضاً قد قال:

خشنت عليه أخت بني خشين

فاشمأز من هذا اللفظ طبعه، واقشعر منه فهمه، ونبا عنه ذوقه، وكان سمعه يتجرعه ولا يكاد يسيغه، ووجد هذا المبدع السيد عبد الله بن المعتز قد قال:

وقفت بالربع أشكو فقد مشبهه

حى بكت بدموعي أعين الزهر

لو لم أعرها دموع العين تفسحها

لرحمتي لا ستعارتها من المطر

وقد قال:

قدك غصنٌ لا شوك فيه كما

وجهك شمس نهارهُ جسدك

فوجد المملوك طبعه إلى هذا المر مائلا وخاطره في بعض الأحيان عليه سائلا فنسج عن هذا الأسلوب وغلب على خاطره مع علمه أنه المغلوب وحبك الشيء يعمي ويصم فقد أعماه حبه وأصمه إلى أن نظم تلك اللفظة في تلك الأبيات تقليداً لابن المعتز قالها وحمل أثقالها وهي زلة تغتفر في جنب حسناته وأما المملوك فهي عورة ظهرت في أبياته فأجابه الفاضل بقوله ولا حجة فيما احتجه بابن المعتز عن الكنس في بيته فإنه غير معصوم من الغلط ولا يقلد إلا في الصواب فقط وقد علم ما ذكره

ص: 26

ابن رشيق في العمدة من تهافت طبعه وتباين صنعه ومخالفة وضعه فذكر من محاسنه ما لا يعلق معه كتاب ومن بارده وغثة مالا تلبس عليه الثياب وقد تعصب القاضي السعيد على أبي تمام فنقصه حظه وأما البحتري فأعطاه أكثر من حقه وقال:

ولو كان هذا موضع العتبِ لا شتفي

فؤادي ولكن للعتاب مواضع

قال الشيخ صلاح الدين الصفدي لما وقف على هذا الفصل رأيت ابن سناء الملك استعمل هذه اللفظة في غير هذا الموضوع ولم يتعظ بنهي الفاضل ولا ارعوى ولا ازدجر عما قبحه بل غلب عليه الهوى فقال:

وخلصني من يدي عشقه

ظلامٌ على خده حندسه

كنست فؤادي من حبه

ولحيته كانت المكنسه

قلت ما برح الشيخ صلاح الدين غفر الله له يذوق تقليداً كقوله عن ابن سناء الملك لما استعمل في هذه الصيغة المشتملة على الهجو بشاعة المكنسة ولم يتعظ بنهي الفاضل ولا أرعوى ولا ازدجر عما قبحه بل غلب عليه الهوى أما نقد الفاضل على ابن سناء الملك بوضع المكنسة على وجهة معشوقته التي ليس للعذار بوجنتها شعور فنقد صحيح وأما وضع مكنسة اللحية على وجنة من

ص: 27

طلعت لحيته وكان جائراً على عاشقه وسبكها هنا في قالب الهجو فهو نوع من المرقص والمطرب ولو وقف الفاضل على هذه المكنسة لأعدها لأبياته انتهى.

ومن لطائف المنقول ما حكي عن الشيخ مجد الدين ابن دقيق والعيد والد قاضي القضاة تقي الدين تغمدهما الله برحمته ورضوانه وهو أن الشيخ مجد الدين المشار إليه كان كثير الإحسان إلى أصحابه يسعى لهم على قدر استحقاقهم فيمن يصلح للحكم وفيمن يصلح للعدالة فجاءه بعض طلبته وشكا إليه رقة الحال وكثرة الضرورة فقال له أكتب قصتك وأنا أتحدث مع الوالد فكتب ذلك الطالب المملوك فلان يقبل الأرض وينهي أنه فقير ومظرور بالظاء القائمة وقليل الحض بالضاد وناولها للشيخ فلما قرأها تبسم وقال يا فقير سبحان الله ضرك قائم وحظك ساقط انتهى.

ومن لطائف المنقول عن قاضي القضاة شمس الدين ابن خلكان، رحمه الله تعالى، أنه كان يهوى بعض أولاد الملوك، وله فيه الأشعار الرائقة يقال: إن أول يوم زاره بسط له الطرحة وقال ما عندي أعز من هذه طأ عليها ولما فشا أمرهما وعلم به أهل منعوه من الركوب فكتب إليه:

يا سادتي إني قنعت وحقكم

في حبكم منكم بأيسر مطلب

ص: 28

إن لم تجودوا بالوصال تعطفاً

ورأيتم هجري وفرط تجنبي

لا تمنعوا عيني القريحة أن ترى

يوم الخميس جمالكم في الموكب

لو كنت تعلم يا حبيبي ما الذي

ألقاه من كمدٍ إذاً لم تركب

لرحمتني ورثيت لي من حالةٍ

لولاك لم يك حملها من مذهبي

قسما بوجهك وهو بدر طالعٌ

وبليل طرتك التي كالغيهب

وبقامةٍ لك كالقضيب ركبتُ من

أخطارها في الحبِّ أصعبَ مركب

لو لم أكن في رتبةٍ أرعى لها ال

عهد القديم صيانةً للمنصب

لهتكت ستري في هواك ولذلي

خلع العذار ولجَّ فيك مؤنِّبي

لكن خشيت بأن تقول عواذلي

قد جنَّ هذا الشيخ في هذا الصبي

فأرحم فديتُك حُرقةً قد قاربت

كشف القناع بحق ذياك النبي

قال الشيخ جمال الدين بن عبد القادر التبريزي الذي يهواه القاضي شمس الدين بن خلكان رحمه الله الملك المسعود بن الملك الظاهر وكان قد تيمه حبه وكنت أنام عنده بالعادلية فتحدثنا في بعض الليالي إلى أن ذهب الناس، فقال لي: نم أنت ههنا وألقى عليَّ فروة

ص: 29

قرظ وقام يدور حول بركة العادلية ويقول في دورانه:

أنا والله هالكٌ

آيسٌ من سلامتي

أو أرى القامة التي

قد أقامت قيامتي

وقيل إن قاضي القضاة شمس الدين المشار إليه رحمه الله سأل بعض أهل دمشق المحروسة وكان المسؤول من خواص أصحابه عن ترجمته عند أهل دمشق، فاستعفاه من ذلك فألح عليه؟ فقال: أما العلم والفضل فهم مجموعون عليه وأما النسب فيدعون فيه الأدعاء ويقولون: إن مولانا يأكل الحشيش ويحب الغلمان.

فقال أما النسب والكذب فيه فهذا نوع من الهذيان، ولو أردت أن أنتسب إلى العباس، أو إلى علي ابن أبي طالب، أو إلى أحمد من الصحابة، لأجازوا ذلك وأما النسب إلى قوم لم يبق منهم بقية وأصلهم فرس مجوس فما فيه فائدة وأما الحشيشة فلكل ارتكاب محرم وإذا كان ولا بد فكنت أشرب الخمر فإنه ألذ وأما محبة الغلمان فإلى غد أجيبك عن المسألة انتهى.

ومما يناسب لطيفة قاضي القضاة شمس الدين، ما نقلته من روض الجليس ونزهة الأنيس حكي عن سليمان بن محمد المهدي الصقلي قال: كان بأفريقية رجل نبيه شاعر، وكان يهوى غلاماً جميلا من غلمانه فأشتد كلفه به وكان

ص: 30

الغلام يتجنى عليه، ويعرض عنه كثيراً، فبينما هو ذات ليلة وقد انفرد بنفسه ليشرب الخمر إذ ذكر محبوبه فجرى بخاطره ما يفعله به من التجني فزاد سكره، وقام من الفور وقد غلب عليه الغرام وسكر المدام، فأخذ قبس نار وجعله عند باب الغلام ليحرق عليه داره فلما دارت النار بالباب بادر الناس باطفائها واعتقلوه فلما أصبحوا نهضوا به إلى القاضي فأعلموه بفعله فقال له القاضي: لأي شيء أحرقت باب هذا الغلام فأنشد على الفور:

لما تمادى على بعادي

وأضرم النار في فؤادي

ولم أجد من هواه بداً

ولا معيناً على السهاد

حملت نفسي على وقوفي

ببابه وقفة الجواد

فطار من بعض نار قلبي

أقلٌّ في الوصف من زناد

فاحرق الباب دون علمي

ولم يكن ذاك من مرادي

قال فاستطرف القاضي واقعته واستملح شعره ورق لحكاية حاله وتحمل عنه ما أفسده من باب الغلام وأطلقه.

ومما يناسب هذه اللطائف قيل: إنه رفع إلى المأمون أن حائكاً يعمل السنة كلها لا يتعطل في عيد ولا جمعة، فإذا ظهر الورد طوى عمله وغرد بصوت عال:

طاب الزمان وجاء الورد فاصطحبوا

ما دام للورد أزهارٌ وأنوار

فإذا شرب مع ندمائه على الورد غنى:

ص: 31

إشرب على الورد من حمراءَ صافيةٍ

شهراً وعشراً وخمساً بعدها عددا

ولا يزالون في صبوح وغبوق ما بقيت وردة فإنه انقضى الورد عاد إلى عمله وغرد بصوت عال:

فإن يبقني ربيِّ إلى الرود أصطبح

وإن مت والهفي على الورد والخمر

سألت إله العرش جل جلاله

يواصل قلبي في غبوقٍ إلى الحشر

فقال المأمون لقد نظر هذا الرجل إلى الورد بعين جليلة فينبغي أن نعينه على هذه المروءة فأمر أن يدفع له في كل سنة عشر آلاف درهم في زمن الورد.

ومن اللطائف ما حكي عن مجير الدين الخياط الدمشقي قيل: إنه كان يهوى غلاماً من أولاد الجند فشرب مجير الدين في بعض الليالي وسكر فوقع في الطريق فمر الغلام عليه بشمعة وهو راكب فرآه في الليل مطروحا على الطريق فوقع عليه بالشمعة ونزل فأقعده ومسح وجهه فسقط من الشمعة نقطة على وجهه ففتح عينيه فرأى محبوبه على رأسه فاستيقظ وأنشد:

يا محرقاً بالنار وجه محبِّه

مهلاً فإن مدامعي تطفيه

أحرق بها جسدي وكل جوارحي

وأحذر على قلبي فإنك فيه

ومن اللطائف ما حكاه الأصمعي

ص: 32

قال: مررت بكناس يكنس كنيفاً وهو يغني ويقول:

أضاعوني وأي فتىً أضاعوا

ليوم كريهةٍ وسداد ثغر

فقلت له أما سداد الثغر فلا علم لنا كيف أنت فيه وأما سداد الكُنُف فمعلوم. قال الأصمعي: وكنت حديث السن فأردت العبث به فأعرض عني مليا ثم أقبل علي وأنشد:

وأكرمُ نفسي إنني إن أهنتها

وحقك لم تُكرمْ على أحدٍ بعدي

فقلت وأي كرامة حصلت لها منك وما يكون من الهوان أكثر مما أهنتها به. فقال: بل لا والله من الهوان ما هو أكثر وأعظم مما أنا فيه، فقلت له: وما هو فقال الحاجة إليك وإلى أمثالك، فقال: فانصرفت وأنا أخزي الناس ذكرت بقول الكناس غريم الأصمعي ما يضارع ذلك أعني قوله:

أضاعوني وأيَّ فتىً أضاعوا

ليوم كريهةٍ وسداد ثغر

قيل: إنه كان لأبي حنيفة رضي الله عنه جار إسكاف بالكوفة يعمل نهاره أجمع فإذا جنه الليل، رجع إلى منزله بلحم وسمك فيطبخ اللحم ويشوي السمك فإذا دب فيه السكر أنشد:

أضاعوني وأيَّ فتى أضاعوا

ليوم كريهةٍ وسداد ثغر

ولا يزال يشرب ويردد البيت إلى أن يغلبه

ص: 33

السكر وينام، وكان الإمام أبو حنيفة يصلي الليل كله، ويسمع حديثه وإنشاده ففقد صوته بعض الليالي فسأل عنه فقيل: أخذه العسس منذ ثلاثة أيام وهو محبوس فصلى الإمام الفجر وركب بغلته ومشى واستأذن على الأمير فقال أئذنوا له واقبلوا به راكبا حتى يطأ البساط فلما دخل على الأمير أجلسه مكانه وقال ما حاجة الإمام فقال لي جار إسكاف أخذه العسس منذ ثلاثة أيام فتأمر بتخليته فقال نعم وكل من أخذ تلك الليل إلى يومنا هذا ثم أمر بتخليته وتخليتهم أجمعين فركب الإمام وتبعه جاره الإسكاف فلما وصل إلى داره قال له الإمام أبو حنيفة أترانا أضعناك قال لا بل حفظت ورعيت جزاك الله خيراً عن صحبة الجوار ورعايته ولله عليَّ أن لا أشرب بعدها خمرا فتاب من يومه ولم يعد إلى ما كان عليه انتهى.

ومما يناسب هذه اللطائف ما ذكره الحريري في كتابه الموسوم بتوشيح البيان نقل أن أحمد بن المعدل كان يجد بأخيه عبد الصمد وجدا عظيما على تباين طريقيهما لأن أحمد كان صواما قواماً وكان عبد الصمد سكيراً خمورياً وكانا يسكنان داراً واحدة ينزل أحمد في غرفة أعلاها وعبد الصمد في أسفلها فدعا عبد الصمد ليلة

ص: 34

جماعة من ندمائه وأخذ في القصف والعزف حتى منعوا أحمد الورد ونغصوا عليه التهجد فاطلع عليهم وقال أفأمن الذين مكروا السيئات أن يخسف الله بهم الأرض فرفع عبد الصمد رأسه وقال وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وذكرت بها الاقتباس الذي خلب القلوب هنا بحسن موقعه اقتباسا خلب قلوب الناس لعظم موقعه وما ذاك إلا أن الحاكم الفاطمي على ما ذكر، لما بني المسجد الجامع بالقاهرة المعزية المجاور لباب الفتوح قيل إنه فسد حاله في آخر أمره وادعى الألوهية وكتب بسم الله الرحمن الرحيم وجمع الناس إلى الإيمان به وبذل لهم نفائس وكان ذلك في فصل الصيف والذباب يتراكم على الحاكم والخدام تدفعه ولا يندفع فقرأ في ذلك الوقت بعض القراء وكان حسن الصوت يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يسنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب ما قدروا الله حق قدره إن الله لقوي عزيز. فاضطربت الأمة لعظم وقوع هذه الآية الشريفة في حكاية الحال، حتى كأن الله أنزلها تكذيباً للحاكم فيما أدعاه وسقط الحاكم من فوق سريره

ص: 35

خوفا من أن يقتل وولى هارباً، وأخذ في استجلاب ذلك الرجل إلى أن اطمأن إليه فجهزه رسولا إلى بعض الجزائر وأمر بإغراقه ورؤي بعد ذلك في المنام فقيل له ما وجدت فقال ما قصر معي صاحب السفينة أرسى بي على باب الجنة ومن الاقتباسات التي وقعت للمتأخرين في أحسن المواقع المتعلقة بحكاية الحال ما سمعت وشهدت حكاية حالة بالجامع الأموي وما ذاك إلا أن قاضي القضاة علاء الدين أبا البقاء الشافعي، رحمه الله تعالى، كان قد عزل من وظيفة قضاء القضاة بدمشق المحروسة فعاد إلى وظيفته والبس التشريف من قلعة دمشق وحضر إلى الجامع على العادة، ومعه أخوه قاضي القضاة بدر الدين الشافعي بالديار المصرية فاستفتح الشيخ معين الدين الضرير المقرىء وقرأ قالوا يا أبانا ما نبغي هذه بضاعتنا ردت إلينا ونمير أهلنا ونحفظ أخانا إلى آخر الآية فحصل بالجامع الأموي ترنمٌ صفق له النسر بجناحية.

وروى المرزبان بإسناده أن المجنون خرج مع أصحاب له يمتار من وادي القرى فمر بجبلي نعمان فقالوا إن هذين جبلا نعمان وقد كانت ليلى تنزلهما قال فأي ريح تهب من نحو أرضها إلى هذا المكان فقالوا

ص: 36

الصبا فقال والله لا أبرح حتى تهب الصبا فأقام في ناحية من الجبل ومضوا فامتاروا له ولهم ثم أتوا فحبسهم حتى هبت الصبا ورحل معهم وفي ذلك يقول:

أيا جبلي نعمان بالله خليا

نسيم الصبا يخلص إلي نسيمها

أجد بردها أو تشف مني حرارةٌ

على كبدٍ لم يبق إلا صميمها

فإن الصبا ريحٌ إذا ما تنسمت

على نفس مهمومٍ تجلت همومها

وضمن البيت الأول الشيخ صفي الدين الحلي في مليح اسمه نعمان

أقول وقد عانقت نعمان ليلةً

بنور محياه أنارَ أديمها

وقد أرسلت إلياه نحوي فسوةً

يروح كرب المستهام شميمها

أيا جبلي نعمان بالله خليا

نسيم الصبا يخلص إلي نسيمها

وكان لابن الجوزي رحمه الله تعالى زوجة أسمها نسيم الصبا فاتفق أنه طلقها فحصل له عند ذلك ندم وهيام أشرف منه على التلف فحضرت في بعض الأيام مجلس وعظه فحين رآها عرفها فاتفق أنه جاءته امرأتان وجلستا أمامه فحجبتاها عند فأنشد في الحال:

أيا جبلي نعمان بالله خليا

نسيم الصبا يخلصْ إلي نسيمها

قلت وعلى ذكر نعمان

ص: 37

والكناية عنه فما ألطف ما ذكره الشيخ بدر الدين حسن بن زفر الطبيب الأربلي في كتابه روضة الجليس ونزهة الأنيس وهو أن بعض الرؤساء قال: أخبرني بعض الأصحاب قال: كنت يوما جالسا عند صديق لي بالموصل إذ جاءه كتاب من بغداد من صديق له وفيه تشوق وفيه عتاب بهذا البيت:

تناسيتم العهد القديم كأننا

على جبلي نعمان لن نتجمعا

فأخذ يستحسن هذا البيت ويهتز له فقلت بالله عليك أسألك شيئاً لا تخفه قال سل قلت هذه معشوقتك صاحبة هذا الكتاب هل كنت تأتيها من وراء الدار فقال أي والله ومن أين علمت ذلك فقلت من البيت لأنها ذكرتك فيه بجبلي نعمان وهما كناية عند الظرفاء من أهل الأدب عن جانبي الكفل للمليح والمليحة فقال والله ما أدركت ما أدركت ونقلت من اللطائف المسبوكة في قالب التورية أن بعض الكتاب دخل يسلم على بعض فضلاء النحاة وكان من أصحابه فوجده قائما يلوط بأحد الغلمان الملاح من طلبته في قراءة النحو ولم يره الغلام فجلس النحوي في مكانه وبقي الغلام

ص: 38

واقفا مبهوتا فقال الكاتب للنحوي مالي أرى هذا الغلام واقفا فقال النحوي وقع عليه الفعل فانتصب.

ومثل ذلك قصة ابن عنين مع الملك المعظم عيسى ابن الملك العادل لما كتب إليه في مرضه:

أنظر إلي بعين مولى لم يزل

يولي الندى وتلافَ قبل تلافي

أنا كالذي احتاج ما يحتاجه

فأغنم دعائي والثناء الوافي

فحضر إليه المعظم بنفسه ومعه ثلثمائة دينار وقال له أنت الذي وأنا الغائد وهذه الصلة وظرف من قال:

وذي أدبٍ بارعٍ لكنهُ

أولجت فيه قمداً عتف

فقلت فديتك أعصر عليه ففيه اللذاذة لو تعترف

فقال أجدت ولكن لحنت

لقولك أعصر بفتح الألف

فقلت لك الويل من أحمقٍ

فقال وأحمق لا ينصرف

وأظرف منه قول الحسين بن الريان:

أتيت حانة خمار وصاحبها

مما جنى متقن للنحو ذو لسن

وحوله كل هيفاءٍ منعمةٍ

وكل علقٍ رشيقٍ أهيفٍ حسن

فقال لي إذ رأى عيني قد انصرفت

إلى النساء كلام الحاذق الفطنِ

أنت وركب وصف وأعدل بمعرفةٍ

وأجمع وزد واسترح من عمةٍ وزن

ومثله ما حكي أن بعض الفقراء

ص: 39

وقف على باب نحوي فقرعه فقال النحوي من بالباب فقال سائل فقال ينصرف فقال اسمي أحمد فقال النحوي لغلامه أعط سيبويه كسرة.

ومثله قول ابن عنين:

شكا ابن المؤبد من عزله

وذم الزمان وأبدى السفه

فقلت له:

لا تذم الزمان

فتظلم أيامه المنصفه

ولا تعجبن إذا ما صرفت

فلا عدل فيك ولا معرفه

وألطف منه قول القائل:

ورقيعٍ أراد أن يعرف النحو

بزي العيار لا المستفتي

قال لي لست تعرف النحو مثلي

قلت سلني عنه أجب في الوقت

قال ما المبتدا وما الخبر المجرور

أوجز فقلت ذقنك في استي

وأحسن منه وأبدع قول الشيخ زين الدين بن الوردي:

وشادنٍ يسالني

ما المبتدا والخبر

مثلهما لي مسرعاً

فقلت أنت القمر

ومن النكت المسبوكة في قالب التورية أيضا ما قيل أن شهاب الدين القوصي حضر عند الملك الأشرف وقد دخل إليه سعد الدين الحكيم فقال الملك الأشرف ما تقول في سعد الدين الحكيم لشهاب الدين فقال يا مولانا السلطان إذا كان بين يديك فهو سعد الدين، وعلى السماط سعد بلع، وفي الخباء عن الضيوف سعد الأخبية، وعند

ص: 40

مرض المسلمين سعد الذابح قال فضحك الملك الأشرف واستسحن اتفاقه البديعي وابدع منه في هذا الباب ما نقل عن الشيخ نظام الدين قيس إنه لقي الصاحب عز الدين عبد العزيز بن منصور فسأله الصاحب عن حاله فقال:

حالٌ متى علم ابنُ منصورٍ بها

جاء الزمان إليّ منها تائبا

قلت إن نظام الدين أحق من أبي الطيب بهذا البيت ومن النكت بالتورية أيضاً قيل إن بعض الماجنات أرادت السفر فلقيها بعض المجان فقال لها خذي معك هذا الكتاب وأشار إلى ذكره فقالت له على الفور إن لم ألق أمك أعطه أختك ومثل ذلك أن الشيخ بدر الدين بن الصاحب لقي شخصاً ومعه مليحان فقال ما اسمك فقال عبد الواحد فقال أخرج منهما فأنا عبد الاثنين. ومثله أن ابن نقيلة المغني مرض وأشرف على الموت فجاء إليه ابن الصاحب يعوده فقال له كيف حال النقيلية فقال ما أخوفني أن تصير مدفونة مثله أن بعض المجان رأى امرأة حاملة سرموجة فقال له متى زوجك حملك تركاشه فقالت له رح لأرميك منه بفردة ومثله أن بعضهم رأى امرأة حاملة فردة سقمان لتخيطه فقال لها: أعتقي هذا الغراب.

ص: 41

فقالت له رح لأسيبه ينقرك. ومثله أن الشيخ بد الدين المذكور أولا حضر إلى مجلس قاضي القضاة ناصر الدين المالكي فذكروا محاسن القاضي محب الدين ناظر الجيشين وحسن أخلاقه ثم ذكروا محاسن الشعر فأنشده قاضي القضاة:

فكم أبٍ قد علا بابنٍ ذوي شرفٍ

كما علت برسول الله عدنان

فكل من الجماعة أثنى على هذا البيت فقال الشيخ بد الدين ابن الصاحب والقاضي محب الدين يحب هذا البيت فطربوا له. ومما وقع له بذلك المجلس أنه لما قدم المشروب على العادة كان قد تولى السقيا مملوك له اسمه بكتمر فلما شرب الشيخ بدر الدين قال له قاضي القضاة ما تقول يا شيخ قال رأيت ملك العلماء بكتمر الساقي ومثله أن الصاحب بن سكر أراد قارئا يقرأ بالمدرسة التي أنشأها بالقاهرة فاختاروا له رجلين أحدهما اسمه زيادة والآخر مرتضى فوقع في ظهر القصة مرتضى زيادة وزيادة مرتضى. ومثله أن ابا الحسين الخراز جاء إلى باب الصاحب زين الدين بن الزبير فأذن للناس في الدخول ولم يأذن له فكتب في ورقة:

الناس كلهم كالأير قد دخلوا

والعبد مثل الخصي ملقى على الباب

ص: 42

فلما قرأها ابن الزبير قال لحاجبه أخرج إلى الباب وقل يا خصي أدخل فدخل أبو الحسين وهو يقول هذا دليل على السعة ومن التنكيت والحشمة بالتورية أن الشيخ صلاح الدين الصفدي قال أخبرني الشيخ فتح الدين بن سيد الناس بالقاهرة قال قلت للشيخ تقي الدين بن دقيق العيد أن بهاء الدين بن النحاس يرجح أبا تمام على المتنبي فما رأيك أنت فسكت فقلت ثانيا فقال كنت كذا في الأول قال الشيخ صلاح الدين ولما حكيت للشيخ جمال الدين بن نباتة قال أنا على رأي ابن دقيق العيد قال الشيخ صلاح الدين وممن رأيته يعظم أبا تمام شيخنا أثير الدين ويرجحه على المتنبي فعذلناه في ذلك فقال أنا ما أسمع عذلا في حبيب.

ونقلت من خط الصاحب فخر الدين ابن الكانس رحمه الله قال سافرت سنة إحدى وستين وسبعمائة مع الصاحب فخر الدين ابن قزوينية إلى دمشق المحروسة وقد ولي نظر مملكتها ووالدي رحمه الله افتاءها وكان له دوادار يسمى صبيحاً وهو من عتقاء جده الوزير أمين الدين بن الغنام وكان لطيفا كثير النوادر فاتفق أن جمال الدين بن الرهاوي موقع دست الوزارة ركب يوما فتقنطر به

ص: 43

الفرس وداس على رأس أحليله فحمل إلى داره وأقام أياما إلى أن عوفي وحضر مجلس الوزارة وهو غاص بالناس فقال الصاحب ما سبب تأخرك فقال تقنطر بي الفرس وداس رأس احليلي فكدت أموت والآن فقد لطف الله تعالى وحصل البرء والشفاء فقال له صبيح: الحمد لله على سلامة الخصي فانقلب المجلس ضحكا وخجل ابن الرهاوي وانصرف. وحكي أن بعض الرؤساء كان له خادم وعبد فدخل يوما فوجد العبد فوق الخادم فضربه وخرج فرأى بعض أصدقائه فساله عن غيظه فقال هذا العبد النحس فعل بالخويدم الصغير فقال بل مولانا السيد الكبير فخجل منه وأبرزها في قالب المجون.

وأنشد ابن الجوزي في بعض مجالس وعظه:

أصبحت ألطف من مر النسيم على

زهر الرياض يكادُ الوهم يؤلمني

من كل معنىً لطيفٍ أجتلي قدحاً

وكل ناطقةٍ في الكون تطربني

فقام إليه إنسان فقال يا سيدي الناطق حمارٌ فقال أقول له يا حمار اسكت ويعجبني قول برهان الدين القيراطي:

صاح هذي قباب طيبةَ لاحت

ص: 44

.. وفؤادي على اللقاء حريص

وتبدت نخيلها للمطايا

فعيون المطي للنخل خوص

ويطربني ما حكاه أبو الفوارس بن اسرائيل الدمشقي. قال كنت يوما عند السلطان صلاح الدين يوسف بن ايوب فحضر رسول صاحب المدينة على صاحبها أفضل الصلاة والسلام ومعه قواد وهدايا فلما جلس أخرج من كمه مروحة بيضاء عليها سطران بالسعف الأحمر وقال الشريف يخدم مولانا السلطان ويقول هذه المروحة ما رأى مولانا السلطان ولا أحد من بني أيوب مثلها فاستشاط السلطان صلاح الدين غضباً فقال الرسول يا مولانا السلطان لا تعجل قبل تأملها وكان السلطان صلاح الدين ملكا حليما فتأملها فإذا عليها مكتوب:

أنا من نخلةٍ تجاور قبراً

ساد من فيه سائر الناس طرا

شملتني عناية القبر حتى

صرت في راحة ابن أيوب أقرا

وإذا هي من خوص النخل الذي في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم فقبلها السلطان صلاح الدين ووضعها على رأسه وقال لرسول صاحب المدينة النبوية صدقت فيما قلت من تعظيم هذه المروحة. وأحسن ما سمع فيها قول عرقلة الدمشقي:

ومحبوبةٍ في القيظ لم تخلُ من يدٍ

وفي القرٍّ تسلوها أكفُّ الحبائب

إذا ما الهوى المقصور هيج عاشقاً

ص: 45

.. أتت بالهوى الممدود من كل جانب

وقال غيره وأجاد:

ومروحةٍ أهدت إلى النفس روحها

لدى القيظ مبثوثاً بإهداء ريحها

روينا عن الريح الشمال حديثها

على ضعفه مستخرجاً من صحيحها

نقل الحافظ اليعمري أن أبا نصر المنازي واسمه أحمد بن يوسف دخل على أبي العلاء المعري في جماعة من أهل الأدب فأنشد كل واحد منهم من شعره ما تيسر فأنشده أبو نصر:

وقانا لفحة الرمضاء وادٍ

سقاه مضاعف الغيث العميم

نزلنا دوحه فحنا علينا

حنو الوالدات على الفطيم

وأرشفنا على ظمأٍ زلالاً

ألذَّ من المدامة للنديم

يصدُّ الشمس أني واجهتنا

فيحجبها ويأذن للنسيم

يروع حصاه حالية العذارى

فتلمس جانب العقد النظيم

فقال أبو العلاء أنت أشعر من بالشام.

ثم رحل أبو العلاء إلى بغداد فدخل المنازي عليه في جماعة من أهل الأدب ببغداد وأبو العلاء لا يعرف منهم أحداً فأنشد كل واحد ما حضره من شعره

ص: 46

حتى جاءت نوبة المنازي فأنشد:

لقد عرض الحمام لنا بسجعِ

إذا أصغى له ركبٌ تلاحى

شجى قلب الخلي فقيل غنى

وبرح بالشجيِّ فقيل ناحا

وكم للشوق في أحشاء صبٍّ

إذا اندملت أجدَّ لها جراحا

ضعيف الصبر عنك وإن تقاوى

وسكران الفؤاد وإن تصاحى

بذاك بنو الهوى سكرى صحاةً

كأحداق المها مرضى صحاحا

فقال أبو العلاء ومن بالعراق عطفا على قوله من بالشام انتهى.

نادرة مشى البيدق اليزيدي مع شاب موسوم بالجمال فقال له شمس الدين بن المنجم الشاعر أراك يا بيدق تفرزنت حول هذه النفس فقال وإذا كان فقال أخشى عليك من ذلك الرخ لا يقطعك من الحاشية ويرميك عن الفرس ويقطع عليك الرقعة ولو كان في كفك الفيل. ومثله في الظرف أن بعض الأجناد كان كثير اللعب بالشطرنج وكان الجندي خليعاً ظريفاً فأعطاه الأمير في بعض الأيام فرسا وقال له لا تفرط فيها فقال نعم وبعد ذلك التقاه الأمير وهو لابس جوخة فقال ويلك أين الفرس فقال يا خوند ضربني الشتاء

ص: 47

شاه مات فتسترت بالفرس. ويعجبني قول الشيخ بد الدين ابن الصاحب:

تأمل تر الشطرنج كالدهر دولةً

نهاراً وليلاً ثم بؤساً وأنعما

محركها باقٍ وتفنى جميعها

وبعد الفنا تحيا وتبعث أعظما

قلت ويشبه هذا قول الفاضل وقد أخرج له السلطان الملك الناصر صلاح الدين من القصر من يعاني الخيال أعني خيال الظل ليفرجه عليه فقام الفاضل عند الشروع في عمله فقال له الناصر إن كان حراما فما نحضره وكان حديث العهد بخدمته قبل أن يلي السلطنة فما أراد أن يكدر عليه فقعد إلى آخره فلما إنقضى ذلك قال له الملك الناصر كيف رأيت ذلك قال رأيت موعظة عظيمة رأيت دولاً تمضي ودولاً تأتي ولما طوي الأزار إذا المحرك واحد فأخرج ببلاغته هذا الجد في هذا الهزل انتهى.

وللشيخ بدر الدين الصاحب مضمنا في الشطرنج:

أميل لشطرنج أهل النهي

وأسلوه من ناقل الباطل

وكم رمت تهذيب لعابها

وتأبى الطباع على الناقل

ويعجبني قول الشيخ عز الدين الموصلي حيث قال:

جاهل شطرنجٍ ينادي وقد

أمات نفس اللعب من عكسه

ما تفعل الأفعال في جاهلٍ

ما يفعل الجاهل في نفسه

ص: 48

وقال الشيخ جمال الدين بن نباتة:

افديه لاعب شطرنجٍ قد اجتمعت

في شكله من معاني الحسن أشتاتُ

عيناه منصوبةٌ للقلب غالبةٌ

والخد فيه لقتل النفس شاماتُ

نادرة لطيفة حكي أن السراج الوراق جهز غلاما له يوما ليبتاع له زيتا طيبا ليأكل به لفتا فأحضره وقلبه على اللفت فوجده زيتا حاراً فأنكر على الغلام ذلك فأخذه وجاء إلى البياع وقال له لم تفعل مثل هذا فقال له والله يا سيدي مالي ذنب لأنه قال أعطني زيتا للسراج انتهى.

ومثله ما حكاه الصاحب فخر الدين بن مكانس عن صاحبه سراج الدين القوصي أنه كان حصل له طلوع في جسده فتردد إليه المزين وصنع له فتائل على العادة قال فقلت له يوما كيف الحال يا سراج الدين فقال كيف حال سراج فيه سبع فتائل.

ورأيت له في ديوانه يداعب سراج الدين المذكور بقوله:

إذا السراج اشترى أيري فأنت به

أولى وذلك للأمر الذي وجبا

إسكندريٌّ وتُدعى بالسراج وذا

مثلُ المنار إذا ما قام وانتصبا

نادرة لطيفة اجتمع محدث ونصراني في سفينة فصب النصراني من

ص: 49

ركوة كانت معه في مشربة وشرب وصب وعرض على المحدث فتناولها من غير فكر ولا مبالاة فقال النصراني جعلت فداك هذا خمر فقال من أين علمت أنها خمر قال اشتراها غلامي من خمار يهودي وحلف أنها خمر عتيق فشربها بالعجلة وقال للنصراني أنت أحمق نحن أصحاب الحديث نروي عن الصحابة والتابعين أفنصدق نصرانيا عن غلامه عن يهودي والله ما شربتها إلا لضعف الإسناد.

نادرة لطيفة نظر طفيلي إلى قوم ذاهبين فلم يشك أنهم في دعوة ذاهبون إلى وليمة فقام وتبعهم فإذا هم شعراء قد قصدوا السلطان بمدائح لهم فلما أنشد كل واحد شعره وأخذ جائزته لم يبق إلى الطفيلي وهو جالس ساكت فقال له أنشد شعرك فقال لست بشاعر قيل فمن أنت قال من الغاوين الذين قال الله تعالى في حقهم " والشعراء يتبعهم الغاوون " فضحك السلطان وأمر له بجائزة الشعراء.

وحكى الهيثم بن عدي قال ماشيت الإمام أبا حنيفة رضي الله تعالى عنه في نفر من أصحابه إلى عيادة مريض من أهل الكوفة وكان المريض بخيلا وتواصينا على أن نعرض بالغداء فلما دخلنا وقضينا حق العيادة قال بعضنا آتنا

ص: 50

غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا قال فتمطى المريض وقال ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج فغمز أبو حنيفة أصحابه وقال قوموا فما لكم هنا من فرج انتهى.

ومن غرائب المنقول أن يحيى بن اسحق كان طبيباً حاذقاً صانعاً بيده وكان في صدر دولة عبد الرحمن الناصر لدين الله واستوزروه نقل عنه من حذقه أنه أتى إليه بدوي على حمار وهو يصيح على باب داره أدركوني وكلموا الوزير بخبري فلما دخل عليه قال ما بالك قال ورم باحليلي منعني النوم منذ أيام وأنا في الموت فقال له اكشف عنه فأذا هو وارم فقال لرجل جاء معه أحضر لي حجراً أملس فطلبه فوجده فقال له ضع عليه الأحليل فلما تمكن أحليل الرجل من الحجر جمع الوزير يده وضرب الأحليل ضربة غشي على الرجل منها ثم اندفع الصديد يجري فلما انقطع جريان الصديد فتح الرجل عينيه ثم بال في أثر ذلك فقال له أذهب فقد برأت علتك وأنت رجل عابث واقعت بهيمة في دبرها فصادفت شعيرة من علفها ولجت في عين الاحليل فورم لها وقد خرجت في الصديد فقال له الرجل قد فعلت ذلك وهذا يدل على الحذق المفرط. ومثله

ص: 51

أن ابن جميع الاسرائيلي كان من الأطباء المشهورين والعلماء المذكورين خدم سلطان مصر صلاح الدين يوسف بن أيوب وحظي في أيامه وكان رفيع المنزلة نافذ الأمر. ومما نقل عنه في حذقه أنه كان جالسا في دكان وقد مرت عليه جنازة فملا نظر إليها صاح يا أهل الميت إن صاحبك لم يمت ولا يحل أن تدفنوه حيا فقال بعضهم لبعض هذا الذي يقوله لا يضرنا ويتعين أن فمتحنه فإن كان حيا فهو المراد وإن لم يكن حيا فما يتغير علينا شيء فاستدعوه إليهم وقالوا بين لنا ما قلت فأمرهم بالعود إلى البيت وأن ينزعوا أكفانه فلما فرغوا من ذلك أدخله الحمام وسكب عليه الماء الحار وأحمى بدنه نطله فظهر فيه أدنى حسن وتحرك حركة خفيفة فقال أبشروا بعافيته ثم تمم علاجه إلى أن أفاق وصحا فكان ذلك مبدأ اشتهاره بشدة الحذق والعلم ثم إنه سئل بعد ذلك ومن أين علمت أن في ذلك الميت بقية روح وهو في الأكفان محمود فقال نظرت إلى قديمه فوجدتهما قائمتين وأقدام الموتى منبسة فحدست أنه حي وكان حدسي صائبا.

نادرة لطيفة قيل إن المنصور ابن أبي عامر الأندلسي كان إذا قصد غزاة عقد لواءه بجامع قرطبة ولم يسر إلى الغزاة إلا من الجامع فاتفق أنه

ص: 52

في بعض حركاته للغزاة توجه إلى الجامع لعقد اللواء فاجتمع عنده القضاة والعلماء وارباب الدولة فرفع حامل اللواء اللواء فصادف ثريا من قناديل الجامع فانكسرت على اللواء وتبدد عليه الزيت فتطير الحاضرون من ذلك وتغير وجه المنصور فقال رجل أبشر يا أمير المؤمنين بغزاة هينة وغنيمة سارة فقد بلغت أعلامك الثريا وسقاها الله من شجرة مباركة فأستحسن المنصور ذلك واستبشر به وكانت العزوة من أبرك الغزوات. ومثل هذا لما خرج المنصور العباسي إلى قتال أبي يزيد الخارجي في جماعة من الأولياء وواجه الحصن سقط الرمح من يده فأخذه بعض الأولياء فمسحه وقال:

فألقت عصاها واستقر بها النوى

كما قرّ عيناً بالإياب المسافر

فضحك المنصور وقال لم ما قلت فألقى موسى عصاه فقال يا أمير المؤمنين العبد تكلم بما عنده من إشارات المتأدبين وتكلم أمير المؤمنين بما أنزل على النبي من كلام رب العالمين فكان الأمر على ما ذكره وأخذ الحصن وحصل الظفر بأبي يزيد.

حكي أن الشيخ شهاب الدين ابن محمود قال عدت قاضي القضاة شمس الدين بن خلكان في دمشق بالمدرسة النجيبية سنة إحدى وثمانين وستمائة فأنشدني لبعض أهل

ص: 53

الأدب في نقيب الأشراف بالمدائن رثاء خلب قلبي وهو يقول:

قد قلت للرجل المولى غسله

هلا أطاع وكنت من نصائحه

جنبه ماءك ثم غسله بما

أذرت عيون المجد عند بكائه

وأزل أفاويه الحنوط ونحها

عنه وحنطه بطيب ثنائه

ومر الملائكة الكرام بنقله

شرفاً ألست تراهمُ بإزائه

لا توهِ أعناقَ الرجال بحمله

يكفي الذي حملوه من نعمائه

قال الشيخ شهاب الدين فوقع في نفسي أنه أحق الناس بهذا الرثاء وأنه نعى نفسه فمات في ذلك الأسبوع برد الله مضجعه.

نكتة لطيفة قيل إنه لما رجع الشيخ شهاب الدين السهروردي رحمه الله من الشام إلى بغداد وجلس على عادته أخذ يقلل أحوال الناس ويهضم جانب الرجال ويقول إنه ما بقي من يجاري وقد خلت الدنيا وأنشد:

ما في الصحاب أخو وجدٍ نطارحه

حديث نجدٍ ولا خلٌّ نجاريه

فصاح من أطراف المجلس رجل عليه قباء وكلوتة فقال يا شيخ كم تنتقص بالقوم والله إن فيهم من لم يرض أن يجاريك وقصاراك أن تفهم ما يقول هلا قلت:

ما في الصحاب وقد سارت حمولهم

إلا محبٌّ له في الركب محبوب

ص: 54

كأنما يوسفٌ في كلٍّ راحلةٍ

والحيّ في كلِّ بيتٍ منه يعقوب

فصاح السهروردي ونزل عن الكرسي وطلب الشاب فلم يجده.

حكي عن ابن المطرزي الشاعر أنه مر وفي رجله نعل بالية بالشريف الرضي فأمر بإحضاره وقال أنشدني أبياتك التي تقول فيها:

إذا لم تبلغني إليك ركائبي

فلا وردت ماءً ولا رعت العشبا

فأنشده إياها فلما انتهى إلى هذا البيت أشار إلى نعله البالية وقال هذه كانت ركائبك فأطرق ابن المطرزي ساعة ثم قال لما عادت هبات مولانا الشريف إلى مثل قوله:

وخذ النوم من جفوني فإني

قد خلعت الكرى على العشاق

عادت ركائبي إلى مثل ما ترى لأنك خلعت ما لا تملك على من لا يقبل فخجل الشريف وقابله بما يليق من الإكرام.

قلت وأما الأجوبة الهاشمية وبلاغتها في المحل الأرفع.

فمن ذلك أنه اجتمع عند معاوية عمرو بن العاص والوليد بن عقبة وعقبة بن أبي سفيان والمغيرة بن شعبة فقالوا يا أمير المؤمنين ابعث لنا إلى الحسن بن علي فقام لهم فيم: فقالوا: كي نوبخه ونعرفه إن أباه قتل عثمان فقال

ص: 55

لهم إنكم لا تنتصفون منه ولا تقولون شيئاً إلا كذبكم الناس ولا يقول لكم شيئاً ببلاغته إلا صدقه الناس فقالوا ارسل إليه فإنا سنكفيك أمره فأرسل إليه معاوية فلما حضر قال يا حسن إني لم أرسل إليك ولكن هؤلاء أرسلوا إليك فاسمع مقالتهم وأجب ولا تحرمني فقال الحسن عليه السلام فليتكلموا ونسمع فقام عمرو بن العاص فحمد الله وأثنى عليه ثم قال هل تعلم يا حسن أن أباك أول من أثار الفتنة وطلب الملك فكيف رأيت صنع الله به، ثم قام الوليد بن عقبة بن أبي معيط فحمد الله وأثنى عليه ثم قال يا بني هاشم كنتم أصهار عثمان بن عفان فنعم الصهر كان يفضلكم ويقربكم ثم بغيتم عليه وقتلتموه ولقد أردنا يا حسن قتل أبيك فأنقذنا الله منه ولو قتلناه بعثمان ما كان علينا من الله ذنب، ثم قام عقبة فقال تعلم يا حسن أن أباك بغي على عثمان فقتله حسدا على الملك والدنيا فسلبهما ولقد أردنا قتل أبيك حتى قتله الله تعالى ثم قام المغيرة بن شعبة فكان كلامه كله سبا لعلي وتعظيما لعثمان فقام الحسن عليه السلام فحمد الله تعالى وأثنى عليه وقال بك أبدأ يا معاوية لم يشتمني هؤلاء ولكن أنت تشتمني بغضا وعداوة وخلافا

ص: 56

لجدي صلى الله عليه وسلم ثم التفت إلى الناس وقال أنشدكم الله أتعلمون أن الرجل الذي شتمه هؤلاء كان أول من آمن بالله وصلى للقبلتين وأنت يا معاوية ويومئذ كافر تشرك بالله وكان معه لواء النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر ومع معاوية وأبيه لواء المشركين ثم قال أنشدكم الله والإسلام أتعلمون أن معاوية كان يكتب الرسائل لجدي صلى الله عليه وسلم فأرسل إليه يوما فرجع الرسول وقال هو يأكل فرد الرسول إليه ثلاث مرات كل ذلك وهو يقول هو يأكل فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا أشبع الله بطنه أما تعرف ذلك في بطنك يا معاوية ثم قال وأنشدكم الله أتعلمون أن معاوية كان يقود بأبيه على جمل وأخوه هذا يسوقه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن الله الجمل وقائده وراكبه وسائقه هذا كله لك يا معاوية وأما أنت يا عمرو فتنازع فيك خمسة من قريش فغلب عليك شبه ألأمهم حسبا وشرهم منصبا ثم قمت وسط قريش فقلت إني شانىء محمدا فأنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم إن شانئك هو الأبتر ثم هجوت محمدا صلى الله عليه وسلم بثلاثين بيتا من

ص: 57

الشعر فقال النبي صلى الله عليه وسلم اللهم إني لا أحسن الشعر ولكن العن عمرو بن العاص بكل بيت لعنة ثم انطلقت إلى النجاشي بما علمت وعلمت فأكذبك الله وردك خائبا فأنت عدو بني هاشم في الجاهلية والإسلام فلم نلمك على بغضك وأما أنت يا ابن أبي معيط فكيف الومك على سبك لعلي وقد جلد ظهرك في الخمر ثمانين سوطاً وقتل أبوك صلباً بأمر جدي وقتله جدي بأمر ربي ولما قدمه للقتل قال من للصبية فلم يكن لكم عند النبي إلا النار ولم يكن لكم عند علي غير السيف والسوط وأما أنت يا عتبة فكيف تعد أحداً بالقتل لم لا قتلت الذي وجدته في فراشك مضاجعا لزوجتك ثم أمسكتها بعد أن بغت وأما أنت يا أعور ثقيف ففي أي ثلاث تسب علياً أفي بعده من رسول الله صلى الله عليه وسلم أم في حكم جائر أم رغبة في الدنيا فإن قلت شيئاً من ذلك فقد كذبت وأكذبك الناس وإن زعمت أن عليا قتل عثمان كذبت وأكذبك الناس وأما وعيدك فإنما مثلك كمثل بعوضة وقفت على نخلة فقالت لها استمسكي فإني أريد أن أطير فقالت لها النخلة ما علمت بوقوفك

ص: 58

فكيف يشق عليَّ طيرانك وأنت فما شعرنا بعداوتك فكيف يشق علينا سبك ثم نفض ثيابه وقام فقال لهم معاوية ألم أقل لكم إنكم لا تنتصفون منه فوالله لقد أظلم عليَّ البيت حتى قام فليس فيكم بعد اليوم خير. انتهى.

ومن غريب النقل أن شريك بن الأعور دخل على معاوية وهو يختال في مشيته فقال له معاوية والله إنك لشريك وليس لله من شريك وإنك ابن الأعور والصحيح خير من الأعور وإنك لدميم والوسيم خير من الدميم فبم سودك قومك فقال له شريك والله إنك لمعاوية وما معاوية إلا كلبة عوت فاستعوت فسميت معاوية وإنك ابن حرب والسلم خير من الحرب وإنك ابن صخر والسهل خير من الصخر وإنك ابن أمية وما أمية إلا أمة صغرت فسميت أمية فكيف صرت أمير المؤمنين فقال معاوية أقسمت عليك إلا ما خرجت عني.

نكتة لطيفة اتفق أن الملك المعظم عزم على الصيد فقال له بعض جماعته يا مولانا إن القمر في العقرب والسفر فيه مذموم والمصلحة أن تصبر إلى أن ينزل القمر القوس فعزم على الصبر فبينما هو مفكر إذ دخل عليه مملوك له من أحسن الناس وجها فوقف

ص: 59

أمامه وقد توشح بقوس فقال له بعض الحاضرين، بالله يا مولانا اركب في هذه الساعة فهذا القمر قد حل في القوس حقيقة فقام لوقته وركب استبشارا بالقول، فلم يركب أطيب من تلك السفرة، ولا أكثر من صيدها.

ومن غرائب المنقول ما حكى إسحق النديم عن أبيه قال: استأذن الرشيد أن يهب لي يوما من الجمعة لأنبعث فيه بجواري وإخواني فأذن لي في يوم السبت وقال هو يوم أستثقله فاله فيه بما شئت قال: فاقمت يوم السبت بمنزلي وتقدمت لإصلاح طعامي وشرابي، وأمرت بوابي بإغلاق الباب وأن لا يأذن لأحد من الناس، فبينما أنا في مجلسي، والحرم قد حففن بي إذا أنا بشيخ عليه هيبة وجمال وعلى رأسه قلنسوة وبيده عكازة مفعمة بالفضة وروائح الطيب تفوح منه فداخلني لدخوله علي مع ما قدمت من الوصية غيظ عظيم، وهممت بطرد بوابي ومن يحجبني لأجله، فسلم علّي أحسن سلام فرددت عليه وأمرته بالجلوس فجلس وأخذ في حديث الناس وأيام العرب وإشعارها حتى سكن ما بي فظننت أن غلماني قصدوا مسرتي بإدخاله علي لظرفه وأدبه فقلت له هل في الطعام فقال لا حاجة لي به فقلت هل لك في الشراب

ص: 60

فقال ذاك إليك قال فشربت رطلا وسقيته مثله فقال يا أبا إسحق هل لك في أن تغني ونسمع منك ما فقت به على العام والخاص، قال فغاظني منه ذلك ثم سهلت الأمر على نفسي، أخذت العود وضربت وغنيت فقال: أحسنت يا إبراهيم فازددت غيظا وقلت ما رضي بما فعله حتى سماني باسمي ولم يحسن مخاطبتي، ثم قال: هل لك في أن تزيدنا ونكافئك قال فتقدمت وأخذت العود وضربت وغنيت وتحفظت وقمت بما غنيته قياما تاما فطرب وقال أحسنت يا سيدي ثم قال أتأذن لعبدك في الغناء

ص: 61

فقلت له أسأت قال ولم: قلت لأنك قلت حمراء قدمت الحمرة ثم قلت نرجس وشقائق فقدمت الصفرة فقال ما هذا الاستقصاء في هذا الوقت يا بغيض وأبو ناجية من كني إبليس. قال قاضي القضاة شمس الدين محمد بن خلكان في تاريخه وفي رواية أخرى أن الشيخ أبا علي الفارسي قال أنشدني ابن دريد هذين البيتين وقال جاءني إبليس في المنام ثم ذكر بقية الكلام ألخ. ونقل ابن خلكان وغيره أن أبا بكر فريعة قاضي السندية وغيرها من أعمال بغداد كان من عجائب الدنيا في سرعة البديهة بالأجوبة عن جميع ما يسال عنه في أفصح لفظ وأملح سجع وكان مختصا بحضرة الوزير أبي محمد المهلبي ومنقطعا إليه وله مسائل وأجوبة مدونة في أيدي الناس وكان رؤساء ذلك العصر والعلماء والفضلاء يداعبونه

ص: 63

ويكتبون له المسائل الغريبة الغريبة المضحكة فيكتب الأجوبة من غير توقف ولا يكتب إلا مطابقاً لما سألوه وكان الوزير المذكور يغري به جماعة يصنعون له المسائل الهزلية من معان شتى من النوادر فمن ذلك ما كتب إليه بعض الفضلاء على سبيل الامتحان ما يقول القاضي أيده الله تعالى في رجل سمّى والده مداما وكناه أبا الندامى وسمى ابنته الراح وكناها أم الأفراح وسمى عبده الشراب وكناه أبا الإطراب وسمى وليدته القهوة وكناها أم النشوة أينهى عن بطالته أم يؤدب على خلاعته فكتب تحت السؤال لو نعت هذا لأبي حنيفة لأقعده خليفة وعقد له راية وقاتل تحتها من خالف رأيه ولو علمنا مكانه لقلبنا أركانه فإن أتبع هذه الأسماء أفعالا وهذه الكنى استعمالا علمنا أنه أحيا دولة المجون وأقام لواء ابن الزرجون فبايعناه وشايعناه وإن تكن أسماء سماها ما له بها من سلطان خلعنا طاعته وفرقنا جماعته فنحن إلى إمام فعال أحوج منا إلى إمام قوال وكتب إليه العباس الكاتب ما يقول القاضي وفقه الله تعالى في يهودي زنا بنصرانية فولدت له ولدا جسمه للبشر ووجهه للبقر وقد قبض عليهما فما يرى القاضي فيهما فكتب تحت سؤاله بديها

ص: 64

هذا من أكبر الشهود على الملاعين اليهود فإنهم أشربوا حب العجل في صدورهم حتى خرج من أمورهم وأرى أن يناط رأس اليهودي برأس العجل ويصلب على عنق النصرانية ألساق مع الرجل، ويسحبان على الأرض وينادى عليهما ظلمات بعضها فوق بعض والسلام.

نادرة لطيفة ولما خرج أبو جعفر المنصور يريد الحج بالناس قال لعيسى بن موسى الهادي: أنت تعلم أن الخلافة صائرة إليك وأريد أن أسلم لك عمي وعمك عبد الله بن علي فخذه وأقتله وإياك أن تجبن في أمره ثم مضى المنصور إلى الحج وكتب إليه من الطريق يستحثه على ذلك فكتب إليه قد أنفذت أمر أمير المؤمنين وكان الأمر بخلاف ذلك فلم يشك أبو جعفر أنه قتله ودعا عيسى بن موسى كاتبه يونس فقال له إن المنصور دفع إلي عمه وأمرني بقتله فقال له يريد أن يقتلك به فإنه أمرك بذلك سراً ويدعي به عليك علانية والرأي أن تستره في منزلك ولا تطلع عليه أحداً فإن طلبه منك علانية دفعته إليه علانية ولا تدفعه إليه سراً أبداً ففعل ذلك وقدم المنصور فدس على عمومته من يحركهم أن يسألوا المنصور أن يهب لهم أخاهم عبد الله ففعلوا ذلك وكلموه فأجاب وقال نعم علي بعيسى بن موسى فأتاه فقال: يا عيسى كنت دفعت إليك عمي وعمك عبد الله قبل خروجي إلى الحج وأمرتك أن يكون في منزلك مكرما قال قد فعلت ذلك قال قد كلمني فيه عمومتك فرأيت الصفح عنه

ص: 65

فأتني به قال يا أمير المؤمنين ألم تأمرني بقتله قال لا بل أمرتك بحبسه عندك ثم قال المنصور لعمومته إن هذا قد أقر لكم بقتل أخيكم وأدعى أني أمرته بذلك وقد كذب قالوا فدعه إليه نقتله قال شأنك فأخرجوه إلى صحن الدار واجتمع الناس واشتهر الأمر فقام أحدهم وشهر سيفه وتقدم إلى عيسى ليضربه فقال عيسى لا تعجلوا فإن عمي حي ردوني إلى أمير المؤمنين فردوه إليه فقال يا أمير المؤمنين إنما أردت بقتله قتلي هذا عمك حيا إن أمرتني بدفعه إليهم دفعته قال ائتنا به فأتى به فجعله في بيت فسقط عليه فمات وكان المنصور قد وضع في أساس البيت ملحاً لما شرع في عمارته وأعده لهذا المعنى ولما جلس فيه عمه أجرى الماء في أساس البيت سرا بحيث لا يشعر به أحد فذاب المليح وسقط البيت وركب المنصور بعد موت عمه وفي خدمته عباس ابن المتوفي وكان يباسطه في كل وقت فقال له المنصور وهو يحادثه هل تعرف ثلاثة في أول أسمائهم عين قال لا أعرف إلا ما تقول العامة يا أمير المؤمنين إن عليا قتل عثمان وكذبوا والله وعبد الملك بن مروان قتل عبد الله بن الزبير وسقط البيت على عم أمير المؤمنين قال فضحك المنصور وقال إذا سقط البيت على عمي فما ذنبي قال قلت ما لك ذنب يا أمير المؤمنين وقتل عبد الله كان بسبب البيعة التي تقدمت له مع السفاح وشرحها يطول انتهى.

ونقلت من خط قاضي القضاة شمس الدين بن خلكان ما صورته

ص: 66

نقلت من خط القاضي كمال الدين بن العديم من مسودة تاريخه أن ابن الدقاق البلنسي الشاعر المشهور كان يسهر الليل ويشتغل بالأدب وكان أبوه حداداً فقيراً فلامه وقال يا ولدي نحن فقراء ولا طاقة لنا بالزيت الذي تسهر عليه فاتفق أنه برع في العلم والأدب وقال الشعر وعمل في أبي بكر بن عبد العزيز صاحب بلنسية قصيدة مطربة أولها:

يا شمس خدرٍ ما لها مغرب

وبدر تمٍّ قطّ لا يحجب

وقال منها:

ناشدتك الله نسيم الصبا

أين استقرت بعدنا زينب

لم تسر إلا بشذا عرفها

أولا فماذا النفس الطيب

فأطلق له ثلثمائة دينار فجاء إلى أبيه وهو جالس في حانوته فوضعها في حجره وقال خذ هذه وابتع بها زيتاً انتهى.

حكي عن عبد العزيز بن الفضل قال خرج القاضي أبو العباس أحمد بن عمر بن شريح وأبو بكر بن داود وأبو عبد الله نفطوية إلى وليمة فأفضى بهم الطريق إلى مكان ضيق فأراد كل منهم تقديم صاحبه عليه فقال ابن شريح ضيق الطريق يورث سوء الأدب فقال ابن داود لكنه تعرف به مقادير الرجال فقال نفطويه إذا استحكمت المودة بطلت التكاليف. وحكي عن شريح جد أبي العباس المشهور بالصلاح الوافر أنه كان أعجمياً لا يعرف بلسان العرب شيئاً فاتفق له أنه رأى الباري عز وجل في النوم فحادثه وقال يا شريح طلبكن فقال يا خدادي سار بسار وهذا لفظ أعجمي معناه بالعربي يا شريح أطلب فقال يا رب رأساً برأس

ص: 67

كما يقال رضيت أن أخلص رأسا برأس. ومن لطائف المنقول أنه كان بالعقبة ظاهر دمشق المحروسة خان تجمع فيه أسباب الملاذ ويتفق فيه من الفسوق والفجور ما لا يحد ولا يوصف فرجع ذلك إلى أبي الفتح موسى بن أبي بكر العادل بن أيوب الملقب بالأشرف فهدمه وعمره جامعاً وسماه الناس جامع التوبة تاب إلى الله وأناب مما كان فيه وجرت في خطابته نكتة لطيفة وهي أنه كان بمدرسة الشام التي خارج البلد إمام يعرف بالجمال قيل إنه كان في زمان صباه يلعب بشيء من الملاهي وهي التي تسمى الجفانة ولما كبر حسنت طريقته وعاشر العلماء وأهل الصلاح حتى صار معدوداً في الأخيار فلما احتاج الجامع المذكور إلى خطيب رشح جانبه للخطابة لكثرة الثناء عليه فتولاها فلما توفي تولى بعده العماد الواسطي والواعظ وكان متهما باستعمال الشراب وكان صاحب دمشق يومئذ الملك الصالح عماد الدين إسماعيل بن العادل أيوب فكتب إليه الجمال عبد الرحيم المعروف بابن روتينة أبياتاً وهي هذه:

يا مليكاً أوضح ال

حقَّ لدينا وأبانه

جامع التوبة قد حم

لني منه أمانه

قال قل للملك الصا

لح أعلى الله شانه

يا عماد الدين يا من

حمد الناس زمانه

كم إلى كم أنا في بؤ

سٍ وضرٍّ وإهانه

لي خطيبٌ واسطيٌ

يعشق الشربَ ديانه

والذي قد كان من قب

ل يغنيّ بجفانه

فكما نحن وما زل

نا ولا أبرح حانه

ص: 68

ردني للنمط الأو

ل واستبقِ زمانه

ومن لطائف المنقول أن بثينة وعزة دخلتا على عبد الملك بن مروان فانحرف إلى عزة وقال أنت عزة كثير قالت لست لكثير بعزة لكنني أم بكر قال أتروين قول كثير

وقد زعمت أني تغيرت بعدها

ومن ذا الذي يا عزّ لا يتغيرُ

قالت لست أروي هذا ولكنني أروي قوله:

كأني أنادي أو أكلم صخرةً

من الصم لو تمشي بها العصم زلت

ثم انحرف إلى بثينة فقال أنت بثية جميل قالت نعم يا أمير المؤمنين قال ما الذي رأى فيك جميل حتى لهج بذكرك من بين نساء العالمين قالت الذي رأى الناس فيك فجعلوك خليفتهم قال فضحك حتى بدا له ضرس أسود ولم ير قبل ذلك وفضل بثينة على عزة في الجائزة ثم أمرهما أن يدخلا على عاتكة فدخلتا عليها فقالت: لعزة أخبريني عن قول كثير

قضي كل ذي دينٍ فوفىّ غريمه

وعزة ممطولٌ معنى غريمها

ما كان دينه وما كنت وعدته

قالت كنت وعدته قبلة ثم تأثمت منها قالت عاتكة وددت أنك فعلت وأنا كنت تحملت أثمها عنك ثم ندمت عاتكة واستغفرت الله تعالى وأعتقت عن هذه الكلمة أربعين رقبة انتهى.

ويعجبني قول أسامة بن منقذ في ابن طليب المصري وقد احترقت داره.

أنظر إلى الأيام كيف تسوقنا

قسراً إلى الإقرار بالأقدار

ص: 69

ما أوقد ابن طليبَ قطّ بداره

ناراً وكان حريقها بالنار

قلت ومما يناسب هذه الواقعة أن الوجيه بن صورة المصري دلال الكتب بمصر كان له دار موصوفة بالحسن فاحترقت فعمل فيها نشو الملك المعروف بابن المنجم

أقول وقد عاينت دار ابن صورةٍ

وللنار فيها مارجٌ يتضرم

كذا كل مالٍ أصله من نهاوشٍ

فعماّ قليلِ في نهارٍ يعدم

وما هو إلا كافرٌ طال عمره

فجاءته لما استبطأته جهنَّم

قلت وهذه اللطائف تضارع قصة أبي الحسين الجزار مع بعض أهل الأدب بمصر وكان شيخنا قد ظهر عليه جرب فالتطخ بالكبريت فلما سمع أبو الحسين الجزار بذلك كتب إليه:

أيها السيد الأديب دعاءٌ

من محبٍّ خالٍ عن التنكيت

أنت شيخٌ وقد قربت من النا

ر فكيف ادهنت بالكبريت

قيل إن أبا القاسم الزعفراني مدح الصاحب ابن عباد بقصيدة نونية وانتهى إلى قوله منها:

وحاشية الدار يمشون في

صنوفٍ من الخزٍّ إلاّ أنا

فقال الصاحب قرأت في أخبار معن بن زائدة الشيباني أن رجلا قال له احملني أيها الأمير فأمر له بناقة وفرس وبغل وحمار وجارية ثم قال لو علمت أن الله سبحانه وتعالى خلق مركوبا غير هذا لحملتك عليه وقد أمرنا لك من الخز بجبة وقميص وعمامة ودراعة وسراويل ومنديل ومطرف ورداء وكساء وجورب وكيس

ص: 70

ولو علمنا لباس من الخز لأعطيناكه. وبلغ حديث معن المذكور للعلاء بن أيوب فقال رحم الله أبن زائدة لو كان يعلم أن الغلام يركب لأمر به ولكنه كان عربيا خالصا لم يدنس بقاذورات الأعاجم انتهى.

قيل إن بيوت الشعر أربعة فخر ومديح وهجاء ونسيب وكان جرير أفحل شعراء الإسلام في الأربعة فالفخر قوله:

إذا غضبت عليك بنو تميمٍ

حسبت الناس كلَّهُم غضاباً

والمديح قوله

ألستم خير من ركب المطايا

وأندى العالمين بطون راح

والهجاء قوله

فغض الطرف إنك من نميرٍ

فلا كعباً بلغت ولا كلابا

والنسيب قوله

إن العيون التي في طرفها حورٌ

قتلننا ثم لم يحيين قتلانا

يصرعن ذا اللبَّ حتى لا حراك به

وهن أضعفُ خلق الله إنسانا

وقال أبو عبيدة التقى جرير والفرزدق بمنى وهما حاجان فقال الفرزدق لجرير:

فإنك لاقٍ بالمنازل من منى

فخاراً فأخبرني بما أنت فاخر

فقال له جرير بلبيك اللهم لبيك قال أبو عبيدة أصحابنا يستحسنون هذا الجواب من جرير ويعجبون منه. قيل لما استخلف عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وفد الشعراء إليه وأقاموا ببابه أياما لا يؤذن لهم فبينما هم كذلك إذ مر بهم رجاء بن حيوة وكان جليس عمر

ص: 71

فلما رآه جرير داخلا قام إليه وأنشده:

يا أيها الرجل المرخي عمامته

هذا زمانك فاستأذن لنا عمرا

فدخل عليه ولم يذكر له شيئا من أمرهم ثم مر بهم عدي بن أرطاة فقال جرير أبياتا آخرها قوله:

لا تنس حاجتنا لُقِّيتَ مغفرةً

قد طال مكثي عن أهلي وأوطاني

قال فدخل عدي على عمر فقال يا أمير المؤمنين الشعراء ببابك وسهامهم مسمومة وأقوالهم نافذة قال ويحك يا عدي مالي وللشعراء قال أعز الله أمير المؤمنين إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد امتدح وأعطى ولك في رسول الله عليه الصلاة والسلام أسوة حسنة قال كيف: قال: امتدحه العباس بن مرداس السلمي فأعطاه حلة فقطع بها لسانه قال أو تروي من قوله شيئاً قال نعم قوله:

رأيتك يا خير البرية كلها

نشرت كتاباً جاء بالحقِّ معلما

شرعت لنا دين الهدى بعد جورنا

عن الحقّ لما أصبح الحقِّ مظلما

ونورت بالبرهان أمراً مدلساً

وأطفأت بالاسلام ناراً تضرما

فمن مبلغٍ عنِّي النبي محمداً

وكل امرىء يجزي بما كان قدّما

أقمت سبيل الحق بعد اعوجاجه

وكان قديماً ركنه قد تهدّما

فقال عمر ويلك يا عدي من بالباب منهم قال عمر بن أبي ربيعة قال أليس هو الذي يقول:

ثم نبهتها فمدت كعاباً

طفلةٌ ما تبين رجع الكلام

ص: 72

ساعةٌ ثم إنها بعد قالت

ويلتا قد عجلت يا ابن الكرام

فلو كان عدو الله إذ فجر كتم على نفسه لكان استر له لا يدخل والله عليَّ أبدا فمن بالباب سواه قال الفرزدق قال أوليس الذي يقول:

هما دلياني من ثمانين قامةٍ

كما انقض باز أقتم الريش كاسره

فلما استوت رجلاي في الأرض قالتا

أحيٌّ فيرجى أم قتيلٌ نحاذره

لا يدخل علي والله فمن بالباب سواه. قال الأخطل قال يا عدي هو الذي يقول:

ولست بصائمٍ رمضان طوعاً

ولست بآكلٍ لحمَ الأضاحي

ولست بزاجر عيساً بكوراً

إلى بطحاء مكة للنجاح

ولست بزائرٍ بيتاً عتيقاً

بمكة أبتغي فيه صلاحي

ولست بقائمٍ بالليل أدعو

قبيل الصبح حيَّ على الفلاح

ولكني سأشربها شمولاً

وأسجد عند مبتلج الصباح

والله لا يدخل علي وهو كافر أبداً فمن بالباب سوى من ذكرت قال الأحوص قال اليس الذي يقول:

الله بيني وبين سيدها

يفرُّ مني بها وأتبعه

فما هو بدون من ذكرت فمن هنا أيضا قال جميل بن معمر قال أليس هو الذي يقول:

ألا ليتنا نحيا جميعا وإن أمت

يوافق في الموتى ضريحي ضريحها

فلو كان عدو الله تمنى لق

اءها في الدنيا ليعمل بعد ذلك صالحها

لكان أصلح والله لا يدخل علي أبداً فهل سوى من ذكرت أحد قال جرير قال أما هو الذي يقول:

طرقتك صائدة القلوب وليس ذا

ص: 73

.. وقت الزيارة فأرجعي بسلام

فإن كان ولا بد فهو الذي يدخل فلما مثل بين يديه قال يا جرير اتق الله ولا تقل إلا حقا فأنشده قصيدته الرائية المشهورة التي منها:

إنا لنرجو إذا ما الغيث أخلفنا

من الخليفة ما نرجو من المطر

نال الخلافة أو كانت له قدراً

كما أتى ربه موسى على قدر

هذي الأرامل قد قضيت حاجتها

فمن لحاجة هذا الأرمل الذكر

الخير ما دمت حيا لا يفارقنا

بوركت يا عمرَ الخيراتِ من عمر

فقال يا جرير ما أرى ذلك فيما ههنا حقا قال بلى يا أمير المؤمنين إني ابن سبيل ومنقطع فقال له ويحك يا جرير قد ولينا هذا الأمر ولا نملك إلا ثلثمائة درهم فمائة أخذها عبد الله ومائة أخذتها أم عبد الله يا غلام أعطه المائة الباقية قال فأخذها جرير وقال والله لهي أحب مال اكتسبته ثم خرج فقال له الشعراء ما وراءك فقال ما يسوءكم خرجت من عند خليفة يعطي الفقراء ويمنع الشعراء وإني عليه لراض وأنشد:

رأيت رقى الشيطان لا تستفزه

وقد كان شيطاني من الجنّ راقيا

ومن لطائف الظرف ما حدث إبراهيم بن المهدي قال: قال لي جعفر يوما إني استأذنت أمير المؤمنين في الخلوة غداً فهل أنت مساعدي فقلت جعلت فداك أنا أسعد بمساعدتك وأسر بمحادثتك قال فبكر إلي بكور

ص: 74

الغراب قال فأتيته عند الفجر فوجدت الشمعة بين يديه وهو ينتظرني للميعاد فصلينا ثم أفضينا إلى الحديث وقدم الطعام فأكلنا فلما غسلنا أيدينا خلعت علينا ثياب المنامة ثم ضمخنا بالخلوق ومدت الستائر ثم إنه ذكر حاجة فدعا الحاجب فقال إذا أتى عبد الملك فأذن له يعني قهرماناً له فاتفق أن جاء عبد الملك بن صالح الهاشمي شيخ الرشيد وهو من جلالة القدر والورع والامتناع من منادمة أمير المؤمنين على أمر جليل وكان الرشيد قد اجتهد أن يشرب معه قدحا واحدا فلم يقدر عليه ترفعا لنفسه فلما رفع الستر وطلع علينا سقط في أيدينا وعلمنا أن الحاجب قد غلط بينه وبين عبد الملك القهرمان فأعظم جعفر ذلك وارتاع له ثم قام اجلالا له فلما نظر إلى تلك الحال دعا غلامه فدفع إليه سيفه وعمامته ثم قال اصنعوا بنا ما صنعتم بأنفسكم قال فجاء إليه الغلمان فطرحوا عليه الثياب الحرير وضمخوه ودعي بالطعام فطعم وشرب ثلاثا ثم قال ليخفف عني فإنه شيء ما شربته والله فتهلل وجه جعفر وفرح ثم التفت إليه فقال جعلت فداءك بالغت في الخير والفضل فهل من حاجة تبلغ إليها قدرتي وتحيط بها نعمتي فأقضيها مكافأة لم صنعت قال بلى إن في قلب أمير المؤمنين علي غضبا فتسأله الرضا عني فقال له جعفر قد رضي أمير المؤمنين عنك ثم قال وعلي عشرة آلاف دينار فقال هي لك حاضرة من مالي ومن مال أمير المؤمنين مثلها ثم قال وابني إبراهيم أحب أن أشد ظهره بصهر من أمير

ص: 75

المؤمنين قال قد زوجه أمير المؤمنين ابنة العالية قال وأحب أن تخفق على رأسه الألوية قال وقد ولاه أمير المؤمنين مصر فانصرف عبد الملك بن صالح قال إبراهيم بن المهدي فبقيت متحيراً متعجبا من إقدام جعفر على أمير المؤمنين من غير استئذان وقلت عسى أن يجيبه فيما سأل من الرضا والمال والولاية ولكن من أطلق لجعفر أو لغيره تزويج بنات الرشيد فلما كان من الغد بكرت إلى باب الرشيد وعقد له على مصر والرايات والألوية بين يديه وحملت البدر إلى منزل عبد الملك وخرج جعفر فأشار إلينا فقال تعلقت قلوبكم بحديث عبد الملك فأحببتم علم آخره فلما دخلت على أمير المؤمنين ومثلت بين يديه قال كيف كان يومك يا جعفر فقصصت عليه القصة حتى بلغت إلى دخول عبد الملك وكان متكئا فاستوى جالسا وقال إيه ولله أبوك فقلت سألني في رضا أمير المؤمنين قال فيم أجبت قلت قد رضي أمير المؤمنين عنك قال قد رضيت ثم ماذا قلت وذكر أن عليه عشرة آلاف دينار قال فبم أجبته قلت قد قضاها أمير المؤمنين عنك قال قد قضيت قلت وذكر أنه راغب في أن يشد ظهر ولده إبراهيم بصهر منك قال فيم أجبته قلت قد زوجه أمير المؤمنين ابنته العالية قال قد أمضيت ذلك ثم ماذا لله أبوك قلت وذكر أنه يشتهي أن تخفق على رأس

ص: 76

ولده إبراهيم الألوية قال فبم أجبته قلت قد ولاه أمير المؤمنين مصر قال قد وليته فأحضر إبراهيم والقضاة والفقهاء وأتم له جميع ذلك من ساعته قال إبراهيم بن المهدي فوالله ما أدري أيهم أكرم وأعجب، ما ابتدأه عبد الملك من الموافقة وشرب الخمر ولم يكن شربها قط ولباسه ما ليس من لبسه من ثياب المنادمة أم إقدام جعفر على الرشيد بما أقدم أم إمضاء الرشيد جميع ما حكم به جعفر عليه.

ومن لطائف المنقول ما حكي عن أبي معشر البلخي المنجم الإمام المصنف صاحب التصانيف المفيدة في علم النجوم قيل إنه كان متصلا بخدمة بعض الملوك وإن ذاك الملك طلب رجلا من أتباعه وأكابر دولته ليعاقبه بسبب جريمة صدرت منه فاستخفى وعلم أن أبا معشر يدل عليه بالطريقة التي يستخرج بها الخبايا والأشياء الكامنة فأراد أن يعمل شيئا حتى لا يهتدي إليه ويبعد عنه حديثه فأخذ طستا وجعل فيه دما وجعل في الدم هاون ذهب وقعد على الهاون أياما وتطلبه الملك وبالغ في الطلب فلما عجز عنه أحضر أبا معشر وطلب إظهاره فعمل المسألة التي يستخرج بها وسكت زمانا حائرا فقال له الملك ما سبب سكوتك وحيرتك فقال أرى شيئا عجيبا فقال وما هو قال أرى الرجل المطلوب على جبل من ذهب والجبل في بحر من دم ولا أعلم في العالم موضعا على هذه الصفة فقال إلا أعد نظرك ففعل ثم قال ما أرى له إلا ما ذكرت هذا شيء ما وقع لي مثله فلما أيس الملك من تحصيله نادى في البلد بالأمان للرجل ولمن أخفاه فلما اطمأن الرجل ظهر وحضر بين

ص: 77

يدي الملك فسأله عن الموضع الذي كان فيه فأخبره بما اعتمد عليه فأعجبه حسن احتياله في إخفاء نفسه ولطافة أبي معشر المنجم في استخراجه وله غير ذلك من الإصابات. قال قاضي القضاة شمس الدين بن خلكان ومما يناسب هذا من فطن المتطببين ما رواه الحسين بن إدريس الحلواني قال سمعت الإمام محمد بن إدريس الشافعي رضي الله عنه يقول ما أفلح سمين قط إلا أن يكون محمد بن الحسن قيل له ولم ذلك قال لأنه لا يعدو العاقل إحدى خلتين إما أن يهتم لآخرته ومعاده أو لدنياه ومعاشه والشحم مع الهم لا ينعقد ثم قال وكان بعض ملوك الأرض قديما كثير الشحم لا ينتفع بنفسه فجمع الحكماء وقال احتالوا لي بحيلة يخف عني لحمي هذا قليلا قال فما قدروا له على شيء فجاءه رجل عاقل لبيب متطبب فقال عالجني ولك الغنى قال أصلح الله الملك أنا طبيب منجم دعني حتى أنظر الليلة في طالعك لأرى أي دواء يوافقه فلما أصبح قال أيها الملك الأمان فلما أمنه قال رأيت طالعك يدل على أنه لم يبق من عمرك غير شهر واحد فإن اخترت عالجتك وإن أردت بيان ذلك فاحبسني عندك فإن كان لقولي حقيقة فخل عني وإلا فاقتص مني قال فحبسه ثم رفع الملك الملاهي واحتجب عن الناس وخلا وحده مغتما فكلما انسلخ يوم ازداد هما وغما حتى هزل وخف لحمه ومضى لذلك ثمان وعشرون يوما فبعث إليه وأخرجه فقال ما ترى فقال أعز الله الملك أنا أهون على الله من أن أعلم الغيب والله إني لم أعلم عمري فكيف أعلم

ص: 78

عمرك ولكن لم يكن عندي دواء إلا الغم فلم أقدر أن أجلب إليك الغم إلا بهذه الحيلة فإن الغم يذيب الشحم فأجازه على ذلك وأحسن إليه غاية الإحسان وذاق حلاوة الفرح بعد مرارة الغم. قلت ويعجبني قول جعفر بن شمس الخلافة في هذا المعنى:

هي شدة يأتي الرخاء عقيبها

وأسىً يُبشِّرُ بالسرور العاجل

وإذا نظرت فإن بؤساً عاجلاً

للمرء خيرٌ من نعيمٍ زائل

ويعجبني قوله وإن كان في غير ما نحن فيه:

مدحتك ألسنة الأنام مخافةً

وتشاهدت لك بالثناء الأحسنِ

أتُرى الزمان مؤخِّراً في مدَّتي

حتى أعيش إلى انطلاق الألسن

نادرة لطيفة نقل عن قاضي القضاة شمس الدين بن خلكان في تاريخه أن الجنيد قال ما انتفعت بشيء كانتفاعي بأبيات سمعتها قيل له وما هي قال مررت بدرب القراطيس فسمعت جارية تغني من دار وتقول هذه الأبيات:

إذا قلتُ اهدى الهجرُ لي حُلَلَ الأسى

تقولين لولا الهجرُ لم يطب الحبُّ

وإن قلتُ ما أذنبتُ قلتُ مجيبةً

حياتُكِ ذنبٌ لا يقاسُ به ذنب

فصعقت وصحت فبينما أنا كذلك إذ خرج صاحب الدار فقال ما هذا يا سيدي فقلت له مما سمعت فقال إنها هبة مني إليك فقلت قد قبلت وهي حرة لوجه الله تعالى ثم دفعها لبعض أصحابنا بالرباط فولدت منه ولدا نبيلا حج على قدميه ثلاثين

ص: 79

حجة.

وذكر قاضي القضاة شمس الدين بن خلكان في ترجمة أبي علي الفارسي أنه كان يوما يساير عضد الدولة بن بويه في ميدان سيران فقال له لم انتصب المستثنى في قولنا قام القوم إلا زيدا فقال الشيخ بفعل مقدر تقديره استثنى زيدا فقال له عضد الدولة هل رفعته وقدرت الفعل امتنع زيد فانقطع وقال هذا الجواب ميداني ثم إنه لما رجع إلى منزله وضع في ذلك كلاما حسنا وحمل إليه فاستحسنه وحكى أبو القاسم أحمد الأندلسي قال جرى ذكر الشعر بحضرة أبي علي الفارسي وأنا حاضر فقال إني لأغبطكم على قول الشعر فإن خاطري لا يوافقني إلى ذلك مع تحقيق العلوم التي هي من معادنه فقال له رجل فما قلت قط شيئا منه قال ما أعلم أن لي شعرا غير ثلاثة أبيات في الشيب وهو قولي:

خضبتُ الشيبَ لما كان عيباً

وخَضْبُ الشيب أولى أن يُعابا

ولم أخضب مخافة هجر خلٍّ

ولا عيباً خشيت ولا عتابا

ولكن المشيب بدا ذميماً

فصيّرت الخضاب له عقابا

ومن لطائف المنقول أن أبا محمد الوزير المهلبي كان في غاية من الأدب والمحبة لأهله وكان قبل اتصاله بمعز الدولة بن بويه في شدة عظيمة من الضرورة والمضايقة وسافر وهو على تلك الحالة ولقي في سفره شدة عظيمة فاشتهى اللحم فلم يقدر عليه فقال ارتجالا:

إلا موتٌ يباع فأشتريه

فهذا العيش ما لا خير فيه

ص: 80

ألا موتٌ لذيذ الطعم يأتي

يخُلِّصني من العيش الكريه

إذا أبصرتُ قبراً من بعيدٍ

وددت لو أنني فيما يليه

ألا رحم المهيمن نفس حرٍّ

تصدّق بالوفاة على أخيه

كان له رفيق يقال له أبو عبد الله الصوفي وقيل أبو الحسن العسقلاني فلما سمع الأبيات اشترى له لحما بدرهم وطبخه وأطعمه وتفارقا وتنقلب الأحوال وولي الوزارة ببغداد لمعز الدولة المذكور وضاق الحال برفيقه الذي اشترى له اللحم في السفر وبلغه وزارة المهلبي فقصده وكتب إليه:

ألا قل للوزير فدتْهُ نفسي

مقال مذكّرٍ ما قد نسيه

أتذكرُ إذ تقولُ لضيق عيشٍ

ألا موتٌ يُباعُ فاشتريه

فلما وقف عليها تذكر الحال وهزته أريحية الكرام فأمر له بسبعمائة درهم ووقع له في رقعته مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة ثم دعا به فخلع عليه وقلده عملا يرتفق منه انتهى.

وذكر الحريري صاحب المقامات في كتابه المسمى بدرة الغواص ما مثاله قال حماد الراوية كان انقطاعي إلى يزيد بن عبد الملك بن مروان في خلافته وكان أخوه هشام يجفوني لذلك فلما مات يزيد وأفضت الخلافة إلى هشام خفته ومكثت في بيتي سنة لا أخرج إلا لمن أثق به من اخواني سرا فلما لم أسمع أحدا ذكرني في السنة أمنت وخرجت وصليت الجمعة في الرصافة فإذا شرطيان قد وقفا علي وقالا يا حماد أجب الأمير يوسف بن عمر الثقفي وكان واليا على

ص: 81

العراق فقلت في نفسي من هذا كنت أخاف ثم قلت لهما تدعني حتى آتي أهلي وأودعهم ثم أسير معكما فقالا ما إلى ذلك من سبيل فاستسلمت في أيديهما ثم صرت إلى يوسف بن عمر وهو في الإيوان الأحمر فسلمت عليه فرد علي السلام ورمى إلي بكتاب فيه بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله هشام أمير المؤمنين إلى يوسف بن عمر أما بعد فإذا قرأت كتابي هذا فابعث إلى حماد الراوية من يأتيك به من غير ترويع وادفع له خمسمائة دينار وجملا مهريا يسير عليه ثنتي عشرة ليلة إلى دمشق فأخذت الدنانير ونظرت فإذا جمل مرحول فركبت وسرت حتى وافيت دمشق في ثنتي عشرة ليلة فنزلت على باب هشام واستأذنت فأذن لي فدخلت عليه وهو جالس على طنفسة حمراء وعليه ثياب من حرير أحمر وقد ضمخ بالمسك فسلمت عليه فرد علي السلام واستدناني فدنوت منه حتى قبلت رجله فإذا جاريتان لم أر أحسن منهما قط فقال كيف أنت وكيف حالك فقلت بخير يا أمير المؤمنين فقال أتدري فيما بعثت إليك فقلت لا، قال: بسبب بيت خطر ببالي لا أعرف قائله قلت وما هو يا أمير المؤمنين:

ودعوا بالصبوح يوما فجاءت

قينةٌ قي يمينها إبريق

فقلت يقوله عدي بن يزيد العبادي في قصيدة قال: أنشدنيها فأنشدته:

بكر العاذلون في وضح الصب

ح يقولون لي أما تستفيق

ويلومون فيك يا ابنة عبد الله

والقلب عندكم موثوق

ص: 82

لَسْتُ أدري لكثرة العذل فيها

أعذولٌ يلومني أم صديق

قال حماد فانتهيت فيها إلى قوله

ودعوا بالصبوح يوماً فجاءت

قينةٌ في يمينها إبريق

قدّمته على عقارٍ كعين ال

ديك صفّى سلافها الراووق

مُرَّةٌ قبل مزجها فإذا ما

مزجت لذَّ طعمها من يذوق

قال فطرب هشام ثم قال أحسنت يا حماد سل حاجتك قلت إحدى الجاريتين قال هما جميعا لك بما عليهما ومالهما فأقام عنده ثم وصله بمائة ألف درهم. قلت: انظر أيها المتأمل إلى نفاق رخيص الأدب في ذلك العصر وكساد غاليه في هذا العصر وبشهادة الله أن البيت الذي طلب حماد الراوية بسببه من بغداد إلى دمشق في اثنتي عشرة ليلة وأجيز عليه بالجاريتين والمائة ألف درهم تأنف نفسي أن أضعه في قصيدة من قصائدي لرخصه وسفالته وهو:

ودعوا بالصبوح يوما فجاءت

قينةٌ في يمينها إبريق

وكنت أود أن أكون في ذلك العصر ويسمع هشام بن عبد الملك قولي في هذا الباب من قصيدة قلتها:

في ليلةٍ رقم البدرُ المنيرُ لها

طارا به لعصاً جرزاء نقراتُ

وبات لي منه لما قد تبسَّم لي

تحت الضفائر صبحاتٌ وغبقاتُ

والراح دقَّ على فهمي تصوُّرها

لكن لمِا ضاع في الكاسات نفحات

كانت علامةُ تحقيقٍ وقال فمي

هي المنازل لي فيها علامات

مذْ أنشأتنا سجعنا في محاسنها

مغرّدين وللإنشاء سجعات

ص: 83

هذا وأفواه كاساتي قد ابتسمت

ومازجتها ثغورٌ لؤلؤيات

ومن يقل حركات الهمِّ ما سكنت

فللحباب على التسكين جزماتُ

قال ثعلب ما أحد من الشعراء تكلم في الليل الطويل إلا قارب ولكن خالد الكاتب أبدع فيه فقال:

رَقَدْت فلم ترثِ للساهر

وليلُ المحبِّ بلا آخر

ولم تدرِ بعدَ ذهاب الرُّقا

دِ ما صنع الدمعُ بالناظر

وقال بعض من كان يحضر مجلس المبرد كنا نختلف إليه فإذا كان آخر المجلس أملى علينا من طرف الأخبار وملح الأشعار ما نرتاح إلى حفظه فأنشدنا يوما مرثية زياد الأعجم في المغيرة بن المهلب التي منها:

فإذا مررتَ بقبرهِ فاغفر له

كرمَ الهِجانِ وكلَّ طرفٍ سانحِ

وانضح جوانب قبره بدمائها

فلقد يكون أخا دمٍ وذبائح

قال فخرجت من عنده وأنا أديرها في لساني لأحفظها فإذا بشيخ قد خرج من خربة وفي يده حجر فهم أن يرميني به فتترست بالمحبرة والدفتر فقال ماذا تقول أتشتمني فقلت اللهم لا ولكني كنت عند أستاذنا أبي العباس المبرد فأنشدنا مرثية زياد الأعجم في المغيرة بن المهلب فقال له إيه إيه أنشدني ما أنشدكم باردكم لا مبردكم فأنشدته فقال والله ما أجاد الراثي ولا أنصف المرثي ولا أحسن الراوي قلت فما عساه أن يقول قال كان يقول:

إحملاني إن لم يكن لكما عق

رٌ إلى جنب قبره فاعقراني

ص: 84

وانضحا من دمي عليه فقد كا

ن دمي من نداه لو تعلمان

قال فقلت هل رأيت أحدا واسى أحدا بنفسه قال نعم هذا الفتى الفتح بن خاقان طرح نفسه على المتوكل حتى خلط لحمه بلحمه ودمه بدمه ثم تركني وتولى فلما عدت إلى المبرد قصصت عليه القصة فقال أتعرفه قلت لا قال ذلك خالد الكاتب تأخذه السوداء أيام الباذنجان انتهى. قيل كبر خالد الكاتب حتى دق عظمه ورق جلده وقوي به الوسواس ورؤي ببغداد والصبيان يتبعونه فأسند ظهره إلى قصر المعتصم والصبيان يصيحون به يا بارد فقال كيف أكون باردا وأنا الذي أقول:

بكى عاذلي من رحمتي فرحمتُهُ

وكم مثلهُ من مسعدٍ ومعينِ

ورقَّت دموعُ العين حتى كأنَّها

دموعُ دموعي لا دموع جفوني

وحدث أبو الحسن علي ابن مقلة قال حدثني أبي عن عمه قال اجتاز أبو خالد الكاتب وأنا على باب داري بسر من رأى والصبيان حوله يعبثون به فجاءني لما رآني وسألني صرفهم عنه فصرفتهم وأدخلته داري وقلت له ما تشتهي تأكل قال الهريسة فتقدمت بإصلاحها له فلما أكل قلت أي شيء تحب بعد هذا قال رطب فأمرت بإحضاره فأكل فلما فرغ من أكله قلت له أنشدني من شعرك فأنشدني:

تناسيتَ ما أوعيتُ سمعك يا سمعي

كأنَّك بعد الضرِّ خالٍ من النفع

فإن كنت مطبوعاً على الصدِّ والجفا

فمن أين لي صبرٌ فأجعلهُ طبعي

ص: 85

لئن كان أضحى فوق خديكَ روضةً

فإنّ على خدّي غديراً من الدَّمع

فقلت زدني فقال لا يساوي تهريسك ورطبك غير هذا ومن المروي عنه قال بعض طلبة المبرد خرجت من مجلس المبرد فلقيت خالد الكاتب فقال من أين قلت من مجلس المبرد قال بل البارد ثم قال ما الذي أنشدكم اليوم قلت انشدني:

أعار الغيث نائلُهُ

إذا ما ماؤه نفدا

وإن أسدُ شكا جبناً

أعار فؤاده الأسدا

فقال أخطأ قائل هذا الشعر قلت كيف قال ألا تعلم أنه إذا أعار الغيث نائله بقي بلا نائل وإذا أعار الأسد فؤاده بقي بلا فؤاد قلت فكيف كان يقول فأنشد:

علم الغيثُ الندى من يده

مذ دعاهُ علَّم البأسَ الأسد

فإذا الغيث مقرٌّ بالنَّدى

وإذا الليثُ مقرٌّ بالجلد

قال فكتبتهما وانصرفت.

نادرة لطيفة دخل أبو دلامة على المهدي فأنشده قصيدة فقال سل حاجتك فقال يا أمير المؤمنين هب لي كلبا قال فغضب وقال أقول لك سل حاجتك تقول هب لي كلبا فقال يا أمير المؤمنين الحاجة لي أو لك فقال بل لك فقال إني أسألك أن تهب لي كلب صيد فأمر له بكلب فقال يا أمير المؤمني هبني خرجت للصيد أعدو على رجلي فأمر له بدابة فقال له يا أمير المؤمنين فمن يقوم عليها فأمر بغلام فقال يا أمير المؤمنين هبني صدت صيدا وأتيت به المنزل فمن يطبخه فأمر له بجارية فقال يا أمير المؤمنين فهؤلاء

ص: 86

أين يبيتون فأمر له بدار فقال يا أمير المؤمنين قد صيرت في عنقي عيالا فمن أين لي ما يقوت هؤلاء قال المهدي اعطوه جريب نحل ثم قال هل بقيت لك حاجة قال نعم فأذن لي أن أقبل يدك. انتهى وحكى أن هشام بن عبد الملك قد حاجا إلى بيت الله الحرام فلما دخل الحرم قال ائتوني برجل من الصحابة فقيل يا أمير المؤمنين قد تفانوا قال فمن التابعين فاني بطاوس اليماني فلما دخل عليه خلع نعليه بحاشية بساطه ولم يسلم بأمير المؤمنين ولم يكنه وجلس إلى جانبه بغير إذنه وقال كيف أنت يا هشام فغضب من ذلك غضبا شديدا حتى هم بقتله فقيل له: أنت يا أمير المؤمنين في حرم الله وحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكون ذلك فقال يا طاوس ما حملك على ما صنعت قال وما صنعت قال خلعت نعليك بحاشية بساطي ولم تسلم بيا أمير المؤمنين ولم تكنني وجلست بإزائي بغير إذني وقلت يا هشام كيف أنت فقال له طاوس ما خلع نعلي بحاشية بساطك فإني أخلعها بين يدي رب العزة في كل يوم خمس مرات ولا يعاتبني ولا يغضب علي وأما قولك لم تسلم علي بإمرة المؤمنين فليس كل المؤمنين راضيا بإمرتك فخفت أن أكون كاذبا وأما قولك لم تكنني فإن الله عز وجل سمى أنبياءه فقال يا داود يا يحيى يا عيسى وكنى أعداءه فقال تبت يدا أبي لهب وأما قولك جلست بإزائي فإني سمعت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول إذا أردت أن تنظر إلى رجل من أهل النار فأنظر إلى رجل جالس وحوله قوم قيام فقال له عظني فقال له إني سمعت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول إن في جهنم حيات وعقارب كالبغال

ص: 87

تلدغ كل أمير لا يعدل في رعيته ثم قام فخرج انتهى.

نادرة لطيفة مروية عن أبي عامر الشعبي ولكن يتعين أن نبدأ بشيء من ترجمته قال الزهري العلماء أربعة ابن المسيب بالمدينة والحسن البصري بالبصرة ومكحول بالشام والشعبي بالكوفة ويقال أنه أدرك خمسمائة من الصحابة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والنادرة الموعود بذكرها هي ما حكى الشعبي قال أنفذني عبد الملك ابن مروان إلى ملك الروم فلما وصلت إليه جعل لا يسالني عن شيء إلا أجبته وكانت الرسل لا تطيل الإقامة فحبسني عنده أياما كثيرة فلما أردت أردت الانصراف قال أمن بيت المملكة أنت فقلت لا ولكني من العرب فدفع إلي رقعة وقال إذا أديت الرسائل إلى صاحبك أوصل إليه هذه الرقعة قال فأديت الرسائل عند وصولي إلى عبد الملك وأنسيت الرقعة فلما وصلت الباب أريد الخروج تذكرت الرقعة فرجعت. فأوصلتها إليه فقال لي هل قال لك شيئا قبل أن يدفعها إليك قلت نعم قال لي أنت من أهل بيت المملكة قلت لا لكني رجل من العرب في الحملة ثم خرجت من عند عبد الملك فلما بلغت الباب طلبني فرددت فلما مثلت بين يديه قال أتدري ما في الرقعة قلت لا قال اقرأها فقرأتها فإذا فيها عجبت من قوم فيهم مثل هذا كيف ملكوا غيره قلت يا أمير المؤمنين لو علمت ما فيها ما حملتها وإنما قال هذا لأنه لم يرك قال أتدري لم كتبها قلت لا قال حسدني عليك فأراد أن يغريني بقتلك انتهى.

وقيل كان الشعبي ضئيلاً نحيلا فقيل له في ذلك

ص: 88

فقال زوحمت في الرحم وكان قد ولد هو وأخ آخر وأقام في البطن سنتين ذكره صاحب كتاب المعارف. ويقال إن الحجاج قال له يوما كم عطاك في السنة فقال ألفين فقال له ويحك كما عطاؤك قال ألفان فقال ويحك كيف لحنت أولا فقال لحن الأمير فلحنت فلما أعرب أعربت وما يحسن أن يلحن الأمير وأعرب فاستحسن ذلك منه وأجازه.

نادرة بديعة غريبة منقولة عن سديد الملك أبي الحسن علي بن منقذ صاحب قلعة شيراز وكان سديد المذكور مقصودا من البلاد ممدوحا مدحه جماعة من الشعراء كابن الخياط والخفاجي وغيرهما وله شعر جيد أيضا ومنه قوله وقد غضب على مملوكه فضربه.

أسطوا عليه وقلبي لو تمكن من

كفيَّ غلهما غيظاً إلى عنقي

وأستعين إذا عاقبته حنقاً

وأين ذلُّ الهوى من عزة الحنق

وكان موصوفا بقوة الفطنة ويحكى عنه في ذلك حكاية عجيبة وهي أنه كان يتردد على حلب قبل تملكه قلعة شيراز وصاحب حلب يومئذ تاج الملوك محمود بن صالح بن مرداس فجرى أمر خاف سديد الملك منهن على نفسه فخرج من حلب إلى طرابلس الشام وصاحبها يومئذ جلال الملك بن عمار فأقام عنده فتقدم محمود صاحب حلب إلى كاتبه أبي نصر محمد بن الحسين بن علي النحاس الحلبي أن يكتب إلى سديد الملك كتابا يتشوقه فيه ويستعطفه ويستدعيه إلى حلب ففهم الكاتب أنه يقصد له شراً إذا جاء إليه وكان

ص: 89

الكاتب صديقا إلى سديد الملك فكتب الكاتب كما أمره مخدومه إلى أن بلغ إلى آخره وهو إن شاء الله فسدد النون وفتحها فلما وصل الكتاب إلى سديد الملك عرضه على ابن عمار صاحب طرابلس ومن بمجلسه من خواصه فاستحسنوا عبارة الكتاب واستعظموا ما فيه من رغبة محمود فيه وإيثاره لقربه فقال سديد الملك إني ارى ما لا ترون في الكتاب ثم أجاب عن الكتاب بما اقتضاه الحال وكتب في جملة فصول الكتاب أنا الخادم المقر بالأنعام وكسر الهمزة من أنا وشدد النون فلما وصل الكتاب إلى محمود ووقف عليه سر بما فيه وقال لأصدقائه قد علمت أن الذي كتبته لا يخفى عن مثله وقد اجاب بما طيب قلبي عليه وكان الكاتب قد قصد قوله تعالى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فأجاب سديد الملك بقوله إنا لن ندخلها أبداً ما داموا فيها وكانت هذه الحكاية معدودة من شدة تيقظه وفهمه انتهى.

وحكى الصابيء في كتاب الأعيان والأمثال أن رجلا اتصلت عطلته وانقطعت مادته فزور كتابا من الوزير أبي الحسن علي بن الفرات وزير المقتدر بالله العباسي إلى ابن زيتون المارداني عامل مصر يتضمن المبالغة في الوصايا وزيادة الإكرام وعمل المصالح فلما دخل مصر اجتمع بابن زيتون ودفع إليه الكتاب فلما قرأ ابن زيتون الكتاب ارتاب في أمره لتغير لفظ الخطاب عما جرت به العاة وكون الدعاء أكثر مما يقتضيه محله فراعاه مراعاة قريبة ووصله صلة قليلة وحبسه عنده على وعدٍ وعده به ثم كتب إلى أبي الحسن بن الفرات

ص: 90

يذكر الكتاب الذي ورد عليه وأنفذه بعينه فلما وقف عليه ابن الفرات عرف الرجل وذكر ما كان عليه من الحرمة وما له من الحقوق القديمة عليه فعرضه على كتابه وعرفهم الصورة وعجب إليهم منها وقال لهم ما الرأي في مثل هذا الرجل فقال بعضهم تأديبه وقال بعضهم قطع إبهامه وقال اجملهم محضرا يكشف لابن زيتون أمره ويرسم له بطرده وحرمانه فقال ابن الفرات ما أبعدكم من الخير رجل توسل بنا وحمل المشقة إلى مصر وأمل الخير بجاهنا والانتساب إلينا يكون حاله عند أحسنكم نظرا تكذيب ظنه وتخييب سعيه والله لا كان هذا أبداً ثم أخذ القلم ووقع على الكتاب المزور هذا كتابي ولست أعلم لم أنكرت أمره واعترضتك فيه شبهة وليس كل ما يخدمنا نعرفه وهذا رجل خدمني أيام نكبته فأحسن تفقده ورفده وصرفه فيما يعود نفعه عليه ثم رد الكتاب إلى ابن زيتون من يومه ومضت على ذلك مدة طويلة إذ دخل على ابن الفرات رجل ذو هيئة مقبولة وبزة جميلة فاقبل يدعو له ويثني عليه ويبكي ويقبل يديه والأرض فقال له ابن الفرات من أنت بارك الله فيك قال صاحب الكتاب المزور إلى ابن زيتون الذي صححه كرم الوزير بفضله فضحك ابن الفرات وقال كم وصل إليك منه قال أوصل إلي من ماله ومن قسط قسطه على عماله عشرين ألف دينار فقال الحمد لله على صلاح حالك ثم أختبره فوجده كاتبا سديداً فاستخدمه انتهى. والحمد لله على ذلك.

ذكر الحصري في كتابه المسمى بالدر المصون في سر

ص: 91

الهوى المكنون أن الجاحظ ذكر للواثق لتأديب بعض أولاده فلما رآه استبشع منظره فأمر له بعشرة آلاف درهم وصرفه قال الجاحظ فخرجت من عنده فرأيت محمد بن إبراهيم وهو يريد الانحدار إلى مدينة السلام فعرض عليّ الانحدار معه فانحدرت ونصبت ستارة وأمر بالغناء فاندفعت عوادة تغني.

كل يومٍ قطيعةٌ وعتابٌ

ينقضي دهرنا ونحن غضاب

ليت شعري أنا خصصت بهذا

دون ذا الخلق أم كذا الأحباب

ثم سكتت فأمر طنبورية فغنت:

وارحمتا للعاشقينا

ما إن أرى لهمُ معينا

كم يهجرون ويصرمون

ويقطعون فيصبرونا

كم يهجرون ويصرمون

ويقطعون فيصبرونا

فقالت لها العوادة فيصنعون ماذا قالت يصنعون هكذا وضربت بيدها على الستارة وبدت كأنها فلقة بدر ثم رمت بنفسها في الماء قال وكان على رأس محمد غلام يضاهيها في الجمال وفي يده مذبة فألقى المذبة من يده لما رأى ما صنعت الجارية ثم أتى إلى موضع سقوطها ونظر إليها وأنشد:

أنت التي غرقتني

بعد القضا لو تعلمينا

ورمى بنفسه في أثرها فأدار الملاح الحراقة فإذا بهما متعانقين ثم غاصا فهال ذلك محمداً واستعظمه وقال يا عمرو إن لم تحدثني حديثا يسليني عنهما ألحقتك بهما قال الجاحظ فحضرني خبر سليمان بن عبد الملك وقد قعد يوما للمظالم وعرضت عليه القصص فمرت قصة فيها مكتوب إن رأى أمير المؤمنين أعزه

ص: 92

الله ان يخرج جاريته فلانة حتى تغنيني ثلاثة اصوات فعل ان شاء الله تعالى فأغتاظ سليمان لذلك وأمر من يأتيه براسه ثم أردفه رسولا آخر أن يدخل به إليه فلما دخل قال ما حملك على ما صنعت قال الثقة بحلمك والاتكال على عفوك فأمره بالقعود حتى لم يبق أحد من بني أمية إلا خرج ثم أمر بالجارية فأخرجت ومعها عود فقال لها غني ما يقول لك فقال الفتى غني:

تألق البرق نجدياً فقلت له

يا أيها البرق إني عنك مشغول

فغنته فقال له سليمان أتأمر لي برطل فأتي به فشربه ثم قال لها غني:

حبذا رجعها إلينا يداها

في يدي درعها تحل الأزارا

فغنته فقال لسليمان أتأمر لي برطل فأتي به فشربه ثم قال غني:

أفاطمُ مهلاً بعض هذا التدلل

وإن كنت قد أزمعت صرمي فاجملي

فغنته قال لسليمان أتأمر لي برطل فما استتم شربه حتى صعد على الفور على قبة لسليمان فرمى بنفسه على دماغه فمات فقال سليمان إنا لله وإنا إليه راجعون أتراه الأحمق ظن أني أخرج إليه جاريتي وأردها إلى ملكي يا غلمان خذوا بيد هذه الجارية وانطلقوا بها إلى أهله إن كان له أهل وإلا فبيعوها وتصدقوا بثمنها عليه فلما انطلقوا بها نظرت إلى حفيرة في دار سليمان اتخذت للمطر فجذبت نفسها من أيديهم ثم قالت:

من مات عشقاً فليمت هكذا

لا خير في عشقٍ بلا موت

فرمت بنفسها في الحفيرة فماتت فسري عن محمد وأحسن صلتي

ص: 93

انتهى.

وكتب أبو منصور افتكين التركي متولي دمشق إلى عضد الدولة بن بويه كتابا مضمونه إن الشام قد صفا وصار في يدي وزال في مستقرهم فكتب إليه عضد الدولة في جوابه هذه الكلمات وهي متشابهة في الخط لا تعرف إلا بعد النقط والضبط وهي غرك عزك فصار قصار ذلك ذلك فأخش فاحش فعلك فعلك تهدأ بهذا قال القاضي شمس الدين ابن خلكان تغمده الله برحمته لقد أبدع غاية الإبداع. قلت وأبدع منه قول السلامي فيه من قصيدته التي منها:

إليك طوى عرض البسيطة جاعلٌ

قصار المطايا أن يلوح لها القصرُ

فكنت وعزمي في الظلام وصارمي

ثلاثة أشياءٍ كما اجتمع النشر

وبشرت آمالي بملكٍ هو الورى

ودارٍ هي الدنيا ويومٍ هو الدهر

قال ابن خلكان هذا على الحقيقة هو السحر الحلال كما يقال. وقد أخذ هذا المعنى القاضي أبو بكر الأرجاني فقال:

يا سائلي عنه لما جئت أمدحه

هذا هو الرجل العاري من النار

لقيته فرأيتُ الناس في رجلٍ

والدهر في ساعةٍ والأرض في دار

ولكن أين الثريا من الثرى وألم أبو الطيب المتنبي أيضا بهذا المعنى لكنه ما استوفى بقوله:

هو الغرض الأقصى ورؤيتك المنى

ومنزلك الدنيا وأنت الخلائق

ولكن ليس لأحد منهما طلاوة بيت السلامي

ص: 94

انتهى.

نادرة لطيفة كان أبو بكر المحلي يتولى نفقات أبي المسك كافور والأخشيدي وكان له في كل عيد أضحى عادة وهو أن يسلم إلى أبي بكر المذكور بغلا محملا ذهبا وجريدة تتضمن أسماء قوم من حد القرافة إلى الجبانة وما بينهما قال أبو بكر المذكور وكان يمشي معي صاحب الشرطة ونقيب يعرف المنازل وأطوف من بعد العشاء الأخيرة إلى آخر الليل حتى أسلم ذلك إلى من تضمنت اسمه الجريدة فأطرق منزل كل إنسان ما بين رجل وامرأة وأقول الأستاذ أبو المسك كافور الأخشيدي يهنئك بالعيد ويقول لك أصرف هذا في منفعتك فارفع إليه ما جعل له وفي آخر وقت زاد في الجريدة الشيخ أبا عبد الله ابن جابار وجعل له في ذلك العيد مائة دينار فطفت في تلك الليلة وأنفقت المال في أربابه ولم يبق إلا الصرة فجعلتها في كمي وسرت مع المغيب حتى أتينا منزله بظاهر القرافة فطرقت الباب فنزل إلينا الشيخ وعليه اثر السهر فسلمت عليه فلم يرد علي وقال ما حاجتك قلت الأستاذ أبو المسك كافور يخص الشيخ بالسلام فقال والي بلدنا قلت نعم قال حفظه الله الله يعلم أني أدعو له في الخلوات وادبار الصلوات بما الله سامعه ومستجيبه قلت وقد أنفذ معي نفقة وهي هذه الصرة ويسالك قبولها لتصرف في مؤنة هذا العيد المبارك فقال نحن رعيته ونحبه في الله تعالى وما نفسد هذه المحبة بعلة فراجعته القول فتبين لي الضجر في وجهه واستحيت من الله أن أقطعه عما هو عليه فتركته وانصرفت قال فجئت فوجدت الأمير

ص: 95

قد تهيأ للركوب وهو ينتظرني فلما رآني قال إيه يا أبا بكر قلت أرجو الله أن يستجيب فيك كل دعوة صالحة دعيت لك في هذه الليلة وفي هذا اليوم الشريف فقال الحمد لله الذي جعلني لإيصال الراحة إلى عبادة ثم أخبرته بامتناع ابن جابار فقال نعم هو جدير لم تجر بيننا وبينه معاملة قبل هذا اليوم ثم قال لي عد إليه واركب دابة من دواب النوبة واطرق بابه فإذا نزل إليك فإنه سيقول لك ألم تكن عندنا فلا ترد عليه جوابا ثم استفتح واقرأ بسم الله الرحمن الرحيم طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى إلا تذكرة لمن يخشى تنزيلا ممن خلق الأرض والسموات العلي الرحمن على العرش استوى له ما في السموات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى يا ابن جابار الأستاذ كافور يقول لك ومن كافور العبد الأسود ومن هو مولاه ومن الخلق ليس لأحد مع الله ملك ولا شركة تلاشى الناس كلهم ههنا أتدري من هو معطيك وعلى من رددت أنت ما سألت وإنما هو أرسل لك يا بن جابار أنت ما تفرق بين السبب والمسبب. قال أبو بكر فركبت وسرت فطرقت منزله فنزل إلي فقال لي مثل لفظ كافور فأضربت عن الجواب وقرأت طه ثم قلت له ما قال لي كافور فبكى وقال لي أين ما حملت فأخرجت الصرة فأخذها وقال علمنا الأستاذ كيف التصوف قلت له أحسن الله جزاءك ثم عدت إليه فأخبرته بذلك فسر وسجد شكراً لله وقال الحمد لله على ذلك.

ونقل ابن خلكان في تاريخه أن أبا عبد الله محمد بن الأعرابي كان

ص: 96

يزعم أن الأصمعي وأبا عبيدة لا يحسنان شيئا وكان يقول جائز في كلام العرب أن يعاقب بين الضاد والظاء فلا يخطىء من يجعل هذا في موضع هذا وينشد:

إلى الله أشكو من خليل أوده

ثلاثَ خصالٍ كلها لي غائضُ

ويقول هكذا سمعته بالضاد.

ومن النوادر اللطيفة ورد أبو نصر الفارابي إلى دمشق على سيف الدولة بن حمدان وهو إذ ذاك سلطانها قيل إنه لما دخل عليه وهو بزي الأتراك وكان ذلك زيه دائماً وقف فقال له سيف الدولة أجلس فقال حيث أنا أو حيث أنت فقال حيث أنت فتخطى رقاب الناس حتى انتهى إلى مسند سيف الدولة وزاحمه فيه حتى أخرجه عنه وكان على رأس سيف الدولة مماليك وله معهم لسان خاص يساورهم به فقال لهم بذلك اللسان إن هذا الشيخ قد أساء الأدب وإني سائله عن أشياء إن لم يعرفها أخرجوا به فقال له أبو نصر بذلك اللسان أيها الأمير اصبر فإن الأمور بعواقبها فعجب سيف الدولة منه وعظم عنده ثم أخذ يتكلم مع العلماء والحاضرين في كل فن فلم يزل كلامه يعلوا وكلامهم يسفل حتى صمت الكل وبقي يتكلم وحده ثم أخذوا يكتبون ما يقوله فصرفهم سيف الدولة وخلا به فقال له هل لك في أن تأكل قال لا قال فهل لك أن تشرب قال لا فقال هل تسمع قال نعم فأمر سيف الدولة بإحضار القيان فحضر كل ماهر في الصنعة بأنواع الملاهي فخطأ الجميع فقال له سيف الدولة هل تحسن

ص: 97

هذه الصنعة قال نعم ثم أخرج من وسطه خريطة ففتحها فأخرج منها عيدانا وركبها ثم لعب بها فضحك كل من في المجلس ثم فكها وركبها تركيباً آخر فبكى كل من في المجلس ثم فكها وغير تركيبها وحركها فنام كل من في المجلس حتى البواب فتركهم نياما وخرج. وهو الذي وضع القانون وكان منفرداً بنفسه لا يجالس الناس وكان مدة إقامته بدمشق لا يكون غالبا إلا عند مجتمع المياه أو مشتبك الرياض وهناك يؤلف كتبه وكان أزهد الناس في الدنيا لا يحتفل بأمر مسكن ولا مكسب وسأله سيف الدولة في مرتب من بيت المال فقال يكفيني أربعة دراهم ولم يزل على ذلك الى أن توفي سنة تسع وثلاثين وثلثمائة بدمشق وصلى عليه سيف الدولة وأربعة من خواصه وقد ناهز ثمانين سنة ودفن بظاهر دمشق خارج الباب الصغير.

ومن المنقول من خط القاضي الفاضل أن نور الدين الشيهد كتب إلى راشد الدين سنان صاحب القلاع الاسماعيلية كتابا يهدده فيه فشق ذلك على سنان فكتب إليه بما هو فوق الوصف بحكاية الحال وهو:

يا ذا الذي بقراع السيف هددنا

لاقام مصرع قلبٍ كنت تصرعه

قال الحمام إلى البازي يهدده

واستصرخت بأسود الغاب أضبُعه

أضحى يسدُّ فم الأفعى باصبعه

يكفيه ماذا تلاقي منه أصبعه

وقفنا على تفصيله وجمله وعلمنا ما هددنا به من قوله وعمله فيا لله العجب

ص: 98

من ذبابة تطن في أذن الفيل وبعوضة تعد في التماثيل ولقد قالها من قبلك قوم آخرون فدمرنا عليهم فما كان لهم من ناصرين أو للحق تدحضون وللباطل تنصرون وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون وأما ما صدر من قولك فتلك أماني كاذبة وخيالات غير صائبة فإن الجواهر لا تزول بالأعراض كما أن الأرواح لا تضمحل بالأمراض فإن عدنا إلى الظواهر والمحسوسات وعدلنا عن البواطن والمعقولات فلنا أسوة برسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله ما أوذي نبي ما أوذيت ولقد علمتم ما جرى على عترته وأهل بيته وشيعته والحال ما حال والأمر ما زال ولله الحمد في الآخرة والأولى إذ نحن مظلومون لا ظالمون ومغصوبون لا غاصبون وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا وقد علمتم ظاهر حالنا وكيفية رجالنا وما يتمنونه من الفوت ويستقربون به إلى حياض الموت قل فتمنوا الموت إن كنتم صادقين وفي أمثال العامة أو للبط تهددون بالشط فهيىء للبلاء جلبابا وتدرع للرزايا أثوابا وإنك لكالباحث عن حتفه بظلفه أو الجادع أنفه بكفه وما ذلك على الله بعزيز.

ومن غرائب الظرف ما حكاه ابن خلكان في تاريخه قال حدثني من أثق به أن شخصا قال له رأيت في تأليف أبي العلاء المعري ما صورته أصلحك الله وأبقاك لقد كان من الواجب أن تأتينا اليوم إلى منزلنا الخالي لكي يحدث لي أنسك يا زين الأخلاء فما مثلك من غير عهدا أو غفل وسأله من أي الأبحر وهل هو بيت واحد أم أكثر فإن كان أكثر فهو أبياته على روي واحد أو مختلفة الروي قال فافكر فيه ثم أجابه بجواب حسن قال ابن خلكان فقلت للقائل اصبر حتى انظر فيه ولا تقل ما قاله فأجاب القاضي شمس الدين بن خلكان بعد حسن النظر بما أجاب به عنه الرجل وهذه الكلمات تخرج من بحر الرجز وتشتمل على أربعة أبيات في روي اللام وهي على صورة يسوغ استعمالها عند العروضين ومن لا يكون له بهذا الفن معرفة ينكرها لأجل قطع الموصول منها ولا بد من الأتيان بهذا لتظهر صورة ذلك وهي:

أصلحك الله واب

قاك لقد كان من ال

واجب أن تأتينا ال

يوم إلى منزلنا الخالي لكي يحدث لي

ص: 99

.. أنسك يا زين الأخل

لاء فما مثلك من

غير عهداً أو غفل

قلت وعلى ذكر أبي العلاء الضرير يعجبني قول مظفر بن جماعة الضرير:

قالوا عشقتَ وأنت أعمى

ظبياً كحيل الطرف المى

وحلاء ما عاينتها

وتقول قد شغفتك وهما

وخياله بك في المنا

م فما أطاف ولا ألماَّ

من أين أرسل للفؤا

د وأنت لم تنظره سهما

ومتى رأيت جماله

حتى كساك هواه سقما

وبأي جارحةٍوصلت لوصفه نثراً ونظما

ص: 100

فأجبت إني موسو

ي العشق إنصاتاً وفهما

أهوى بجارحة السما

ع ولا أرى ذات المسمى

ويعجبني أيضاً قول ضرير آخر:

وغادةٍ قالت لأترابها

يا قوم ما أعجبَ هذا الضرير

أيعشق الإنسان ما لا يرى

فقلت والدمع بعيني غزير

إن لم تكن عيني رأت شخصها

فإنها قد مثلت في الضمير

ومثل هذا قول المهذب عمر ابن الشحنة:

وإني امرؤٌ أحببتكم لمحاسنٍ

سمعت بها والأذن كالعين تعشق

وتقدمه بشار بقوله:

يا قوم أذني لبعض القوم عاشقةٌ

والأذن تعشق قبل العين أحيانا

ونقل الشيخ جمال الدين بن نباتة في كتابه المسمى بسرح العيون في شرح رسالة ابن زيدون عن علي بن أبي طالب أنه قال سبحان الله ما أزهد كثير من الناس في الخير عجبا لرجل يجيئه أخوه المسلم حاجة فلا يرى نفسه أهلا للخير ولا يرجو ثوابا ولا يخاف عقابا وكان ينبغي له أن يسارع إلى مكارم الأخلاق فإنها تدل على سبل النجاح فقام إليه رجل فقال يا أمير المؤمنين أسمعته من النبي صلى الله عليه وسلم قال نعم لما أتي بسبايا طيىء وقعت جارية بها جميلة لما رأيتها أعجبت بها فلما تكلمت نسيت جمالها بفصاحتها فقالت يا محمد إن رأيت أن تخلي سبيلي ولا تشمت بي أحياء العرب فإني

ص: 101

ابنة سيد قومي وإن أبي كان يفك العاني ويشبع الجائع ويكسو العاري ويفشي السلام ولا يرد طالب حاجة قط أنا بنت حاتم الطائي فقال النبي صلى الله عليه وسلم هذه صفات المؤمنين خلوا عنها فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق والمنقول عن حاتم في زيادة الكرم كثير.

من ذلك ما حكاه المدائني قال أقبل ركب من بني أسد وبني أسد وبني قيس يريدون النعمان فلقوا حاتما فقالوا تركنا قومنا يثنون عليك وقد أرسلوا إليك رسالة قال وما هي فأنشد الأسديون شعراً للنابغة فيه فلما أنشدوه قالوا إن نستحي أن نسألك شيئا وإن لنا حاجة قال وما هي قالوا صاحب لنا قد أرجل يعني فقدت راجلته فقال حاتم خذوا فرسي هذه فاحملوه عليها فأخذوها وربطت الجارية فلوها بثوبها فأفلت يتبع أمه فتتبعته الجارية لترده فصاح حاتم ما تبعكم فهو لكم فذهبوا بالفرس والفلو والجارية.

وقيل أجود العرب في الجاهلية ثلاثة حاتم الطائي وهرم بن سنان وكعب ابن مامة وحاتم كان أشهرهم بالكرم ذكر أنه أدرك مولد النبي صلى الله عليه وسلم.

وحكى الهيثم بن عدي قال تمارى ثلاثة من أجواد الإسلام فقال رجل أسخى الناس في عصرنا هذا عبد الله بن جعفر بن أبي طالب وقال آخر أسخى الناس عرابة الأوسي وقال آخر بل قيس ابن سعد بن عبادة وأكثروا الجدال في ذلك وكثر ضجيجهم وهم بفناء الكعبة فقال لهم رجل قد أكثرتم الجدال في ذلك وكثر ضجيجهم وهم بفناء الكعبة فقال لهم رجل قد أكثرتم الجدال في ذلك فما عليكم أن يمضي كل واحد منكم

ص: 102

إلى صاحبه يسأله حتى ننظر ما يعطيه ونحكم على العيان فقام صاحب عبد الله إليه فصادفه قد وضع رجله في غرز ناقته يريد ضيعة له فقال يا ابن عم رسول الله قال قل ما تشاء قال ابن سبيل ومنقطع به قال فأخرج رجل من غرز الناقة وقال له ضع رجلك واستو على الراحلة وخذ ما في الحقيبة واحتفظ بسيفك فإنه من سيوف علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال فجاء بالناقة والحقيبة فيها مطارف خز وأربعة آلاف دينار وأعظمها وأجلها السيف ومضى صاحب قيس بن سعد بن عبادة فصادفه نائماً فقالت الجارية هو نائم فما حاجتك إليه قال ابن سبيل ومنقطع به قالت حاجتك أهون من إيقاظه هذا كيس فيه سبعمائة دينار والله يعلم أن ما في دار قيس غيره خذه وامض إلى معاطن الإبل إلى أموال لنا بعلامتنا فخذ راحلة من رواحله وما يصلحها وعبدا وامض لشأنك فقيل إن قيسا لما انتبه من رقدته أخبرته بما صنعت فاعتقها ومضى صاحب عرابة الأوسي إليه فألفاه قد خرج من منزله يريد الصلاة وهو يمشي على عبدين وقد كف بصره فقال يا عرابة ابن سبيل ومنقطع به قال فخلى العبدين وصفق بيمناه على يسراه وقال أواه أواه ما تركت الحقوق لعرابة مالا ولكن خذهما يعني العبدين قال ما كنت بالذين أقص جناحيك قال إن لم تأخذهما فهما حران فإن شئت تأخذ وإن شئت تعتق وأقبل يلتمس الحائط بيده

ص: 103

راجعا إلى منزله قال فأخذهما وجاء بهما فثبت أنهم أجود عصرهم إلا أنهم حكموا لعرابة لأنه أعطى جهده.

نادرة غريبة حضر يعقوب بن إسحق الكندي المسمى بوقته فيلسوف الإسلام مجلس أحمد بن المعتصم وقد دخل عليه أبو تمام فأنشد قصيدته السينية المشهورة فلما بلغ إلى قوله:

إقدام عمروٍ في سماحة حاتمٍ

في حلم أحنف في ذكاء إياس

قال له الكندي ما صنعت شيئا فقال كيف: قال ما زدت على أن شبهت ابن أمير المؤمنين بصعاليك العرب وأيضا فإن شعراء دهرنا تجاوزوا بالممدوح من كان قبله ألا ترى إلى قول العكوك في أبي دلف.

رجل أبرّ على شجاعة عامرٍ

بأساً وغبّر في محيّا حاتم

فأطرق أبو تمام ثم أنشأ يقول:

لا تنكروا ضربي له من دونه

مثلاً شروداً في الندى والباس

فالله قد ضرب الأقل لنوره

مثلاً من المشكاة والنبراس

ولم يكن هذا في القصيدة فتزايد العجب منه ثم طلب أن تكون الجائزة ولاية عمل فاستصغر عن ذلك فقال الكندي ولوه لأنه قصير العمر لأن ذهنه ينحت من قلبه فكان كما قال وقد تكون ظهرت له دلائل من شخصه في ذلك الوقت على قرب أجله انتهى.

وسمع الكندي:

وفي أربعٍ منيّ حلت منك أربعُ

فما أنا أدري أيُّها هاج لي كربي

خيالك في عيني أم الذكر في فمي

أم النطق في سمعي أم الحبُّ في قلبي

ص: 104

فقال لقد قسمتها تقسيما فلسفيا. انتهى.

ونقل الشيخ جمال الدين ابن نباتة في كتابه المسمى بسرح العيون في شرح رسالة ابن زيدون أن واضع العود بعض حكماء الفرس ولما فرغ منه سماه البربط وتفسيره باب النجاة ومعناه أنه مأخوذ من صرير باب الجنة وجعلت أوتاره أربعة بإزاء الطبائع الأربع فالزير بإزاء السوداء والبم بإزاء الصفراء والمثنى بإزاء الدم والمثلث بإزاء البلغم فإذا اعتدلت أوتاره المرتبة على ما يجب جانست الطبائع وأنتجت الطرب وهو رجوع النفس إلى الحالة الطبيعية دفعة واحدة وبدىء هذا العلم ببطليموس وختم باسحق ابن إبراهيم الموصلي.

وحكى ابن حمدون في تذكرته أن الحسن ابن حماد قال كنت بالمدينة فخلا لي الطريق نصف النهار فجعلت أتغنى بشعر ذي يزن وهو:

ما بالُ قومِكِ يا رباب

خزراً كأنهم غضاب

فإذا كوة قد فتحت وإذا وجه قد بدا منها تتبعه لحية حمراء فقال يا فاسق أسأت التأدية ومنعت القائلة وأذعت الفاحشة ثم أندفع يغني فغنى الصوت غناء لم أسمع بمثله فقلت أصلحك الله من أين لك هذا الغناء قال نشأت وأنا غلام يعجبني الأخذ عن المغنين فقالت أمي يا بني إن المغني إذا كان قبيح الوجه لم يلتفت إلى غنائه فدع الغناء واطلب الفقه فتركته وتبعت الفقهاء فبلغ بي إلى ما ترى فقلت أعد لي الصوت جعلت فداك فقال لا ولا كرامة أتريد أن تقول أخذته عن مالك بن أنس.

فائدة غريبة روي عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال

ص: 105

سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن هذا القرآن ينزل بحزن فإذا قرأتموه فأبكوا فإن لم تبكوا فتباكوا وتغنوا به من لم يتغن بالقرآن فليس منا رواه ابن ماجه.

نادرة لطيفة قال عبد الملك بن أبي زيد مر بنا أبو لبابة فاتبعناه حتى دخل بيته فإذا رجل رث الهيئة يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ليس منا من لم يتغن بالقرآن قال فقلت لابن أبي مليكة يا أبا محمد أرأيت إن لم يكن حسن الصوت قال يحسنه ما استطاع رواه أبو داود.

نادرة لطيفة تتضمن المثل السائر في قولهم عن الخائب رجع بخفي حنين المنقول عن حنين أنه كان إسكافا من أهل الحيرة ساومه أعرابي بخفين ولم يشتر منه شيئا وغاظه ذلك فخرج إلى الطريق التي لا بد للأعرابي من المرور منها فعلق الفردة الواحدة منهما في شجرة على طريقه وتقدم قليلا فطرح الفردة الثانية واختفى فجاء الأعرابي فرأى أحد الخفين فوق الشجرة فقال ما أشبهه بخف حنين لو كان معه آخر لتكلفت أخذه وتقدم فرأى الخف الآخر مطروحا فنزل وعقل بعيره وأخذه ورجع ليأخذ الأول فخرج حنين من الكمين فأخذ بعيره وذهب ورجع الأعرابي إلى ناحية بعيره فلم يجده فرجع بخفي حنين فصارت مثلا.

نادرة لطيفة قيل إن بعض وفود العرب قدموا على عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وكان فيهم شاب فقام وتقدم وقال يا أمير المؤمنين أصابتنا سنون سنة

ص: 106

أذابت الشحم وسنة أكلت اللحم وسنة أذابت العظم وفي أيديكم فضول أموال فإن كانت لنا فعلام تمنعونها عنا وإن كانت لله ففرقوها على عباد الله وإن كانت لكم فتصدقوا بها علينا إن الله يجزي المتصدقين فقال عمر بن عبد العزيز ما ترك الإعرابي لنا عذرا في واحدة.

ووقف أعرابي على حلقة الحسن البصري فقال رحم الله من تصدق من فضل أو واسى من كفاف أو آثر من قوت فقال الحسن البصري ما ترك الأعرابي أحدا منكم حتى عمه بالسؤال قلت هذا النوع سماه البديعيون بالتقسيم.

نادرة أدبية بديعة حكى ضياء الدين بن الأثير في المثل السائر بعدما أورد لغزا في الخلخال:

ومضروبٍ بلا جُرْمٍ

مليح اللون معشوق

له شكل الهلال على

رشيق القدِّ ممشوق

وأكثر ما يُرى أبداً

على الأمشاط في السّوق

قال بلغني أن بعض الناس سمع هذه الأبيات فقال: دخلت السوق فلم أرى على الأمشاط شيئا.

ومن نوادر الأدب أيضا إشارة الحجاج إلى قول ابن نباتة السعدي في فرس أغر محجل:

غضبت صباحُ وقد رأتني قابضاً

أيري فقلت لها مقالة فاجر

بالله إلا ما لطمت جبينه

حتى يحققَ فيك قول الشاعر

يريد بذلك قوله:

فكأنما لطم الصباح جبينه

فاقتصّ منه فخاض في أحشائه

ومن المنقول

ص: 107

المشهور أن الأدب وأهله كان عند أصحاب حماه في الذروة العالية ولكن قصة زكي الدين بن عبد الرحمن العوفي مع الملك المظفر محمود بن الملك المنصور محمد بن الملك تقي الدين عمر بن شهنشاه كانت على غير المعهود منه ومن سلفه الطاهر وما ذاك إلا أن زكي الدين المذكور أنشد الملك المظفر محموداً قبل أن يتملك حماه:

متى أراك ومن تهوى وأنت كما

تهوى على رغمهم روحين في بدن

هناك أنشد والأمال حاضرة

هنئت بالملك والأحباب والوطن

فوعده إن تملك حماه أن يعطيه ألف دينار فلما ملكها أنشد:

مولاي هذا الملك قد نلته

برغم مخلوقٍ من الخالق

والدهر منقادٌ لما شئته

فذا أوان الموعد الصادق

فدفع له ألف دينار وأقام معه مدة ولزمته أسفار أنفق فيها المال الذي أعطاه ولم يحصل بيده زيادة عليه فقال:

إن الذي أعطوه لي جملةً

قد استردوه قليلاً قليل

فليت لم يعطوا ولم يأخذوا

وحسبنا الله ونعم الوكيل

فبلغ ذلك الملك المظفر فأخرجه من دار كان قد أنزله بها فقال:

أتخرجني من كسر بيتٍ مهدّمٍ

ولي فيك من حسن الثناء بيوت

فإن عشت لم أعدم مكاناً يضمني

وأنت فتدري ذكر من سيموت

فحبسه المظفر فقال ما ذنبي إليك فقال حسبنا الله ونعم الوكيل وأمر بخنقه فلما أحسن بذلك قال:

أعطيتني الألف تعظيماً وتكرمةً

ص: 108

.. يا ليت شعري أم أعطيتني ديني

قلت كان والد الملك المظفر أليق بهذا المقام الذي لم يقصد به زكي الدين العوفي غير ترويج الأدب في اختلاف المعاني والمداعبة به والتوصل بذلك إلى بسط الملك المظفر ولكن حال الزكي كقول الشاعر:

وكنت كالمتمني أن يرى فلقاً

من الصباح فلما أن رآه عمي

قلت وكان والد السلطان الملك المظفر المنصور من كبار أهل الأدب وكان أحب الناس لأهله وله كتاب طبقات الشعراء عشر مجلدات وسمع الحديث من الحافظ السلفي بالإسكندرية وكان مغرما بحب الأدباء والعلماء وجمع تاريخا على السنين في عشر مجلدات ومن مصنفاته كتابه المسمى بمظاهر الحقائق وسر الخلائق وهو كبير نفيس يدل على فضله وجمع عنده من الكتب ما لا مزيد عليه وكان في خدمته ما يناهز مائتي متعمم من الفقهاء والأدباء والنحاة والمشتغلين بالحكمة والمنجمين والكتاب وأقامت دولته ثلاثين سنة وتوفي سنة عشر وستمائة ومن شعره:

أربي راحٌ وريحا

نٌ ومحبوبٌ وشادي

والذي ساق لي المل

ك له دفع الأعادي

قلت وقد تقدم القول وقد تقرر أن جميع ملوك حماة المحروسة من بني أيوب وكان لهم المام بالأدب وأهله وقد تعين أن نذكر هنا ترجمة ومؤيدهم فإنه كان بدر كمالهم ومسك ختامهم وهو الملك المؤيد عماد الدين أبو الفداء إسماعيل ابن

ص: 109

الملك الأفضل ابن الملك المظفر ابن الملك المنصور بن الملك المظفر صاحب حماة المحروسة كان أميراً بدمشق المحروسة فخدم الملك الناصر لما كان بالكرك وبالغ في خدمته فوعده بحماة ووفى له بذلك وجعله بها سلطانا يفعل فيها ما يشاء من إقطاع وغيره ليس لأحد من الدولة المصرية معه حديث وأركبه في القاهرة بشعار المملكة وأبهة السلطنة ومشى الأمراء في خدمته حتى الأمير سيف الدين ابن أرغون النائب وقام له القاضي كريم الدين بكل ما يحتاج إليه في ذلك المهم من التشاريف والانعامات على وجوه الدولة ولقبوه بالملك الصالح ثم بعد ذلك بقليل لقب بالمؤيد وتقدم أمر السلطان الملك الناصر إلى نوابه أن يكتبوا إليه يقبل الأرض والمقام الشريف العالي المولوي السلطاني الملكي المؤيدي العمادي وفي العنوان صاحب حماه وكان الملك الناصر يكتب إليه أخوه محمد بن قلاوون أعز الله المقام الشريف العالي السلطاني الملكي المؤيدي العمادي المولوي. وكان الملك المؤيد من علماء الفقه والأدب والطب والحكمة والهيئة ونظم الحاوي وله تاريخ بديع وكتاب الكنائس وكتاب تقويم البلدان هذبه وجدوله وأجاد فيه ما شاء وله كتاب الموازين. وكان قد رتب للشيخ جمال الدين بن نباتة في كل شهر ألف درهم غير ما يتحفه وهو مقيم بدمشق وتوجه الملك المؤيد في بعض السنين إلى الديار

ص: 110

المصرية ومعه ابنه الملك الأفضل محمد ولده فجهز إليه السلطان الحكيم جمال الدين بن المغربي رئيس الأطباء فكان يجيء إليه بكرة وعشيا فيراه ويبحث معه في مرضه ويقدر له الأدوية ويطبخ له الشراب بيده في دست فضة فقال له ابن المغربي يا مولانا السلطان أنت والله ما تحتاج إلى المملوك وما أجيء به إلا امتثالا للأوامر الشريفة ولما عوفي أعطاه بغلة بسرج ذهب ولجام وكنبوش مزركش وعشرة آلاف درهم والدست الفضة وقال يا رئيس أعذرني فإني لما خرجت من حماة ما حسبت مرض هذا الولد ومدحه شعراء زمانه وأجازهم وبنى بظاهر حماة المحروسة جامعاً حسناً وسماه جامع الدهيشة وأوقف عليه كتباً قيل إنها ما أجتمعت لغيره من سائر الفنون فإنه اجتهد في جمعها من سائر البلاد شرقا وغربا وتوفي رحمه الله سنة اثنتين وثمانين وسبعمائة ومن شعره:

كم من دمٍ حلت وما ندمت

تفعل ما تشتهي فلا عدمت

سمت فلو تبلغ الشموس إلى

لثم مواطىء أقدامها لثمت

والمنقول عن القاسم المكنى بأبي دلف أنه جمع بين طرفي الكرم والشجاعة ولي دمشق في خلافة المعتصم فأما شجاعته فإنه لحق قوما من الأكراد قطعوا الطريق فطعن فارساً طعنة فنفذت الطعنة إلى فارس آخر رديفه فقتلهما فقال بكر بن النطاح:

قالوا وينظم فارسين بطعنةٍ

يوم الهياج ولا تراه كليلا

ص: 111

لا تعجبوا فلو أن طول قناته

ميلٌ إذاً نظم الفوارس ميلا

وفيه يقول ابن عنين:

تمشي المنايا إلى غيري فأكرهها

فكيف أمشي إليها بارز الكتفِ

ظننت أن نزال القرن من خلقي

وأن قلبي من جنبيّ أبي دلف

وأما شهرته في الكرم فهو الذي قال فيه أبو تمام:

يا طالباً للكيمياء وعلمها

مدح ابن عيسى الكيمياء الأعظم

لو لم يكن في الأرض إلاّ درهمٌ

ومدحته لأتاك ذاك الدرهم

ودخل عليه بعض الشعراء فأنشد:

أبو دلفٍ إن المكارم لم تزل

مغلغلةً تشكو إلى الله حلها

فبشرها منه بميلاد قاسمٍ

فأرسل جبريلاً إليها فحلها

فأمر له بمال فقال الخازن لم يكن هذا القدر ببيت المال فأمر له بضعفه فقال هذا غير ممكن فأمر له بضعفه فلما حمل إليه المال قال أبو دلف:

أتعجب إن رأيت عليَّ ديناً

وإن ذهب الطريف مع التلاد

وما وجبت عليّ زكاة مالٍ

وهل تجب الزكاة على جواد.

وقال آخر:

إن سار سار المجد أو حلّ وَقَفْ

أنظر بعينيك إلى أسنى الشرف

هل ناله بقدرةٍ أو بكلف

خلقٌ من الناس سوى أبي دلف

فأعطاه خمسين ألف درهم وفيه يقول العكوك بن علي بن أبي جبلة:

إنما الدنيا أبو دلفٍ

بين باديه ومحتضره

فإذا ولى أبو دلفٍ

ولّت الدنيا على أثره

ص: 112

كلُّ من في الأرض من عربٍ

بين باديه إلى حضره

مستعير منك مكرمةً

يكتسبها يوم مفتخره

فأعطاه أبو دلف مائة ألف درهم. ولما بلغت المأمون غضب غضباً شديداً على العكوك فطلب فهرب فاجتهدوا إلى أن جاءوا به مقيداً فلما صار بين يديه قال له يا ابن اللخناء أنت القائل في مدحك لأبي دلف كل من في الأرض من عرب البيتين جعلتنا ممن يستعير المكارم منه ويفتخر بها فقال يا أمير المؤمنين أنتم أهل بيت لا يقاسم بكم لأن الله تعالى اختصكم لنفسه على عباده وآتاكم الكتاب والحكم وإنما ذهبت في شعري لأقران وإشكال أبي دلف فقال والله ما أبقيت من أحد ولقد أدخلتنا في الكل، وما أستحل دمك بهذا، ولكن بكفرك حيث قلت في عبد ذليل مهين:

أنت الذي تنزل الآياتِ منزلها

وتنقل الدهر من حالٍ إلى حال

وما نظرت مدى طرفٍ إلى أحدٍ

إلا قضيت بأرزاقٍ وآجال

ذاك هو الله يا كافر أخرجوا لسانه من قفاه ففعلوا به ذلك فمات. ومن مصنفاته كتاب البزاة والصيد وكتاب السلاح وكتاب النزه وكتاب سياسة الملوك وكانت له اليد الطولى في الغناء وهو مترجم بذلك في كتاب الأغاني وذكر أبو عبيدة في كتاب مثالب أهل البصرة أن النضر بن شميل النحوي البصري كان عالما بفنون من العلم صاحب غريب وفقه وشعر ومعرفة بأيام العرب ورواية الحديث وهو من أصحاب الخليل بن أحمد فاتفق أن ضاقت به المعيشة ورق حاله فخرج يريد خراسان فشيعه من

ص: 113

أهل البصرة ثلاثة آلاف رجل ما فيهم إلا محدث أو نحوي أو عروضي أو لغوي أو إخباري أو فقيه فلما بعدوا عن المدينة جلس فقال يا أهل البصرة يعز عليّ فراقكم والله لو وجدت كل يوم أكلة باقلاء ما فارقتكم قال فلم يكن أحد فيهم يتكلف له ذلك القدر اليسير وسار حتى وصل إلى خراسان فاستفاد بها مالا عظيما فمن ذلك أنه أخذ على حرف ثمانين ألف درهم وهذه القصة نقلها الحريري صاحب المقامات في كتابه المسمى بدرة الغواص في أوهام الخواص قال حكي عن محمد بن ناصح الأهوازي قال حدثني النضر بن شميل المازني قال كنت أدخل على المأمون في سمره فدخلت ذات ليلة وعليَّ قميص مرقوع فقال يا نضر ما هذا التقشف حتى تدخل على أمير المؤمنين في هذه الخلقان قلت يا أمير المؤمنين أنا رجل كبير وضعيف وحرُّ مرو شديد فأتبرد بهذه الخلقان قال لا ولكنك تتقشف ثم أجرينا الحديث فأجرى ذكر النساء فقال حدثني هشام عن مجاهد عن الشعبي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تزوج الرجل المرأة لجمالها ودينها كانت سداداً من عوز بفتح السين من سداد فقلت صدق يا أمير المؤمنين هشام حدثنا عوف عن ابن أبي جميلة عن الحسن عن علي بن أبي جميلة عن الحسن عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تزوج الرجل المرأة لدينها وجمالها كانت سدادا من عوز بكسر السين قال وكان أمير

ص: 114

المؤمنين متكئاً فاستوى جالساً وقال يا نضر كيف قلت سداداً قلت نعم يا أمير المؤمنيت لأن سدادا بالفتح هنا لحن قال أو تلحنني قلت إنما لحن هشام وكان لحانة فتبع أمير المؤمنين لفظه قال فما الفرق بينهما قلت السداد بالفتح القصد في الدين والسبيل والسداد بالكسر البالغة وكل ما سددت به شيئاً فهو سداد قال أو تعرف العرب ذلك قلت نعم هذا العرجي يقول:

أضاعوني وأيَّ فتى أضاعوا

ليوم كريهة وسداد ثغر

فقال المأمون قبح الله من لا أدب له وأطرق مليا ثم قال ما مالك يا نضر قلت أريضة لي بمرو قال أفلا نفيدك معها مالا قلت إني إلى ذلك لمحتاج قال فأخذ القرطاس وأنا لا أدري ما يكتب ثم قال كيف تقول إذا أمرت أن يترب قلت أتربه قال فهو ماذا قلت مترب قال فمن الطين قلت أظنه قال فهو ماذا قلت مطين قال هذه أحسن من الأولى ثم قال يا غلام أتربه ثم صلى بنا العشاء ثم قال لغلامه تبلغ النضر إلى الفضل بن سهل قال فلما قرأ الفضل الكتاب قال يا نضر إن أمير المؤمنين قد أمر لك بخمسين ألف درهم فما كان السبب فأخبرته ولم أكذبه شيئا فقال ألحنت أمير المؤمنين قلت كلا إنما لحن هشام وكان لحانة فتبع أمير المؤمنين لفظه وقد تتبع ألفاظ الفقهاء ورواة الآثار ثم أمر لي الفضل بثلاثين ألف درهم فأخذت ثمانين ألف درهم بحرف واحد انتهى.

وحكي أن النضر ابن شميل مرض فدخل عليه قوم يعودونه فقال له رجل منهم يكنى أبا صالح مسح الله ما بك فقال لا تقل مسح

ص: 115

بالسين ولكن قل مصح الله بالصاد أي أذهبه وفرقه أما سمعت قول الأعشى:

وإذا ما الخمر فيها أزبدت

أفل الإزباد فيها ومصح

فقال له الرجل أن السين قد تبدل بالصاد كما يقال الصراط والسراط وصقر وسقر فقال له النضر فأنت إذا أبو سالح.

قلت ويشبه هذه النادرة ما حكي أن بعض الأدباء جوز بحضرة الوزير أبي الحسن بن الفرات أن تقام السين مقام الصاد في كل موضع فقال الوزير أتقول جنات عدن بدخلونها ومن صلح من آبائهم أم سلح فخجل الرجل وانقطع والذي ذكره أرباب اللغة في جواز إبدال الصاد من السين أنه في كل كلمة كان فيها سين وجاء بعدها أحد الحروف الأربعة وهي الطاء والخاء والغين والقاف فتقول الصراط والسراط وفي سخَّر لكم صخر لكم وفي مسغبة مصغبة وفي سيقل صيقل وقس على هذا.

ونقل قاضي القضاء شمس الدين ابن خلكان في تاريخه أن أبا جعفر أحمد بن عيسى البلادري المؤرخ قال كنت من جلساء المستعين فقصده الشعراء فقال لست أقبل إلا من يقول مثل قول البحتري في المتوكل:

فلو أن مشتاقاً تكلف فوق ما

في وسعه لسعى إليك المنبر

قال البلاذري فرجعت إلى داري وأتيته وقلت قد قلت فيك أحسن مما قاله البحتري قال هاته فأنشدته:

ص: 116

ولو أن بُرد المصطفى إذ لبسته

يظن لظن البرد أنك صاحبه

وقال وقد أعطيته ولبسته

نعم هذه أعطافه ومناكبه

فقال أرجع إلى منزلك وأفعل ما آمرك به فرجعت فبعث إلي سبعة آلاف دينار وقال ادخر هذه للحوادث من بعدي ولك الجراية والكفاية ما دمت حياً.

ويعجبني من المدائح الرافلة في حلل الحشمة قول عبد الله الأسطرلابي:

أهدي لمجلسه الكريم وإنما

أهدي له ما حزت من نعمائه

كالبحر يمطره السحاب وما لَهُ

فضلٌ عليه لأنه من مائه

ومثله قول القاضي الفاضل وقد كتبت به إلى وزير بغداد:

يا أيها المولى الوزير ومن له

مننٌ حللن من الزمان وثاقي

من شاكرٌ عني نداك فإنني

من عظمِ ما أوليت صاق نطاقي

مننٌ تخفُّ على يديك وإنما

ثقلت مؤنتها على الأعناق

قلت كان نظم القاضي الفاضل رحمه الله ونثره كفرسي رهان ولكن نثر أكثر مما نظم. وأجمع الناس أنه أتى مع الإكثار بالعجائب. وذكر قاضي القضاة شمس الدين بن خلكان في تاريخه أن مسودات رسائله إذا جمعت ما تقصر عن مائة مجلد وهو يجيد في أكثرها ولعمري إن الإنشاء الذي صدر في الأيام الأموية والأيام العباسية نسي وألغي بإنشاء الفاضل وما أخترعه من النكت الأدبية والمعاني المخترعة

ص: 117

والأنواع البديعة والذي يؤيده قول العماد الكاتب في الخريدة إنه في صناعة الإنشاء كالشريعة المحمدية نسخت الشرائع.

ومن غرر نثره هذه الرسالة التي أنشأها في حمائم الرسائل وسحب فيها ذيل البلاغة والفصاحة على سحبان وائل، وهي سرحة لا تحمل من البطائق أجنحة، وتجهز جيوش المقاصد والأقلام أسلحة، وتحمل من الأخبار ما تحمله الضمائر، وتطوير الأرض إذا نشرت الجناح الطائر، وتزوي لها الأرض حتى ترى ما سيبلغه ملك هذه الأمة، وتقرب منها السماء حتى ترى ما لا يبلغه وهم ولا همة، وتكون مراكب الأغراض والأجنحة قلوعا، وتركب الجو بحرا يصفق فيه هبوب الرياح موجاً مرفوعاً، وتعلق الحاجات على إعجازها، ولا تعوق الإرادات عن إنجازها ومن بلاغات البطائق استعادت ما هي مشهورة به من السجع، ومن رياض كتبها ألفت الرياض فهي دائمة الرجع، وقد سكنت النجوم فهي أنجم، وأعدت في كنانتها فهي للحاجات أسهم، وكادت تكون ملائكة لأنها رسل، وإذا أنيطت بالرقاع صارت أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع، وقد باعد الله بين أسفارها وقربها، وجعلها طيف خيال اليقظة الذي صدق العين وما كذبها، وقد أخذت عهود أداء الأمانة في رقابها أطواقا وأدت من أذنابها أورقاا، وصارت خوافي من وراء الخوافي، وأعطت سرها المودع بكتمان سحبت عليه ذيول ريشها الصوافي، ترغم أنف النوى بتقريب العهود، وتكاد العيون

ص: 118

بملاحظتها تلاحظ نجم السعود، وهي أنبياء الطيور لكثرة ما تأتي به من الأنباء وخطباؤها لأنها تقوم على منابر الأغصان مقام الخطباء.

ومن غريب المنقول أنني حضرت في بعض الليالي على جانب النيل المبارك في خدمة مولانا المقر الأشرف المرحومي القاضوي الناصري محمد بن البارزي الجهني الشافعي صاحب دواوين الانشاء الشريف بالممالك الإسلامية المحروسة كان تغمده الله تعالى بالرحمة والرضوان وبيده الكريمة جزء من تذكرة الشيخ صلاح الدين الصفدي بخطه وهذه الرسالة أول الجزء فشرع في قراءتها وكررها مرارا وهو يترنم في بديعها وغريبها ورسم في أثناء ذلك بمعارضتها فلم أجد بدا من الشروع لالتزام الواجب واوترت قوس العزم مطمئنا بهذا الرأي الصائب وقد أوصلت هنا شمل القطعتين ليتأمل المتأمل في جنى الجنتين وينزه نظره في حدائق الروضتين ويطرب لسجع حمائم الدوحتين. قلت شرح فما سرح العيون إلا دون رسالته المقبولة، وطلب السبق فلم يرض مفرق البرق سرجا ولا استطلى صفحته المصقولة، وهمز جواد التسليم فقصر وأمست أذياله بعرق السحب مبلولة، وارسل فأقره الناس برسالته وكتابه الصدق، وانقطع كوكب الصبح خلفه فقال عند التقصير كنت نجابا، وعلى يدي مخلق يؤدي ما جاء على يده من الترسل فيهيج الأشواق، وما برحت الحمائم تحسن الأداء في الأوراق، وصحبناه على الهدى فقال ما ضل صاحبكم وما غوى، ومن روى عنه حديث الفضل المسند

ص: 119

فعن عكرمة قد روي، يطير مع الهواء لفرط صلاحه ولم يبق على السر المصون جماح، إذا دخل تحت جناحه إن برز من مقصفه، لم يبق للبرد قيمة بل تنعزل بتدبيج أوراقه، وتعلق عليه من العين التميمة ما سجن إلا صبر على السجن وضيق الأطواق، ولهذا حمدت عواقبه على الإطلاق، ولا غنى على عود إلا أسال دموع الندى من حدائق الرياض، ولا أطلق من كبد الجو إلا كان سهما مريضا تبلغ به الأغراض، كما علا فصار بريش القوادم كالأهداب لعين الشمس، وأمسى عند الهبوط لعين الهلال كالشمس، فهو الطائر الميمون والغاية السباقة، والأمير الذي إذا أودع أسرار الملوك حملها بطاقة، فهو من الطيور التي خلا لها الجو فنقرت ما شاءت من حبات النجوم، والعجماء التي من أخذ عنها شرح المعلقات فقد أعرب عن دقائق الفهوم، والمقدمة والنتيجة الكتاب الحجلي في منطق الطير وهو من جملة الكتاب الذي إذا وصل القارىء منه إلى الفتح تهلل بفاتحة الخير، وإن تصدر البازي بغير علم فكم جمعت بين طرفي كتاب وإن سألت العقبان عن بديع السجع أحجمت عن رد الجواب.

شعر:

رعت النسورٌ بقوةٍ جيفَ الفلا

ورعى الذبابُ الشهدَ وهو ضعيف

ما قدمت إلا وأورثتنا من شمائلها اللطيفة نعم القادمة، وأظهرت لنا من خوافيها ما كانت له خير كاتمة، كم

ص: 120

أهدت من مخلقها وهي غادية رائحة، وكم حنت إليها الجوارح وهي أدام الله اطلاقها غير جارحة، وكم أدارت من كؤوس السجع ما هو أرق من قهوة الانشا، وأبهج على زهر المنثور من صبيح الأعشا، وكم عامت بحور الفضا ولم تحفل بموج الجبال، وكم جاءت ببشارة وخضبت الكف ورمت من تلك الأنملة قلامة الهلال، وكم زاحمت النجوم بالمناكب حتى ظفرت بكف الخضيب، وانحدرت كأنها دمعة سقطت على خد الشفق لأمر مريب، وكم لمع في أصيل الشمس خضاب كفها الوضاح، فصارت بسموها وفرط البهجة كمشكاة فيها مصباح، والله تعالى يديم بأفنان أبوابه العالية ألحان السواجع، ولا برح تغريدها مطربا بين البادي والراجع، انتهى.

وذكر ضياء الدين أبو الفتح نصر الله المعروف بابن الأثير الجزري في كتابه المسمى بالوشي المرقوم في حل المنظوم قال حدثني الفاضل عبد الرحيم بن علي البيساني بمدينة دمشق سنة 588 ثمان وثمانين وخمسمائة وكان إذ ذاك كاتب الدولة الصلاحية أن فن الانشاء لا تخلو منه رأس مكانا أو بيانا وكل من أنشأ أقام لسلطانه بانشائه سلطانا وكان من العادة أن كلا من أرباب البيوت إذا نشأ له ولد أحضره إلى ديوان المكاتبات ليتعلم فن الكتابة ويتدرب ويسمع فأرسلني والدي وكان إذ ذاك قاضيا بثغر عسقلان إلى الديار المصرية في أيام الحافظ العبيدي وهو أحد خلفائها فدخلت يدون المكاتبات وكان الذي يرأس به في تلك الأيام وهو صاحب الإنشاء

ص: 121

بمصر موفق الدين أبا الحجاج يوسف المعروف بابن الخلال فلما مثلت بين يديه وعرفته من أنا وما طلبي رحب بي ثم قال ما الذي أعددت لفن الانشاء وكتابته فقلت ليس عندي سوى أني احفظ القرآن الكريم وكتاب الحماسة فقال في هذا بلاغ ثم امرني بملازمته فلما ترددت إليه وتدربت عليه وطال تدريبي بين يديه أمرني أن أحل عليه ديوان الحماسة فحللته من أوله إلى آخره ثم أمرني أن أحله مرة أخرى فحللته انتهى ما ذكره ابن الأثير قلت وقال عماد الدين الكاتب في كتاب الخريدة في حق موفق الدين بن الخلال: كان فن الترسل والإنشاء آل إليه وكان في ذلك ناظر مصره وإنسان ناظره وقبلة جامع مفاخره قلت الذي ثبت عند المؤرخين وعلماء هذا الفن أن القاضي الفاضل رحمه الله تعالى أخذ علم الإنشاء وحكمه عن موفق الدين بن الخلال منشىء الخليفة الحافظ العلوي ورتبته في الإنشاء معلومة ولكن جنحت إلى الوقوف على شيء من نظمه لأنظر في الرتبتين كما قررت ذلك في نظم القاضي الفاضل ونثره فوجدت قاضي القضاة شمس الدين بن خلكان رحمه الله قد أورد له في تاريخه نظما ونثرا دلني على أن نظمه نثره رضيعا لبان وفرسا رهان. فمن ذلك قوله في الشمعة ولله دره حيث أجاد:

وصحيحةٍ بيضاء تطلع في الدجا

صبحاً وتشقي الناظرين بدائها

شابت ذوائبها أوان شبابها

وأسودٌ مفرقها أوان فنائها

ص: 122

كالعين في طبقاتها ودموعها

وسوادها وبياضها وضيائها

وله:

وأغنُّ سيف لحاظه

يغري الحسام بحده

عجب الورى لما جننت

وقد فنيت ببعده

وبقاء جسمي ناحلاً

يصلى بوقدة صده

نادرة كتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن ارطاة أن أجمع بين إياس بن معاوية والقاسم بن ربيعة فولِّ القضاء أفقههما فجمع بينهما فقال له إياس أيها الرجل سل عني وعنه فقيهي المصر الحسن وابن سيرين وكان القاسم يأتيهما وإياس لا يأتيهما ففهم القاسم إن سألهما عنه أشارا به فقال له لا تسل عني ولا عنه فوالله الذي لا إله إلا هو إن إياس بن معاوية أفقه مني وأعلم مني بالقضاء فإن كنت كاذبا فلما عليك أن تولني وأنا كاذب وإن كنت صادقا فينبغي أن تقبل قولي فقال له إياس إنك جئت برجل وقفت به على شفير جهنم فنجنى نفسه منها بيمين كاذبة يستغفر الله تعالى منها وينجو مما يخاف فقال له عدي أما إذ فهمتها فأنت لها أهل فاستقضاه.

نادرة لطيفة نقل ابن عبد ربه في العقد أن أبا سفيان زار معاوية في الشام فلما رجع من عنده دخل على الإمام عمر رضي الله عنه فقال له الإمام أجدنا قال ما أصبنا شيئا فنجديك فأخذ الإمام عمر خاتمه فبعث به إلى هند وقال للرسول قال لها يقول لك أبو سفيان أنظري الخرجين اللذين جئت بهما من عند معاوية فأحضريهما فلم يلبث عمر أن أتى بالخرجين فيهما عشرة آلاف درهم فألقاها عمر في بيت المال فلما

ص: 123

وليَ عثمان بن عفان رضي الله عنه أراد ردها إليه قال ما كنت لآخذ مالاً عابه مر علي والله إن لنا إليه حاجة ولكن لا ترد على من قبلك فيرد عليك من بعدك.

استنجاز المواعيد قلت وما ظنك بشيء قد جعله الله في كتابه العزيز مدحة وفخرا لأنبيائه فقال وأذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد ولو لم يكن في خلف الوعد إلا قول الله تعالى يا أيها الذين آمنوا لم تقولوا ما لا تفعلون كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون لكفى قال عمر بن الحرث كانوا يقولون ويفعلون فصاروا يقولون ولا يفعلون ثم صاروا لا يقولون ولا يفعلون فهم ضنوا بالكذب فضلا عن الصدق. ويعجبني قول العباس بن الأحنف:

ما ضرَّ من شغل الفؤاد ببخله

لو كان عللني بوعدٍ كاذب

صبراً عليك فما أرى لي حيلةً

إلاّ التمسُّك بالرجاء الخائب

سأموت من مطلٍ وتبقى حاجتي

فيما لديك وما لها من طالب

وذكر حيان بن سليمان عامر ابن الطفيل فقال والله كان إذا وعد الخير وفى. وإذا وعد الشر أخلف وهو القائل:

ولا يرهبُ ابنُ العمِّ ماعشت صولتي

ويأمنُ منيّ صولة المتهدِّد

وإني وإن أوعدته أو وعدته

لمخلف إيعادي ومنجز موعدي

ص: 124

وقال ابن حازم:

إذا قلت عن شيء نعم فأتمَّهُ

فإنَّ نعم دينٌ على الحرِّ واجبُ

وإلا فقل لا، تسترح وترح بها

لئلا يظنُّ الناس أنك كاذب

ويعجبني قول عبد الصمد الرقاشي في خالد بن ديسم عامل الري وقد أبطأ عليه بوعد:

أخالد إن الريَّ قد أجحفت بنا

وضاق علينا رسمُها ومعاشها

وقد أطعمتنا منك يوماً سحابةٌ

أضاءت لنا برقاً وأبطا رشاشها

فلا غيمها يصحو فيرجع طامعاً

ولا ودقها يهمي فتروي عطاشها

قلت ومن البلاغة المرقصة في هذا الباب خطاب كوثر بن زفر وقد وعده يزيد بن المهلب وأبطأ بوعده وهو

أصلح الله الأمير أنت أعظم من أن يستعان بك أو يستعان عليك ولست تفعل من الخير شيئاً إلا وهو يصغر عنك وأنت تكبر عنه وليس العجب أن تفعل ولكن العجب أن لا تفعل. قيل أن يزيد بن المهلب لما سمع هذا الخطاب البليغ مال سكرا وطربا وقال له سل حاجتك قال حملت من عشير عشر ديات قال قد أمرت لك بها وشفعتها بمثلها.

ويعجبني قول بعضهم أما بعد فإن شجرة وعدك قد أورقت فليكن وعدها سالما من حوايج المطل والسلام.

لطيف الاستمناح قال الحكماء لطيف الاستمناح سبب النجاح والنفس ربما انطلقت وانشرحت للطيف السؤال وامتنعت وانقبضت بجفاء السائل ولله در القائل:

إن الكريم أخو المودة والنُّهى

من ليس في حاجاته بمثقِّل

ص: 125

دخل عبد الملك بن صالح على الرشيد فقال له أسألك بالقرابة والخاصة أم بالخلافة والعامة فقال بالخلافة والعامة فقال يا أمير المؤمنين يداك بالعطية أطلق من لساني، فأجزل عطيته.

وقفت امرأة على قيس بن سعد بن عبادة فقالت أشكو إليك قلة الجرذان فقال ما أحسن هذه الكناية املأوا لها بيتها لحما وخبزا وسمنا.

نادرة لطيفة كان أبو جعفر المنصور أيام بني أمية إذا دخل البصرة دخل متكتماً وكان يجلس في حلقة أزهر السمان المحدث فلما أفضت إليه الخلافة قدم أزهر عليه فرحب به وقربه وقال ما حاجتك يا أزهر فقال يا أمير المؤمنين داري متهدمة وعلي أربعة آلاف درهم وأريد أزوج ابني محمدا فوصله بأثني عشر ألف درهم وقال قد قضينا حاجتك يا أزهر فلا تأتنا بعد هذا طالبا فأخذها وارتحل فلما كان بعد سنة أتاه فقال له أبو جعفر: ما حاجتك يا أزهر؟ قال: جئت مسلما فقال: لا والله بل جئت طالبا وقد أمرنا لك بأثني عشر ألفا فلا تأتنا طالبا ولا مسلما فأخذها ومضى فلما كان بعد سنة أتاه فقال ما حاجتك يا أزهر قال: أتيت عائدا فقال: لا والله بل جئت طالبا وقد أمرنا لك بأثني عشر ألفا فأذهب ولا تأتنا بعد طالبا ولا مسلما ولا عائدا فأخذها وانصرف فلما مضت السنة أقبل فقال له: ما حاجتك يا أزهر قال: يا أمير المؤمنين دعاء كنت أسمعك تدعو به جئت لأكتبه فضحك أبو جعفر وقال الدعاء الذي تطلبه غير مستجاب فإني دعوت الله به أن لا أراك فلم يستجب

ص: 126

لي وقد أمرنا لك بأثني عشر ألف وتعال إذا شئت فقد أعيتنا الحيلة فيك.

ودخل رجل من الشعراء على يحيى بن خالد بن برمك فأنشده:

سألت الندى هل أنت حرٌّ فقال لا

ولكنني عبدٌ ليحيى بنِ خالد

فقلت شراءً قال لا بل وراثةً

توارثني من والدٍ بعد والد

فأمر له بعشرة آلاف درهم.

أجواد الجاهلية الذين انتهى إليهم الجود ثلاثة نفر حاتم ابن عدي الطائي وهرم بن سنان المازني وكعب بن مامة الإيادي ولكن المضروب به المثل حاتم وحده وكان إذا اشتد البرد وكلب الشتاء أوقد نارا في بقاع الأرض لينظر إليها المار ليلا فيبادر إليها وهو القائل لغلامه يسار:

أوقد فإن الليل ليلٌ قرّ

والريح يا موقد ريحٌ صرُّ

حتى يرى نارك من يمرّ

إن جلبت ضيفاً فأنت حرُّ

وأما هرم ابن سنان فهو صاحب زهير الذي يقول فيه:

تراه إذا ما جئته متهلّلاً

كأنك تعطيه الذي أنت سائله

وأما كعب بن مامة الإيادي فلم يأت له إلا ما ذكر عنه من إيثاره رفيقه السعدي بالماء حتى مات عطشا ونجا السعدي وناهيك بهذا الكرم الذي ما سبق إليه.

وأما أجواد الحجاز فثلاثة في عصر واحد وهم عبيد الله بن العباس وعبد الله بن جعفر وسعيد ابن العاص.

وأجواد أهل البصرة خمسة في عصر واحد وهم عبد الله ابن عامر وعبد الله بن أبي بكر مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسالم بن زياد وعبد الله بن معمر القرشي التيمي وطلحة الطلحات وهو طلحة ابن خالد الخزاعي.

وأجواد أهل

ص: 127

الكوفة ثلاثة في عصر واحد وهم عتاب بن ورقاء الرياحي وأسماء بن خارجة وعكرمة الفياض. فمن جود عبيد الله أنه أول من فطر جيرانه وأول من وضع الموائد على الطريق ومن جوده أن أتاه رجل وهو بفناء داره فقام بين يديه وقال يا ابن عباس إن لي عندك يدا وقد احتجت إليها فصعد فيه بصره وصوبه فلم يعرفه فقال له ما يدك عندنا قال له رأيتك واقفا بزمزم وغلامك يملأ من مائها والشمس قد صهرتك فظللتك بطرف كسائي حتى شربت فقال أجل إني لأذكر لك ذلك ثم قال لغلامه ما عندك قال مائتا دينار وعشرة آلاف درهم قال ادفعها إليه وما أراها تفي بحق يده عندنا فقال له الرجل والله لو لم يكن لإسماعيل ولد غيرك لكان فيك كفاية فكيف وقد ولد سيد المرسلين ثم شفع بك وبأبيك.

ومن جوده أيضا أن معاوية حبس عن الحسين بن علي رضي الله عنه صلاته حتى ضاقت عليه الحال فقيل له لو وجهت إلى عمك عبيد الله بن العباس لكفاك وقد قدم بألف ألف قال الحسين فما مقدارها عنده والله إنه لأجود من الريح إذا عصفت وأسخى من البحر إذا زخر ثم وجه إليه رسوله بكتاب يذكر فيه حبس معاوية عنه صلاته وضيق حاله وأنه يحتاج إلى مائة ألف فلما قرأ عبيد الله كتابه وكان أرق الناس قلبا وألينهم عطفا انهملت عيناه ثم قال ويلك يا معاوية تكون لين المهاد رفيع العماد والحسين يشكو ضعف الحال وكثرة العيال

ص: 128

ثم قال لقهرمانه أحمل إلى الحسين نصف ما نملكه من ذهب وفضة ودابة وأخبره أني شاطرته فإن أقنعه ذلك وإلا فأرجع وأحمل إليه النصف الآخر قال فلما وصل الرسول إلى الحسين قال أنا لله ثقلت والله على عمي وما ظننت أنه يتسع بهذا كله فأخذ الشطر من ماله وهو أول من فعل هذا في الإسلام.

ومن جوده أيضا أن معاوية أهدى إليه وهو عنده في شهر من هدايا النوروز حللاً كثيرة ومسكنا وآنية من ذهب وفضة ووجهها إليه مع حاجبه فلما وضعها بين يديه نظر إلى الحاجب وهو يطيل النظر فيها فقال: هل في نفسك منها شيء قال نعم والله أن في نفسي منها ما كان في نفس يعقوب من يوسف فضحك عبيد الله فقال فشأنك بها فهي لك قال جعلت فداءك أنا أخاف أن يبلغ ذلك معاوية فيغضب لذلك قال فاختمها بخاتمك وادفعها إلى الخازن وهو يحملها إليك ليلا فقال الحاجب والله إن هذه الحيلة في الكرماء أكثر من الكرم ولوددت أني لا أموت حتى أراك مكانه يعني معاوية فظن عبيد الله أنها مكيدة منه فقال دع هذا الكلام إنا من قوم نفي بما عقدنا ولا ننقض ما أكدنا وقال له رجل من الأنصار جعلت فداءك والله لو سبقت حاتما بيوم ما ذكرته العرب وأنا أشهد أن عفو جودك أكثر من وابله.

ومن جود عبد الله بن جعفر أن عبد الله بن أبي عمارة دخل على نخاس يعرض قيانا للبيع فشغفه حب واحدة منهن ولم يكن له جدة يتوصل بها إلى المشتري فشبب

ص: 129

بذكرها حتى مشى إليه عطاء وطاوس ومجاهد يعذلونه في ذلك فكان جوابه أن قال:

يلومني فيك أقوامٌ أجالسهم

فما أبالي أطار اللوم أم وقفا

فانتهى خبره إلى عبد الله ابن جعفر فلم يكن له هم غيره فحج وبعث إلى مولى الجارية فاشتراها منه بأربعين ألف درهم وأمر قيمة جواريه أن تزينها وتحليها ففعلت وبلغ الناس قدومه فدخلوا عليه فقال ما لا أرى ابن عمارة زائرا فأخبر بذلك فأتى مسلما فلما أراد أن ينهض استجلسه ثم قال ما فعل بك حب فلانة قال حبها في اللحم والدم والمخ والعصب قال اتعرفها إن رأيتها قال لو أدخلت الجنة لم أنكرها فأمرها عبد الله أن تخرج إليه وقال له إنما اشتريتها لك ووالله ما دنوت منها فشأنك بها بارك الله لك فيها فلما وليَّ قال يا غلام احمل إليه مائة ألف درهم قال فبكى عبد الله وقال يا أهل البيت لقد خصكم الله بشرف ما خص به أحدا من صلب آدم فهناكم الله بهذه النعمة وبارك لكم فيها.

ولقد تقرر أن أجواد الإسلام أحد عشر جواداً ذكرت من جود بعضهم ما تيسر وقال صاحب العقد أنه جاء بعدهم طبقة أخرى وهي الطبقة الثانية.

فمنهم الحكم ابن أحطب قيل: سأله أعرابي فأعطاه خمسمائة دينار فبكى الأعرابي فقال له لعلك استقللت ما أعطيناك فقال لا والله، ولكني أبكي لما تأكل الأرض منك ثم أنشد:

فكأن آدم حين حان وفاته

أوصاك وهو يجود بالحوباء

ببنيه أن ترعاهم فرعيتهم

وكفيت آدم عيلة الأبناء

ص: 130