المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الوليد ومسامر الخلفاء - ثمرات الأوراق في المحاضرات - جـ ١

[الحموي، ابن حجة]

الفصل: ‌الوليد ومسامر الخلفاء

إذا كان أبوه يدخل شهراً في شهر فأنا أيضا أدخل سورة في سورة ولا آخذ شيئا ولا ابنه يتعلم شيئا انتهى. ما تخيرته من كتاب الأذكياء والحمقى والمغفلين.

‌الوليد ومسامر الخلفاء

ومما تخيرته من سلوان المطاع لابن ظفر أن الوليد ابن يزيد لما بلغه أن ابن عمه يزيد ابن الوليد بن عبد الملك قد شرد عنه القلوب واستجاش عليه أهل اليمن ونازعه في ملكه احتجب عن سمّاره ودعا في بعض الليالي خادما فقال له انطلق متنكرا حتى تقف ببعض الطرق وتأمل من يمر بك من الناس فإذا رأيت كهلا رث الهيئة يمشي مشياً هويناً وهو مطرق فسلّم عليه وقل له في أذنه: أمير المؤمنين يدعوك فأن أسرع في الإجابتة فائتني به وإن استراب فدعه واطلب غيره حتى تجد رجلا على الشرط الذي ذكرت لك فانطلق الخادم فأتاه برجل على الشرط فلما دخل الرجل على الوليد حياه بتحية الخلافة فأمره الوليد بالجلوس والدنو منه وصبر إلى أن ذهب روعه وسكن جأشه ثم اقبل عليه فقال له أتحسن المسامرة للخلفاء فقال نعم يا أمير المؤمنين فقال الوليد إن كنت تحسنها فأخبرنا ما هي فقال يا أمير المؤمنين المسامرة أخبار لمنصت وأنصات لمخبر ومفاوضة فيما يعجب ويليق فقال له الوليد أحسنت لا أزيدك امتحانا فقل أسمع لقولك فقال الكهل نعم يا أمير المؤنين ولكن المسامرة صنفان لا ثالث لهما أحدهما الإخبار بما يوافق خبرا مسموعا والثاني الإخبار بما يوافق غرضاً من أغراض صاحب المجلس وإني لم أسمع بحضرة أمير المؤمنين

ص: 174

طريقة فأنحو نحوها وألزم أسلوبها فقال الوليد صدقت وها نحن نقترح لك ما تقتفيه قد بلغنا أن رجلا من رعيتنا سعى في ضرر ملكنا فأثر سعيه وشق ذلك علينا فهل سمعت بذلك فقال الكهل نعم يا أمير المؤمنين فقال له الوليد قل الآن على حسب ما سمعت وعلى ما ترى من التدبير فقال يا أمير الممنين بلغني عن أمير المؤمنين عبد الملك ابن مروان أنه لما ندب الناس لقتال ابن الزبير وخرج بهم متوجها إلى مكة حرسها الله تعالى استصحب عمرو بن سعيد بن العاص وكان عمرو قد انطوى على فساد نية وخبث طويّة وطماعية في نيل الخلافة وكان أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان قد فطن لذلك إلا أنه كان يحترمه ولما أبعد أمير المؤمنين عن دمشق تمارض عمرو بن سعيد فاستأذن أمير المؤمنين في العود إلى دمشق فأذن له فلما دخل عمرو دمشق صعد المنبر فخطب الناس خطبة نال فيها من الخليفة واستولى على دمشق ودعا الناس إلى خلع عبد الملك فأجابوه إلى ذلك وبايعوه وحصّن بعد ذلك سور دمشق وحمى حوزتها فبلغ ذلك عبد الملك وهو متوجه إلى ابن الزبير وبلغه مع ذلك أن والي حمص قد نزع يده من الطاعة وأن أهل الثغور قد تشوفوا للخلاف فأحضر وزراءه فأطلعهم على ما بلغه وقال لهم دمشق ملكنا قد استولى عليها عمر بن سعيد وهذا عبد الله ابن الزبير قد استولى على الحجاز والعراق واليمن ومصر وخراسان وهذا النعمان بن بشير أمير حمص وزفر بن الحرث

ص: 175

أمير فلسطين قد خرجا عن الطاعة وبايعا الناس لابن الزبير وهذه المضرية بسيوفها تطالبنا بقتلى المرج فلما سمع وزراؤه مقالته ذهلت عقولهم فقال لهم عبد الملك مالكم لا تنطقون هذا وقت الحاجة إليكم فقال أفضلهم وددت أن أكون طيراً على عود من أعواد تهامة حتى تنقضي هذه الفتن فلما سمع عبد الملك مقالة صاحبه قام أمرهم بلزوم موضعهم وركب منفردا وأمر جماعة من شجعانه أن يتبعوه متباعدين ففعلوا وسار عبد الملك حتى انتهى إلى شيخ ضعيف البدن سيىء الحال وهو يجمع سمّاقا فسلم عليه عبد الملك وآنسه بحديثه ثم قال له أيها الشيخ ألك علم بنزول هذا العسكر فقال الشيخ وما سؤالك عنه فقال عبد الملك أني أردت الانتظام في سلكه فقال له أني أرى عليك سمة الرياسة فينبغي لك أن تصرف نفسك عن هذا الرأي فإن الأمير الذي أنت قاصده قد انحلّت عرا ملكه والسلطان في اضطراب أموره كالبحر إذا هاج فقال عبد الملك أيها الشيخ قد قوي عليّ جذب نفسي إلى صحبة هذا الأمير فهل لك أن ترشدني إلى رأي أتفق به عنده فلعله يكون سبب قربي منه فقال الشيخ أن هذه النازلة التي نزلت بهذا الأمير من النوازل التي لا تنفذ فيها العقول وإني لأكره أن أرد مسألتك بالخيبة فقال له عبد الله قبل جزاك الله خيراً فقال الشيخ إن هذا الخليفة خرج إلى قتال عدوه والإرادة غير قابلة لمراده والدليل على ذلك أن الله تعالى لم يرد من قصده من محاربة ابن الزبير ووثوب

ص: 176

عمرو بن سعيد على منبره واستيلائه على بيوت أمواله وسرير خلافته فإذا قصدت هذا الأمير وانتظمت في سلكه أنظر في أمره فإن رأيته قد أصر على قصده ابن

الزبير فأعلم أنه مخذول فأجنبه وإن رأيته قد رجع من حيث جاء وترك قصده الأول فأرج له النصر والسلامة. فقال عبد الملك يا شيخ وهل رجوعه إلى دمشق إلا كمسيره إلى ابن الزبير فقال الشيخ إن الذي أشكل عليك لواضح وها أنا أزيل عنك اللبس وهو أن عبد الملك إذا قصد ابن الزبير كان في صورة ظالم لأن ابن الزبير لم يطعه طاعة قط ولا وثب له على ملكة فإذا قصد ابن سعيد كان في صورة مظلوم لأنه نكث بيعته وخان أمانته ووثب على دار ملك لم تكن له ولا لأبيه من قبله بل كانت لعبد الملك ولأبيه من قبله وعمرو عليها متعد، ومن الأمثال سمين الغضب مهزول وولي الغدر معزول وسأضرب لك مثلا يشفي النفس ويزيل اللبس. زعموا أن ثعلبا كان يسمّى ظالما وكان له جحر يأوي إليه وكان مغتبطاً به فخرج يوما يبتغي ما يأكل ثم رجل فوجد فيه حية فانتظر خروجها فلم تخرج فعلم أنها استوطنته وذلك أن الحية لا تتخذ جحراً بل إذا أعجبها جحر اغتصبته وطردت من به من الحيوان ولهذا قيل فلان أظلم من حية فهذا ظلمها ولما رأى ظالم أن الحية قد استوطنت جحره ولم يمكنه السكنى معها ذهب يطلب لنفسه مأوى فانتهى به السير إلى جحر حسن الظاهر

ص: 177

في أرض منيعة ذات أشجار ملفتة وماء معين فأعجبه وسأل عنه فقالوا هذا الحجر يملكه ثعلب اسمه مفوض وأنه ورثه عن أبيه فناداه ظالم فخرج إليه ورحب به وأدخله إلى جحره وسأله عن حاله فقص عليه خبره مع الحية فرق له مفوض وقال له الموت في طلب الثأر خير من الحياة في العار والرأي عندي أن تنطلق معي إلى مأواك الذي أخذ منك غصبا حتى أنظر إليه فلعلي أهتدي إلى مكيدة تخلص بها مأواك فانطلقا معا إلى ذلك الجحر فتأمله مفوض وقال لظالم اذهب معي فبت الليلة عندي لأنظر ليلتي هذه فيما يسنح من الرأي والمكيدة ففعلا ذلك وبات مفوض مفكرا وجعل ظالم يتأمل مسكن مفوض فرأى من سعته وطيب هوائه وحصانته ما اشتد به حرصه عليه وطفق يدبر في حيلة اغتصابه ونفي مفوض عنه فلما أصبحا قال مفوض لظالم أني رأيت ذلك الجحر بعيدا من الشجر والماء فأصرف نفسك عنه وهلم أعينك على احتفار جحر في هذا المكان المشتهى فقال ظالم هذا غير ممكن لأن لي نفسا تهلك لبعد الوطن حنينا فلما سمع مفوض ما قاله ظالم وما تظاهر به من الرغبة في وطنه قال له أني أرى أن نذهب يومنا هذا فنحتطب حطبا ونربط منه حزمتين فإذا جاء الليل انطلقنا إلى بعض هذه الخيام فأخذنا قبس نار واحتملنا الحطب والقبس إلى مسكنك فنجعل الحزمتين في بابه نضرم النار فإن خرجت الحية احترقت وإن لزمت

ص: 178

الجحر قتلها الدخان فقال له ظالم هذا نعم الرأي فذهبا واحتطبا حزمتين ولما جاء الليل انطلق مفوض إلى ظاهر تلك الخيام فأخذ قبسا فعمد ظالم إلى إحدى الزمتين فأزالها إلى موضع غيبها فيه ثم جر الحزمة الآخرة إلى باب مسكن مفوض فسده بها سدا محكما وقدر في نفسه أن مفوضا إذا أتى الجحر لم يمكنه الدخول إليه لحصانته فإذا يئس منه ذهب فنظر لنفسه مأوى وكان ظالم قد رأى في منزل مفوض طعاماً أدخره لنفسه فعول ظالم على أنه يقتات به إن حاصره مفوض وهو من داخل وأذهله الشره والحرص عن فساد هذا الرأي ثم إن مفوضا جاء بالقبس فلم يجد ظالما ولا وجد الحطب فظن أن ظالما قد حمل الحزمتين تخفيفا عنه وأنه سبقه إلى مسكنه الذي فيه الحية اشفاقا على مفوض فشق ذلك عليه وظهر له من الرأي أن يبادر إليه ويلحقه ليحمل معه الحطب فوضع القبس بالقرب من الحطب ولم يشعر أن الباب مسدود به لشدة الظلمة فما بعد عن الباب إلا وضوء النار وشدة الدخان قد لحقا به فعاد وتأمل الباب فرأى الحطب قد صار ناراً فعلم مكيدة ظالم ورآه قد احترق ن داخل الجحر وحاق به مكره فقال هذا الباحث على حتفه بظلفه ثم إن مفوضا صبر حتى انطفأت النار فدخل جحره فأخرج جثة ظالم فألقاها واستوطن جحره آمنا فهذا المثل ضربته لك لأنه ملائم لفعل عمرو بن سعيد في بغيه ومخادعته عبد الملك وحيلته في أخذ دار ملكه وتحصينها منه وهذا

ص: 179

كفعل ظالم مع مفوض والله أعلم فلما سمع عبد الملك حكمة الشيخ في ضرب أمثاله سر بذلك سروراً عظيما ثم أقبل عليه فقال جزيت عني خيراً وأني أريد أن تجعل بيني وبينك موعداً وتعرفني مكانك لألقاك به بعد يومي هذا فقال الشيخ وما تريد بذلك فقال له عبد الملك إني أريد مكافأتك على ما كان منك فقال له الشيخ إني أعطيت الله عهداً أن لا أقبل منة

لبخيل فقال عبد الملك ومن أين علمت أني بخيل فقال لأنك أخرت صلتي مع القدرة فما عليك لو وصلتني ببعض ما عليك فقال عبد الملك أقسم بالله لقد ذهلت ثم نزع سيفه وقال له أقبل مني هذا واحرص عليه فقيمته عشرون ألف درهم فقال الشيخ إني لا أقبل صلة ذاهل فدعني وربي الذي لا يذهل ولا يبخل فهو حسبي فلما سمع عبد الملك كلام الشيخ عظم في عينه وعلم فضله في دينه فقال له أنا عبد الملك فأرفع حوائجك إلي فقال الشيخ وأنا عبد الملك فهلم نرفع حوائجنا إلى من أنا وأنت له عبدان فانطلق عبد الملك وعمل برأي الشيخ فأنجح الله قصده وانتصر على أعدائه فلما سمع الوليد ما أخبره به الكهل استرجح عقله واستظرف أدبه واستحسن محاضرته وسأله عن نفسه فتسمى له وانتسب فلم يعرفه الوليد فاستحى منه وقال له: من جهل مثلك في رعيته ضاع. فقال له الكهل: يا أمير المؤمنين إن الملوك لا تعرف إلا من تعرف إليها ولزم أبوابها فقال له الوليد صدقت ثم أمر له بصدقة معجلة وعهد إليه في ملازمته فكان يتمتع بأدبه وحكمته إلى أن كان من أمر الوليد ما هو مشهور والله أعلم. قال عبد الملك ومن أين علمت أني بخيل فقال لأنك أخرت صلتي مع القدرة فما عليك لو وصلتني ببعض ما عليك فقال عبد الملك أقسم بالله لقد ذهلت ثم نزع سيفه وقال له أقبل مني هذا واحرص عليه فقيمته عشرون ألف درهم فقال الشيخ إني لا أقبل صلة ذاهل فدعني وربي الذي لا يذهل ولا يبخل فهو حسبي فلما سمع عبد الملك كلام الشيخ عظم في عينه وعلم فضله في دينه فقال له أنا عبد الملك فأرفع حوائجك إلي فقال الشيخ وأنا عبد الملك فهلم نرفع حوائجنا إلى من أنا وأنت له عبدان فانطلق عبد الملك وعمل برأي الشيخ فأنجح الله قصده وانتصر على أعدائه فلما سمع الوليد ما أخبره به الكهل استرجح عقله واستظرف أدبه واستحسن محاضرته وسأله عن نفسه فتسمى له وانتسب فلم يعرفه الوليد فاستحى منه وقال له: من جهل مثلك في رعيته ضاع. فقال له الكهل: يا أمير المؤمنين إن الملوك لا تعرف إلا من تعرف إليها ولزم أبوابها فقال له الوليد صدقت ثم أمر له بصدقة معجلة وعهد إليه في ملازمته فكان يتمتع

ص: 180

بأدبه وحكمته إلى أن كان من أمر الوليد ما هو مشهور والله أعلم.

ومما تخيرته من عجائب سلوان المطاع قيل لما عزم سابور ابن هرمز على الدخول إلى بلاد الروم متنكراً نهاه نصحاؤه وعقلاء وزرائه وحذروه من ذلك فعصاهم وكان يقال أوزر الناس وزراء الأحداث من الملوك وعشاق الفتيان من المشايخ ثم إن سابور توجه نحو بلاد الروم واستصحب وزيرا كان له ولأبيه من قبله وكان من أدهى الناس في الحزم وسداد الرأي واختلاف الأديان ولغاتها وكان من المتبحرين في العلوم والمبرزين بالمكايد فسلم إليه في سفره وأمر أن لا يتجاوزه في السير ولا يبعد عنه بحيث يراعي جميع أحواله في ليله ونهاره فتوجها نحو الشام ولبس ذلك الوزير زي الرهبان وتكلم بلسانهم وتحرف بصناعة الطب الجرائحي وكان معه الدهن الصيني الذي إذا دهنت به الجراحات ختمت بسرعة واندملت فكان ذلك الوزير في مسيره نحو بلاد الروم يداوي الجراحات بأدوية يضيف إليها يسيراً من ذلك الدهن فتبرأ بسرعة وإذا عني بأحد من ذوي الأقدار داواه بذلك صرفا فيبرأ على الفور ولا يأخذ على ذلك أجرة فانتشر ذكره في بلاد الروم وعقدت عليه الخناصر وأقبل عليه الناس وكان مع إنفراده عن سابور يراعي جميع أحواله فلم يزالا كذلك حتى طافا جميع الشام وقصدا القسطنطينية فقدماها فذهب الوزير إلى البطريرك وتفسير هذا الأسم أبو الآباء

ص: 181

فاستأذن عليه فأذن له وسأله عن قصده فأخبره أنه هاجر إليه ليتشرف بخدمته ويدخل في أتباعه ثم أهدى إليه هدية نفيسة حسن موقعها من البطرك فقربه وأكرمه وأحسن نزله وألحقه ببطانته وأختبره فوجده عالما بدينهم بل مبرزا فأعجب به غاية الإعجاب وجعل الوزير يتأمل أحوال البطرك ليصحبه بما يلائمه وينفق عنده فوجده مائلاً إلى الفكاهات معجبا بنوادر الأخبار وكان الوزير في ذلك غاية فأخذ يتحفه بكل نادرة غريبة وملحة عجيبة فصار البطرك لم يطق عن الوزير صبرا لأنه حلا لعينه وحل بقلبه وجعل الوزير مع ذلك يعالج الجراحات ولا يأخذ على ذلك عوضا فعظم قدره في الناس هذا وهو يتعاهد أحوال سابور في كل وقت إلى أن صنع قيصر وليمة وحضر الناس إليها على طبقاتهم فأراد سابور حضورها ليطلع على أحوال قيصر وعلى رتبته في قصره وعظم وليمته فنهاه وزيره عن ذلك فعصاه وتزيا بزي ظن أنه يتستر به ودخل دار قيصر مع من حضر الوليمة وكان قيصر من شدة احتراسه من سابور وخيفته من أن يطرق بلاده وتحسن له همته العالية وحدَّة الشبيبة ذلك، صوّر سابور في مجلسه وعلى ستور بيته وعلى فرشه وفي آلات أكله وشربه، ولما دخل سابور يوم الوليمة واستقر في مجلسه وأكل مع من حضر أتوا بالشراب في كؤوس البلور والذهب والفضة والزجاج المحكم

ص: 182

وكان في المجلس رجل من حكماء الروم ودهاتهم فلما وقعت عينه على سابور أنكره وجعل يتأمل شخص فرأى عليه مخايل الرياسة ولمازاد في تأمله وصل إليه دور الكاس فتأمل الصورة التي على الكأس وراجع النظر في سابور فما شك أن الصورة التي على الكأس وضعت على مثاله وغلب على ظنه أنه سابور فأمسك الكأس في يده إمساكا طويلاً ثم قال رافعا صوته إن هذه الصورة التي على هذا الكأس تخبرني أخباراً عجيباً فقيل له وما الذي تخبرك فقال تخبرني أنّ الذي هي مثال له معنا في مجلسنا هذا ثم نظر إلى سابور وقد تغير لونه حين سمع مقالته فحقق ظنه فبلغ ذلك قيصر فادناه وقربه وسأله فأخبره أن سابور معه في مجلسه وأشار إليه فأمر قيصر بالقبض عليه وقرب من قيصر فسأله عن نفسه فتعلل بضروب من العلل لم تقبل فقال ذلك المتفرس أيها الملك لا تقبل قوله فإنه سابور لا محالة فهدده قيصر بالقتل فاعترف أنه سابور فحبسه قيصر مكرما وأمر أن يعمل له من جلود البقر صورة بقرة وتطبق عليه الجلود سبع طبقات ويتخذ لها باب وتجعل لها كوة لأجل المبال ويستقر سابور بها وتجمع يداه إلى عنقه بجامعة من الذهب ذات سلسلة يمكنه معها تناول ما يعمل له من طعام وشراب وغير ذلك فلما دخل سابور جوف تلك الصورة جمع قيصر جنوده واستعد لغزو بلاد فارس ووكل بسابور وهو داخل البقرة مائة رجل من ذوي البأس والشدة

ص: 183

يحملونها وصرف أمره إلى المطران وهو خليفة البطرك فكانت تلك الصورة تحمل بين يديه فإذا نزل العسكر نزلت الصورة التي فيها سابور وسط العسكر وضربت عليها قبة وتضرب للمطران قبة مجاورة لقبة سابور وسار قيصر محتفلا بجنوده وعساكره وقد عزم على خراب فارس ولما جد السير قال وزير سابور للبطرك أيها

الأب إنما استفدت بخدمتك الرغبة في مصالح الأعمال ولا عمل أصلح من تنفيس كربة عن مجهود وجر منفعة إلى مضطر وقد علمت اجتهادي في مداواة الجرحى وإن نفسي تنازعني إلى صحبة الملك قيصر في سفره هذا لا غير فلعل الله تعالى يستنقذ بي نفسا صالحة أو يشوقني إلى مداواة جريح من العسكر ليتقدم قلبي بهذه المثوبات، فكره البطرك ذلك وقال له قد علمت أنني لا أستطيع فراقك فكيف تطالبني بالسفر البعيد قال فلم يزل وزير سابور يتضرع إلى البطرك إلى أن استحى منه وسمح له بذلك وزوده وكتب معه إلى المطران يخبره برتبته عنده وأن يحله في أعلى المراتب ويستضيء برأيه إذا أشكل عليه أمر فقدم وزير سابور على المطران فعرف له حقه وأنزله في قبته وجعل زمام أمره ونهيه بيده وصار الوزير يستميله بما يميل إليه ويطرفه في كل ليلة بطرف الأخبار رافعا بها صوته ليسمع سابور حديثه فيتسلى بذلك ويدس في أحاديثه ما يريد أن يعلمه به ويبطنه من الأسرار فكان سابور يجد بذلك راحة عظيمة

ص: 184

وكان الوزير قد أعد لخلاص سابور أنواعا من المكايد رتبها عندما قدم على المطران منها أنه امتنع عن مؤاكلة المطران وأخبره أنه لا يخلط بطعام البطرك غيره لأجل بركته فكان إذا حضر طعام المطران أخرج هو ذلك الزاد الذي معه وأنفرد بالأكل وحده فلم يزل قيصر سائرا بجنوده حتى بلغ أرض فارس فأكثر فيها القتل والسبي وتغوير المياه وقطع الأشجار وخراب القرى والحصون وهو مع ذلك يواصل السير ليستولي على دار ملك سابور قبل أن يشعروا فيملكوا عليهم رجلا منهم ولم يكن للفرس هم إلا الفرار من بين يديه والاعتصام بالمعاقل والحصون فلم يزل قيصر على تلك الحال حتى بلغ مدينة سابور وقرار ملكه فأحاط بها ونصب عليها آلات الحصار ولم يكن عندها قوة ولا منعة في دفعه أكثر من ضبط الأسوار والقتال عليها وكل ذلك فهمه سابور من كنايات الوزير في محاضراته للمطران ولكن لم يسمع له كلمة من حين سجنه قيصر في تلك الصورة فلما علم سابور أن قيصر قد ثقلت وطأته وأشرف على فتح البلد عيل صبره وساء ظنه ويئس من الحياة فلما جاء الموكل بطعامه قال له إن هذه الجامعة قد نالت مني منالا ضعفت قوتي عن احتماله فإن كنتم تريدون بقاء نفسي فنفسوا عني منها واجعلوا بينها وبين يدي وعنقي خرقا من الحرير فجاء الموكل بالطعام إلى المطران وأعلمه بالذي قاله سابور فسمعه الوزير وعلم أن سابور قد جزع وساء ظنه وفطن

ص: 185

لما أراد سابور فلما جنَّ الليل وجلس لمسامرة المطران قال له ذكرت الليلة حديثا عجيبا ما ذكرته منذ كذا وكذا وددت أنني كنت حدثت به البطرك قبل سفري فقال له المطران إني أرغب إليك أن تحدثني الليلة أيها الراهب الحكيم فقال الوزير حبا وكرامة ثم اندفع يحدثه رافعا صوته ليسمع سابور ويفهم الغرض ويستأنس فقال اعلم أيها المطران أنه كان ببلادنا فتى وفتاة ليس في زمانهما أحسن منهما اسم الفتى عين أهله واسم الفتاة سيدة الناس وكانا زوجين مؤتلفين ولا يبتغي أحدهما بالآخر بدلا ثم أن عين أهله جلس يوما مع أصحابه فتذاكروا النساء إلى أن ذكر أحدهم امرأة أطنب في وصفها وبالغ، وذكر أن اسمها سيدة الذهب فوقع في قلب عين أهله حبها فسأل الواصف عن منزلها فذكر أنها ببلد بالقرب من بلده ففكر عين أهله في أمرها وخامره حبها فانطلق إلى البلد التي هي ساكنة بها وسأل عن منزلها فعرفه ولم يزل يتردد إلى بابها حتى رآها فرأى منظرا حسناً ولكن لم تكن بأحسن من امرأته بل ضرورات النفس حب التنقل في الأحوال ولازم عين أهله المعاودة إلى منزل سيدة الذهب حتى فطن له بعلها وكان جافيا غليظ الطبع شديد البطش يسمى الذئب فرصد عين أهله حتى مر به فلما رآه وثب عليه وقتل فرسه ومزق ثيابه واستعان بجماعته عليه فاحتملوه إلى داخل دار الذئب وربطوه إلى سارية في الدار ووكل به عجوزاً مقطوعة اليد جدعاء عوراء شوهاء فلما جن

ص: 186

عليه الليل أوقدت تلك العجوز النار بالقرب منه وجعلت تصطلي فذكر عين أهله ما كان فيه من السلامة والعافية والرفاهية والعز فبكى بكاء شديداً فأقبلت عليه العجوز وقالت له ما ذنبك الذي أوجب هذا فقال عين أهله ما علمت لي ذنباً فقالت العجوز هكذا قال الفرس للخنزير. وكذب فقال عين أهله للعجوز وما الذي كذب فيه الفرس عند الخنزير فقالت له العجوز ذكروا أن فرساً كان لأحد الشجعان فكان يبالغ في إكرامه ويحسن

إليه ويعده لمهماته ولا يصبر عنه ساعة وكان يخرج به في صحبته كل يوم فيزيل لجامعه وسرجه ويطيل رسنه فيتمرغ ويرعى في كل مرج مخصب حتى يرتفع النهار فيرده وهو على يده ثم أنه خرج يوماً إلى المرج راكباً ونزل عنه فلما استقرت قدماه على الأرض نفر الفرس وجمح ومر يعدو بسرجه ولجامه فطلبه الفارس يومه كله فأعجزه وغاب عن عينه عند غروب الشمس فرجع الفارس إلى أهله وقد يئس من الفرس ولما انقطع الطلب عن الفرس وأظلم عليه الليل جاع وطلب أن يرعى فمنعه اللجام ورام أن يتمرغ فمنعه السرج ورام أن يضطجع فمنعه الركاب فبات بشر فلما أصبح ذهب يبتغي فرجا مما هو فيه فاعترضه نهر فدخله ليقطعه إلى جهته الأخرى فإذا هو بعيد القعر فسبح فيه كان حزامه ولببه من جلد ما اتقن في دبغه فلما خرج أصابت الشمس الحزام واللبب فيبسا واشتد عليه فورم موضع اللبب والمحزم واشتد به الضرر وقوي به الجوع ومضت عليه أيام فتزايد

ص: 187

ضعفه وعجز عن المشيء فمر به خنزير فهم بقتله فرآه ضعيفا جداً فسأله عن حاله فأخبره بما هو فيه من أضرام اللجام واللبب والحزام وسأله أن يصنع معه معروفاً ويخلصه مما هو فيه فسأله الخنزير عن الذنب الذي أوقعه في تلك العقوبة فزعم الفرس أن لا ذنب له فقال له الخنزير كذبت ولو صدقت خلصتك مما أنت فيه، ومن جهل ذنوبه وأصرّ عليها لم يرج فلاحه فحدثني يا فرس عن ابتداء أمرك فيما نزل بك وعن حالك قبل ذلك فصدقه الفرس وأخبره بجميع أمره وكيف كان عند فارسه مكرما وكيف فارقه وما لقي في طريقه إلى حين اجتماعه بالخنزير فقال الخنزير قاتلك الله لقد كفرت النعم وأكثر الذنوب، منها خلافك لفارسك الذي بالغ في الإحسان إليك وأعدك لمهماته ومنها كفرك إحسانه ومنها تعديك على ما ليس لك وهو السرج واللجام ومنها اساءتك لنفسك بتعاطيك التوحش الذي لست من أهله ولا لك عليه مقدرة ومنها إصرارك على ذنبك وكنت قادراً على العود إلى فارسك قبل أن يوهنك اللجام والجوع والحزام واللبب بالألم فقال الفرس للخنزير قد عرفت ذنبي فانطلق عني ودعني فإني أستحق أضعاف ما أنا فيه فقال الخنزير بعد أن عرفت وعدت على نفسك باللوم واخترت لها العقوبة على جهلها تعين الشروع في خلاصك ثم إن الخنزير قطع عذرا اللجام فسقط وقطع الحزام فنفس عن الفرس قال فلما سمع عين أهله ما خاطبته به العجوز قال لها صدقت فيما نطقت

ص: 188

قد أدبتيني فتأدبت ثم أعلمها بخبره ثم رغبها في أن تمنَّ عليه بالخلاص كما فعل الخنزير بالفرس فقالت العجوز الذي سألتني لا يمكنني فعله الآن ولعلي أجد لك فرجا ومخرجا عن قريب فعليك بالصبر وأمسكت العجوز عن مخاطبته قال فلما انتهى الوزير في حديثه إلى هذه الغاية أقبل على المطران وقال إني أحس في أعضائي فتوراً وفي رأسي صداعا ولم أقدر الليلة على إتمام الحديث ولعلي أكون الليلة القابلة نشيطا إلى ذلك فنهض إلى مضجعه فجعل سابور يتأمل حديث الوزير ويتأمل الأمثال التي ضربها له ودسها في المسامرة ففهم أن الوزير كنَّى عن سابور بعين أهله وكنَّى عن مملكته بسيدة الناس وكنَّى عن بلاد الروم بسيدة الذهب وكنَّى عن قيصر بالذئب الذي ذكر أنه بعل سيدة الذهب وكنَّى عن طموح نفس سابور إلى مملكة الروم بطموح نفس عين أهله إلى رؤية سيدة الذهب وكنَّى عن أخذ قيصر له بقبض الذئب على عين أهله وكنَّى عن نفسه وحاله وعجزه بالعجوز وأنه ساع في خلاصه فاستروح سابور ريح الفرج فسكنت نفسه ووثق بوزيره فلما كانت الليلة القابلة وتعشى المطران وأخذ مقعده للمسامرة قال الوزير أيها الحكيم الراهب أخبرني عن ما كان من أمر عين أهله وهل خلصته العجوز من وثاق الذئب أم لا فقال الوزير سمعا وطاعة فشرع في حديثه وقال إن عين أهله أقام على حالته عدة أيام وكل يوم يدخل

ص: 189

عليه الذئب ويهدده بالقتل ويزيده قيداً ثم إن العجوز جاءته في بعض الليالي وأضرمت لها بالقرب منه ناراً وجلست تصطلي ثم أقبلت على عين أهله وقالت له ساعدني على خلاصك بالصبر فقال لها عين أهله وهان على الطليق ما لقي الأسير فقالت العجوز حداثة سنك قصرت فهمك عن إدراك الحقائق أفتسمع حديثاً لك فيه سلوة قال نعم فقالت العجوز ذكروا أن بعض التجار كان له ولد وكان مشغوفا به فأتحفه بعض معارفه بخشف غزال فعلق قلب الصبي بذلك الخشف الصغير فكان لا يفارقه وجعلوا في جيده حليا نفيساً وربطوا له شاة ترضعه حتى

اشتد ونجم قرناه فأعجبه بريقهما وسوادهما وقال لأهله ما هذا الذي ظهر في رأس الخشف قالوا قرناه وقالوا له إنهما سيكبران ويطولان فقال الغلام لأبيه إني أحب أن أرى غزالا كبيرا له قرنان كاملان فأمر أبوه بعض الصيادين أن يصيد له غزالا كبيرا فأحضر له غزالا قد استكمل قوة ونموا فأعجب الغلام وحلى جيده أيضا فتأنس الغزال الكبير بالخشف الصغير للمجانسة الطبيعية فقال الخشف للغزال ما كنت أظن لي في الأرض شكلا قبل أن أراك فقال له الغزال إن أشكالك كثيرة فقال الخشف وأين هي فأخبره الغزال بتوحشها وانفرادها في فلوات الأرض وتناسلها فارتاح الخشف لذلك وتمنى أن يراها فقال له الغزال هذه أمنية لا خير لك فيها لأنك نشأت في رفاهية من العيش ولو تحصلت على ما تمنيت لندمت

ص: 190

فقال الخشف للغزال لابد من اللحاق بأشكالي فلما رأى الغزال أن الخشف غير راجع لم يجد بدا من قضاء اربه لحرمة الألفة فرصدا وقتا وخرجا معا حتى لحقا بالصحراء فلما عاينها الخشف فرح ومرح ومر يعدو ولا يلتفت إلى ما وراءه فسقط في اخدود ضيق قد قطعه السيل فانتظر أن يأتيه الغزال فيخلصه فلم يأته وأما ولد التاجر فإنه تنكد لفقد الخشف والغزال وأشفق أبوه فاستدعى كل من يعاني الصيد فعرفهم القصة وكلفهم طلب الخشف والغزال ووعدهم بالمكافأة على ذلك وركب التاجر معهم وفرق أتباعه على أبواب المدينة ينتظرون من يأتي من الصيادين وانطلق هو وعبيده حتى دخلوا الصحراء فرأوا على بعد رجلا منكبا على شيء بين يديه فأسرعوا نحوه فرأوا صيادا قد أوثق غزالا كبيرا وقد عزم على ذبحه فتأمله التاجر فإذا هو الغزال الكبير الذي لولده فخلصه من الصياد وأمر عبيده ففتشوه فوجدوا معه الحلي الذي كان على الغزال فسأله كيف ظفر به وأين وجده فقال إني بت في هذه الصحراء ونصبت شركا ومكثت قريبا منه فلما أصبحت مر عليَّ الغزال ومعه خشف يعدو ويمرح في جهة غير جهة الشرك وجاء هذا الغزال يمشي حتى حصل فيه فقنصته وقصدت به المدينة فلما بلغت هذا الموضع ظهر لي أني مخطىء في إدخال هذا الظبي إلى المدينة حيا لعلمي أنه إذا رؤي حيا طولبت بما كان عليه من الحلي فرأيت أن أذبحه وأدخل به لحما فهذا خبري فقال له التاجر لقد جنى عليك

ص: 191

طمعك الخيبة فماذا عليك لو اطلقته وخلصت ما كان عليه من الحلي ثم إن التاجر أرسل الغزال إلى ولده مع أحد عبيده وقال للصياد ارجع معي فارني الجهة التي رأيت الخشف سعى نحوها فرجع به إلى تلك الجهة فسمع من قريب صوته فصاح به التاجر فعرف الخشف صوته فصرَّت فسمع التاجر الصوت فأدركه فإذا هو في ذلك الأخدود ملقى فأخذوه ووهب التاجر للصياد ما رضي به وصرفه ورجع التاجر بالخشف إلى ولده فكملت مسرة الغلام لذلك وجهد أهله بكل حيلة أن يجمعوا بين الخشف والغزال فلم يقدروا على ذلك فبينما الخشف نائم في كناسه إذ دخل عليه الغزال فايقظه وعاتبه على نفاره منه فقال الخشف أما أنت الذي غدرت وقد علمت احتياجي في غربتي إلى معاونتك فقال له والله ما أخرني عن ذلك إلا وقوعي في شرك الصياد وقص عليه القصة فقبل عذره وعادا إلى الألفة كما كانا فلما سمع عين أهله خطاب العجوز فهم كنايتها عن عجزها في تخليصه أمسك عن خطابها قيل فلما انتهى وزير سابور من حديثه إلى هذا الحديث سكت فقال له المطران أيها الحكيم الراهب ما هذا السكوت فقال الوزير قد عاودني ذلك الفتور الذي أجده في أعضائي فقال المطران لا تفعل فإن ذلك يشق علي فقال الوزير نعم أفعل ذلك طلبا لمرضاتك ثم اندفع يحدثه قال وبات عين أهله تلك الليلة في أضيق

ص: 192

الأحوال ولما اصبح دخل عليه الذئب فنال منه وهدده بالقتل وخرج من عنده فجعل يعلل نفسه بقية نهاره ويمنيها بالفرج فلما أقبل في تلك الليلة فأقبل على البكاء حتى مضى جانب من الليل ثم قال للعجوز لم أحظ في هذه الليلة بمؤانستك فقالت له قد جرحت قلبي لقولك لي هان على الطليق ما لقي الأسير لو اعتبرت باطن حالي لعلمت أن أسري اشد من أسرك فاستمع لي أحدثك. واعلم أيها الفتى أني كنت زوجة لبعض الفرسان وكان لي محبا فكنت معه في ارغد عيش وولدت له أولادا كثيرة فغضب الملك على زوجي لأمر كان منه فقتله وقتل أولادي الذكور وباعني أنا وبناتي فاشتراني هذا الفارس الذي عدا عليك واحتملني إلى هذه البلدة وأساء إلى وكلفني من العمل ما لا أطيق ولي معه على هذه الحالة سبع سنين ثم

فررت منه فظفر بي فقطع يديد وعود عسفي ومضرتي وقد عزمت على تخليصك الليلة وما أشك أنه يقتلني وجل قصدي ذلك لأجل الراحة مما أنا فيه ولأجل ذلك أنا أكثر الدخول والخروج إليك وأنا في غاية الحيرة من الفزع والجزع ثم أنها فتحت قيود عين أهله وقطعت وثاقه وتناولت سكينا لتقتل نفسها فقال لها عين أهله وإن تركتك تقتلين نفسك فقد شاركتك في دمك وانتزع السكين من يدها وقال لها قومي اذهبي معي لكي ننجو معا أو نعطب معا فقالت إن كبر سني وضعف بصري يمنعاني من اتباعك فقال لها عين أهله إن الليل متسع والموضع الذي أنا فيه قريب ولي قوة على حملك فقالت له العجوز إذا عزمت على هذا فإني لا أحوجك إلى حملي وخرجا معا فلم ينقض الليل حتى بلغا حيث أمنا فجزاها عين أهله خيرا على ما صنعت واتخذها أمّا، فهذا ما بلغني من ذلك فقال المطران ما أعجب أحاديثك أيها الحكيم ولقد وددت أني لا أفارقك أبدا ونهض كل واحد منهما إلى مضجعه وبات سابور يتصفح حديث وزيره ويتأمل أمثاله ففهم أن الخشف مثل سابور وأن الغزال الكبير مثل الوزير وأن خروج الخشف مع الغزال إلى الصحراء وحصول الخشف في الأخدود مثل لصحبة سابور بوزيره لتأخره عن استنقاذه وتحقق أن الوزير قد عزم على خلاصه والخروج به إلى المدينة ليلا وأن المدينة قريبة منهما وأنه يحمله إن عجز عن المشي فأيقن سابور بالفرج ولما كانت الليلة القابلة تلطف وزير سابور حتى دخل الخيمة التي يطبخ بها الطعام للمطران وبها الموكلون بقبة سابور نائمون ينتظرون الطعام فتحيل إلى أن ألقى في الطعام مرقدا قوي الفعل ولما حضر طعام المطران انفرد الوزير بأكل زاده على ما جرت به العادة فلم تكن إلا ساعة حتى صرع القوم فبادر الوزير إلى فتح باب البقرة واستخرج سيده وأزال الجامعة عن عنقه ويديه وتلطف حتى أخرجه من عسكر قيصر وقصد به المدينة فانتهيا معا إلى سورها فصرخ بهم الموكلون فتقدم الوزير إليهم وأمرهم بخفض أصواتهم وأعلمهم بسلامة الملك سابور ثم عرفهم نفسه فابتدروا لهما وأدخلوهما المدينة فقويت نفوس أهلها وأمرهم سابور بالاجتماع وفرق فيهم السلاح وأمرهم أن يأخذوا أهبتهم فإذا ضربت نواقيس النصارى الضرب الأول يخرجون من المدينة ويفترقون على عسكر الروم فإذا ضربت النواقيس الضرب الثاني يحملون بأجمعهم فامتثلوا أمره ثم أن سابور انتخب كتيبة عظيمة فيها شجعان أساورته ووقف معهم ما يلي الجهة التي فيها أخبية قيصر فلما ضربت النواقيس الضرب الثاني حملوا من كل جهة وقصد سابور أخبية قيصر ولم يكن الروم متأهبين لعلمهم بضعف الفرس عن مقاومتهم وسد أبوابهم فما شعروا حتى دهموهم وأخذ سابور قيصر أسيرا وغنم جميع ما في عسكره واحتوى على جميع خزائنه ولم ينج من جنوده إلا اليسير ثم عاد سابور إلى مدينته ودار مملكته فقسم الغنائم بين أهل عسكره وأحسن إلى حفظة ملكه وفوض جميع أموره إلى الوزير ثم أنه أحضر قيصر فلاطفه وأكرمه وقال له إني مبق عليك كما أبقيت علي وغير مجاز لك على التضييق ولكن آخذك بإصلاح ما أفسدت من جميع ملكي فتبني ما هدمت وتغرس جميع ما قلعت وتطلق كل ما عندك ما أسارى الفرس. فضمن له جميع ذلك ووفى به فلما أتم سابور ما أراد من ذلك كله أحسن إلى قيصر وأطرفه وجهزه إلى دار ملكه واستمر قيصر على مهادنته والانقياد إلى طاعته انتهى. فظفر بي فقطع يديد وعود عسفي ومضرتي وقد عزمت على تخليصك الليلة وما أشك أنه يقتلني وجل قصدي ذلك لأجل الراحة مما أنا فيه ولأجل ذلك أنا أكثر الدخول والخروج إليك وأنا في غاية الحيرة من الفزع والجزع ثم أنها فتحت قيود عين أهله وقطعت وثاقه وتناولت سكينا لتقتل نفسها فقال لها عين أهله وإن تركتك تقتلين نفسك فقد شاركتك في دمك وانتزع السكين من يدها وقال لها قومي اذهبي معي لكي ننجو معا

ص: 193

أو نعطب معا فقالت إن كبر سني وضعف بصري يمنعاني من اتباعك فقال لها عين أهله إن الليل متسع والموضع الذي أنا فيه قريب ولي قوة على حملك فقالت له العجوز إذا عزمت على هذا فإني لا أحوجك إلى حملي وخرجا معا فلم ينقض الليل حتى بلغا حيث أمنا فجزاها عين أهله خيرا على ما صنعت واتخذها أمّا، فهذا ما بلغني من ذلك فقال المطران ما أعجب أحاديثك أيها الحكيم ولقد وددت أني لا أفارقك أبدا ونهض كل واحد منهما إلى مضجعه وبات سابور يتصفح حديث وزيره ويتأمل أمثاله ففهم أن الخشف مثل سابور وأن الغزال الكبير مثل الوزير وأن خروج الخشف مع الغزال إلى الصحراء وحصول الخشف في الأخدود مثل لصحبة سابور بوزيره لتأخره عن استنقاذه وتحقق أن الوزير قد عزم على خلاصه والخروج به إلى المدينة ليلا وأن المدينة قريبة منهما وأنه يحمله إن عجز عن المشي فأيقن سابور بالفرج ولما كانت الليلة القابلة تلطف وزير سابور حتى دخل الخيمة التي يطبخ بها الطعام للمطران وبها الموكلون بقبة سابور نائمون ينتظرون الطعام فتحيل إلى أن ألقى في الطعام مرقدا قوي الفعل ولما حضر طعام المطران انفرد الوزير بأكل زاده على ما جرت به العادة فلم تكن إلا ساعة حتى صرع القوم فبادر الوزير

ص: 194

إلى فتح باب البقرة واستخرج سيده وأزال الجامعة عن عنقه ويديه وتلطف حتى أخرجه من عسكر قيصر وقصد به المدينة فانتهيا معا إلى سورها فصرخ بهم الموكلون فتقدم الوزير إليهم وأمرهم بخفض أصواتهم وأعلمهم بسلامة الملك سابور ثم عرفهم نفسه فابتدروا لهما وأدخلوهما المدينة فقويت نفوس أهلها وأمرهم سابور بالاجتماع وفرق فيهم السلاح وأمرهم أن يأخذوا أهبتهم فإذا ضربت نواقيس النصارى الضرب الأول يخرجون من المدينة ويفترقون على عسكر الروم فإذا ضربت النواقيس الضرب الثاني يحملون بأجمعهم فامتثلوا أمره ثم أن سابور انتخب كتيبة عظيمة فيها شجعان أساورته ووقف معهم ما يلي الجهة التي فيها أخبية قيصر فلما ضربت النواقيس الضرب الثاني حملوا من كل جهة وقصد سابور أخبية قيصر ولم يكن الروم متأهبين لعلمهم بضعف الفرس عن مقاومتهم وسد أبوابهم فما شعروا حتى دهموهم وأخذ سابور قيصر أسيرا وغنم جميع ما في عسكره واحتوى على جميع خزائنه ولم ينج من جنوده إلا اليسير ثم عاد سابور إلى مدينته ودار مملكته فقسم الغنائم بين أهل عسكره وأحسن إلى حفظة ملكه وفوض جميع أموره إلى الوزير ثم أنه أحضر قيصر فلاطفه وأكرمه وقال له إني مبق عليك كما أبقيت علي وغير مجاز لك على التضييق ولكن آخذك بإصلاح ما أفسدت من جميع ملكي فتبني ما هدمت وتغرس جميع ما قلعت وتطلق كل ما عندك ما أسارى الفرس. فضمن

ص: 195

له جميع ذلك ووفى به فلما أتم سابور ما أراد من ذلك كله أحسن إلى قيصر وأطرفه وجهزه إلى دار ملكه واستمر قيصر على مهادنته والانقياد إلى طاعته انتهى.

ومن لطائف المنقول قصة أرينب بنت اسحق زوج عبد الله بن سلام كان عبد الله بن سلام واليا بالعراق من قبل معاوية وكانت أرينب بنت اسحق زوجا له وهي من أجمل نساء عصرها وأحسنهن أدبا وأكثرهن مالا وكان يزيد ابن معاوية قد هام بجمالها وأدبها على السماع وبما بلغه عنها من حسن الخلق والخُلق وفتن بها فلما عيل صبره خص بسره خصيصا بمعاوية اسمه رفيف فذكر ذلك رفيف لمعاوية وذكر شدة شغف يزيد بها فبعث معاوية إلى يزيد فاستفسره عن أمره فبث له شأنه فقال معاوية: مهلا يا يزيد قال علام تأمرني بالمهل وقد انقطع منها الأمل فقال معاوية وأين حجاك ومروءتك فقال له يزيد قد عيل الحجى ونفد الصبر قال يا بني ساعدني على أمرك بالكتمان والله بالغ أمره وكانت أرينب بنت اسحق قد سارت بذكر جمالها الركبان وضربت بها الأمثال فأخذ معاوية في الحيلة حتى يبلغ يزيد رضاه وينال غرضه ومناه فكتب إلى عبد الله ابن سلام يستحثُّه على الحضور لمصلحة عينّها له وكان معاوية يومئذ بالشام أبو هريرة وأبو الدرداء صاحبا الرسول صلى الله عليه وسلم فلما قدم عليه عبد الله بن سلام الشام أعد له معاوية منزلا حسنا ونقله إليه وبالغ في إكرامه ثم قال لأبي هريرة وأبي الدرداء أن ابنتي قد بلغت وأريد انكاحها وقد رضيت

ص: 196

عبد الله بن سلام لدينه وشرفه وفضله وأدبه وقد كنت جعلت لها في نفسها شورى ولكن أرجو أن لا تخرج عن رأيي إن شاء الله تعالى فخرجا من عنده متوجهين إلى منزل عبد الله بن سلام بالذي قال لهما معاوية ثم دخل معاوية على ابنته فقال لها إذا دخل عليك ابو الدرداء وأبو هريرة فعرضا عليك عبد الله بن سلام وإنكاحي إياك منه وحضاك على المسارعة إلى رضائي فقولي لهما عبد الله بن سلام كفء كريم غير أن تحته أرينب بنت اسحق وأنا خائفة أن يعرض لي من الغيرة ما يعرض للنساء ولست بفاعلة حتى يفارقها وأما أبو الدرداء وأبو هريرة فإنهما لما وصلا إلى عبد الله بن سلام أعلماه بما قال لهما معاوية فردهما خاطبين عنه فلما مثلا بين يدي معاوية قال إني كنت أعلمتكما أنني جعلت لها في نفسها شورى فادخلا عليها واعلمها بما رأيت لها فدخلا وأعلماها بذلك فأبدت ما قرره أبوها عندها من قبل فعادا إلى عبد الله بن سلام فأعلماه بذلك ففهم المراد وأشهدهما عليه بطلاق أرينب وبعثهما إليه خاطبين فلما دخلا على معاوية أعلماه بطلاق أرينب فأظهر معاوية كراهية ذلك وقال ما استحسنت طلاق زوجته ولا أحببته فانصرفا في عافية وعودا غلينا وكتب إلى ابنه يزيد يعلمه بما كان من طلاق عبد علله بن سلام لأرينب بنت اسحق وعاد بعد ذلك أبو الدرداء وأبو هريرة إلى معاوية فأمرهما بالدخول على ابنته وسؤالها عن رضاها وهو يقول

ص: 197

لم يكن لي أن أكرهها وقد جعلت الشورى في نفسها فدخلا عليها وأعلماها بطلاق عبد الله ابن سلام امرأته ليسرها بذلك وذكرا فضله وشرفه وكرمه ومروءته فقالت جف القلم بما هو كائن ولا أنكر شرفه وفضله وإني سائلة عنه حتى أعرف دخيلة خبره ولا قو إلا بالله فإن يك صدر هذا اليوم ولّى فإن غداً لناظره قريب ثم تزايد حديث الناس بطلاق أرينب وخطبة ابنة معاوية واستحث عبد الله أبا الدرداء وأبا هريرة فاتياها فقال لها اصنعي ما أنت صانعة واستخيري الله فقالت أرجو والحمد لله أن يكون الله قد اختار لي فإنه لا يكل إلى غيره وقد سبرت أمره وسألت عنه فوجدته غير ملائم ولا موافق لما أريد لنفسي مع اختلاف من استشرته فيه فمنهم الناهي عنه والآمر به فلما بلغه كلامها علم أنه حيلة وأنه مخدوع وقال متعزيا ليس لأمر الله راد ولعل ما سرّوا به لا يدوم لهم سروره قال وذاع أمره وفشا في الناس وقالوا خدعه معاوية حتى طلق امرأته لغرض ابنه بئس ما صنع ثن إن معاوية بعد انقضاء أيامها المعلومة وجه أبا الدرداء إلى العراق خاطباً لها على ابنه يزيد فخرج حتى قدمها وبها يومئذ الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما فقال أبو الدرداء إلى قدم العراق ما ينبغي لذي عقل أن يبدأ بشيء قبل زيارة الحسين سيد شباب أهل الجنة إذا دخل موضعا هو فيه فقصد الحسين رضي الله عنه فلما رآه قام إليه وصافحه إجلالا

ص: 198

لصحبته لجده صلى الله عليه وسلم وقال ما أتى بك يا أبا الدرداء قال وجهني معاوية خاطبا على ابنه يزيد أرينب بنت اسحق فرأيت عليَّ حقا أن لا أبدأ بشيء قبل السلام عليك فشكره الحسين على

ذلك وأثنى عليه وقال لقد ذكرت نكاحها وأردت الارسال إليها إذا انقضت عدتها وقد أتى الله بك فاخطب على بركة الله عليَّ وعليه وهي أمانة في عنقك واعطها من المهر مثل ما بذل لها معاوية عن ابنه فقال أفعل إن شاء الله فلما دخل قال أيتها المرأة إن الله خلق الأمور بقدرته وكونها بعزته وجعل لكل أمر قدرا ولكل قدر سببا فليس لأحد عن قدر الله مخلص فكان ما سبق لك وقدر عليك من فراق عبد الله ابن سلام على غير قياس ولعل ذلك لا يضيرك وجعل الله فيه خيرا كثيرا وقد خطبك أمير هذه الأمة وابن ملكها وولى عهده والخليفة من بعده يزيد بن معاوية والحسين ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن أول من أقر به من أمته وسيد شباب أهل الجنة فاختاري ايهما شئت فسكتت طويلا ثم قالت يا أبا الدرداء لو جاءني هذا الأمر وأنت غائب لأشخصت فيه الرسل إليك وجعلته في يديك فاختر لي ارضاهما لربك والله شاهد عليك فاقض ولا يصدنك عن ذلك اتباع الهوى فليس أمرهما عليك خفيا فقال أبو الدرداء أيتها المرأة إنما علي إعلامك ولك الاختيار لنفسك فقالت عفا الله عنك إنما أنا بنت أخيك ولا يمنعك أحد من قول الحق فيما طوقتك به فقد وجب عليك أداء الأمانة فلم يجد بدا من القول فقال يا بنية: ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلي في ذلك وأرضى عندي والله أعلم وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم واضعا شفتيه على شفتي الحسين فضعي شفتيك حيث وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم شفتيه قالت قد اخترته ورضيته فتزوجها الحسين بن علي عليهما السلام فساق لها مهرا عظيما وبلغ معاوية ما فعله أبو الدرداء فعظم عليه وقال من يرسل ذا بلهٍ وعمى ركب خلاف ما يهوى وكان عبد الله بن سلام قد استودعها قبل فراقه إياها ذهبا وكان معاوية قد اطّرحه وقطع عنه جميع روافده لقوله إنه خدعه حتى طلق امرأته فلم يزل يجفوه حتى قل ما بيده فرجع إلى العراق فلما قدمها لقي الحسين فسلم عليه ثم قال لقد علمت ما كان من خبري وخبر أرينب وكنت قبل فراقي إياها استودعتها مالا وكان الذي كان ولم أقبضه ووالله إن ظني بها جميل فذاكرها في أمري فإن الله يجزيك به أجرك فسكت عنه فلما انصرف إلى أهله قال لها: قدم عبد الله بن سلام وهو كثير الثناء عليك في دينك وحسن صحبتك فسرني ذلك وذكر أنه استودعك مالا فقالت صدق استودعني مالا لا أدري لمن هو وأنه لمطبوع عليه بخاتمه وها هو ذا فادفعه إليه بطابعه فأثنى عليها الحسين خيرا وقال الا أدخله عليك حتى تبرئي منه ولقي عبد الله فقال: ما أنكرت مالك وزعمت أه كما دفعته إليها بطابعك فادخل يا هذا إليها واستوف مالك بحيث تحصل البراءة من الطرفين فلما دخل عليها قال لها الحسين هذا عبد الله بن سلام قد جاء يطلب وديعته فأخرجت إليه البدر فوضعتها بين يديه وقالت له هذا مالك فشكر وأثنى فخرج الحسين عنهما وفض عبد الله خواتم بدره وحثى لها من ذلك جانبا كبيرا وقال لها والله هذا قليل مني فاستعبرا حتى علت أصواتهما بالبكاء على ما ابتليا به فدخل الحسين عليهما وقد رق لهما ثم قال أشهد الله إنها طالق ثلاثا اللهم أنت تعلم أنني لم أستنكحها رغبة في مالها ولا في جمالها ولكني أردت إحلالها لزوجها فطلقها ولم يأخذ شيئا مما ساق لها في مهرها بعدما عرضته عليه وقال: الذي أرجوه من الثواب خير لي فلما انقضت عدتها تزوجها عبد الله بن سلام وعادا على ما كانا عليه من حسن الصحبة إلى أن فرق الموت بينهما هكذا نقله ابن بدرون في تاريخه والله أعلم. لك وأثنى عليه وقال لقد ذكرت نكاحها وأردت الارسال إليها إذا انقضت عدتها وقد أتى الله بك فاخطب على بركة الله عليَّ وعليه وهي أمانة في عنقك واعطها من المهر مثل ما بذل لها معاوية عن ابنه فقال أفعل إن شاء الله فلما دخل قال أيتها المرأة إن الله خلق الأمور بقدرته وكونها بعزته وجعل لكل أمر قدرا ولكل قدر سببا فليس لأحد عن قدر الله مخلص فكان ما سبق لك وقدر عليك من فراق عبد الله ابن سلام على غير قياس ولعل ذلك لا يضيرك وجعل الله فيه خيرا كثيرا وقد خطبك أمير هذه الأمة وابن ملكها وولى عهده والخليفة من بعده يزيد بن معاوية والحسين ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن أول من أقر به من أمته وسيد شباب أهل الجنة فاختاري ايهما شئت فسكتت طويلا ثم قالت يا أبا الدرداء لو جاءني هذا الأمر وأنت غائب لأشخصت فيه الرسل إليك وجعلته في يديك فاختر لي ارضاهما لربك والله شاهد عليك فاقض ولا يصدنك عن ذلك اتباع الهوى فليس أمرهما عليك خفيا فقال أبو الدرداء أيتها المرأة إنما علي إعلامك ولك الاختيار لنفسك فقالت عفا الله

ص: 199

عنك إنما أنا بنت أخيك ولا يمنعك أحد من قول الحق فيما طوقتك به فقد وجب عليك أداء الأمانة فلم يجد بدا من القول فقال يا بنية: ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلي في ذلك وأرضى عندي والله أعلم وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم واضعا شفتيه على شفتي الحسين فضعي شفتيك حيث وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم شفتيه قالت قد اخترته ورضيته فتزوجها الحسين بن علي عليهما السلام فساق لها مهرا عظيما وبلغ معاوية ما فعله أبو الدرداء فعظم عليه وقال من يرسل ذا بلهٍ وعمى ركب خلاف ما يهوى وكان عبد الله بن سلام قد استودعها قبل فراقه إياها ذهبا وكان معاوية قد اطّرحه وقطع عنه جميع روافده لقوله إنه خدعه حتى طلق امرأته فلم يزل يجفوه حتى قل ما بيده فرجع إلى العراق فلما قدمها لقي الحسين فسلم عليه ثم قال لقد علمت ما كان من خبري وخبر أرينب وكنت قبل فراقي إياها استودعتها مالا وكان الذي كان ولم أقبضه ووالله إن ظني بها جميل فذاكرها في أمري فإن الله يجزيك به أجرك فسكت عنه فلما انصرف إلى أهله قال لها: قدم عبد الله بن سلام وهو كثير الثناء عليك في دينك وحسن صحبتك فسرني ذلك وذكر أنه استودعك مالا فقالت صدق استودعني مالا لا أدري لمن هو وأنه لمطبوع عليه بخاتمه وها هو ذا فادفعه إليه بطابعه فأثنى عليها الحسين خيرا وقال الا أدخله عليك حتى

ص: 200

تبرئي منه ولقي عبد الله فقال: ما أنكرت مالك وزعمت أه كما دفعته إليها بطابعك فادخل يا هذا إليها واستوف مالك بحيث تحصل البراءة من الطرفين فلما دخل عليها قال لها الحسين هذا عبد الله بن سلام قد جاء يطلب وديعته فأخرجت إليه البدر فوضعتها بين يديه وقالت له هذا مالك فشكر وأثنى فخرج الحسين عنهما وفض عبد الله خواتم بدره وحثى لها من ذلك جانبا كبيرا وقال لها والله هذا قليل مني فاستعبرا حتى علت أصواتهما بالبكاء على ما ابتليا به فدخل الحسين عليهما وقد رق لهما ثم قال أشهد الله إنها طالق ثلاثا اللهم أنت تعلم أنني لم أستنكحها رغبة في مالها ولا في جمالها ولكني أردت إحلالها لزوجها فطلقها ولم يأخذ شيئا مما ساق لها في مهرها بعدما عرضته عليه وقال: الذي أرجوه من الثواب خير لي فلما انقضت عدتها تزوجها عبد الله بن سلام وعادا على ما كانا عليه من حسن الصحبة إلى أن فرق الموت بينهما هكذا نقله ابن بدرون في تاريخه والله أعلم.

ومن غرائب المنقول وعجائبه عن الأمير بدر الدين أبي المحاسن يوسف المهمندار المعروف بمهمندار العرب أنه قال حكى الأمير شجاع الدين محمد الشيرازي متولي القاهرة في الأيام الكاملية سنة ثلاث وستمائة قال بتنا عند رجل ببعض بلاد الصعيد فأكرمنا وكان الرجل شديد السمرة وهو شيخ كبير فحضر له أولاد بيض الوجوه حسان الأشكال فقلنا له هؤلاء أولادك فقال نعم وكأني بكم وقد

ص: 201

أنكرتم بياضهم فقلنا له نعم: قال هؤلاء أمهم إفرنجية أختها في أيام الملك الناصر صرح الدين وأنا شاب فقلنا وكيف أخذتها قال حديثي بها عجيب قلنا أتحفنا به قال: زرعت كتانا في هذه البلدة وقلعته ونفضته فانصرف عليه خمسمائة دينار ولم يبلغ الثمن إلى أكثر من ذلك فحملته إلى القاهرة فلم يصل إلى أكثر من ذلك فأشير علي بحمله إلى الشام فحملته فما زاد على تلك القيمة شيئا فوصلت به إلى عكا فبعت بعضه بالأجل والبعض تركته عندي واكتريت حانوتا أبيع فيه على مهلي إلى حيث انقضاء المدة فينما أنا أبيع إذ مرت بي امرأة إفرنجية ونساء الأفرنج يمشون في الأسواق بلا نقاب فأتت تشتري مني كتانا فرأيت من جمالها ما بهرني فبعتها وسامحتها ثم انصرفت وعادت إلي بعد أيام فبعتها وسامحتها أكثر من الكرَّة الأولى فتكررت إلي وعلمت أني أحبها فقلت للعجوز التي معها أنني قد تلفت بحبها وأريد منك الحيلة فقالت لها ذلك فقالت تروح أرواحنا الثلاثة أنا وأ، ت وهو فقلت لها: قد سمحت بروحي في حبها واتفق الحال على أن أدفع خمسين دينارا صورته فوزنتها وسلمتها للعجوز فقالت نحن الليلة عندك فمضيت وجهزت ما قدرت عليه من مأكول ومشروب وشمع وحلواء فجاءت الإفرنجية فأكلنا وشربنا وجن الليل ولم يبق غير النوم فقلت في نفسي أما تستحي من الله وأنت غريب تعصي الله مع نصرانية اللهم أني قد عففت عنها في هذه الليلة حياء منك وخوفا من عقابك ثم نمت

ص: 202

إلى الصبح فنامت إلى الصبح وقامت في السحر وهي غضبى ومضت ومضيت أنا إلى حانوتي فجلست فيه وإذا هي قد عبرت علي هي والعجوز وهي مغضبة وكأنها القمر فهلكت فقلت في نفسي من هو أنت حتى تترك هذه البارعة في حسنها ثم لحقت العجوز وقلت ارجعي فقالت وحق المسيح ما أرجع إليك إلا بمائة دينار فقلت نعم رضيت فوزنت مائة دينار فلما حضرت الجارية عندي لحقتني الفكرة الأولى وعففت عنها وتركتها حياء من الله تعالى ثم مضت ومضيت إلى موضعي ثم عبرت بعد ذلك علي وكانت مستغربة فقالت وحق المسيح ما بقيت تفرح بي عندك إلا بخمسمائة دينار أو تموت كمداً فارتعدت لذلك وعزمت أنني اصرف عليها ثمن الكتان جميعه فبينما أنا كذلك والمنادي ينادي معاشر المسلمين إن الهدنة التي بيننا وبينكم قد انقضت وقد أمهلنا من هنا من المسلمين إلى جمعة فانقضت عني وأخذت أنا في تحصيل ثمن الكتان الذي لي والمصالحة على ما بقي منه وأخذت معي بضاعة حسنة وخرجت من عكا وفي قلبي من الإفرنجية ما فيه فوصلت إلى دمشق وبعت البضاعة بأوفى ثمن بسبب فراغ الهدنة ومنّ الله بكسب وافر وأخذت أتجر في الجواري عسى أن يذهب ما بقلبي من الإفرنجية فمضت ثلاث سنين وجرى للسلطان الملك الناصر ما جرى من وقعة حطين وأخذه جميع الملوك وفتحه بلاد الساحل بإذن الله تعالى فطلب مني جارية للملك الناصر فأحضرت جارية حسناء فاشتريت له ني بمائة

ص: 203

دينار فأوصلوا إلى تسعين دينارا وبقيت لي عشرة دنانير فلم يلتقوها في الخزانة ذلك اليوم لأنه أنفق جميع الأموال فشاوروه على ذلك فقال امضوا به إلى الخزانة التي فيها السبي من نساء الإفرنج فخيروه في واحدة منهن يأخذها بالعشرة الدنانير التي له فأتيت الخيمة فعرفت غريمتي الإفرنجية فقلت أعطوني هاتيك فأخذتها ومضيت إلى خيمتي وخلوت بها وقلت لها أتعرفينني قالت لا فقلت أنا صاحبك التاجر الذي جرى لي معك ما جرى وأخذت مني الذهب وقلت ما بقيت تبصرني إلا بخمسمائة دينار وقد أخذتك ملكا بعشرة دنانير فقالت مد يدك أنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فأسلمت وحسن إسلامها فقلت والله لا وصلت غليها إلا بأمر القاضي فرحت إلى ابن شداد وحكيت له ما جرى فعجب وعقد لي عليها وباتت تلك الليلة عندي فحملت مني ثم رحل العسكر وأتينا دمشق وبعد مدة يسيرة أتى رسول الملك يطلب الأسارى والسبايا باتفاق وقع بين الملوك فردوا من كان أسيراً من الرجال والنساء ولم يبق إلا التي

عندي فسألوا عنها واتضح الخبر أنها عندي وطلبت مني فحضرت وقد تغير لوني وأحضرتها معي بين يدي مولانا السلطان الناصر والرسول حاضر فقال لها الملك الناصر بحضرة الرسول ترجعين إلى بلادك أو إلى زوجك فقد فككنا أسرك وأسر غيرك فقالت يا مولانا السلطان أنا قد أسلمت وحبلت وهابطني كما ترونه وما بقيت الإفرنج تنتفع بي فقال لها الرسول أيما أحب إليك هذا المسلم أو زوجك الإفرنجي فلان فأعادت عبارتها الأولى فقال الرسول لمن معه من الإفرنج اسمعوا كلامها ثم قال لي الرسول خذ زوجتك فوليت بها فطلبني ثانيا وقال إن أمها أرسلت معي وديعة وقالت إن ابنتي أسيرة واشتهي أن توصل لها هذه الكسوة فتسلمت الكسوة ومضيت إلى الدار وفتحت القماش فإذا هو قماشها بعينه قد سيّرته لها أمها ووجدت الصرتين الذهب الخمسين دينار والمائة دينار كما هما بربطتي لم يتغيرا وهؤلاء الأولاد منها وهي التي صنعت لكم هذا الطعام. دي فسألوا عنها واتضح الخبر أنها عندي وطلبت مني فحضرت وقد تغير لوني وأحضرتها معي بين يدي مولانا السلطان الناصر والرسول حاضر فقال لها الملك الناصر بحضرة الرسول ترجعين إلى بلادك أو إلى زوجك فقد فككنا أسرك وأسر غيرك فقالت يا مولانا السلطان أنا قد أسلمت وحبلت وهابطني كما ترونه

ص: 204

وما بقيت الإفرنج تنتفع بي فقال لها الرسول أيما أحب إليك هذا المسلم أو زوجك الإفرنجي فلان فأعادت عبارتها الأولى فقال الرسول لمن معه من الإفرنج اسمعوا كلامها ثم قال لي الرسول خذ زوجتك فوليت بها فطلبني ثانيا وقال إن أمها أرسلت معي وديعة وقالت إن ابنتي أسيرة واشتهي أن توصل لها هذه الكسوة فتسلمت الكسوة ومضيت إلى الدار وفتحت القماش فإذا هو قماشها بعينه قد سيّرته لها أمها ووجدت الصرتين الذهب الخمسين دينار والمائة دينار كما هما بربطتي لم يتغيرا وهؤلاء الأولاد منها وهي التي صنعت لكم هذا الطعام.

ومن لطائف المنقول من المتجاد قال الواقدي كان إبراهيم بن المهدي قد ادعى الخلافة لنفسه بالريّ وأقام مالكها سنة وأحد عشر شهرا واثني عشر يوما وله أخبار كثيرة أحسنها عندي ما حكاه لي، قال: لّما دخل المأمون الري في طلبي وجعل لمن أتاه بي مائة ألف درهم خفت على نفسي وتحيرت في أمري فخرجت من داري وقت الظهر وكان يوما صائفا وما أدري أين أتوجه فوقفت في شارع غير نافذ وقلت إنا لله وإنا إليه راجعون إن عدت على أثري يرتاب في أمري فرأيت في صدر الشارع عبدا أسود قائما على باب دار فتقدمت إليه وقلت هل عندك موضع أقيم فيه ساعة من نهار نعم وفتح الباب فدخلت إلى بيت نظيف فيه حصر وبسط ووسائد جلود إلا أنها نظيفة ثم أغلق الباب علي ومضى فتوهمته قد سمع الجعالة فيَّ وأنه خرج ليدل عليّ، فبقيت على مثل النار فبينما أنا كذلك إذ أقبل

ص: 205

حمال عليه كل ما يحتاج إليه من خبز ولحم وقدر جديدة وجرة نظيفة وكيزان جدد فحط عن الحمال ثم التفت إلي وقال جعلني الله فداك أنا رجل حجَّام وأنا أعلم أنك تتقرف مني لما أتولاه من معيشتي فشأنك بما لم تقع عليه يد وكان بي حاجة إلى الطعام فطبخت لنفسي قِدْراً ما أذكر أني أكلت مثلها فلما قضيت أربي من الطعام قال هل لك في شراب فإنه يسلي الهم فقلت ما أكره ذلك رغبة في مؤانسته فأتى بقطرميز جديد لم تمسه يد وجاءني بدست شراب مطينة وقال لي روق لنفسك فروقت شرابا في غاية الجودة وأحضر لي قدحا جديدا وفاكهة وأبقالا مختلفة في طسوت فخار جدد ثم قال بعد ذلك أتأذن لي جعلت فداءك أن اقعد ناحية وآتي بشرابي فاشربه سرورا بك فقلت به افعل فشربت وشرب ثم دخل إلى خزانة له فأخرج عودا مصفحا ثم قال يا سيدي ليس من قدري أن أسألك في الغناء ولكن قد وجبت على مروءتك حرمتي فإن رأيت أن تشرف عبدك فلك علو الرأي فقلت ومن أين لك أني أحسن الغناء فقال يا سبحان الله مولانا اشهر من ذلك أنت إبراهيم بن المهدي خليفتنا بالأمس الذي جعل المأمون لمن دله عليك مائة ألف درهم فلما قال ذلك عظم في عيني وثبتت مروءته عندي فتناولت العود وأصلحته وغنيت وقد مر بخاطري فراق أهلي وولدي:

وعسى الذي أهدى ليوسفَ أهله

وأعزَّه في السجن وهو أسيرُ

أن يستجيب لنا فيجمعَ شملنا

والله ربُّ العالمين قديرُ

ص: 206

فاستولى عليه الطرب المفرط وطاب عيشه كثيراً ومن شدة طربه وسروره قال لي يا سيدي أتأذن لي أن أغني ما سنح بخاطري وإن كنت من غير أهل هذه الصناعة فقلت هذا زيادة في أدبك ومروءتك فأخذ العود وغنى:

شكونا إلى أحبابنا طولَ ليلنا

فقالوا لنا ما أقصر الليل عندنا

وذاك لأنّ النوم يغشى عيونهم

سريعاً ولا يغشى لنا النوم أعينا

إذا ما دنا الليل المضرُّ بذي الهوى

جزعنا وهم يستبشرون إذا دنا

فلو أنَّهم كانوا يلاقون مثل ما نلاقي لكانوا في المضاجع مثلنا

فو الله أحسست بالبيت قد سار بي وذهب عني كل ما كان بي من الهلع وسألته أن يغني فغنى:

تعِّيرنا أنّا قليلٌ عديدنا

فقلت لها إن الكرام قليل

وما ضرّنا إنّا قليلٌ وجارنا

عزيزٌ وجار الأكثرين ذليل

وإنّا لقومٌ لا نرى القتل سُبَّةً

إذا ما رأته عامرٌ وسلول

يقرِّبُ حبُّ آجالَنا لنا

وتكرهه آجالهم فتطول

فداخلني من الطرب ما لا مزيد عليه إلى أن عاجلني السكر فلم أستيقظ إلا بعد المغرب فعاودني فكري في نفاسة هذا الحجام وحسن أدبه وظرفه فقمت وغسلت وجهي وأيقظته وأخذت خريطة كانت صحبتي فيها دنانير لها قيمة فرميت بها إليه وقلت له استودعتك الله فإنني ماض من عندك وأسألك أن تصرف ما في

ص: 207

هذه الخريطة في بعض مهماتك ولك عندي المزيد أن أمنت من خوفي فاعادها علي منكَّداً وقال: يا سيدي أن الصعاليك منا لا قدر لهم عندكم أآخذ على ما وهبنيه الزمان من قربك وحلولك عندي ثمنا والله لئن راجعتني في ذلك لأقتلنَّ نفسي فاعدت الخريطة إلى كمّي وقد أثقلني حملها فلما انتهيت إلى باب داره قال لي يا سيدي إن هذا المكان أخفى لك من غيره وليس في مؤنتك عليّ ثقل فأقم عندي إلى أن يفرج الله عنك فرجعت وسألته أن ينفق من تلك الخريطة ولم يفعل فأقمت عنده أياما على تلك الحالة في الذ عيش فتذممت من الإقامة في مؤنته واحتشمت من التثقيل عليه فتركته وقد مضى يجدد لنا حالا وقمت فتزييت بزي النساء بالخف والنقاب وخرجت فلما صرت في الطريق داخلني من الخوف أمر شديد وجئت لأعبر الجسر فإذا أنا بموضع مرشوش بماء فبصر بي جندي ممن كان يخدمني فعرفني فقال هذه حاجة المأمون فتعلق بي فمن حلاوة الروح دفعته هو وفرسه فرميتهما في ذلك الزلق فصار عبرة وتبادر الناس إليه فاجتهدت في المشي حتى قطعت الجسر ودخلت شارعا فوجدت باب دار وامرأة واقفة في دهليز فقلت يا سيدة النساء أحقني دمي فإني رجل خائف فقالت على الرحب وأطلعتني إلى غرفة مفروشة وقدمت لي طعاما وقالت ليهدأ روعك فما علم بك مخلوق وإذا بالباب يدق دقا عنيفا فخرجت وفتحت الباب وإذا بصاحبي الذي دفعته على الجسر وهو مشدوخ

ص: 208

الرأس ودمه يجري على ثيابه وليس معه فرس فقالت يا هذا ما دهاك فقال ظفرت بالمغنِّي وأنفلت عنّي، فأخبرها بالحال فأخرجت خرقا وعصبته بها وفرشت له ونام عليلا وطلعت إلى وقالت أظنك صاحب القصة فقلت نعم قالت لابأس عليك ثم جددت لي الكرامة وأقمت عندها ثلاثا ثم قالت إني خائفة عليك من هذا الرجل لئلا يطلع عليك فينّم بك فانج لنفسك فسالتها المهلة إلى الليل ففعلت فلما دخل الليل لبست زي النساء وخرجت من عندها فأتيت إلى بيت مولاة كانت لنا فلما رأتني بكت وتوجعت وحمدت الله على سلامتي وخرجت كأنها تريد السوق للاهتمام بالضيافة فظننت خيرا فما شعرت إلا إبراهيم الموصلي بنفسه في خيله ورجله والمولاة معه حتى سلمتني إليه فرأيت الموت عيانا وحملت بالزي الذي أنا فيه إلى المأمون فجلس مجلسا عاما وأدخلني إليه فلما مثلت بين يديه سلمت عليه بالخلافة فقال لا سلم الله عليك ولا حياك ولا رعاك فقلت له على رسلك يا أمير المؤمنين، إن وليَّ الثأر محكّم في القصاص والعفو أقرب للتقوى وقد جعلك الله فوق كل عفو كما جعل ذنبي فوق كل ذنب فإن تأخذ فبحقك وإن تعف فبفضلك ثم أنشدت:

ذنبي إليك عظيمٌ

وأنت أعظَمُ منه

فخذ بحقّك أولا

فاصفح بحلمك عنه

إن لم أكن في فعالي

من الكرام فكنه

فرفع إلي رأسه فبدرته وقلت:

ص: 209

أتيت ذنباً عظيماً

وأنت للعفو أهل

فأن عفوت فمنٌّ

وإن جزيت فعدل

فرق المأمون واستروحت روائح الرحمة من شمائله ثم أقبل على ابنه العباس وأخيره أبي اسحق وجميع من حضر خاصته فقال ما ترون في أمره فكلُّ أشار بقتلي إلا أنهم اختلفوا في القتلة كيف تكون فقال المأمون لأحمد بن أبي خالد ما تقول يا أحمد فقال يا أمير المؤمنين: إن تقتله وجدنا مثلك قتل مثله وإن عفوت عنه لم نجد مثلك عفا عن مثله فنكس المأمون رأسه وجعل ينكت في الأرض وأنشد متمثلا:

قومي همُ قتلوا أميمَ أخي

فإذا رميت يصيبني سهمي

فكشفت المقنعة عن رأسي وكبرت تكبيرة عظيمة وقلت عفا والله عني أمير المؤمنين فقال المأمون لا بأس عليك يا عم فقلت ذنبي يا أمير المؤمنين أعظم من أن أتفوه معه بعذر وعفوك أعظم من أن أنطق معه بشكر ولكن أقول:

إن الذي خلق المكارم حازها في صُلب آدم للإمام السابع

مُلئتْ قلوبُ الناس منك مهابةً

وتظلُّ تكلؤهم بقلبٍ خاشع

ما إن عصيتك والغواة تمدّني

أسبابها إلَاّ بنيّة طائع

فعفوت عمن لم يكن عن مثله

عفوٌ ولم يشفع إليك بشافع

ورحمت أطفالاً كأفراخ القطا

وحنين والدةٍ بلبٍّ جازع

فقال المأمون لا تثريب عليك اليوم قد عفوت عنك ورددت عليك مالك وضياعك فقلت:

رددت مالي ولم تبخل عليَّ به

وقبل ردِّك مالي قد حقنت دمي

ص: 210

فلو بذلتُ دمي أبغي رضاك به

والمالَ حتى أسلّ النعل من قدمي

ما كان ذاك سوى عاريةٍ رجعت

إليك لو لم تعرها كنت لم تلم

فإن جحدتك ما أوليتَ من كرمٍ

إني إلى اللؤم أولى منك بالكرم

فقال المأمون: إن من الكلام دراً وهذا منه: وخلع عليه وقال يا عم إن أبا إسحق والعباس أشارا بقتلك فقلت إنهما نصحاك يا أمير المؤمنين ولكن أتيت بما أنت أهله ودفعت ما خفت بما رجوت فقال المأمون يا عم أمنت حقدي بحياة عذرك وقد عفوت عنك ولم أجرعك مرارة امتنان الشافعين ثم سجد المأمون طويلا ورفع رأسه وقال يا عم أتدري لم سجدت قلت شكراً لله تعالى الذي أظفرك بعدو دولتك فقال ما أردت هذا ولكن شكراً لله الذي ألهمني العفو عنك فحدثني الآن حديثك فشرحت له صورتة أمري وما جرى لي مع الحجام والجندي والمرأة والمولاة التي نَّمت عليَّ فأمر المأمون بإحضارها وهي في دارها تنتظر الجائزة فقال لها ما حملك على ما فعلت مع سيدك فقالت الرغبة في المال فقال لها هل لك ولد أو زوج قالت لا فأمر بضربها مائتي سوط وخلد سجنها ثم قال أحضروا الجندي وامرأته والحجام فاحضروا فسأل الجندي عن السبب الذي حمله على ما فعل فقال الرغبة في المال فقال المأمون أنت يجب أن تكون حجّاما ووكل به ما يلزمه الجلوس في دكان الحجام لتعلم الحجامة وأكرم زوجه وأدخلها إلى القصر وقال هذه امرأة عاقلة تصلح للمهمات ثم قال للحجام

ص: 211

لقد ظهر من مروؤتك ما يوجب المبالغة في إكرامك وسلم إليه دار الجندي بما فيها وخلع عليه وأنعم عليه برزقه وزيادة ألف دينار في كل سنة ولم يزل في تلك النعمة إلى أن مات.

ومما يضارع ذلك أنه لما أفضت الخلفة إلى بني العباس اختفت رجال بني أمية ومهم إبراهيم بن سليمان بن عبد الملك وكان إبراهيم رجلاً عالماً عاملاً أديباً كاملاً وهو في سن الشبيبة فأخذوا له أماناً من السفاح فقال له يوما حدثني عما مر بك في اختفائك قال كنت يا أمير المؤمنين مختفياً بالحيرة في منزل بشارع على الصحراء فبينما أنا على ظهر البيت إذ نظرت إلى أعلام سود قد خرجت من الكوفة تريد الحيرة فتخيلت أنها تريدني فخرجت من الدار متنكرا حتى أتيت الكوفة ولا أعرف أحدا أختفي عند فبقيت في حيرة فإذا أنا بباب كبير رحبته واسعة فدخلت فيها فإذا رجل وسيم حسن الهيئة على فرس قد دخل الرحبة ومعه جماعة من غلمانه وأتباعه فقال من أنت وما حاجتك فقلت رجل خائف على دمه وقد استجار بمنزلك فأدخلني منزله ثم صيرني في حجرة تلي حرمه وكنت عنده في ذلك على ما أحبه من مطعم ومشرب وملبس لا يسألني عن شيء من حالي إلا أنه يركب في كل يوم ركبة فقلت له يوما أراك تدمن الركوب ففيم ذلك قال إبراهيم بن سليمان قتل أبي صبرا وقد بلغني أنه مختف فأنا أطلبه لأدرك منه ثأري فكثر

ص: 212

والله تعجبي وقلت القدر ساقني إلى حتفي في منزل من يطلب دمي وكرهت الحياة فسألت الرجل عن أسمه واسم أبيه فأخبرني فعلمت أن الخبر صحيح وأنا الذي قتلت أباه فقلت له يا هذا وجب عليّ حقك ومن حقك أن أدلك على خصمك وأقرب إليك الخطوة قال وما ذاك قلت أنا إبراهيم بن سليمان قاتل أبيك فخذ بثأرك فقال إني أحسبك رجلا قد مضّه الاختفاؤ فأحببت الموت فقلت لا والله ولكن أقول لك الحق يوم كذا وذا بسبب كذا وكذا فلما علم صدقي تغيّر لونه واحمرت عيناه واطرق مليا ثم قال: أمّا أنت فستلقى أبي عند حكم عدل فيأخذ بثأره وأمّا أنا فغير مخفر ذمتي فأخرج عني فلست آمن عليك من نفسي وأعطاني ألف دينار فلم آخذها منه وانصرفت عنه فهذا أكرم رجل رأيته بعد أمير المؤمنين.

ومن لطائف ما نقلته من المستجاد حدث أبو الحسن بن صالح البلخي بمصر قال أخبرني بعض عمال شيوخنا عن شيبة بن محمد الدمشقي قال كان في أيام سليمان بن عبد الملك رجل يقال له خزيمة ابن بشر من بني أسد مشهور بالمروءة والكرم والمواساة وكانت نعمته وافرة فلم يزل على تلك الحالة حتى احتاج إلى أخوانه الذين كان يواسيهم ويتفضل عليه فواسوه حينا ثم ملوه فلما لاح له تغيرهم أتى امرأته وكانت ابنة عمه فقال لها يا بنت العم قد رأيت من اخواني تغيُّرا وقد عزت على لزوم بيتي إلى أن يأتيني الموت ثم أغلق بابه عليه وأقام يتقوت بما عنده حتى نفد وبقي حائرا في حاله فكان عكرمة

ص: 213

الفياض واليا على الجزيرة فبينما هو في مجلسه وعنده جماعة من أهل البلد إذ جري ذكر خزيمة ابن بشر فقال عكرمة ما حاله فقالوا صار في أسوأ الأحوال وقد أغلق بابه ولزم بيته فقال عكرمة الفياض وما سمي الفياض إلا للافراط في الكرم فما وجد خزيمة بن بشر مواسيا ولا مكافئا فأمسك عن ذلك فلما كان الليل عمد إلى أربعة آلاف دينار فجعلها في كيس واحد ثم أمر باسراج دابته وخرج سراً من أهله فركب ومعه غلام واحد يحمل المال ثم سار حتى وقف باب خزيمة فأخذ الكيس من الغلام ثم أبعده عنه وتقدم إلى الباب فطرقه بنفسه فخرج خزيمة فقال له أصلح بهذا شأنك فتناوله فرآه ثقيلا فوضعه وقبض على لجام الدابة وقال له من أنت جعلت فداك قال له ما جئت في هذا الوقت وأنا أريد أن تعرفني قال خزيمة فما أقبله أو تخبرني من أنت قال أنا جابر عثرات الكرام قال زدني قال لا: ثم مضى ودخل خزيمة بالكيس إلى امرأته فقال لها أبشري فقد أتى الله بالفرج فلو كان في هذا فلوس كانت كثيرة قومي فاسرجي قالت لا سبيل إلى السراج فبات يلمس الكيس فيجد تحت يده خشونة الدنانير ورجع عكرمة إلى منزله فوجد امرأته قد افتقدته وسألت عنه فأخبرت بركوبه منفرداً فارتابت وشقت جيبها ولطمت خدها فلما رآها تلك الحالة قال لها ما دهاك يا ابنة العم قالت سوء فعلك بابنة عنك، أمير الجزيرة يخرج

ص: 214

بعد هدأة من الليل منفرداً عن غلمانه في سرّ من أهله إلا إلى زوجة أو سريّة فقال لقد علم الله ما خرجت لواحدة منهما قالت لابد أ، تعلمني قال فاكتميه إذاً قالت افعل فأخبرها بالقصة على وجهها ثم قال أتحبين أن أحلف لك قالت لا قد سكن قلبي ثم أصبح خزيمة فصالح غرماءه وأصلح من حاله ثم تجهز يريد سليمان بن عبد الملك بفلسطين فلما وقف ببابه دخل الحاجب فأخبره بمكانه وكان مشهوراً لمروءته وكان الخليفة به عارفا فأذن له فلما دخل عليه وسلم بالخلافة قال يا خزيمة ما أبطأك عنا فقال سوء الحال يا أمير المؤمنين قال فما منعك من النهضة إلينا قال ضعفي قال فمن أنهضك قال لم أشعر يا أمير المؤمنين بعد هدأة من الليل إلا ورجل يطرق بابي وكان منه كيت وكيت وأخبره بقصته من أولها إلى آخرها فقال هل عرفته قال لا والله لأنه كان متنكرا وما سمعت منه إلا جابر عثرات الكرام قال فتلهف سليمان بن عبد الملك على معرفته وقال لو عرفناه لأعنَّاه على مروءته ثم قال علّي بقناة فأتي بها فعقد لخزيمة الولاية على الجزيرة وعلى عمل عكرمة الفياض وأجزل عطاياه وأمره بالتوجه إلى الجزيرة فخرج خزيمة متوجها إليها فلما قرب منها خرج عكرمة وأهل البلد للقائه فسلم عليه ثم سارا جميعاً إلى أن دخلا البلد فنزل خزيمة في جار الإمارة وامر أن يؤخذ عكرمة وأن يحاسب فحوسب ففضل عليه مال كثير فطلبه خزيمة بالمال فقال مالي

ص: 215

إلى شيء منه سبيل فأمر بحبسه ثم بعث يطالبه فأرسل إليه أني لست ممن يصون ماله لغرضه فأصنع ما شئت فأمر به فكبل بالحديد وضيق عليه وأقام على ذلك شهراً فأضناه ثقل الحديد وأضر به وبلغ ذلك ابنة عمه فجزعت عليه واغتمت ثم دعت مولاة لها ذات عقل وقالت امضي الساعة إلى باب هذا الأمير فقولي عندي نصيحة فإذا طلبت منك قولي ولا أقولها إلا للأمير خزيمة فإذا دخلت عليه سليه الخلوة فإذا فعل قولي له ما كان هذا جزاء جابر عثرات الكرام منك في مكافأتك له بالضيق والحبس والحديد قال ففعلت ذلك فلما سمع خزيمة قولها قال واسوأتاه جابر عثرات الكرام غريمي قالت نعم فأمر من وقته بدابته فأسرجت وركب إلى وجوه أهل البلد فجمعهم وسار بهم إلى باب الحبس ففتح ودخل فرأى عكرمة الفياض في قاع الحبس متغيراً قد أضناه الضر فلما نظر عكرمة إلى خزيمة وإلى

الناس أحشمه ذلك فنكس رأسه فاقبل خزيمة حتى إنكب على رأسه فقبله فرفع رأسه إليه وقال ما أعقب هذا منك قال كريم فعلك وسوء مكافأتي قال يغفر الله لنا ولك ثم أمر بفك قيوده وأن توضع في رليه فقال عكرمة تريد ماذا قال أريد أن ينالني من الضر مثل ما نالك فقال أقسم عليك بالله أن لا تفعل فخرجا جميعاً إلى أن وصلا إلى دار خزيمة فودعه عكرمة وأراد الإنصراف فلم يمكنه من ذلك قال وما تريد قال أغير من حالك وحيائي من ابنة عمك أشد من حيائي منك ثم أمر بالحمام فأخليت ودخلا جميعاً ثم قام خزيمة فتولى خدمته بنفسه ثم خرجا فخلع عليه وحمل إليه مالاً كثيراً ثم سار معه إلى داره واستأذنه في الاعتذار من ابنة عمه فأذن له فاعتذر إليها وتذمم من ذلك ثم سأله أني سير معه إلى أمير المؤمنين وهو يومئذ مقيم بالرملة فأنعم له بذلك فسارا جميعا حتى قدما على سليمان بن عبد الملك فدخل الحاجب فأخبره بقدوم خزيمة بن بشر فراعه ذلك وقال: والي الجزيرة يقدم علينا بغير أمرنا مع قرب العهد به ما هذا إلا لحادث عظيم فلما دخل عليه قال قبل أن يسلم ما وراءك يا خزيمة قال خير يا أمير المؤمنين قال فما أقدمك قال ظفرت بجابر عثرات الكرام فأحببت أن أسرك لما رأيت من شوقك إلى رؤيته قال ومن هو قال عكرمة الفياض فأذن له في الدخول فدخل فسلم عليه بالخلافة فرحب به وأدناه من مجلس وقال يا عكرمة كان خيرك له وبالا عليك ثم قال له اكتب حوائجك وما تختاره في رقعة فكتبها وقضيت على الفور ثم أمر له بعشرة آلاف دينار مع ما أضيف إليها من التحف والظرف ثم دعا بقناة وعقد له على الجزيرة وأرمينية واذربيجان وقال له أمر خزيمة إليك إن شئت أبقيته وإن شئت عزلته قال بد أرده إلى عمله يا أمير المؤمنين ثم انصرفا جميعاً ولم يزالا عاملين لسليمان بن عبد الملك مدة خلافته. لناس أحشمه ذلك فنكس رأسه فاقبل خزيمة حتى إنكب على رأسه فقبله فرفع رأسه إليه وقال ما أعقب هذا منك قال كريم فعلك وسوء مكافأتي قال يغفر الله لنا ولك ثم أمر بفك قيوده وأن توضع في رليه فقال عكرمة تريد ماذا قال أريد أن ينالني من الضر مثل ما نالك فقال أقسم عليك بالله أن لا تفعل فخرجا جميعاً إلى أن وصلا إلى دار خزيمة فودعه عكرمة وأراد الإنصراف فلم يمكنه من ذلك قال وما تريد قال أغير من حالك وحيائي

ص: 216

من ابنة عمك أشد من حيائي منك ثم أمر بالحمام فأخليت ودخلا جميعاً ثم قام خزيمة فتولى خدمته بنفسه ثم خرجا فخلع عليه وحمل إليه مالاً كثيراً ثم سار معه إلى داره واستأذنه في الاعتذار من ابنة عمه فأذن له فاعتذر إليها وتذمم من ذلك ثم سأله أني سير معه إلى أمير المؤمنين وهو يومئذ مقيم بالرملة فأنعم له بذلك فسارا جميعا حتى قدما على سليمان بن عبد الملك فدخل الحاجب فأخبره بقدوم خزيمة بن بشر فراعه ذلك وقال: والي الجزيرة يقدم علينا بغير أمرنا مع قرب العهد به ما هذا إلا لحادث عظيم فلما دخل عليه قال قبل أن يسلم ما وراءك يا خزيمة قال خير يا أمير المؤمنين قال فما أقدمك قال ظفرت بجابر عثرات الكرام فأحببت أن أسرك لما رأيت من شوقك إلى رؤيته قال ومن هو قال عكرمة الفياض فأذن له في الدخول فدخل فسلم عليه بالخلافة فرحب به وأدناه من مجلس وقال يا عكرمة كان خيرك له وبالا عليك ثم قال له اكتب حوائجك وما تختاره في رقعة فكتبها وقضيت على الفور ثم أمر له بعشرة آلاف دينار مع ما أضيف إليها من التحف والظرف ثم دعا بقناة وعقد له على الجزيرة وأرمينية واذربيجان وقال له أمر خزيمة إليك إن شئت أبقيته وإن شئت عزلته قال بد أرده إلى عمله يا أمير المؤمنين ثم انصرفا جميعاً ولم يزالا عاملين لسليمان بن عبد الملك مدة خلافته.

وضارع ذلك من المستجاد أيضا ما روي عن أبي موسى

ص: 217

محمد بن الفضل بن يعقوب كاتب عيسى بن جعفر قال حدثني أبي قال كنت أتردد إلى زينب بنت سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس وأخدمها فتوجهت إلى خدمتها يوماً فقالت أقعد حتى أحدثك حديثاً كان بالأمس يكتب على الآماق، كنت أمس عند الخيزران ومن عادتي أن أجلس بإزائها وفي الصدر مجلس للمهدي يجلس فيه وهو يقصدنا في كل وقت فيجلس قليلاً ثم ينهض فبينما نحن كذلك إذ دخلت علينا جارية من جواريها فقالت أعز الله السيدة، بالباب امرأة ذت جمال وخلقة حسنة ليس وراء ما هي عليه من سوء الحال غاية، تستأذن عليك وقد سألتها عن اسمها فامتنعت من أن تخبرني فالتفتت إلي الخيرزان وقالت ما تريدين فقلت أدخليها فإنه لا بد من فائدة أو ثواب فدخلت امرأة من أجمل النساء لا تتوارى بشيء فوقفت بجنب عضادة الباب ثم سملت متضائلة ثم قالت أنا زنة بن مروان بن محمد الأموي فقالت الخيزران لا حيّاك الله ولا قربك فالحمد لله الذي أزال نعمتك وهتك سترك وأذلك أتذكرين يا عدوة الله حين أتاك عجائز أهل بيتي يسألنك أن تكلمي صاحبك في الأذن في دفن إبراهيم بن محمد فوثبت عليهن وأسمعتيهن ما لا سمعن قبل وأمرت فأخرجن على تلك الحالة فضحكت مزنة فما أنسى حسن ثغرها وعلو صوتها بالقهقهة، ثم قالت يا بنت العم أي شيء أعجبك من حسن صنيع الله بي

ص: 218

على العقوق حتى أردت أن تتأسي بي فيه، والله إن فعلت بنسائك ما فعلت فأسلمني الله لك ذليلة جائعة عريانة، وكان ذلك مقدار شرك لله تعالى على ما أولاك بي، ثم قالت السلام عليكم ثم ولت مسرعة فصاحت بها الخيزران فرجعت، قالت زينب: فنهضت إليها الخيزران لتعانقها فقالت وليس في لذلك موضع مع الحال التي أنا عليها فقالت الخيزران لها فالحمام إذا وأمرت جماعة من جواريها بالدخول معها إلى الحمام فدخلت وطلبت ماشطة ترمي ما على وجهها من الشعر فلما خرجت من الحمام وافتها الخلع والطيب فأخذت في الموضع الذي يجلس فيه أمير المؤمنين المهدي ثم قالت لها الخيزران هل لك في الطعام فقالت والله ما فيكن أحوج مني إليه فعجعلوه، فأي بالمائدة فجعلت تأكل غير محتشمة إلى أن اكتفت ثم غسلنا أيدينا فقالت لها الخيزران من وراءك مما تعتنين به قالت ما خارج هذه الدار من بيني وبينه نسب فقالت إذا كان الأمر هكذا فقومي حتى تختاري لنفسك مقصوردة من مقاصيرنا وتحولي لها جميع ما تحتاجين إليه ثم لا نفترق إلى الموت فقامت ودارت بها في المقاصير فاختارت أوسعها وأنزهها ولم تبرح حتى حولت إليها جميع ما تحتاج إليه من الفرش والكسوة قالت زينب ثم تركناها وخرجنا عنها فقالت الخيزران هذا المرأة قد كانت فيما كانت فيه وقد مسها الضر وليس يغسل ما في قلبها إلا المال

ص: 219

فاحملوا إليها خمسمائة ألف درهم فحملت إليها وفي أثناء ذلك وافى المهدي فسألنا عن الخبر فحدثته الخيزران حديثها وما لقيتها به فوثب مغضبا وقال للخيزران هذا مقدار شكر الله على أنعمه وقد أمكنك من هذه المرأة مع الحالة التي هي عليها فوالله لولا محلك بقلبي لحلفت أن لا أكلمك أبداً فقالت الخيزران يا أمير المؤمنين قد اعتذرت إليها ورضيت وفعلت معها كذا وكذا فلما علمي المهدي ذلك قال لخادم كان معه أحمل إليها مائة بدرة وأدخل إليها وأبلغها مني السلام وقل لها والله ما سررت في عمري كسروري اليوم وقد وجب على أمير المؤمنين إكرامك ولولا احتشامك لحضر إليك مسلماً عليك وقاضيا لحقك فمضى الخادم بالمال والرسالة فأقبلت على الفور فسلمت على المهدي بالخلافة وشكرت صنعه وبالغت في الثناء على الخيزران عنده وقالت ما على أمير المؤمنين حشمة إنا في عدد حرمه ثم قامت إلى منزلها، فخلفتها عند الخيزران وهي تتصرف في المنازل والجواري كتصرف الخيزران فأخِّها عندك فإنها من أحسن النوادر.

وروي عن عبد الرحمن بن عمر الفهري عن رجال سماهم، أمر المأمون أن يحمل إليه عشرة من أهل البصرة كانوا قد رموا بالزندقة فحملوا فرآهم أحد الطفيلية قد اجتمعوا بالساحل فقال ما اجتمع هؤلاء إلى لوليمة فدخل معهم ومضى بهم الموكلون إلى البحر وأطلعوهم في زورق قد أعد لهم فقال الطفيلي لا شك أنها نزهة فصعد

ص: 220

معهم في الزورق فلم يكن بأسرع من أن قيدوا وقيد الطفيلي معهم فعلم أنه قد وقع ورام الخلاص فلم يقدر وساروا بهم إلى أن دخلوا بغداد وحملوا حتى دخلوا على المأمون مثلوا بين يديه أمر بضرب اعناقهم فاستدعوهم باسمائهم حتى لم يبق إلى الطفيلي وهو خارج عن العدة فقال لهم المأمون من هذا قالوا والله ما ندري يا أمير المؤمنين غير أنا وجدناه مع القوم فجئنا به فقال له المأمون ما قصتك قال يا أمير المؤمنين امرأتي طالق إن كنت أعرف من أقوالهم شيئا ولا أعرف غير لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما رأيتم مجتمعين فظننت أنهم يدعون إلى وليمة فالتحقت بهم قال فضحك المأمون ثم قال بلغ من شؤم التطفل إن أحلّ صاحبه هذا المحل لقد سلم هذا الجاهل من الموت ولكن يؤدب حتى يتوب قال إبراهيم بن المهدي هبّهُ لي وأحدثك بحديث عن نفسي في التطفل عجيب قال المأمون قد وهبته لك هات حديثك قال يا أمير المؤمنين خرجتت يوماً متنكراً للتنزه فأنتهى بي المشي إلى موضع شممت منه روائح طعام وأبازير قد فاحت فتاقت نفسي إليها ووقفت يا أميرالمؤمنين لا أقدر على المضي فرفعت بصري وإذا بشباك ومن خلفه كفٌّ والمعصم ما رأيت أحسن منهما فوقفت حائراً ونسيت روائح الطعام بذلك الكفّ والمعصم وأخذت في إعمال الحيلة فإذا خياط من ذلك الموضع فتقدمت إليه وسلمت عليه فرد علي السلام فقلت لمن هذه الدار قال

ص: 221

لرجل من التجار قلت ما أسمه قال فلان بن فلان فقلت هو ممن يشرب الخمر قال نعم وأحسب اليوم أن عنده دعوة وليس ينادم إلى التجار فبينما نحن في الكلام إذا أقبل رجلان نبيلان راكبان فأعلمني أنهما أخص الناس بصحبته واعلمني بأسميهما فحركت دابتي فلقيتهما وقلت جعلت فداءكما قد استبطأكما أبو فلان وساررتهما حتى أتيا الباب فدخلت وخلا فلما رآني صاحب الدار معهما لم يشك أني منهما فرحب بي وأجلسني في أفضل المواضع ثم جيء بالمائدة فقلت في نفسي هذه الألوان قد منَّ الله عليَّ ببلوغ الغرض منها بقي الكف والمعصم ثم نقلنا إلى مجلس المنادمة فرأيت مجلسا محفوفا باللطائف وجعل صاحب المجلس يتلطف بي ويقبل عليّ في الحديث لظنه أني ضيف لأضيافه وهم على مثل ذلك حتى شربنا أقداحا إذ خرجت علينا جارية كأنها غصن بان في غاية الظرف وحسن الهيئة فسلمت غير خجلة وأتي بعود فأخذته وجسَّته فإذا هي حاذقة واندفعت تقول:

أليس عجيباً أن بيتاً يضمني

وإياك لا نخلو ولا نتكلمُ

سوى أعينٍ تبدي سرائرَ أنفسٍ

وتقطيعُ أنفاسٍ على النار تُضرم

اشارةُ افواهٍ وغمزُ حواجبٍ

وتكسير أجفانٍ وكفٌّ يُسلِّم

فهيجت يا أمير المؤمنين بلابلي فطربت لحذقها وحسن شعرها الذي غنت به فحسدتها وقلت قد بقي عليك يا جارية شيء فرمت العود وقالت متى كنتم تحضرون البغضاء

ص: 222

في مجالسكم فندمت على ما كان مني ورأيت القوم قد أنكروا عليَّ ذلك فقلت في نفسي فاتني جميع ما أملت فقلت أثمّ عود قالوا نعم فأحضروا عوداً فأصلحت ما أرت فيه ثم أندفعت فغنيت:

هذا محبّك مطويٌّ على كمده

صبٌّ مادامعهُ تجري على جسده

له يدٌ تسأل الرحمن راحتهُ

مما به ويدٌ أخُرى على كبده

يا من رأى كلفاً مستبعداً دنفاً

كانت منيتهُ في عينه ويده

فوثبت الجارية فاكبت على رجلي تقبلها وقالت المعذرة إليك يا سيدي والله ما علمت بمكانك ولا سمعت بمثل هذه الصناعة ثم أخذ القوم في إكرامي وتبجيلي بعدما طربوا غاية الطرب وسألني كل منهم الغناء فغنيت لهم نوبات مطربة فغلب القوم السكر وغابت عقولهم فحملوا إلى منازلهم وبقي صاحب المنزل فشرب معي أقداحا ثم قال يا سيدي ذهب ما مضى من عمري مجاناً إذ لم أعرف مثلك فبالله يا مولاي من أنت لا أعرف نديمي الذي من الله عليَّ به في هذه الليلة فأخذت أداري وهو يقسم عليَّ فأعلمته فوثب قائما وقال قد عجبت أن يكون هذا الفضل إلا لمثلك ولقد أسدى إليَّ الزمان يداً لا أقوم بشكرها ومتى طمعت أن تزروني الخلافة في منزلي وتنادمني ليلتي وما هذا إلا في المنام فأقسمت عليه أن يجلس فجلس وأخذ يسالني عن السبب في حضوري عنده بألطف معنى فأخبرته بالقصة من أولها إلى آخرها وما سترت منها شيئا ثم قلت أما الطعام فقد نلت منه بغيتي

ص: 223

فقال والكف والمعصم إن شاء الله ثم قال يا فلانة قولي لفلانة تنزل ثم جعل يستدعي واحدة بعد واحدة يعرضها عليّ وأنا لا أرى صاحبتي إلى أن قال والله ما بقي إلا أمي وأختي ووالله لتنزلان فعجبت من كرمه وسعة صدره فقلت جعلت فداءك تبدأ بالأخت قال حبا وكرامة ثم نزلت أخته فأراني يدها فإذا هي التي رأيتها فقلت هذه الحاجة فأمر غلمانه لوقته فأحضروا الشهود وأحضروا بدرتين فلما حضر الشهود قال لهم هذا سيدي إبراهيم بن المهدي يخطب أختي فلانة وأشهدكم إني قد زوجتها له وأمهرتها منه عشرين ألف درهم فقلت قبلت ذلك ورضيت فشهدوا فدفع البدرة الواحدة إلى أخته والأخرى فرقها على الشهود ثم قال يا سيدي أمهد لك بعض البيوت فتنام مع أهلك فاحشمني ما رأيت من كرمه وتذممت أن أخلوا بها في داره ثم قلت بل أحضر عمارتي وأحملها إلى منزلي فقال افعل ما شئت فأحضرت عمارتي وحملتها إلى منزلي فوحقِّك يا أمير المؤمنين لقد حمل إليَّ من الجهاز ما ضاقت عنه بيوتنا على سعتها وأولدتها هذا الغلام القائم بين يدي أمير المؤمنين فعجب المأمون من كرم هذا الرجل وقال لله دره ما سمعت قط بمثلها وأمر إبراهيم بإحضار الرجل ليشاهده فأحضره بين يديه فاستنطقه فأعجبه وصيره من جملة خواصه ومحاضريه.

ومن غريب المنقول إن فتى من ذوي النعم قعد به زمانه وكانت له جارية حسناء محسنةً في الغناء

ص: 224

فضاق بهم الخناق واشتد بهما الحال في عدم ما يقتاتان به فقال لها قد ترين ما قد صرنا إليه من هذه الحالة السيئة ووالله لموتي وأنت معي أحسن وأهون علي مما أذكره لك فإن رأيت أن أبيعك لمن يحسن إليك ويغسل عنك ما أنت فيه وأنفرج أنا بما لعله يصير إليَّ من الثمن ولعلك تحصلين عند من تتوصلين إلى نفعي معه فقالت والله لموتي على تلك الحالة معك آثر عندي من أنتقالي إلى غيرك ولو كان خليفة ولكن أصنع ما بدا لك قال: فخرج وعرضها للبيع فأشار عليه أحد أصدقائه ممن له رأي أن يحملها إلى ابن معمر أمير العراق فحلمها إليها فلما عرضت عليها استحسنها فقال لمولاها كم كان شراؤها عليك قال مائة ألف درهم وقد أنفقت عليها مالاً كثيراً حتى صارت في رتبة الأستاذين قال أما ما أنفقت عليها فغير محتسب لك به لأنك أنفقته في لذاتك وأما ثمنها فقد أمرنا لك بمائة ألف درهم وعشرة أسفاط من الثياب وعشرة رؤوس من الخيل وعشرة رؤوس من الرقيق أرضيت قال نعم أرضى الله الأمير فأمر بالمال فأحضر وأمر قهرمانة بإدخال الجارية إلى الحرم فأمسكت بجانب الستر وبكت وقالت:

هنيئاً لك المالُ الذي قد أفدتهُ

ولم تُبقِ في كفَّيَّ غير التفكُّر

أقولُ لنفسي وهي في كرباتها

أقليِّ فقد بان الحبيبُ أو أكثري

إذا لم يكن للأمر عندكِ موضعٌ

ولم تجدي بدًّا من الصبر فاصبري

ص: 225

فبكى مولاها وأجاب قائلا:

ولولا قعود الدهر بي عنك لم يكن

يفرقنا شيءٌ سوى الموت فأعذري

أروح بهمٍّ من فراقك موجعٍ

أناجي به قلباً قليل التصبُّر

عليك سلامي لا زيارة بيننا

ولا قرب إلا أن يشاء ابنُ معمر

فقال له ابن معمر قد شئت فخذها بارك الله لك فيها وفيما وصل إليك منها فأخذها وأخذ المال والخيل والرقيق والثياب وعاد وقد حسنت حاله.

ومما جنيته من ثمرات الأوراق أن الحجاج لما وليّ قتل عبد الله ابن الزبير رحل إلى عبد الملك بن مروان ومعه إبراهيم بن محمد بن طلحة فلما قدم على عبد الملك سلم عليه بالخلافة وقال قدمت عليك يا أمير المؤمنين برجل الحجاز في الشرف والأبوة وكمال المروءة والأدب وحسن المذهب والطاعة والنصيحة مع القرابة وهو إبراهيم بن محمد بن طلحة بن عبيد الله فافعل بها يا أمير المؤمنين ما يستحق أني فعل بمثله في أبوته وشرفه فقال عبد الملك: يا أبا محمد أذكرتنا حقا واجبا ائذنوا لابراهيم فلما دخل وسلم بالخلافة أمره بالجلوس في صدر المجلس وقال له عبد الملك: إن أبا محمد ذكرنا ما لم نزل نعرفه منك من الأبوة والشرف فلا تدع حاجة في خاصة أمرك وعامته إلا سالتها فقال إبراهيم أما الحوائج التي نبتغي بها الزلفى ونرجو بها الثواب فما كان لله خالصاً ولنبيه صلى الله عليه وسلم ولكن لك يا أمير المؤمنين عندي نصيحة لا أجد بدَّاً من ذكري إياها قال أهي دون ابي محمد قال نعم:

ص: 226

قال قم يا حجاج فنهض الحجاج خجلاً لا يبصر أين يضع رجله ثم قال عبد الملك قل يا ابن طلحة فقال تالله يا أمير المؤمنين إنك عمدت إلى الحجاج في ظلمه وتعديه على الحق واصغائه إلى الباطل فوليته الحرمين وفيهما من فيهما من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبناء المهاجرين والأنصار يسومهم الخسف ويطأهم العسف بطغام أهل الشام ومن لا رؤية له في إقامة الحق ولا إزاحة الباطل قال فاطرق عبد الملك ساعة ثم رفع رأسه وقال: كذبت يا ابن طلحة ظن فيك الحجاج غير ما هو فيك قم فربما ظن الخير بغير أهله قال فقمت وأنا ما أبصر طريقا قال وأتبعني حرسياً وقال أشدد به قال إبراهيم فما زلت جالساً حتى دعا الحجاج فما زالا يتناجيان طويلا حتى ساء ظني ولا أشك أنه في أمري ثم دعا بي فلقيني الحجاج في الصحن خارجا فقبل بين عيني وقال أحسن الله جزاءك. فقلت في نفسي إنه يهزأ بي ودخلت على عبد الملك فأجلسني مجلسي الول ثم قال يا ابن طلحة هل اطلع على نصيحتك أحد فقلت لا والله يا أمير المؤمنين ولا أردت إلا الله ورسوله والمسلمين وأمير المؤمنين علم ذلك فقال عبد الملك قد عزلت الحجاج عن الحرمين لما كرهته لهما وأعلمته أنك استقللت ذلك عليه وسألتني له ولاية كبيرة ولقد وليته العراقين وقررت له أن ذلك بسؤالك ليلزمه من حقك ما لابد له من القيام به فأخرج معه غير ذامٍّ لصحبته.

ومن لطائف المنقول عن القاضي أبي الحسين بن عبد المحسن بن علي التنوخي رحمه الله تعالى أن الاسكندر لما انتهى إلى الصين ونزل على ملكها أتاه حاجبه وقد مضى من الليل شطره فقال

ص: 227

له رسول ملك الصين يستأذن عليك فقال ائذن له فلما دخل عليه وقف بين يديه وسلم وقال إن رأى الملك أن يخلي مجلسه فليفعل فأمر الإسكندر من يخدمه بالانصراف ولم يبق غير حاجبه فقال له الرسلو الذي جئت به لا يجمل أن يسمعه غيرك فأمر بتفتيشه ففتش فلم يوجد معه شيء ن السلاح فوضع الإسكندر بين يديه سيفاً مجرداً وقال له قل ما ئشت ثم أخرج جميع من عنده فلما خلا المكان قال له الرسول أنا ملك الصين لا رسوله وقد حضرت أسالك عما تريد فإن كان مما يمكن الانقياد إليه ولو على أصعب الوجوه أجبت إليه وغنيت أنا وأنت عن الحرب فقال له الإسكندر وما الذي أمنك مني: قال علمي بأنك رجل عاقل وليس بيننا عداوة متقدمة ولا مطالبة بدخل ومتى قتلتني أقاموا غيري ولم يسلموا إليك البلد ثم تنسب أنت إلى غير الجميل وضد الحزم فأطرق الاسكندر متفكراً في مقاله وعلم أنه رجل عاقل فقال له أريد ارتفاع ملكك لثلاث سنين عاجلاً ونصف ارتفاعه في كل سنة قال أجبتك قال فكيف تكون حالك قال أكون قتيلاً أو محارباً قال فإن قنعت منك بارتفاع سنتين كيف حالك قال أصلح مما تقدم ذكره قال فإن قنعت منك بارتفاع سنة واحدة قال يكون مضرا بين ومذهبا لجميع لذاتي قال فإن اقتصرت منك على السدس قال يكون السدس موفراً والباقي لجيشي ولأسباب الملك

ص: 228

قال: قد اقتصرت على هذا فشكره وانصرف، فلما أصبحت وطلعت الشمس أقبل جيش الصين حتى طبق الأرض واختلط بجيش الإسكندر فارتعب وتواثبت أصحابه فركبوا واستعدوا للحرب فبينما هم كذلك إذ ظهر ملك الصين وعليه التاج فلما رأى الإسكندر ترجل فقال له الإسكندر أغدرت قال لا والله قال فما هذا الجيش قال أردت أن أعلمك أني لم أطعك من ضعف ولا من قلة وما غاب عنك من الجيش أكثر لكني رأيت العالم الكبر مقبلا عليك ممكنا لك فعلمت أنه من حارب العالم الأكبر غلب فأردت طاعته بطاعتك والذلة لأمره بالذلة لأمرك فقال الإسكندر ليس مثلك يؤخذ منه شيء فما رأيت بين وبينك أحداً يستحق التفضيل والوصف بالفضل غيرك وقد أعفيتك من جميع ما أردته منك وأنا منصرف عنك فقال ملك الصين أما إذ فعلت ذلك فلست تخسر فلما انصرف الاسكندر اتبعه ملك الصين من الهدايا والتحف بضعف ما كان قدره عليه.

ومن غريب المنقول عن أبي الفرج الأصبهاني أنه قال أخبرني عمي عن أبيه عن الكلبي عن أبيه قال أخبرني شيخ من بني نبهان قال أصابت بني نبهان سنة ذهبت بالأموال فخرج رجل منهم بعياله حتى أنزلهم الحيرة وقال كونوا قريبا من الملك يصبكم من خيره حتى أرجع إليكم ومضى على وجهه يسوق راحلته سبعة أيام حتى انتهى إلى عطن إبل عند تطفيل الشمس فإذا خباء عظيم وقبة

ص: 229

من أدم قال فقلت في نفسي ما لهذا الخباء بد من أهل وما لهذه القبة بد من رب وما لهذا العطن بد من ابل فنظرت في الخباء فإذا شيخ كبير قد أوهاه الكبر وهو شبه النسر فجلست خلفه فلما انصرم النهار أقبل فارس لم أر أعظم من شكله وفي خدمته أسودان يمشيان بين جنبيه وإذا مائة من الإبل معها فحلها فبرك الفحل وبركن حوله فقال لأحد عبيده احلب فلان فحلبها ثم وضع اللبن بين يدي الشيخ فكرع منه وأخذه وقدمه إلي فشربت نصفه ثم أمر بشاة فذبحت وشويت وأكلنا منها جميعاً فأملهت حتى إذا ناموا وحكم عليهم النوم ثرت إليى الفحل فحللت عقاله وركبته فاندفع بي وتبعته الإبل فمشيت إلى الصباح فلما أصبحت نظرت فلم أجد أحدا ولما تعالى النهار التفت فإذا أنا بخيال كأنه طائر فما زال يدنو تى تبينته فإذا هو فارس على فرس وإذا هو صاحبي بالامس فعقلت الفحل وعمدت إلى كنانتي فقال: إحلل عقاله فقلت كلا لقد خلفت خلفي عيالا جياعاً بالحيرة قال فإنك ميت حل عقاله لا أم لك وانصب علي خطامه واجعل فيه خمس عقد وقل لي أين تحب أن أضع سهمي فقلت في هذا الموضع فكأنما وضعها بيده ثم أقبل يرمي حتى أصاب الخمس بخمسة أسهم فرددت نبلي وحططت قوسي ووقفت مستسلما فدنا مني وأخذ القوس والسيف ثم أردفني خلفه وقد عرف أني الذي شربت اللبن عنده وأكلت اللحم

ص: 230

فقال كيف ظنك بي فقلت أحسن ظن فقال أبشر إنه لن ينالك شر وقد كنت ضيف مهلهل فقلت أزيد الخيل أنت قال نعم أنا زيد الخيل فلماَّ انتهينا إلى منزله قال لو كانت هذه الإبل لي لسلمتها إليك ولكنها لابنة مهلهل فأقم عندي فأقمت عنده أياما فشن الغارة على بني نمير فأصاب مائة بعير فقال هذه أحب إليك أم تلك قلت هذه قال دونكها وبعث معي خفراء من ماء إلى ماء إلى أن وردت الحيرة فلقيني نبطي فقال يا أعرابي احتفظ بابلك فقد قرب مخرج النبي صلى الله عليه وسلم الذي يملك هذه الأرض ويطرد أهلها حتى أن أحدكم ليبتاع البستان بثمن بعير قال فاحتملت بأهلي إلى النبط حتى جاءنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلمنا على يديه وما مضت إلا أيام حتى اشتريت بثمن بعير من ابلي بستاناً بالحيرة والله أعلم.

ونقل عن الواقدي قال كان لي صديقان أحدهما هاشمي والآخر نبطي فكنا في الصداقة كنفس واحدة فنالتني ضيقة شديدة وحضر العيد فقالت امرأتي أما نحن فنصبر على البؤس والشدة وأما صبياننا هؤلاء فقد نقطَّع قلبي عليهم رحمة لأنهم يرون صبيان جيراننا وقد تزينوا في عيدهم وهم فرحون ولا بأس بالاحتيال فيما نصرفه في كسوتهم قال فكتبت إلى صديقي الهاشمي أسأله التوسعة عليَّ بشيء فوجه إليَّ كيسا فيه ألف درهم فما استقر قراره حتى كتب إليَّ صديقي الآخر يشكو إلى مثل ما شكوته إلى الهاشمي فوجهت إليه

ص: 231

بالكيس على حاله وخرجت إلى المسجد وأنا مستح من امرأتي فلما دخلت عليها لم تعنفني لعلمها بالحال فبينما أنا كذلك إذ أقبل صديقي الهاشمي ومعه الكيس بختمه فقال أصدقني عما فعلته فيما وجهتُ به إليك فاعلمته بالخبر فقال إنك وجهت به إليَّ ولا أملك إلا ما بعثت به إليك وكتبت إلى صديقنا أسأله المواساة فوجه إليَّ كيس بختمه فاخرجنا للمرأة مائة درهم وتقاسمنا الباقي أثلاثا ونما الخبر إلى المأمون فاحضرني وسألني عن الخبر فشرحته له فأمر لنا بسبعة آلاف دينار منها ألف للمرأة وألفان لكل واحد منا.

ويضارع ذلك ما هو منقول عن الأصمعي قال قصدت في بعض الأيام رجلا كنت أغشاه لكرمه فوجدت على بابه بوابا فمنعني من الدخول إليه ثم قال والله يا أصمعي ما أوقفني على بابه لأمنع مثلك إلا لرقة حاله وقصور يده فكتبت رقعة فيها:

إذا كان الكريم له حجابٌ

فما فضل الكريم على اللئيم

ثم قلت له أوصل رقعتي إليه ففعل وعاد بالرقعة وقد وقع على ظهرها:

إذ كان الكريم قليل مالٍ

تحجّب بالحجاب عن الغريم

ومع الرقعة صرة فيها خمسمائة دينار فقلت والله لأتحفن المأمون بهذا الخبر فلما رآني قال من أين يا أصمعي قلت من عند رجل أكرم الأحياء حاشى أمير المؤمنين قال ومن هو فدفعت إليه الورقة والصرة وأعدت عليه الخبر فلما رأى الصرة قال هذا من بيت مالي ولا بد لي من الرجل

ص: 232

فقلت والله يا أمير المؤمنين إني أستحي أن أروعه برسلك فقال لبعض خاصته امض مع الأصمعي فإذا أراك الرجل قل له أجب أمير المؤمنين من غير ازعاج قال فلما حضر الرجل بين يدي المأمون قال له أما أنت الذي وقعت بالامس وشكوت رقة الحال وأن الزمان قد أناخ عليك بكلكله فدفعنا إليك هذه الصرة لتصلح بها حالك فقصدك الأصمعي ببيت واحد فدفعتها إليه فقال نعم يا أمير المؤمنين والله ما كذبت فيما شكوت لأمير المؤمنين من رقة الحال لكن استحيت من الله تعالى أن أعيد قاصدي إلى كما أعادني أمير المؤمنين فقال له المأمون لله أنت فما ولدت العرب أكرم منك ثم بالغ في إكرامه وجعله من جملة ندمائه.

ومن لطائف المنقول ما هو منقول عن الربيع إنه قال ما رأيت رجلا أثبت ولا أربط جأشا من رجل رفع إلى المنصور أن عنده ودائع وأموالا لبني أمية فأمرني باحضاره فأحضرته ودخلت به إليه فقال له المنصور قد رفع إلينا الودائع والأموال التي لبني أمية عندك فأخرج لنا منها فقال يا أمير المؤمنين أوارث أنت لبني أمية قال لا، قال فوصي قال لا، قال فما سؤالك عما في يدي من ذلك قال فأطرق المنصور ساعة ثم رفع رأسه وقال: إن بني أمية ظلموا المسلمين فيها وأنا وكيل المسلمين في حقهم فأريد أن آخذ أموال المسلمين وأجعلها في بيت مالهم فقال يا أمير المؤمنين تحتاج في ذلك إلى إقامة

ص: 233

البينة العادلة على أن الذي في يدي لبني أمية مما خانوه وظلموه واغتصبوه من أموال المسلمين فإن بني أمية كان لهم أموال غير أموال المسلمين قال فأطرق المنصور ساعة ثم رفع رأسه إلي وقال صدق الرجل يا ربيع ما وجب عليه عندنا شيء ثم بش في وجهه فقال هل لك من حاجة فقال نعم يا أمير المؤمنين حاجتي أن تنقذ كتابي مع البريد إلى أهلي ليسكنوا إلى سلامتي فقد راعهم اشخاصي وقد بقيت لي حاجة أخرى يا أمير المؤمنين قال ما هي قال تجمع بيني وبين من سعى بي إليك فو الله ما لبني أمية عندي ولا في يدي وديعة ولكنني لما مثلت بين يديك وسألتني رأيت ما قلته أقرب إلى الخلاص والنجاة فقال يا ربيع اجمع بينه وبين من سعى به فجمعت بينهما فقال هذا غلامي ضرب على ثلاثة آلاف من مالي وابق فشدد المنصور على الغلام فأقر أنه غلامه وأنه أخذ المال الذي ذكره وأبق منه وكذب عليه خوفا من الوقوع في يده فقال المنصور للرجل نسألك أن تصفح عنه فقال يا أمير المؤمنين صفحت عن جرمه وأبرأته من المال وأعطيته ثلاثة آلاف دينار أخرى فقال المنصور ما على ما فعلت مزيد في الكرم قال بلى يا أمير المؤمنين هذا حق كلامك وانصرف

ص: 234

وكان المنصور يتعجب منه كلما ذكره ويقول ما رأيت مثل هذا الرجل يا ربيع.

رحلة الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه قال الشيخ الإمام العالم المقرّي أبو القاسم عبد العزيز بن يوسف الأردبيلي المالكي بالجامع العتيق بمصر في سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة أخبرنا الشيخ أبو محمد عبد الله بن فتح المعروف بابن الحبشي سنة ثلاثين وخمسمائة أخبرنا الشريف القاضي الموسوي أبو إسماعيل موسى بن الحسي بن إسماعيل بن علي الحسيني المقّري في سنة أربع وثمانين وأربعمائة بالجماع العتيق بمصر قال أخبرنا الشيخ أبو العباس حمد بن إبراهيم الفارسي في ربيع الأول سنة إحدى وخمسين وأربعمائة قال أخبرنا يحيى بن عبد الله الرجل الصالح ويحيى ابن موسى المعدل بمصر قال حدثنا أبو الحسن أحمد بن محمد الواعظ المصري الكرازة قال حدثني أبو الفرج عبد الرزاق حمدان البطين قال حدثني أبو بكر محمد بن المثنى قال حدثني الربيع بن سليمان قال سمعت الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه يقول: فارقت مكة وأنا ابن أربعة عشرة سنة لا نبات بعارضي من الأبطح إلى ذي طوى وعلّي بردتان يمانيتان فرأيت ركبا فسلمت عليهم فردوا علي السلام ووثب إلّي شيخ كان فيهم قال سألتك بالله إلا ما حضرت طعامنا قال الشافعي رضي الله عنه ما كنت أعلم أنهم أحضروا طعاما فأجبت مسرعا غير محتشم فرأيت القوم يأخذون الطعام بالخمس ويدفعون بالراحة فأخذت

ص: 235

كأخذهم كي لا يستبشع عليهم مأكلي والشيخ ينظر إلي ثم أخذت السقاء فشربت وحمدت الله وأثنيت عليه فأقبل عليَّ الشيخ وقال أمكي أنت قلت مكي قال أقرشي أنت قلت قرشي ثم أقبلت عليه وقلت يا عم بم استدللت عليَّ قال أما في الحضر فبالزي وأما في النسب فبأكل الطعام لأنه من أحب أن يأكل طعام الناس أحب أن يأكلوا طعامه وذلك في قريش خصوصا قال الشافعي رضي الله تعالى عنه فقلت للشيخ من أين أنت قال من يثرب مدينة النبي صلى الله عليه وسلم فقلت له من العالم بها والمتكلم في نص كتاب الله تعالى والمفتي بأخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم قال سيد بني أصبح مالك ابن أنس رضي الله تعالى عنه قال الشافعي رضي الله عنه فقلت واشوقاه إلى مالك فقال لي قد بل الله شوقك أنظر إلى هذا البعير الاورق فإنه أحسن جمالنا ونحن على رحيل ولك منا حسن الصحبة حتى تصل إلى مالك فما كان غير بعيد حتى قطروا بعضها وأركبوني البعير الاورق وأخذ القوم في السير وأخذت أنا في الدرس فختمت من مكة إلى المدينة ست عشرة ختمة بالليل ختمة وبالنهار ختمة ودخلت المدينة في اليوم الثامن بعد صلاة العصر فصليت العصر في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ودنوت من القبر فسلمت على النبي صلى الله عليه وسلم ولذت بقبره فرأيت مالك بن أنس متزرا ببردة متوشحا بأخرى قال حدثني نافع عن ابن عمر عن صاحب هذا القبر وضرب بيده إلى قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم

ص: 236

قال شافعي رضي الله عنه فلما رأيت ذلك هبته مهابة عظيمة وجلست حيث انتهى بي المجلس فأخذت عودا من الأرض فجعلت كلما أملى مالك حديثا كتبته بريقي على يدي والإمام مالك رضي الله عنه ينظر إلي من حيث لا أعلم حتى انقضى المجلس وانتظرني مالك أن أنصرف فلم يرني انصرفت فأشار إلي فدنوت منه فنظر إلي ساعة ثم قال أحرمي أنت قلت حرمي قال أمكي أنت قلت مكي قال أقرشي أنت قلت قرشي قال كملت أوصافك لكن فيك إساءة أدب قلت وما الذي رأيت من سوء أدبي قال رأيتك وأنا أملي ألفاظ الرسول عليه الصلاة والسلام تلعب بريقك على يدك فقلت له عدمت البياض فكنت أكتب ما تقول فجذب مالك يدي إليه فقال ما أرى عليها شيئا فقلت إن الريق لا يثبت على اليد ولكن فهمت جميع ما حدثت به منذ جلست وحفظته إلى حين قطعت فتعجب الإمام مالك من ذلك فقال أعد عليَّ ولو حديثا واحدا.

قال الشافعي رضي الله عنه فقلت حدثنا مالك عن نافع عن ابن عمر وأشرت بيدي إلى القبر كإشارته حتى أعدت عليه خمسة وعشرين حديثا حدث بها من حين جلس إلى وقت قطع المجلس وسقط القرص فصلى مالك المغرب وأقبل على عبده وقال خذ بيد سيدك إليك وسألني النهوض معه.

قال الشافعي رحمه الله فقمت غير ممتنع إلى ما دعا من كرمه فلما أتيت الدار أدخلني الغلام إلى خلوة في الدار وقال لي القبلة في البيت هكذا وهذا إناء فيه ماء وهذا

ص: 237

بيت الخلاء. قال الشافعي رضي الله عنه فما لبث مالك رضي الله عنه حتى أقبل هو والغلام حاملاً طبقا فوضعه من يده وسلم الإمام عليَّ ثم قال للعبد اغسل علينا ثم وثب الغلام إلى الاناء وأراد أن يغسل عليَّ أولاً فصاح عليه مالك قال الغسل في أول الطعام لرب البيت وفي آخر الطعام للضيف.

قال الشافعي رضي الله عنه فاستحسنت ذلك من الإمام مالك رضي الله عنه وسألته عن شرحه فقال أنه يدعو الناس إلى كرمه فحكمه أن يبتدىء بالغسل وفي آخر الطعام ينتظر من يدخل فيأكل معه.

قال الشافعي رضي الله عنه فكشف الإمام رضي الله عنه الطبق فكان فيه صفحتان في إحداهما لبن والأخرى تمر فسمى الله تعالى وسميت فأتيت أنا ومالك على جميع الطعام وعلم مالك أنا لم نأخذ من الطعام الكفاية فقال لي يا أبا عبد الله هذا جهد من مقل إلى فقير معدم فقلت لا عذر على من أحسن إنما العذر على من أساء.

قال الشافعي رضي الله عنه فأقبل مالك يسألني عن أهل مكة حتى دنت العشاء الآخرة ثم قام عني وقال حكم المسافر أن يقل تعبه بالاضطجاع فنمت ليلتي فلما كان في الثلث الأخير من الليل قرع عليَّ مالك الباب فقال لي الصلاة يرحمك الله فرأيته حاملاً إناء فيه ماء فتبشع عليَّ ذلك فقال لي لا يرعك ما رأيته فخدمة الضيف فرض.

قال الشافعي رضي الله عنه فتجهزت للصلاة وصليت الفجر مع

ص: 238

الإمام مالك في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس لا يعرف بعضهم بعضا من شدة الغلس وجلس كل واحد منا في مصلاه يسبح الله تعالى إلى أن طلعت الشمس على رؤوس الجبال فجلس مالك في مجلسه بالأمس وناولني الموطأ أمليه وأقرؤه على الناس وهم يكتبونه.

قال الشافعي رضي الله عنه فأتيت على حفظه من أوله إلى آخره وأقمت ضيف مالك ثمانية أشهر فما علم أحد من الأنس الذي كان بيننا أينا الضيف ثم قدم على مالك المصريون بعد قضاء حجهم للزيارة واستماع الموطأ. قال الشافعي فأمليت عليهم حفظاً منهم عبد الله بن عبد الحكم وأشهب وأبن القاسم قال الربيع وأحسب أنه ذكر الليث بن سعد ثم قدم بعد ذلك أهل العراق لزيارة النبي صلى الله عليه وسلم.

قال الشافعي رضي الله عنه فرأيت بين القبر والمنبر فتى جميل الوجه نظيف الثوب حسن الصلاة فتوسمت فيه خيراً فسألته عن اسمه فأخبرني وسألته عن بلده فقال العراق فقلت أي العراق فقال لي الكوفة فقلت من العالم بها والمتكلم في نص الكتاب والمفتي بأخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي أبو يوسف ومحمد بن الحسن صاحبا أبي حنيفة رضي الله عنه.

وقال الشافعي رضي الله عنه فقلت ومتى عزمتم تظعنون فقال لي في غداة غد وقت الفجر فعدت إلى مالك فقلت له خرجت من مكة في طلب العلم بغير استئذان العجوز أفأعود إليها أو أرحل في طلب العلم فقال لي: العلم فائدة يرجع منها إلى فائدة ألم تعلم

ص: 239

أن الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم رضاء بما يطلبه.

قال الشافعي رضي الله عنه فلما أزمعت على السفر زودني الإمام مالك رضي الله عنه فلما كان في السحر سار معي مشيعا إلى البقيع ثم صاح بعلو صوته من يكري راحلته إلى الكوفة فأقبلت عليه وقلت بم تكتري وليس معك ولا معي شيء فقال لي انصرفت البارحة بعد صلاة العشاء الآخرة إذ قرع عليَّ قارع الباب فخرجت إليه فأصبت ابن القاسم فسألني قبول هديته فقبلتها فدفع لي صرة فيها مائة دينار وقد أتيتك بنصفها وجعلت النصف لعيالي فاكترى لي بأربعة دنانير ودفع إليَّ باقي الدنانير وودعني وانصرف وسرت في جملة الحاج حتى وصلت إلى الكوفة يوم رابع عشرين من المدينة فدخلت المسجد بعد صلاة العصر وصليت فبينما أنا كذلك إذ رأيت غلاما قد دخل المسجد وصلى العصر فما أحسن الصلاة فقمت إليه ناصحا فقلت له أحسن صلاتك لئلا يعذب الله هذا الوجه الجميل بالنار فقال لي أنا أظن أنك من أهل الحجاز لأن فيكم الغلظة والجفاء وليس فيكم رقة أهل العراق وأنا أصلي هذه الصلاة خمس عشرة سنة بين يدي محمد بن الحسن وأبي يوسف فما عابا عليَّ صلاتي قط وخرج معجبا ينفض رداءه في وجهي فلقي للتوفيق محمد بن الحسن وأبا يوسف بباب المسجد فقال أعلمتما في صلاتي من عيب فقالا اللهم لا قال ففي مسجدنا هذا من عاب صلاتي فقالا اذهب إليه فقل له بم تدخل في الصلاة.

ص: 240

قال الشافعي رضي الله عنه فقال لي يا من عاب صلاتي بم تدخل في الصلاة فقلت بفرضين وسنة فعاد إليهما وأعلمهما بالجواب فعلما أنه جواب من نظر في العلم فقالا اذهب إليه فقل له ما الفرضان وما السنة فأتى إليَّ فقال ما الفرضان وما السنة فقلت له أما الفرض الأول فالنية والثاني تكبيرة الاحرام والسنة رفع اليدين فعاد إليهما فأعلمهما بذلك فدخلا إلى المسجد فلما نظرا إليَّ أظنهما ازدرياني فجلسا ناحية وقالا اذهب إليه وقل له أجب الشيخين.

وقال الشافعي رحمه الله تعالى فلما أتاني علمت إني مسؤول عن شيء من العلم فقلت من حكم العلم أن يؤتى إليه وما علمت لي إليهما حاجة قال الشافعي رضي الله عنه فقاما من مجلسهما إليَّ فلما سلما عليَّ قمت غليهما وأظهرت البشاشة لهما وجلست بين أيديهما فأقبل علي محمد بن الحسن وقال أحرمي أنت فقلت نعم فقال أعربي أم مولى فقلت عربي فقال من أي العرب فقلت من ولد المطلب قال من ولد من قلت من ولد شافع قال رأيت مالكا قلت من عنده أتيت قال لي نظرت في الموطأ قلت أتيت على حفظه فعظم ذلك عليه ودعا بداوة وبياض وكتب مسألة في الطهارة ومسألة في الزكاة ومسألة في البيوع والفرائض والرهان والحج والإيلاء ومن كل باب في الفقه مسئلة وجعل بين كل مسئلتين بياضا ودفع إليَّ الدرج وقال أجب عن هذه المسائل كلها من الموطأ.

قال الشافعي رضي الله عنه فأجبت بنص كتاب الله وبسنة نبيه عليه الصلاة والسلام وإجماع المسلمين في المسائل كلها ثم دفعت إليه الدرج فتأمله ونظر فيه ثم قال لعبده خذ سيدك إليك. قال الشافعي رضي الله تعالى عنه ثم سألني النهوض مع العبد فنهضت غير ممتنع فلما صرت إلى الباب قال لي العبد إن سيدي أمرني أن لا تسير إلى المنزل إلا راكبا. قال الشافعي رضي الله تعالى عنه فقلت له قدم فقدم إلي بغلة بسرج محلى فلما علوت على ظهرها رأيت نفسي باطمار رثة فطاف بي أزقة الكوفة إلى منزل محمد بن الحسن وما هم فيه فبكيت وقلت أهل العراق ينقشون سقوفهم بالذهب والفضة وأهل الحجاز يأكلون القديد ويمصون النوى ثم أقبل عليَّ محمد بن الحسن وأنا في بكائي فقال لا يروعك يا عبد الله ما رأيت فما هو إلا من حقيقة حلال ومكتسب وما يطالبني الله فيها بفرض وإني أخرج زكاتها في كل عام فأسرَّ بها الصديق وأكبت بها العدو.

قال الشافعي رضي الله عنه فما بت حتى كساني محمد بن الحسن خلعة بألف درهم ثم دخل خرانته فأخرج إليَّ الكتاب الأوسط تأليف الإمام أبي حنيفة فنظرت في أوله وفي آخره ثم ابتدأت الكتاب في ليلتي أتحفظه فما أصبحت إلا وقد حفظته ومحمد بن الحسن لا يعلم بشيء من ذلك وكان المشهور بالكوفة بالفتوى والمجيب في النوازل فبينما أنا قاعد عن يمينه في بعض الأيام إذ سئل عن مسئلة أجاب فيها وقال هكذا قال أبو حنيفة فقلت قد وهمت في الجواب في هذه المسئلة والجواب عن قول الرجل كذا وكذا وهذا المسئلة تحتها المسئلة الفلانية وفوقها المسئلة الفلانية في الكتاب. فأمر محمد بن الحسن بالكتاب فأحضر فتصفحه ونظر فيه فوجد القول كما قلت

ص: 241

فرجع عن جوابه إلى ما قلت ولم يخرج إلي كتاباً بعد هذا.

قال الشافعي واستأذنته في الرحيل فقال ما كنت لآذن لضيف بالرحيل عني وبذل لي في مشاطرة نعمته فقلت ما لذا قصدت ولا لذا أردت ولا رغبتي إلى في السفر قال فأمر غلامه أن يأتي بكل ما في خزانته من بيضاء وحمراء فدفع إلي ما كان فيها وهو ثلاثة آلاف درهم وأقبلت أطوف العراق وأرض فارس وبلاد الأعاجم وألقى الرجال حتى صرت ابن إحدى وعشرين سنة ثم دخلت العراق في خلافة هارون الرشيد فعند دخول الباب تعلق بي غلام فلاطفني وقال لي ما أسمك فقلت محمد قال ابن من قلت ابن إدريس الشافعي فقال مطلبي فقلت أجل فكتب ذلك في لوح كان في كمه وخلى سبيلي فأويت في بعض المساجد أفكر في عاقبة ما فعل حتى إذا ذهب من الليل النصف كبس المسجد واقبلوا يتأملون وجه كل رجل حتى أتوا إلي فقالوا للناس لا بأس عليكم هذا هو الحاجة والغاية المطلوبة ثم أقبلوا علي وقالوا أجب أمير المؤمنين فقمت غير ممتنع فلما بصرت بأمير المؤمنين سلمت عليه سلاماً بينا فأستحسن الألفاظ ورد عليَّ الجواب ثم قال تزعم أنك من بني هاشم فقلت يا أمير المؤمنين كل زعم في كتاب الله باطل فقال ابن لي عن نسبك فانتسبت حتى لحقت آدم عليه السلام فقال لي الرشيد ما تكون هذه الفصاحة ولا هذه البلاغة إلا في رجل من ولد المطلب هل لك أن أوليك قضاء المسلمين وأشاطرك ما أنا فيه وتنفذ فيه حكمك وكمي على ما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام واجتمعت عليه الأمة فقلت يا أمير المؤمنين لو سألتني أن أفتح باب القضاء بالغداة وأغلقه بالعشى بنعمتك هذه ما فعلت ذلك أبداً فبكى الرشيد وقال تقبل من عرض الدنيا شيء قلت يكون معجلاً فأمر لي بألف دينار فما برحت من مقامي حتى قبضتها ثم سألني بعض الغلمان والحشم أن أصلهم من صلتي فلم تسع المروءة إن كنت مسؤولاً غير المقاسمة فيما أنعم الله به علي فخرج لي قسم كأقسامهم ثم عدت إلى المسجد الذي كنت فيه في ليلتي فتقدم يصلي بنا غلام صلاة الفجر في جماعة فأجاد القراءة ولحقه سهو ولم يدر كيف الدخول ولا كيف الخروج فقلت له بعد السلام أفسدت علينا وعلى نفسك أعد فأعاد مسرعاً وأعدنا ثم قلت له أحضر بياضاً أعمل لك باب السهو في الصلاة والخروج منها فسارع إلى ذلك ففتح الله عز وجل عليَّ فألفت له كتاباً من كتاب الله وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام وإجماع المسلمين وسميته باسمه وهو أربعون جزءاً يعرف بكتاب الزعفران وهو الذي وضعته بالعراق حتى تكامل في ثلاث سنين وولاني الرشيد الصدقات بنجران وقدم الحاج فخرجت أسألهم عن الحجاز فرأيت فتى في قبته فلما أشرت إليه بالسلام أمر قائد القبة أن يقف وأشار إليَّ بالكلام فسألته عن الإمام مالك وعن الحجاز أجاب بخير ثم عاودته إلى السؤال عن مالك فقال لي أشرح لك أو أختصر قلت في الاختصار البلاغة فقال في صحة جسم وله ثلثمائة جارية يبيت عند الجارية ليلة فلا يعود إليه إلى سنة فقد اختصرت لك خبره.

قال الشافعي رضي الله عنه فاشتهيت أن أراه

ص: 242

في حال غناه كما رأيته في حال فقره فقلت له أما عندك من المال ما يصلح للسفر فقال إنك لتوحشني خاصة وأهل العراق عامة وجميع مالي فيه لك فقلت له فيم تعيش قال بالجاه ثم نظر إلي وحكمني في ماله فأخذت منه على حسب الكفاية والنهاية وسرت على ديار ربيعة ومضر فأتيت حران ودخلتها يوم الجمعة فذكرت فضل الغسل وما جاء فيه فقصدت الحمام فلما سكبت الماء رأيت شعر رأسي شعثاً فدعوت المزين فلما بدأ برأسي وأخذ القليل من شعري دخل قوم من أعيان البلد فدعوه إلى خدمتهم فسارع إليهم وتركني فلما قضوا ما أرادوا منه عاد إلي فما أردته وخرجت من الحمام فدفعت إليه أكثر ما كان معي من الدنانير وقلت له خذ هذه وإذا وقف باك غريب لا تحتقره فنظر لي متعجبا فإجتمع بعض من كان في الحمام من الأعيان فقدمت له بغلة ليركبها فسمع خطابي لهم فإنحدر عن البلغة بعد أن استوى عليها وقال لي أنت الشافعي فقلت نعم فمد الركاب مما يليني وقال بحق الله اركب ومضى بي الغلام مطرقاً بين يدي حتى أتيت إلى منزل الفتى ثم أتى وقد حصلت في منزله فأظهر البشاشة ثم دعا بالغسل فغسل علينا ثم حضرت المائدة فسمى وحبست يدي فقال مالك يا عبد الله فقلت له طعامك حرام عليَّ حتى أعرف من أين هذه المعرفة فقال أنا ممن سمع منك الكتاب الذي وضعته ببغداد وأنت لي أستاذ.

قال الشافعي رضي الله عنه فقلت العلم بين أهل العقل رحم متصلة فأكلت بفرحة إذ لم يعرف الله تعالى إلا بيني وبين أبناء جنسي وأقمت ضيفه ثلاثاً فلما كان بعد ثلاثاً قال: إنّ لي حول حرّان أربع ضياع ما بحرَّان أحسن منها أشهد الله أن أخترت المقام فإنها هدية مني إليك فقلت فيم تعيش قال بما في صناديقي تلك وأشار إليها وهي أربعون ألف درهم وقال أتجربها فقلت ليس إلى هذا قصدت ولا خرجت من بلدي لغير طلب العلم فقال لي فالمال إذا من شأن المسافر فقبضت الأربعين ألفا وودعته وخرجت من مدينة حران وبين يدين أحمال ثم تلقاني الرجال وأصحاب الحديث منهم أحمد بن حنبل وسفيان بن عيينة والأوزاعي فأجزت كل واحد منهم على قدر ما قسم له حتى دخلت مدينة الرملة وليس معي إلا عشرة دنانير فاشتريت بها راحلة واستويت على كورها وقصدت الحجاز فما زلت من منهل إلى منهل حتى وصلت إلى مدينة النبي صلى الله عليه وسلم بعد سبعة وعشرين يوماً بعد صلاة العصر فصليت العصر ورأيت كرسيا من الحديد عليه مخدة من قباطي مصر مكتوب عليها لا إله إلى الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال الشافعي رضي الله عنه وحوله أربعمائة دفتر أو يزدن وبينما أنا كذلك إذ رأيت مالك بن أنس رضي الله عنه قد دخل من باب النبي صلى الله عليه وسلم وقد فاح عطره في المسجد وحوله أربعمائة أو يزيدون يحمل ذيوله منهم أربعة فلما وصل قام إليه من كان قاعداً وجلس على الكرسي فألقى مسئلة في جراح العمد فلما سمعت ذلك لم يسعني الصبر فقمت قائماً في سور الحلقة فرأيت إنساناً فقلت له قل الجواب كذا وكذا فبادر بالجواب قبل فراغ مالك من السؤال فأضرب عنه مالك وأقبل على أصحابه فسألهم عن الجواب فخالفوه فقال لهم أخطأتم

ص: 243

وأصاب الرجل ففرح الجاهل بإصابته فلما ألقى السؤال الثاني أقبل عليَّ الجاهل يطلب من الجواب فقلت له الجواب كذا وكذا فبادر بالجواب فلم يلتفت إليه مالك فأقبل على أصحابه واستخبرهم عن الجواب فخالفوه فقال لهم أخطأتم وأصاب الرجل.

قال الشافعي رضي الله عنه فلما ألقى السؤال الثالث قلت له قل الجواب كذا وكذا فبارد بالجواب فأعرض مالك عنه وأقبل على أصحابه فخالفوا فقال أخطأتم وأصاب الرجل ثم قال للرجل أدخل ليس ذلك موضعك فدخل الرجل طاعة منه لمالك وجلس بين يديه فقال له مالك فراسة قرأت الموطأ قال لا قال فنظرت ابن جريج قال لا قال فلقيت جعفر بن محمد الصادق قال لا قال فهذا العلم من أين قال إلى جانبي غلام شاب يقول لي قل الجواب كذا وكذا فكنت أقول، قال فالتفت مالك والتفت الناس بأعناقهم لالتفات مالك رضي الله عنه فقال للجاهل قم فأمر صاحبك بالدخول إلينا.

قال الشافعي رضي الله عنه فدخلت فإذا أنا من مالك بالموضع الذي كان الجاهل فيه جالساً بين يديه فتأملني ساعة وقال أنت الشافعي فقلت نعم فضمني إلى صدره ونزل عن كرسيه وقال أتمم هذا الباب الذي نحن فيه حتى ننصرف إلى المنزل الذي هو لك، المنسوب إلي.

قال الشافعي رضي الله عنه فألقيت اربعمائة مسئلة في جراح العمد فما أجابني أحد بجواب واحتجت إلى أن آتي بأربعمائة جواب فقلت الأول كذا وكذا والثاني كذا وكذا حتى سقط القرص وصلينا المغرب فضرب مالك بيد إليَّ فلما وصلت المنزل رأيت بناء غير الأول فبكيت فقال مم بكاؤك كأنك خفت يا أبا عبد الله أن قد بعت الآخرة بالدنيا قلت هو والله ذلك قال طب نفسا وقر عينا هذه هدايا خراسان وهدايا مصر والهدايا تجيء من أقاصي الدنيا وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية ويرد الصدقة وإن لي ثلثمائة خلعة من زي خراسان وقباطي مصر وعندي عبيد بمثلها لم تستكمل الحلم فهم هدية مني إليك وفي صناديقي تلك خمسة آلاف دينار أخرج زكاتها عند كل حول فلك مني نصفها قلت إنك موروث

ص: 244

وأنا موروث فلا يبيت جميع ما وعدتني به إلا تحت خاتمي ليجري ملكي عليه فإن حضرني أجلي كان لورثتي دون ورثتك وإن حضرك أجلك كان لي دون ورثتك فتبسم في وجهي وقال أبيت إلا العلم فقلت لا يستعمل أحسن منه وما بت إلا وجميع ما وعدني به تحت خاتمي فلما كان في غداة غد صليت الفجر في جماعة وانصرفت إلى المنزل أنا وهو وكل واحد منا يده في يد صاحبه إذ رأيت كراعاً على بابه من جياد خراسان وبغالاً من مصر فقلت له ما رأيت أحسن من هذا فقال هو هدية مني إليك يا أبا عبد الله فقلت له دع لك منها دابة فقال إني أستحي من الله أن أطأ فيها نبي الله صلى الله عليه وسلم بحافر دابة.

قال الشافعي رضي الله عنه فعلمت أن ورع الإمام مالك باق على حاله فأقمت عنده ثلاثاً ثم ارتحلت إلى مكة وأنا أسوق خير الله ونعمه ثم أنفذت من يعلم بخبري فلما وصلت إلى الحرم خرجت العجوز ونسوة معها فضمتني إلى صدرها وضمتني بعدها عجوز كنت آلفها أدعوها خالتي وقالت:

ليس امُّك اجتاحت المنايا

كلّ فؤادٍ عليك أمُّ

ص: 245