المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الثامن: مضارهم: - جهد المحتفي في أمر العالم المختفي

[مرزوق بن هياس الزهراني]

الفصل: ‌المبحث الثامن: مضارهم:

معشر الجن؟ ، أم أنت من بينهم كذاك؟ ، قال: لا والله إني منهم لضليع، ولكن عاودني الثانية، فإن صرعتني علمتك شيئا ينفعك، فعاوده فصرعه، قال: هات علمني، قال: نعم، قال: تقرأ {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} (1)، قال: نعم، قال: فإنك لا تقرؤها في بيت إلا خرج منه الشيطان له خبج (2)، كخبج الحمار، لا يدخله حتى يصبح (3)، فقد علم الإنسيّ ما ينفعه، ومع هذا فإنه لا يركن إليهم فقد كفانا وإياهم كتاب ربنا وسنة نبينا، ولا مانع من قبول ما يكون صريحا في الخير، وما لا لبس فيه ولا شبة، ولذلك قبل أبو هريرة هذا، وقد يكون هو الرجل المبهم في هذه الرواية، وقد يكون رجلا آخر.

‌المبحث الثامن: مضارهم:

مضارهم كثيرة سيما الكفار منهم وعصاة مسلميهم، إذا لم يكن الإنسان مؤمنا متوكلا، فهم يصدون بني الإنسان عن سبيل الله عز وجل، وكل ما يقرّب إليه، من فرائض ونوافل، وصدقات وصلة، وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر، والتزام بالقيم الإسلامية، وكل عمل خير يقرب

(1) الآية (255) من سورة البقرة.

(2)

ما يخرج منه من ريح كريه.

(3)

أخرجه الدارمي، حديث (3466) فيه الشعبي لقي عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، ولم يسمع منه، وأخرجه الطبراني (9/ 183، رقم 8826، وانظر: 8824) وأبو نعيم (الدلائل 1/ 369، رقم 268) ..

ص: 40

إلى الله تعالى، وهذا متعلق بغير الصالحين منهم، قال الله تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (1)، وقال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (2)، والشياطين تستهوي بني آدم إلى ما حرم الله من الشهوات والمعاصي، وسائر الشرور، وقد يأتون الإنسان من قبل ما يحب ويشتهي، فيزيّن للعابد الغلو في عبادته، وللعالم التباهي بعلمه، وربما دفعه إلى الكبر والغرور كقول أحدهم وقد دعي لدعوة الناس وتوجيههم: أنا لا أحاضر

(1) الآيتان (168، 169) من سورة البقرة.

(2)

الآية (21) من سورة النور ..

ص: 41

في أقل من خمسمائة نفر، وانسحب شخص من مسجد حضره ما يزيد على المئتين قائلا: لابد أن يكون الحضور ثلاثة آلاف وإلا فلا، وهذا كبر وغرور ألقاه الشيطان، لتحصل به مخالفة قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:(فو الله لأن يهدى بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم)(1)، وقد يغري بالوقوع فيما حرم الله من أجل ما يحصل له من مال وجاه ومنصب، أو ما يتطلع إليه من ذلك، فيفتي بالمرجوح على الراجح، ويأخذ بالشاذ من الأقوال فيلقي عليه من الفلسفة والتبرير ما يفرض به رأيه ظلما لعباد الله، وعدوانا على الله ورسوله، وقد تكون وسامة الرجل أو المرأة سببا يستغله الشيطان لإغوائه وممارسة الفساد في الأرض، ومن ذلك ما يقع فيه الممثلون والممثلات، وعارضات الأزياء، والراقصون والراقصات، من هتك القيم وجرح الأخلاق، وكأن يقوم الرجل بدور المرأة فيُخطب ويُطلق، ويُهجر ويُعلق، كأنه امرأة، ضاربا بدينه عرض الحائط، ناسيا أن الشيطان جره إلى اللعنة، والعكس كذلك تتشبه المرأة بالرجل، قال ابن عباس رضي الله عنهما:"لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال"(2)، فمداخل الشيطان على الإنسان سيما المسلم كثيرة يصعب حصرها، قد يبدأ بالإيقاع في اللّمم: المعصية الصغيرة، وينتهي بالكفر، قال الله سبحانه وتعالى:

(1) أخرجه البخاري حديث (2783).

(2)

أخرجه البخاري حديث (5546) ..

ص: 42

{قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} (1)، وذلك كله من أجل الوفاء بالعهد الذي قطعه إبليس على نفسه إذ قال:{قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} (2)، فالعداوة من الذين كفروا منهم لبني آدم بلغت الذروة في نصب الشر، والمكر والحيل، ولا يمنع أن يقع من فسّاقهم أذية لبني آدم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن عفريتا من الجن تفلت عليّ البارحة ــ أو كلمة نحوها ــ ليقطع عليّ الصلاة، فأمكنني الله منه، فأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد، حتى تصبحوا وتنظروا إليه كلكم، فذكرت قول أخي سليمان: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي

(1) الآية (71) من سورة الأنعام.

(2)

الآية (82) من سورة ص.

ص: 43

مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} (1)، قال روح: فرده خاسئا) (2)، وقال أبو الدرداء رضي الله عنه:"قام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسمعناه يقول: أعوذ بالله منك، ثم قال: ألعنك بلعنة الله ــ ثلاثا ــ وبسط يده كأنه يتناول شيئا، فلما فرغ من الصلاة قلنا: يا رسول الله، قد سمعناك تقول في الصلاة شيئا لم نسمعك تقوله قبل ذلك، ورأيناك بسطت يدك، قال: إن عدو الله، إبليس، جاء بشهاب من نار ليجعله في وجهي، فقلت: أعوذ بالله منك ــ ثلاث مرات ــ ثم قلت: ألعنك بلعنة الله التامة، فلم يستأخر ــ ثلاث مرات ــ ثم أردت أخذه، والله لولا دعوة أخينا سليمان لأصبح موثقا يلعب به ولدان أهل المدينة"(3)، فطمعه في الغواية لم يقف عند من دون رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل طمع به صلى الله عليه وسلم، لكنه معصوم صلى الله عليه وسلم، وتقع منهم المصاحبة لبني آدم على خير إن كان من مؤمني الجن الصالحين، أو شر إن كان من فسّاقهم، قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: "ما سمعت عمر لشيء قط يقول: إني لأظنه كذا، إلا كان كما يظن، بينما عمر جالس، إذ مر به رجل جميل، فقال: لقد أخطأ ظني، أو إن هذا على دينه في الجاهلية، أو: لقد كان كاهنهم، عليّ بالرجل، فدعي له، فقال له ذلك، فقال: ما رأيت كاليوم استقبل به رجل

(1) الآية (35) من سورة ص.

(2)

أخرجه البخاري (449) ..

(3)

أخرجه مسلم حديث (542).

ص: 44

مسلم قال: فإني أعزم عليك إلا ما أخبرتني، قال: كنت كاهنهم في الجاهلية، قال: فما أعجب ما جاءتك به جنيتك؟ (1)، قال: بينما أنا يوما في السوق، جاءتني أعرف فيها الفزع، فقالت: ألم تر الجن وإبلاسها (2)، ويأسها (3)، من بعد إنكاسها (4)، ولحوقها بالقلاص وأحلاسها (5)، قال عمر: صدق، بينما أنا عند آلهتهم إذ جاء رجل بعجل فذبحه، فصرخ به صارخ، لم أسمع صارخا قط أشد صوتا منه يقول: يا جليح (6)، أمر نجيح، رجل فصيح، يقول: لا إله

(1) قال هذا لأن من يقارن الذكر من الأنس الأنثى من الجن، والعكس كذلك، ولا يمنع أن تكون الأنثى مع الأنثى، والذكر مع الذكر، والغالب الأول.

(2)

أي حيرتها، والمبلس الساكت، فيجوز: إسكاتها (النهاية 1/ 152).

(3)

اليأس ضد الرجاء ..

(4)

أي انقلابها، فقد انقلبت حالها من القدرة على استراق السمع إلى عدمها، فقد كانت تأنس باستراق السمع، فمعنت منه لما قرب مبعث نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، كما أشار إليه بقوله: فما نشبنا أن قيل: هذا نبي، انظر (فتح الباري 9/ 33).

(5)

المراد الإبل، وما يوضع عليها من أحلاس تحت الرحل (فتح الباري 9/ 34).

(6)

معناه الوقح المكافح بالعداوة (فتح الباري 9/ 35).

ص: 45

إلا أنت (1) فوثب القوم، قلت: لا أبرح حتى أعلم ما وراء هذا، ثم نادى: يا جليح، أمر نجيح، رجل فصيح، يقول: لا إله إلا الله (2)، فقمت فما نشبنا أن قيل: هذا نبي" (3)، فهذا يدل على أن القصة تعددت وأنها حدثت لسواد بن قارب، وكانت السبب في إسلامه، وأن مما سمع، هذه الأبيات:

عجبت للجن وأرجاسه

ورحلها العيس بأحلاسها

تهوي إلى مكة تبغي الهدى

ما مؤمنوها مثل أرجاسها

فاسم إلى الصفوة من هاشم

واسم بعينيك لى رأسها (4).

وفي بعض الروايات المرسلة قال:

فارتعدت فرائصي حتى وقعت، وفي الروايات جميعها: أنه لما أصبح توجه إلى مكة، فوجد النبي صلى الله عليه وسلم قد هاجر، فأتاه فأنشده أبياتا يقول فيها:

(1) في بقية الروايات لا إله إلا الله (فتح الباري 9/ 35)، وتأييد ذلك في الروية ذاتها، فلعل لفظ الجلالة سقط، وحصل تحريف، أو أن هذا من تلبيس من الصارخ.

(2)

هذا مما استرقه الجان من السمع، والرجل الفصيح الذي يقول: لا إله إلا الله هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

(3)

أخرجه البخاري حديث (3866).

(4)

أسد الغابة 2/ 375، وفتح الباري 9/ 33.

ص: 46

أتاني رئي بعد ليل وهجعة

ولم يك فيما قد بلوت بكاذب

ثلاث ليال قوله كل ليلة

أتاك نبي من لؤي بن غالب (1).

وتكملتها:

فرفعت أذيال الإزار وشمرت الـ

فرس الوجناء حول السبائب

فأشهد أن الله لا رب غيره

وأنك مأمون على كل غائب

وأنك أدنى المرسلين وسيلة

إلى الله يا ابن الأكرمين الأطايب

فمرنا بما يأتيك من وحي ربنا

وإن كان فيما جئت شيب الذوائب

وكن لي شفيعا يوم لا ذو شفاعة

بمغن فتيلا عن سواد بن قارب (2).

وسمعها أيضا عمر رضي الله عنه، يؤيد هذا تصديق عمر لسواد رضي الله عنهما حين سمع منه ما سمع، والذي يظهر أن القصة معلومة لعمر بطريقين:

إحداهما: ما حدث له شخصيا.

والثانية: ما حكي عن سواد، ولعل سؤال عمر لسواد وإلزامه ذلك ليتم الربط بين الواقعتين، وهو ما تعجب

(1) فتح الباري 9/ 34.

(2)

الإصابة 4/ 296.

ص: 47

منه عمر رضي الله عنه، وقد ورد ذكر الرجل المبهم فيما حكى عمر رضي الله عنه، عند أحمد وأنه ابن عبس قال: كنت أسوق لآل لنا بقرة قال فسمعت من جوفها يا آل ذريح قول فصيح رجل يصيح أن لا إله إلا الله قال فقدمنا مكة فوجدناه صلى الله عليه وسلم قد خرج (1)، وكانت هذ 5 القصة مما أسهم في قناعة عمر بالإسلام وذلك حين جعل أبو جهل مئة ناقة لمن يقتل محمدا، قال عمر: فقلت له: يا أبا الحكم الضمان صحيح؟ ، قال: نعم، قال: فتقلدت سيفي أريده، فمررت على عجل وهم يريدون أن يذبحوه، فقمت أنظر إليهم، فإذا صائح يصيح من جوف العجل، يا آل ذريح، أمر نجيح، رجل يصيح، قال عمر: قلت في نفسي: إن هذا الأمر ما يراد به إلا أنا، قال: فدخلت على أختي فإذا عندها سعيد بن زيد، وذكر القصة في سبب إسلامه بطولها (2)، والذي سمعه كل من سواد وعمر رضي الله عنهما هو من أثر منع الجن من استراق السمع، إرهاصا بمبعث نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، يؤيده قول ابن عباس رضي الله عنهما: "انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه، عامدين إلى سوق عكاظ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء، وأرسلت عليهم الشهب، فرجعت الشياطين، فقالوا: ما لكم؟ ، فقالوا: حيل بيننا وبين خبر السماء، وأرسلت علينا الشهب، قال: ما حال بينكم وبين خبر السماء إلا ما حدث، فاضربوا مشارق

(1) مسند أحمد 3/ 420.

(2)

أسد الغابة 2/ 375 ..

ص: 48

الأرض ومغاربها، فانظروا ما هذا الأمر الذي حدث، فانطلقوا، فضربوا مشارق الأرض ومغاربها، ينظرون ما هذا الأمر الذي حال بينهم وبين خبر السماء، قال: فانطلق الذين توجهوا نحو تهامة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنخلة، وهو عامد إلى سوق عكاظ، وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا القرآن تسمّعوا له، فقالوا: هذا الذي حال بينكم وبين خبر السماء، فهنالك رجعوا إلى قومهم، فقالوا:{قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا} (1)، وأنزل الله عز وجل على نبيه صلى الله عليه وسلم:{قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ} وإنما أوحى إليه قول الجن (2)، فالكهانة محرمة في الإسلام، ولذلك غضب سواد من عمر رضي الله عنهما، لأنها عمل جاهلي، ومن تلبيس الجن على بني الإنسان لصرفهم عن الحق، سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكهَّان، فقال: (ليس بشيء، فقالوا: يا رسول الله، إنهم يحدثوننا أحياناً بشيء فيكون حقاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تلك الكلمة من الحق، يخطفها الجني، فيقرُّها في

(1) الآيتان (1، 2) من سورة الجن.

(2)

أخرجه البخاري حديث (4921) وانظر (الفتح 9/ 35) ..

ص: 49

أذن وليِّه، فيخلطون معها مئة كذبة" (1)، أما الكفار منهم كإبليس وأعوانه فلا يرضون من تابعهم بأقل من الكفر، لأنه تحدى أن يضلهم أجمعين، فقال الله عز وجل له:{قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا (63) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} (2)، جنّد إبليس جنوده لتحقيق وعده، وأبرم المكر والاحتيال ليصطاد بني آدم، ومن أهم ذلك: أصل الإيمان بالله تعالى، فيسعى الشيطان لاقتلاع عبادة الله عز وجل من كل إنسان وإبعاده عن أسباب فلاحه، بتجريده من الإيمان بالله عز وجل، وذلك بالوسوسة والتشكيك والتلبيس، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا، من خلق كذا، حتى يقول: من خلق ربك؟ ، فإذا بلغه فليستعذ بالله، ولينته)(3)،

وكذلك الإلهاء عن الصلاة شيئا فشيئا حتى يتركها الإنسان بالكلية فيكون من

(1) أخرجه البخاري حديث (5762).

(2)

الآيتان (63، 64) من سورة الإسراء.

(3)

أخره البخاري حديث (3103) ..

ص: 50

الكافرين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد، يضرب كل عقدة مكانها: عليك ليل طويل فارقد، فإن استيقظ فذكر الله انحلت عقدة، فإن توضأ انحلت عقدة، فإن صلى انحلت عقده كلها، فأصبح نشيطا طيب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان)(1)، وربما أستخدم وسيلة أخرى زيادة في الشر والإهانة كأن يبول في أذني النائم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ذكر عنده شخص نام حتى أصبح:(ذاك رجل بال الشيطان في أذنيه، أو قال: في أذنه)(2)، ومن شدة مكره محاولة استراق السمع من الملأ الأعلى، ليأخذ الكلمة مما قضى الله عز وجل، يلقيها على وليّه من الإنس ليحدث الناس بها، ويزوّرون عليها مئة كذبة، وذلك ليتم التلبيس على بني آدم فيما كذبوا استنادا إلى ما وقع من الكلمة الحق، قالت عائشة رضي الله عنها:"قلت: يا رسول الله، إن الكهان كانوا يحدثوننا بالشيء فنجده حقا، قال: تلك الكلمة الحق، يخطفها الجني فيقذفها في أذن وليّه، ويزيد فيها مئة كذبة"(3)، وفي رواية عنها قالت: "سأل أناس رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكهان؟ ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليسوا بشيء، قالوا: يا رسول الله، فإنهم يحدثون أحيانا الشيء يكون حقا، قال رسول الله

(1) أخرجه البخاري حديث (3096).

(2)

أخرجه البخاري حديث (3097).

(3)

أخرجه مسلم حديث (2228).

ص: 51

- صلى الله عليه وسلم: تلك الكلمة من الجن يخطفها الجني، فيقرّها في أذن وليّه قرّ الدجاجة، فيخلطون فيها أكثر من مئة كذبة" (1)، وهم يدورون مع كل شر، ومع كل شرير من بني آدم، وقد حاولوا إيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسحر، حتى كان يخيل إليه أنه يفعل الشيء وما يفعله، حتى كان ذات يوم دعا ودعا، ثم قال:(أُشْعرت أن الله أفتاني فيما فيه شفائي، أتاني رجلان: فقعد أحدهما عند رأسي والآخر عند رجلي، فقال أحدهما للآخر: ما وجع الرجل؟ ، قال: مطبوب، قال: ومن طبّه؟ قال: لبيد ابن الأعصم، قال: فيما ذا؟ ، قال: في مشط ومشاقة وجفّ طلعة ذكر، قال: فأين هو؟ قال: في بئر ذروان) فخرج إليها النبي صلى الله عليه وسلم ثم رجع، فقال لعائشة حين رجع:(نخلها كأنه رؤوس الشياطين، فقلت: استخرجته؟ ، فقال: لا، أما أنا فقد شفاني الله، وخشيت أن يثير ذلك على الناس شرا)(2)، ثم دفنت البئر، فإذا كان أكرم الخلق لم يسلم من محاولة أذى الشياطين من الإنس والجن، وقد حماه الله عز وجل من كيد الشيطان وأرسل إليه ملائكته، فشفاه سبحانه، فأنّى لبني آدم السلامة بغير العمل بما جاء في الكتاب والسنة، والاحتياط بالذكر والدعاء والأعمال الصالحة، وحتى لا يشارك عدو الله عباده الصالحين فيما أحل الله لهم من عشرة الأزواج، ولتحصل السلامة من أذاه وشره قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أما إن أحدكم إذا أتى أهله، وقال: بسم

(1) أخرجه مسلم حديث (2228) ..

(2)

أخرجه البخاري حديث (3095).

ص: 52

الله، اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا، فرزقا ولدا لم يضره الشيطان) (1)، ثم إن محاولة الشيطان لاقتناص الإنسان المسلم من خلال طاعته لله بشتى الطرق أمر واسع على الحصر، لكن نبينا صلى الله عليه وسلم أعطانا أسبابا إذا حرصنا عليها نجونا بفضل الله عز وجل من كيد عدو يسعى لنكون من أصحاب الجحيم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(إذا طلع حاجب الشمس فدعوا الصلاة حتى تبرز، وإذا غاب حاجب الشمس فدعوا الصلاة حتى تغيب، ولا تحينوا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها، فإنها تطلع بين قرني شيطان، أو الشيطان)(2)، وقد يكون في صورة إنسان يتعمد قطع صلاة المسلم، فيصدّه فلا يستجيب، بل يصر ويقاوم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(إذا مر بين يدي أحدكم شيء، وهو يصلي، فليمنعه، فإن أبى فليمنعه، فإن أبى فليقاتله، فإنما هو شيطان)(3)، وقد عبّر رسول الله عن خطر هذا العدو الألد وقدرته على محاصرة الإنسان بقوله صلى الله عليه وسلم:(إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما سوءا، أو قال: شيئا)(4)، وكم يسعى هو وجنوده من الإنس والجن لفتنة المؤمنين والمؤمنات، وإيقاع الفتنة والشر بينهم،

(1) أخرجه البخاري حديث (398) ..

(2)

أخرجه البخاري حديث (3099).

(3)

أخرجه البخاري حديث (3100).

(4)

أخرجه البخاري حديث (3107).

ص: 53