الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب السابع في سهر المحبين وخلوتهم بمناجاة مولاهم الملك الحق المبين
قال الله -تعالى-: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا
…
} [السجدة: 16]. وأشرف الطمع طمع أهل الجنة في رؤية مولاهم وقربه وجواره.
وروى أبو نعيم بإسناده عن حسين بن زياد قال: "أخذ فضيل بن عياض بيدي فَقَالَ: يا حسين، ينزل الله -تعالى- كل ليلة إِلَى سماء الدُّنْيَا فيقول: كذب من ادعى محبتي؛ فَإِذَا جنه الليل نام عني، أليس كل حبيب يحب خلوة حبيبه، ها أنا ذا مطلع عَلَى أحبائي إذا جَنَّهم الليل مَثُلَتْ نفسي بين أعينهم، فخاطبوني عَلَى المشاهدة وكلموني عَلَى حضوري، غدًا أقر أعين أحبائي في جناني".
ورُوي من وجه آخر، وفيه:"جعلت أبصارهم في قلوبهم، ومثلت نفسي بين أعينهم".
وروى أبو نعيم بإسناده عن أحمد بن أبي الحواري قال: "دخلت عَلَى أبي سليمان فرأيته يبكي، فقلت: ما يبكيك؟ قال: ويحك يا أحمد؟ إذا جن الليل وخلال حبيب بحبيبه افترش أهل المحبة أقدامهم وجرت دموعهم عَلَى خدودهم وأشرف الجليل جل جلاله عليهم وقال: بعيني من تلذذ بكلامي واستروح إِلَى مناجاتي، وإني مطلع عليهم في خلواتهم، أسمع أنينهم وأرى بكاءهم وحنينهم، يا جبريل، ناد فيهم ما هذا الَّذِي أراه منكم؟ وهل خبركم مخبر أن حبيبًا يعذب أحبابه بالنار، بل كيف يجمل أن أعذب قومًا إذا جنهم الليل
تملقوني، فبي حلفت إذا وردوا القيامة عَلَيَّ أن أسفر لهم عن وجهي] (*) وأمنحهم رياض قدسي".
ورويت هذه القصة من وجه آخر عن أحمد [بن أبي الحواري](1) عن أبي سليمان، وفي أولها زيادة وهي: أن الله -تعالى- ينزل في كل ليلة إِلَى سماء الدُّنْيَا فيقول: كذب من ادعى محبتي، فإذا جنه الليل نام عني، كيف ينام (محب)(2) عن حبيبه؟ وأنا المطلع عليه، إذا قاموا جعلت أبصارهم في قلوبهم فكلموني عَلَى المخاطبة
…
" وذكر الباقي بمعنى ما تقدم مختصراً.
وروى "أبو نعيم" أيضاً بإسناده عن ذي النون أنَّه قال:
"لو رأيت أحدهم وقد قام إِلَى صلاته وقراءته، فلما وقف في محرابه واستفتح كلام سيده خطر عَلَى قلبه أن ذلك المقام هو المقام الَّذِي يقوم الناس فيه لرب العالمين، فانخلع قلبه وذهل عقله، فقلوبهم في ملكوت السماوات معلقة، وأبدانهم بين يدي الخالق عارية، وهمومهم بالفكر دائمة.
وبإسناده عن ذي النون أيضاً "أنَّه قال في وصفهم: يتلذذون بكلام الرحمن، ينوحون، به عَلَى أنفسهم نوح الحمام، فرحين في خلواتهم لا تفتر لهم جارحة في الخلوات، ولا تستريح لهم قدم تحت ستور الظلمات".
ومن طريق إسحاق السلولي [قال](2): حدثتني أم سعيد بن علقمة - وكانت طائية- قالت: "كان بيننا وبين داود الطائي جدار قصير، فكنت أسمع حنينه عامة الليل لا يهدأ (وكثيرًا ما) (3) سمعته يقول في جوف الليل: اللهم همك عطل عَلَيَّ الهموم، وخالف بيني وبين السهاد، وشوقي إِلَى النظر إليك أوثق مني اللذات وحال بيني وبين الشهوات، فأنا في سجنك أيها الكريم
(*) إِلَى هنا انتهى السقط المشار إليه آنفًا من النسخة المخطوطة التي اعتمدت عليها في تحقيقي.
(1)
من المطبوع.
(2)
في المطبوع: حبيب.
(3)
في المطبوع: ولربما.
مطلوب".
قالت: "وربما ترنم في السحر بشيء من القرآن" فأرى أن جميع نعيم الدُّنْيَا جمع في ترنمه تلك الساعة. قالت: وكان يكون في الدار وحده، وكان لا يصبح -أي: لا يسرج".
وروى الحافظ أبو الفرج بإسناده عن الربيع قال: "بت أنا ومحمد بن المنكدر وثابت البناني عند ريحانة المجنونة (بالأُبُلَّةِ)(1) فقامت بالليل وهي تقول:
قام المحب إِلَى المؤمل قومةً
…
كاد الفواد من السرور يطير
فلما كان جوف الليل سمعتها تقول أيضاً:
لا تأنسن بمن توحشك نظرته
…
فتمنعن من التذكار في الظلم
واجهد وكد وكن في الليل ذا شجن
…
يسقيك كأس وداد العز والكرم
قال: ثم نادت: واحزناه! واسلباه!. فقلت: مم ذا؟! فقالت:
ذهب الظلام بأنسه وبإلفه
…
ليت الظلام بأنسه يتجدد".
وروى ابن أبي الدُّنْيَا بإسناده عن مطرف بن أبي بكر الهذلي قال:
"كانت عجوز في عبد القيس متعبدة (فإذا) (2) جاء الليل تحزمت ثم قامت إِلَى المحراب، وكانت تقول: المحب لا يسأم من خدمة حبيبه".
وسئل بعض العارفين عن حاله، فأنشد:
من لم يبت والحب حشو فؤاده
…
لم يدر كيف تقت الأكباد
وروينا من طريق الحسن بن علي بن يحيى بن سلام قال: "قيل ليحيى بن معاذ -يروي عن رجل من أهل الخير- وكان قد أدرك الأوزاعي وسفيان أنَّه سئل: متى تقع الفراسة عَلَى الغائب؟ قال: إذا كان محبًّا لما أَحَبّ الله، مبغضًا لما أبغض الله وقعت فراسته عَلَى الغائب. فَقَالَ يحيى:
(1) في المطبوع: بالأيلة.
(2)
في المطبوع: فكانت إذا.
كل محبوب سوى الله سرف
…
وهموم وغموم وأسف
كل محبوب فمنه لي خلف
…
ما خلا الرحمن ما منه خلف
إن للحب دلالات إذا
…
ظهرت من صاحب الحب عُرِف
صاحب الحب حزين قلبه
…
دائم الغصة (مهموم)(1) دَنِف
همه في الله لا في غيره
…
ذاهب العقل وبالله كلف
أشعت الرأس خميص بطنه
…
أصفر (الوجنة و)(2) الطرف ذرف
دائم (التذكير)(3) من حب الَّذِي
…
حبه غاية غايات الشرف
فإذا أمعن في الحب له
…
وعلاه الشوق (من داء)(4) كشف
باشر المحراب يشكو بئسه
…
وأمام الله مولاه وقف
قائما قدامه منتصبًا
…
لهجا يتلو بآيات الصحف
راكعًا طورًا وطورًا ساجد
…
باكيًا والدمع في الأرض يكف
أورد القلب عَلَى (الحب)(5) الَّذِي
…
فيه حب الله حقا فعرف
ثم جالت كفه في شجر
…
ينبت الحب (فسمى)(6) واقتطف
إن ذا الحب لمن يعني به
…
لا بدار ذات - لهو وطرف
لا ولا الفردوس لا يألفها
…
لا ولا الحوراء من فوق غرف
وروى أبو موسى المديني بإسناده عن أبي محمد عبد الله بن عروة قال:
أنشدني بعض الناس:
(1) في المطبوع: "مغموم".
(2)
في المطبوع: "أصفر الوجه وفي".
(3)
في المطبوع: "التذكار".
(4)
في المطبوع: "مما قد".
(5)
في المطبوع: "حب".
(6)
في الأصل: "فيسمي"، وما أثبته من المطبوع.
تشاغل قوم بدنياهم
…
وقوم تخلوا (بمولاهم)(1)
فألزمهم باب مرضاته
…
وعن سائر الخلق أغناهم
فما يعرفون سوى حبه
…
وطاعته طول محياهم
يصفون بالليل أقدامهم
…
وعين المهيمن ترعاهم
فطورًا يناجونه سجدًا
…
ويبكون طورًا خطاياهم
إذا فكروا في الَّذِي أسلفوا
…
أذاب القلوب وأبكاهم
وإن يسكن الخوف لاذوا به
…
وباحوا إِلَيْهِ بشكواهم
وأصبحوا صيامًا عَلَى جهدهم
…
تبارك من هو قواهم
هم القوم أعطوا مليك الملو
…
ك صدق القلوب فوالاهم
هم المحبون بنياتهم
…
أرادوا رضاه فأعطاهم
وأسكنهم في فراديسه
…
وأعلى المنازل بواهم
فنالوا المراد (ومازوا)(2) به
…
فطوبى لهم ثم طوباهم
قرأت بخط عبد الله بن أحمد بن صابر السلمي: أنشدنا أبو إسحاق إبراهيم ابن محمد بن عقيل الشهرزوري لبعضهم:
قليل العزاء كثير الندم
…
طويل النحيب عَلَى ما اجترم
جرى دمعه فبكى جفنه
…
فصار البكاء بدمع ودم
يخاف البيات بهجم الممات
…
وفقد الحياة بضر السقم
ويخفي محبة رب العلى
…
فتظهر أنفاسه ما (كتم)(3)
وأسبل من طرفه عبرة
…
عَلَى الصحن من خده فانسجم
(1) في المطبوع: "لمولاهم".
(2)
في المطبوع: " وفازوا".
(3)
في المطبوع: "ما اكتتم".
وبات (يحارب محرابه)(1)
…
ولما تزل قدم عن قدم
فلما (تبت)(2) أحشاؤه
…
من الشوق (رق)(3) عليه الألم
وكم ليلة رام فيها المنام
…
فصاح به حبه لا تنم
وناح عَلَى جسد ناحل
…
أطال النحول به فانهدم
أناب إِلَى الله مستغفرًا
…
فصار له من أعز الخدم
…
(1) في المطبوع: "محارب محاربه".
(2)
في المطبوع: "تفتتت".
(3)
في المطبوع: "رقا".