الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب السادس في أنس المحبين بالله وأنه ليس لهم مقصود من الدُّنْيَا والآخرة سواه
ثبت في الصحيحين (1) والسنن (2) والمسانيد (3) من غير وجه أن "جبريل عليه السلام سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإحسان، فَقَالَ النبي صلى الله عليه وسلم: "الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنَّه يراك".
وقال بعض العارفين من السَّلف: "من عمل لله عَلَى المشاهدة فهو عارف، ومن عمل عَلَى مشاهدة الله إياه فهو مخلص"
فهذان مقامان:
أحدهما: الإخلاص، وهو أن يعمل العبد عَلَى استحضار مشاهدة الله إياه واطلاعه عليه وقربه منه، فإذا استحضر العبد ذلك في عمله وعمل عَلَى هذا المقام فهو مخلص لله؛ لأنّ استحضاره ذلك يمنعه من الالتفات إِلَى غير الله وإرادته بالعمل.
والثاني: المعرفة التي تستلزم المحبة الخالصة، وهو أن يعمل العبد عَلَى مشاهدة الله بقلبه، وهو أن يتنور قلبه بنور الإيمان وتنفذ بصيرته في العرفان حتى يصير الغيب عنده كالعيان، وهذا هو مقام الإحسان المشار إِلَيْهِ في حديث جبريل عليه السلام ويتفاوت أهل هذا المقام فيه بحسب قوة نفوذ البصائر.
(1) أخرجه البخاري (50، 4777)، ومسلم (1).
(2)
أخرجه أبو داود (4670)، والترمذي (2610) والنسائي (8/ 97) ابن ماجه (63).
(3)
أخرجه أحمد (1/ 27، 51، 319)، (2/ 107)، (2/ 426)، (4/ 129).
وقد فسر طائفة من العُلَمَاء المثل العلي المذكور في قوله تعالى: {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الروم: 27] بهذا، ومثله قوله تعالى:{اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} [النور: 35].
وقد فسرها أُبي بن كعب وغيره من السَّلف بأن المراد مثل نور الله في قلب المؤمنين.
ومن هذا حديث حارثة المشهور لما قال النبي صلى الله عليه وسلم "وكأني أنظر إِلَى عرش ربي بارزًا؛ وكأني أنظر إِلَى أهل الجنة يتزاورون فيها، إِلَى أهل النار يتعاوون فيها.
فَقَالَ النبي صلى الله عليه وسلم: "عرفت فالزم، عبد نَوَّر الله الإيمان في قلبه".
وهذا الحديث مروي مرسلاً، ورُوي مسندًا متصلاً، لكن من وجوه ضعيفة (1).
"وخطب عروة إِلَى ابن عمر ابنته وهما في الطواف فلم يجبه بشئ، ثم رآه بعد ذلك فاعتذر إِلَيْهِ. وقال: كنا في الطواف نتخايل الله بين أعيننا".
خرجه أبو نعيم (2) وغيره (3).
ويتولد من هذين المقامين للعارفين مقام الحياء من الله -عز جل-، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إِلَى ذلك في حديث بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده (4)"أنَّه سئل عن كشف العورة خاليًا، فَقَالَ: الله أحق أن يستحيا منه"
وقد ندب النبي صلى الله عليه وسلم إِلَى دوام استحضار معية الله وقربه وإلى الحياء منه بذلك
(1) تم تخريجه في موضع آخر من مجموع الرسائل.
(2)
في الحلية (1/ 309).
(3)
وأخرجه الفاكهي في "أخبار مكة"(339).
(4)
علقه البخاري (1/ 458).
وأخرجه أبو داود (3998 - عون)، والترمذي (2919، 2946 - تحفة) وقال: حسن، إلا أن المزي نقل عنه في أحد الموضعين أنَّه قال: غريب كما في تحفة الأشراف (8/ 428).
في غير حديث، كما دل عليه قوله تعالى:{وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: 4]
وقوله تعالى: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ
…
} [يونس: 61].
وخرج البزار من حديث عبد الله بن معاوية الغاضري "أن رجلاً قال: يا رسول الله، ما تزكية المرء نفسه؟ قال: أن يعلم أن الله حيث كان معه".
وخرج الطبراني (1) من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أفضل الإيمان أن تعلم أن الله معك حيث كنت" وبإسناد فيه نظر من حديث أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة في ظل الله -تعالى- يوم لا ظل إلا ظله: رجل حيث توجه علم أن الله معه
…
" (2) إلخ.
ومن حديث سعيد بن يزيد الأزدي "أنَّه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أوصني.
قال: أوصيك أن تستحي من الله كما تستحي رجلاً صالحًا من صالحي قومك" (3). ورويناه بإسناد فيه ضعف من حديث أبي أمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "استح من الله استحياؤك من رجلين من صالحي عشيرتك هما معك لا يفارقانك" (4).
(1) في الكبير، والأوسط (8796). وقال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن عروة بن رويم إلا محمد بن مهاجر، تفرد به عثمان بن كثير.
قال الهيثمي في المجمع (1/ 60): رواه الطبراني في الأوسط وفي الكبير، وقال: تفرد به عثمان بن كثير.
قلت: ولم أر من ذكره بثقة ولا جرح ا. هـ.
وأخرجه أبو نعيم في الحلية (6/ 124) وقال: غريب من حديث عروة، لم نكتبه إلا من حديث محمد بن مهاجر.
(2)
أخرجه الطبراني في الكبير (8/ 7935). وقال الهيثمي في المجمع (10/ 279): وفيه بشر بن نمير، وهو متروك.
(3)
أخرجه أحمد في الزهد (248) والطبراني في "الكبير"(6/ 576).
وقال الهيثمي في المجمع (10/ 284): ورجاله وثقوا على ضعف في بعضهم.
(4)
أخرجه ابن عدي في الكامل (2/ 136) وقال: وهذا الحديث بهذا الإسناد ليس=
في هذا المعنى يقول بعضهم:
كأن رقيب منك يرعى خواطري
…
وآخر يرعى ناظري ولساني
فما أبصرت عيناي بعدك منظرًا
…
لغيرك إلا قلت قد رمقاني
ولا بدرت من في بعدك لفظة
…
لغيرك إلا قلت قد سمعاني
ولا خطرت من ذكر غيرك خطرة
…
عَلَى القلب إلا عرجا بعناني
إذا ما تسلى القاعدون عن الهوى
…
بذكر فلان أو كلام فلان
وجدت الَّذِي يسلى سواي يشوقني
…
إِلَى قربكم حتى أمل مكاني
وإخوان صدق قد سئمت لقاءهم
…
وغضضت طرفي عنهمو ولساني
وما البغض أسلى عنهمو غير أنني
…
أراك عَلَى كل الجهات تراني
ويتولد من ذلك أيضاً الأنس بالله والخلوة لمناجاته وذكره واستثقال ما يشغل عنه من مخالطة الناس والاشتغال بهم، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال:"إن أحدكم إذا كان يصلي فإنما يناجي رَبَّهُ أو رَبُّهُ بينه وبين القبلة"(1).
وأنه قال: "إن الله قبل وجهه إذا صلى"(2).
وفي حديث الحارث الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أن الله تعالى ينصب وجهه لوجه عبده في صلاته ما لم يلتفت"(3) وفي حديث أبي هريرة (4) وأبي
=يرويه غير صغدي، وإنَّما يروي هذا الحديث الليث بن سعد".
وقال الألباني في الضعيفة (1500): وهذا إسناد واه جدًّا".
(1)
أخرجه البخاري (405) وفي مواضع أخرى، ومسلم (551) من حديث أنس.
وأخرجه البخاري (416) من حديث أبي هريرة.
(2)
أخرجه البخاري (406) وفي مواضع أخري، ومسلم (547) من حديث ابن عمر.
(3)
أخرجه أحمد (4/ 130، 202)، والترمذي (3023، 3024 تحفة).
قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب.
وقال في رقم (3024 تحفة): هذا حديث حسن غريب. بينما في السنن المطبوعة بتحقيق إبراهيم عطوة برقم (2864) قال: هذا حديث حسن صحيح غريب.
(4)
ذكره البخاري "معلقًا"(13/ 508) وأخرجه في خلق أفعال العباد (344).
الدرداء (1) عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يقول الله عز وجل: أنا مع عبدي إذا ذكرني وتحركت بي شفتاه".
وصح من حيث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "يَقُولُ -اللَّهُ تعالى-: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِى بِي وَأَنَا مَعَهُ حَيْثُ يَذْكُرُنِي؛ فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِى نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلإٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلإ خَيْرٍ مِنْهُمْ، وَإِنْ اقَتَرَبَ إِلَيَّ شِبْرًا اقْتَرَبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِنْ اقْتَرَبْتُ إِلَيَّ ذِرَاعًا اقْتَرَبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا، وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً"(2).
وروينا بإسناد فيه نظر عن أنس مرفوعًا: "إذا أَحَبّ أحدكم أن يحدث ربه فليقرأ"(3).
وقال ثور بن يزيد: "قرأت في التوراة أن عيسى عليه السلام قال: يا معشر الحواريين، كلموا الله كثيرًا وكلموا الناس قليلاً. قالوا: كيف نكلم الله كثيرًا؟! قال: اخلوا بمناجاته، اخلوا بدعائه".
خرجه أبو نعيم.
والتوراة اسم جنس للكتب المتقدمة كلها وتسمى أيضاً إنجيلاً وقرآنًا.
وخرج أيضاً بإسناد فيه ضعف عن رباح قال: "كان عندنا رجل يصلي كل يوم وليلة ألف ركعة حتى أقعد من رجليه، فكان يصلي جالسًا ألف ركعة، فإذا صلي العصر احتبى فاستقبل القبلة ويقول: عجبت للخليقة كيف أنست بسواك؟ بل عجبت للخليقة كيف استنارت قلوبها بذكر سواك؟! ".
(1) أخرجه الحاكم (1/ 496) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
(2)
أخرجه البخاري (7505)، ومسلم (2675).
(3)
أخرجه الخطيب في "تاريخه"(7/ 239) ونقل العلامة الألباني في الضعيفة (1842) قول ابن عبد الهادي الحنبلي في "هداية الإنسان"(2/ 32/ 1): إسناده مظلم، ولا يثبت مرفوعًا.
قال الألباني رحمه الله: ولا موقوفًا، فإنَّه لم يرد إلا من هذا الوجه الواهي.
وحكم عَلَى الحديث بأنه ضعيف جدًّا.
وروينا من حديث أبي أسامة قال: "دخلت عَلَى محمد بن النضر الحارثي فرأيته كأنه ينقبض، فقلت: كأنك ترى تكره أن تؤتى؟
قال: أجل. قلت: أو ما تستوحش؟ قال: كيف أستوحش وهو يقول: أنا جليس من ذكرني؟!.
وقال بكر المزني: "من مثلك يا ابن آدم، خلى بينك وبين المحراب والماء، كلما شئت دخلت عَلَى الله عز وجل ليس بينك وبينه ترجمان". خرجه عبد الله بن الإمام أحمد.
وروى ابن أبي الدُّنْيَا بإسناده عن شميط بن عجلان قال: "إن الله وسم الدُّنْيَا بالوحشة ليكون أنس المنقطعين به".
وعن حبيب أبي محمد "أنَّه كان يخلو في بيته ثم يقول: من لم تقر عينه بك فلا قرت، ومن لم يأنس بك فلا أنس".
وعن زكريا بن عدي قال: "سمعت عابدًا باليمن يقول: سرور المؤمن ولذته في الخلوة بمناجاة سيده عز وجل".
وعن أحمد بن أبي الحواري قال: حدثني أبو عبد الرحمن الأزدي قال: "مررت برجل ببيروت مدلى الرجلين في البحر يكبر. فقلت: يا شاب، ما لك جالس وحدك؟ قال: اتق الله ولا تقل إلا حقا، ما كنت قط وحدي منذ ولدتني أمي، إن معي ربي عز وجل حيثما كنت، ومعي ملكان يحفظان علي، وشيطان ما يفارقني، فإذا عرضت لي حاجة إِلَى ربي سألته إياها بقلبي فجاءني بها".
وعن إبرهيم بن أدهم قال: "اتَّخذ الله صاحبًا ودع الناس جانبًا".
وعن عبد الواحد بن زيد قال: "كان أصحاب غزوان يَقُولُونَ له: ما يمنعك عن مجالسة إخوانك؟ فيبكي ويقول: إني أصبت راحة قلبي في مجالسة من لديه حاجتي".
وعن مسلم بن يسار قال: "ما تلذذ المتلذذون بمثل الخلوة بمناجاة الله عز وجل".
وعن عبد العزيز بن سليمان الراسبي، وكانت رابعة تسميه: سيد العابدين "أنَّه قِيلَ لَهُ: ما بقي مما يتلذذ به؟ قال: سرداب أخلو بربي فيه".
وعن مسلم العابد قال: "لولا الجماعة -يعني: الصلاة في الجماعة- ما خرجت من باب أبدًا حتى أموت.
وقال: ما يجد المطيعون الله لذة في الدُّنْيَا أحلى من الخلوة بمناجاة سيدهم، ولا أَحَبّ لهم في الآخرة من عظيم الثواب كبر في صدورهم وألذ في قلوبهم من النظر إِلَى الله عز وجل ثم غشي عليه".
وعن شعيب بن حرب قال: "دخلت عَلَى مالك بن مغول وهو جالس في بيته وحده، فقلت: ألا تستوحش؟ قال: أو يستوحش مع الله أحد؟! ".
وعن يحيى بن سعيد قال: قال نصر بن يحيى بن أبي كثير -وكان من الحكماء: "لم نجد شيئًا أبلغ من الزهد في الدُّنْيَا من ثبات حرث الآخرة في قلب العبد، ومن ثبت ذلك في قلبه آنسه بالوحدة فأنس بها واستوحش من المخلوقين، فأول ما يهيج من حب الخلوة طلب العبد الإخلاص والصدق في جميع قوله وفعله فيما بينه وبين ربه، ويهيج منها الزهد في معرفة الناس والأنس بالله تبارك وتعالى ويهيج منها الوحشة من الناس والاستثقال لكلامهم والأنس بكلام رب العالمين".
ويروى عن إبراهيم بن أدهم قال: "أعلى الدرجات أن تنقطع إِلَى ربك وتستأنس إِلَيْهِ بقلبك وعقلك وجميع جوارحك حتى لا ترجو إلا ريك ولا تخاف إلا ذنبك وترسخ محبته في قلبك حتى لا تؤثر شيئًا عليه؛ فإذا كنت كذلك لم تبال في بر كنت أو في بحر أو في سهل أو في جبل؛ وكان شوقك بلقاء الحبيب شوق الظمآن إِلَى الماء البارد، وشوق الجائع إِلَى الطعام الطيب، ويكن ذكر الله عز وجل عنك أحلى من العسل وأشهى من الماء العذب الصافي عن العطشان في
اليوم الصائف".
وقال الفضيل: "طوبى لمن استوحش من الناس وكان الله أنيسه".
وقال أبو سليمان: "لا آنسني الله عز وجل إلا به أبدًا".
وقال رجل لمعروف الكرخي: "أوصني. قال: توكل عَلَى الله حتى يكون جليسك وأنيسك وموضع شكواك، وأكثر ذكر الموت حتى لا يكون لك جليس غيره، واعلم أن الشفاء لما نزل بك كتمانه، وأن الناس لا ينفعونك ولا يضرونك ولا يعطونك ولا يمنعونك".
وقال سعيد بن عثمان: سمعت ذا النون يقول: "من علامات المحب لله: ترك كل ما يشغله عن الله حتى يكون الشغل بالله وحده. ثم قال: إن من علامات المحبين لله أن لا يأنسوا بسواه ولا يستوحشوا معه ثم قال: إذا سكن حب الله القلب أنس بالله؛ لأن الله أجل في صدور العارفين من أن يحبوا سواه".
وكانت رابعة العدوية تنشد هذين البيتين:
ولقد جعلتك في الفؤاد محدثي
…
وأبحت جسمي من أراد جلوسي
فالجسم مني للجليس مؤانس
…
وحبيب قلبي في الفؤاد أنيسي
ورؤي بعض العارفين يصلي في مكان وحده، فلما سلم قِيلَ لَهُ:
"ما معك مؤنس؟ قال: بلى. قِيلَ لَهُ: أين هو؟ قال: أمامي وخلفي ومعي وعن يميني وعن شمالي وفوقي. قِيلَ لَهُ: معك زاد؟ قال: نعم: الإخلاص. قِيلَ لَهُ: أما تستوحش في وحدتك؟ قال: إن الأنس بالله قطع عني كل وحشة حتى لو كنت بين السباع ما خفتها".
وقال بعض العارفين: "عجبت لمن عرف الطريق إِلَى الله كيف يعيش مع غيره، والله -تعالى- يقول: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ
…
} الآية [الزمر: 54] ".
ولو استقصينا ما في هذا الباب من الأخبار والآثار لطال الكتاب جدًّا.
ومن الأنس -بالله عز وجل الأنس بكلامه وذكره والأنس بالعلم النافع الَّذِي بلغه رسوله صلى الله عليه وسلم عنه.
وروى أبو نعيم بإسناده عن ذي النون قال: "الأنس بالله نور ساطع، والأنس بالناس غم واقع".
"قيل لذي النون: ما الأنس بالله؟ قال: العِلْم والقرآن".
ومن كلام الفضيل بن عياض: "كفى بالله محبًّا وبالقرآن مؤنسًا وبالموت واعظًا، اتخذ الله صاحبًا وح الناس جانبًا.
وقال: "من لم يستأنس بالقرآن فلا أنس الله وحشته".
وقد رُوي من حديث أنس مرفوعًا: "علامة حب الله: حُبُّ ذكره، وعلامة بغض الله بغضُ ذكره"(1) من طريقين غير صحيحين.
وكان فتح الموصلي يقول: "المحب لله لا يجد مع حب لله عز وجل للدنيا لذة، ولا يغفل عن ذكر الله عز وجل طرفة عين".
خرجه إبراهيم بن الجنيد.
وخرج أيضاً بإسناده عن الربيع بن أنس عن بعض أصحابه قال: "علامة حب الله: كثرة ذكره، فإنك لن تحب شيئًا إلا أكثرت ذكره، وعلامة الدين: الإخلاص لله عز وجل وعلامة العِلْم خشية الله عز وجل، وعلامة الشكر: الرضا بقضاء الله عز وجل والتسليم للقدر".
ومما ينشأ من معرفة الله -تعالى- ومحبته الاكتفاء به والاستغناء به عن خلقه.
ومنه قول أحمد بن عاصم الأنطاكي: "من عرف الله عز وجل اكتفى
(1) أخرجه البيهقي في "الشعب"(406) من حديث لأنس، قال البيهقي رحمه الله:
ورُوي من وجه آخر عن زياد بن ميمون، وزياد منكر الحديث.
ورُوي من وجه آخر ضعيف عن أنس بن مالك، والله أعلم.
به، ومن لم يعرفه اكتفى بخلقه دونه، فطال غمه وكثرت شكايته، ومن أَحَبّ -الله تعالى- لم يكن في قلبه فضلة لحب أحد؛ ولو أراد لم يترك".
ومنه قول علي بن الكاتب: "إذا انقطع العبد إِلَى الله بالكلية فأول ما يفيده: الاستغناء به عمن سواه".
ومنه قول بعض العارفين: "من لزم الباب أثبت في الخدم، ومن استغنى بالله أمن من العدم".
وفي بعض الإسرائيليات يقول الله عز وجل:
"ابن آدم، اطلبني تجدني، فإن وجدتني وجدت كل شيء، وإن فُتُّكَ فاتك كل شيء، وأنا أَحَبّ إليك من كل شيء".
وأنشد أبو الحسن بن سيار الزاهد:
تنقضي الدنيا وتفنى
…
والفتى فيها مُعَنَّى
ليس في الدنيا نعيم
…
لا ولا عيش مهنا
يا غنيا بالدنانير
…
محب الله أغنى
ولبعضهم:
وكم كنت أخشى الفقر حتى وجدتكم
…
فصرت أدل المفلسين عليكموا
***