الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل "بعض الآثار عن الحب
"
وقد ذكرنا في الباب الأول أن محبة الله عز وجل الواجبة تقتضي محبة ما أوجب من الطاعات وامتثالها، وكراهة ما كرهه من المحرمات واجتنابها، وأن محبته المستحبة تقتضي محبة التقرب إِلَيْهِ بالنوافل والورع عن دقائق المكروهات، والمحبة الواجبة تقتضي أيضاً مخالفة الهوى، وإيثار ما يحبه ويرضاه عَلَى ما تشتهيه الأنفس وتهواه، فإذا تمكنت المحبة في القلب، وامتلأ القلب منها أخرجت من القلب محبة كل ما يكرهه الله فلم يبق في القلب سوى محبة الله ومحبة ما يحبه، فلم تنبعث الجوارح إلا إِلَى الطاعات التي تقتضي التقرب إِلَى الله، وصارت النفس حينئذ مطمئنة.
إِلَى هذا الإشارة في الحديث الإلهي: "فَإِذَا أحببته كنت سمعه الَّذِي يسمع به، وبصره الَّذِي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها
…
"، وقد سبق ذكره.
وروى إبراهيم بن الجنيد بإسناده عن فرقد السبخي قال: "قرأت في بعض الكتب: من أَحَبّ الله -تعالى- لم يكن شيء عنده آثر من هواه، ومن أَحَبّ الدُّنْيَا لم يكن شيء عنده آثر من هوى نفسه".
والمحبة منتهى القربة والاجتهاد، ولم يسأم المحبون من طول اجتهادهم لله عز وجل يحبونه ويحبون ذكره ويحببونه إِلَى خلقه، ويمشون بين عباده بالنصائح ويخافون عليهم من أعمالهم يوم تبدو الفضائح، وأولئك أولياء الله وأحباؤه وأهل صفوته، أولئك الذين لا راحة لهم دون لقائه.
وعن ثور بن زيد قال: "نظر الله عز وجل إِلَى داود عليه السلام وهو وحداني منتبذ، فَقَالَ: مالك وحداني؟ قال: "عاديت الخلق فيك.
قال: أو ما علمت أن من محبتي أن تعطف عَلَى عبادي وتأخذ عليهم بالفضل؟ هنالك أكتبك من أوليائي ومن أحبائي؛ فإذا كنت كذلك كتبتك في ديوان أهل المحبة".
وعن عبيد الله بن محمد التيمي قال: سمعتهم يذكرون عن بعض أولئك الفخام أنَّه قال: "إن العمل عَلَى المخالفة قد يغيره الرجاء، والعمل عَلَى المحبة لا يدخله الفتور".
وعن عبد الله بن أبي نوح قال: "سمعت رجلاً من العباد يقول في كلامه: إذا سئم الباطلون من بطالتهم فلن يسأم محبوبك من مناجاتك وذكرك".
وعن أبي جعفر المحبوبي قال: "ولي الله: المحب لله، لا يخلو قلبه من ذكر ربه، ولا يسأم من خدمته، فإذا أعرض أعرض عنه، وإذا أقبل إِلَى الله أقبل عليه برأفته ورحمته".
وعن مسلم أبي عبد الله قال: "من أَحَبّ الله عز وجل آثر هوى الله- عز وجل عَلَى هوى محبة نفسه، ومن خشي الله -تعالى- خرج من الدُّنْيَا بحسرات، والمؤمن من الله عز وجل بمنزلة كل خير بين خوف وشفقة وطاعة ومحبة".
وعن الفضيل بن عياض قال: "الحب أفضل من الخوف، ألا ترى إذا كان لك عبدان أحدهما يحبك والآخر يخافك، فالذي يحبك منهما ينصحك شاهدًا كنت أو غائبًا لحبه إياك، والذي يخافك عسى أن ينصحك إذا شهدت لما يخاف، ويغشك إذا غبت ولم ينصحك".
وعن سعيد بن عمر أن ابن زرارة قال: "سمعت كَلابَ بن جُرَي يقول لرجل من الطفاوة وهو يوصيه بطرائق البر، فَقَالَ له:
وكن لربك ذا بر لتخدمه
…
إن المحبين للأحباب خدام
قال: فصاح الطفاوي صيحة، فخر مغشيًا عليه".
وعن أبي عبد الرحمن المغازلي قال: "لا يعطى طريق المحبة غافل ولا ساه.
المحب لله -تعالى- طائر القلب، كثير الذكر، متسبب إِلَى رضوانه بكل سبيل يقدر عليه من الوسائل والنوافل دوبًا دوبًا، وشوقًا شوقًا".
وعن محمد بن النضر الحارثي قال: "ما يكاد يمل القربة إِلَى الله عز وجل محب لله عز وجل ولا يكاد يسأم من ذلك".
وقال محمد بن نعيم الموصلي: "إن القلب الَّذِي يحب الله يحب التعب والنصب لله، إنه لن ينال حب الله بالراحة".
وذكر ابن أبي الدُّنْيَا بإسناده "أن رجل قال لبعض العارفين: أوصني. قال: افش فعل الخيرات، وتوصل إِلَى الله بالحسنات، فإني لم أر شيئًا قط أرضى للسيد مما يحب؛ فبادر في محبته يسرع في محبتك. ثم بكى فَقَالَ له: زدني رحمك الله. قال: الصبر عَلَى محبة الله وإرادته رأس كل بر -أو قال: كل خير".
واجتمع أحمد بن أبي الحواري وقاسم الجوعي وجماعة من الصالحين بعد صلاة العتمة، وقد خرجوا من المسجد إِلَى بيت رجل قد دعاهم إِلَى طعام صنعه لهم، فأنشدهم رجل قبل دخول الباب:
علامة صدق المستخصين بالحب
…
بلغوهم المجهود في طاعة الرب
وتحصيل طيب القوت من مجتنائه
…
وإن كان ذاك القوت في مرتقى صعب
فلم يزل يردده وهم قيام حتى أذن مؤذن الفجر ورجعوا إِلَى المسجد.
وقد رُويت بيتان آخران مع هذين البيتين وهما:
وإمساك سوء اللفظ عن وَلَهِ جنسهم
…
وإن ظلموا فالعفو من ذاك بالخطب
أولئك بالرحمن قرت عيونهم
…
وحلوا من الإخلاص بالمنزل الرحب
وقال نصر: "اجتمعنا ليلة عَلَى الساحل ومعنا مسلم أبو عبد الله، فَقَالَ رجل من الأزد:
ما للمحب سوى إرادة حبه
…
إن المحب بكل بر يضرع
قال: فبكى مسلم حتى خشيت والله أن يموت".
خرجه ابن أبي الدُّنْيَا.