الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الثالث في بيان الأسباب التي تستجلب بها محبة رب الأرباب
فمن ذلك معرفة نعمة الله علي عباده، وقد جبلت القلوب علي حب من أحسن إليها.
وهذا الكلام مروي عن ابن مسعود. ورُوي عنه مرفوعًا ولا يصح (1).
قال بعضهم: "إذا كانت القلوب جبلت عَلَى حب من أحسن إليها فوا عجبًا لمن لا يري محسنًا غير الله عز وجل كيف لا يميل بكُلِّيته إِلَيْهِ".
وقال بعض السَّلف: "ذكر النعيم يورث الحب لله عز وجل".
قال الفضيل: "أوحى الله إِلَى داود عليه السلام: أحبني وأحب من يحبني وحببني إِلَى عبادي. قال: يا رب، هذا أحبك وأحب من يحبك، فكيف أحببك إِلَى عبادك؟! قال: تذكرني ولا تذكر مني إلا حسنًا".
(1) أخرجه ابن عدي في الكامل (2/ 286 - 287)، والبيهقي في "الشعب"(8984) وأبو نعيم في الحلية (4/ 121)، والخطيب في تاريخه (7/ 346 - 347) وغيرهم.
قال ابن عدي: وهذا لم أكتبه مرفوعًا إلا من هذا الوجه، وهو معروف عن الأعمش موقوفًا
…
ثم ذكره موقوفًا.
ونقل هذه العبارة البيهقي في الشعب عن ابن عدي.
وقال أبو نعيم: غريب من حديث الأعمش عن خيثمة، لم نكتبه إلا من هذا الوجه.
وأخرجه البيهقي في "الشعب"(4983) مرقوفًا عَلَى ابن مسعود وقال: هذا هو المحفوظ موقوف.
وحكم عليه الشيخ الألباني بالوضع مرفوعًا وموقوفًا في الضعيفة (600).
ويروى عن كعب قال: "أوحى الله عز وجل إِلَى موسى- عليه السلام: أتحب أن تحبك أحبتي وملائكتي وما ذرأت من الجن والإنس؟ قال: نعم يا رب. قال: ذكرهم آلائي ونعمائي؛ فإنهم لا يذكرون مني إلا كل حسنة".
وعن أبي عبد الله الجدلي قال: "أوحى الله عز وجل إِلَى داود عليه السلام يا داود، أحبني وأحب من يحبني وحببني إِلَى الناس؟ قال: يا رب، أحبك وأحب من يحبك؛ فكيف أحببك إِلَى الناس؟ قال: تذكرهم آلائي ونعمائي فلا يذكرون مني إلا حسنًا".
ويروى عن ابن عباس. عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أحبوا الله لما يغذوكم من نعمة، وأحبوني لحب الله وأحبوا أهل بيتي لحبي".
وهذا الحديث موجود في بعض نسخ كتاب الترمذي (1).
والحب عَلَى النعم من جملة شكر المنعم وهو واجب عَلَى من أنعم عليه، ولهذا يقال: إن الشر يكون بالقلب واللسان والجوارح.
ومن الأسباب أيضاً: معرفة الله -تعالى-:
قال الحسن بن أبي جعفر: سمعت عتبة الغلام يقول: "من عرف الله - تعالى- أحبه، ومن أَحَبّ الله أطاعه، ومن أسكنه في جواره فطوباه وطوباه وطوباه".
قال فلم يزل يقول: "وطوباه، وطوباه" حتى خر ساقطًا مغشيًا عليه.
خرجه إبراهيم بن الجنيد.
وقال بديل بن ميسرة: "من عرف ربه أحبه، ومن عرف الدُّنْيَا زهد فيها".
خرجه الإمام أحمد وغيره.
(1) برقم (3789) وقال: هذا حديث حسن غريب، إنما نعرفه من هذا الوجه.
ومن أعظم أسباب المعرفة الخاصة: التفكر في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء.
قال الجوزجاني: حدثني صاحب لي عن جعفر بن سليمان قال: "كنا نكون عند مالك بن دينار عشية جمعة، فكان يجيء خليفة العبدي بعد العصر فيأخذ بعضادتي الباب فيقول: يا أبا يحيى، عليك السلام، يا أبا يحيى، لو أن الله - تعالى- لم يعبد إلا عن رؤية ما عبده أحد، لأنه عز وجل لا تدركه الأبصار ولكن المؤمنون تفكروا في مجيء هذا الليل إذا جاء فطبق كل شيء وملأ كل شيء، ومجيء سلطان النهار وتفكروا في مجيء النهار إذا جاء فملأ كل شيء وطبق كل شيء، ومجيء سلطان الليل، وتفكروا في السحاب المسخر بين السماء والأرض، وتفكروا في الفلك التى تجري في البحر بما ينفع الناس، وتفكروا في مجيء الشتاء والصيف، فوالله ما زال المؤمنون يتفكرون فيما خلق لهم ربهم حتى أيقنت قلوبهم، وحتى كأنما عبدوا الله عن رؤية".
وكان شميط بن عجلان يقول: "دلنا ربنا عَلَى نفسه في هذه الآية: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ
…
} الآية [الأعراف: 54، ويونس: 3].
وفي القرآن شيء كثير من التذكير بآيات الله الدالة عَلَى عظمته وقدرته وجلاله وكماله وكبريائه ورأفته ورحمته وبطشه وقهره وقدرته وانتقامه، غير ذلك من صفاته العلى وأسمائه الحسنى والندب إِلَى التفكر في مصنوعاته الدالة علي كماله، فإن القلوب مفطورة عَلَى محبة الكمال، ولا كمال عَلَى الحقيقة إلا له سبحانه وتعالى، ولهذا كان السَّلف يفضلون التفكر عَلَى نوافل البدن. ورُوي ذلك عن الحسن وابن المسيب.
قال عمر بن عبد العزيز: "الفكر في نعم الله أفضل العبادة".
وقال عبد الله بن محمد التيمي: "أفضل النوافل طول الفكرة".
وكان أكثر عمل أبي الدرداء الاعتبار والتفكر.
وكلام الإمام أحمد يدل عَلَى مثل هذا أيضاً.
وقال ذو النون: تناول المعرفة بثلاث: "بالنظر في الأمور كيف دبرها، وفي المقادير كيف قدرها، وفي الخلائق كيف خلقها".
"وسئل أبو سليمان الداراني: بأي شيء تنال معرفة الله؟ قال: بطاعته.
قيل: فبأي شيء تنال طاعته؟ قال: به".
فكلما قويت معرفة العبد بالله قويت محبته له ومحبته لطاعته، وحصلت له لذة العبادة من الذكر وغيره عَلَى قدر ذلك.
وقد روى ابن أبي الدُّنْيَا بإسناده عن ابن عمر- رضي الله عنهما قال: "أخبرني أهل الكتاب أن هذه الأمة تحب الذكر كما تحب الحمامة وكرها، ولهم أسرع إِلَى ذكر الله من الإبل إِلَى وردها يوم ظمئها".
وعن مالك بن دينار قال: "ما تلذذ المتلذذون بمثل ذكر الله عز وجل".
وعنه قال: "قرأت في التوراة: أيها الصديقون تنعموا بذكري في الدُّنْيَا؛ فإنَّه لكم في الدُّنْيَا نعيم وفي الآخرة جزاء".
وقال محمد بن كعب القرظي: "وجدت في بعض الحكمة: أيها الصديقون، افرحوا بي وتنعموا بذكري".
وقال مسلم أبو عبد الله: "ما تلذذ المتقون بشيء في صدورهم ألذ من حب الله عز وجل ومحبة أهل ذكره".
وقال أحمد بن غسان: "قرأت في زبور داود عليه السلام: أحبوا الله يا صِدِّيقيه، افرحو أيها الصديقون بالله وتنعموا بذكره".
وقال أحمد بن أبي الحواري عن أبي جعفر الرقي قال: "ما فرح أحد بغير الله إلا بالغفلة عن الله عز وجل".
قال وحدثنا محمود عمن أخبره قال: "رأيت بالبصرة رجلاً كثير الدواب قليل الطعم جيد البدن؛ فقلت له: أراك كثير الدوب قليل الطعم جيد البدن؟
قال: ذلك من فرحي بحب الله عز وجل، إذا ذكرت أنَّه ربي وأنا عبده لم يمنع أن يصلح".
وقال الفضل الرقاشي: "والله لو جمع للعباد جميع لذات الدُّنْيَا بحذافيرها لكان امتهانهم أنفسهم لله بطاعته ألذ وأحلى عندهم من ذلك كله".
وقال إبراهيم بن أدهم: "أعلى الدرجات: أن يكون ذكر الله عندك أحلى من العسل، وأشهى من الماء العذب الصافي عند العطشان في اليوم الصائف".
وقال زبيد اليامي: "إن لله عبادًا ذكروه فخرجت نفوسهم به إعظامًا واشتياقًا، وقومًا ذكروه فوجلت قلوبهم فرقًا وهيبة له، فلو أحرقوا بالنار لم يجدوا مس النار، وآخرون ذكروه في الشتاء وبرده فارفضوا عرقًا من خوفه، وقومًا ذكروه فحالت ألوانهم غبرًا، وقومًا ذكروه فجفت أعينهم سهرًا".
"وكان أبو حفص النيسابوري إذا ذكر الله تغيرت عليه حاله حتى كان يرى ذلك منه جميع من حضره، ففعل ذلك مرة فلما رجع قال: ما أبعد ذكرنا من ذكر المحققين، فما أظن محققًا يذكر الله من غير غفلة ثم يبقى بعد ذلك حيًّا إلا الأنبياء؛ فإنهم أيدوا بقوة النبوة، وخواص الأولياء بقوة ولايتهم، ومع ذلك كله فلو كشف الغطاء لتبين أن الأمر أعظم وأعظم. ولهذا يقول أهل الجنة إذا كشفت لهم الحجب ورأوه معاينة قالوا: سبحانك، ما عبدناك حق عبادتك"(1).
وفي حديث آخر: «إِنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً فِي السَّمَاءِ قِيَامًا إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ تَرْعَدُ فَرَائِصُهُمْ مِنْ مَخَافَتِهِ، مَا مِنْهُمْ مَلَكٌ تَقْطُرُ مِنْ عَيْنَيْهِ دَمْعَةٌ إِلَّا وَقَعَتْ عَلَى مَلَك يُسَبِّحُ، وَلِلَّهِ مَلَائِكَةً سُجُودًا مُنْذُ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَمْ يَرْفَعُوا رُءُوسَهُمْ وَلَا يَرْفَعُونَهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَصُفُوفًا لَمْ يَتَفَرَّقُوا عَنْ مَقَامِهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَإِذَا
(1) أخرج نحوه محمد بن نصر المروزي في "تعظيم "قدر الصلاة" (256) مطولاً من حديث عمر مرفوعًا من قول الملائكة.
قال ابن كثير في تفسيره (14/ 188ط - أولاد شيخ): هذا حديث غريب جدًّا؛ بل منكر نكارة شديدة
…
والعجب من الإمام محمد بن نصر، كيف رواه ولم يتكلم عليه، ولا عَرَّف بحاله، ولا تعرض لضعف بعض رجاله؟ غير أنَّه رواه من وجه آخر عن سعيد بن جبير مرسلاً بنحوه. ومن طريق أخرى عن الحسن البصري مرسلاً قريبًا منه.
كان يوم القيامة تجلى لهم ربهم عز وجل فينظرون إِلَيْهِ تبارك وتعالى، فقالوا: سبحانك ما عبدناك كما ينبغي لك".
خرجه ابن أبي الدُّنْيَا (1) والأجري (2) مرفوعًا.
ورُوي نحوه من وجه آخر مرسلاً (3)؛ ورُوي عن عبد الله بن عمرو مرفوعًا (4) نحوه أيضاً.
وفي الصحيحين (5) عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً يَطُوفُونَ فِي الطُّرُقِ يَلْتَمِسُونَ أَهْلَ الذِّكْرِ؛ فَإِذَا وَجَدُوا قَوْمًا يَذْكُرُونَ اللَّهَ عز وجل تَنَادَوْا: هَلُمُّوا إِلَى حَاجَتِكُمْ. قَالَ: فَيَحُفُّونَهُمْ بِأَجْنِحَتِهِمْ إِلَى السَّمَاءِ، قَالَ: فَيَسْأَلُهُمْ رَبُّهُمْ -وَهُوَ أَعْلَمُ مِنْهُمْ-: مَا يَقُولُ عِبَادِي؟ قَالَ يَقُولُونَ: يُسَبِّحُونَكَ وَيُكَبِّرُونَكَ وَيَحْمَدُونَكَ وَيُمَجِّدُونَكَ، قَالَ يَقُولُونَ: لَوْ رَأَوْكَ كَانُوا أَشَدَّ لَكَ عِبَادَةً وَأَشَدَّ لَكَ تَمْجِيدًا وَتَحْمِيدًا، وَأَكْثَرَ لَكَ تَسْبِيحًا
…
" وذكر بقية الحديث، وإذا كان مخلوق يقول في مخلوق:
وكنت أرى أن قد تناها بي الهوى
…
إِلَى غاية ما فرقها لي مطلب
فلما تلاقينا وعاينت حسنها
…
تيقنت أني إنما كنت ألعب
فكيف بالخالق الملك الحق العظيم الَّذِي لا يُقَدَّرُ حق قدره، ولا يحيط خلقه به علماً، ولا يحصون ثناء عليه، وهو كما أثنى عَلَى نفسه؟!.
(1) في الرقة والبكاء (105).
(2)
وأخرجه أبو الشيخ في العظمة (515)، والمروزي في تعظيم قدر الصلاة (260).
قال ابن كثير (14/ 189): إسناده لا بأس به.
(3)
أخرجه المروزي في تعظيم قدر الصلاة (258) من طريق الحسن عن عمر مرفوعًا، وهو مرسل فالحسن لم يدرك عمر.
(4)
أخرجه البيهقي في "الرؤية" كما في "الحاوي"(ص 199 - 200) موقوفًا عَلَى عبد الله بن عمرو.
(5)
أخرجه البخاري (6408)، ومسلم (2689).