الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل محبة الله عَلَى درجتين: 1 - فرض لازم 2 - درجة السابقين
ومحبة الله سبحانه وتعالى عَلَى درجتين: إحداهما فرض لازم، وهي أن يحب الله -سبحانه- محبة توجب له، محبة ما فرض الله عليه، وبغض ما حرمه عليه، ومحبة لرسوله المبلغ عنه أمره ونهيه، وتقديم محبته عَلَى النفوس والأهلين أيضاً كما سبق، والرضا بما بلغه عن الله من الدين وتلقي ذلك بالرضا والتسليم، ومحبة الأنبياء والرسل والمتبعين لهم بإحسان جملة وعمومًا لله عز وجل وبغض الكفار والفجار جملة وعمومًا لله عز وجل وهذا القدر لابد منه في تمام الإيمان الواجب، ومن أخل بشيء منه فقد نقص من إيمانه الواجب بحسب ذلك.
قال الله عز وجل: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65] وكذلك ينقص من محبته الواجبة بحسب ما أخل به من ذلك، فإن المحبة الواجبة تقتضي فعل الواجبات وترك المحرمات.
وخرج أبو نعيم (1) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إن سالما -يعني: مولى أبي حذيفة- شديد الحب لله لو كان لا يُخافُ الله ما عصاه" يشير إِلَى أن محبة الله تمنعه من أن يعصيه.
وذكر أبو عبيد في "غريبه"(2) أن عمر قال: "نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه"(3).
(1) في الحلية (1/ 177) وقال الشيخ الألباني -عليه رحمة الله- في ضعيف الجامع (1861): "موضوع".
(2)
غريب الحديث (3/ 394).
(3)
نقل "العجلوني" في كشف الخفاء (2/ 446 - 447) عن البهاء السبكي والسيوطي=
قال الحسن بن آدم: "أَحَبّ الله يحبك الله، واعلم أنك لن تحب الله حتى تحب طاعته".
وقال عبد الله بن حنيف: "قال رجل لرابعة إني أحبك في الله.
قالت: "فلا تعصي الَّذِي أحببتني له".
وسئل ذو النون: متي أَحَبّ ربي؟ قال: "إذا كان ما يبغضه عندك أمر من الصبر".
وقال بشر بن السري. "ليس من أعلام الحب أن تحب ما يبغض حبيبك".
وقال أبو يعقوب النهرجوري: كل من ادعى محبة الله جل جلاله ولم يوافق الله في أمره فدعواه باطلة، وكل محب ليس يخاف الله فهو مغرور".
وقال يحيى بن معاذ: "ليس بصادق من ادعى محبة الله ولم يحفظ حدوده".
وقال رويم: "المحبة الموافقة في جميع الأحوال" وأنشد:
ولو قلت لي مت مت سمعًا وطاعة
…
وقلت لداعي الحق أهلا ومرحبًا
وقد تقدم أن العبد لا يجد حلاوة الإيمان حتى يحب المرء لا يحبه إلا لله، وحتى يكره أن يرجع إِلَى الكفر، كما يكره أن يلقي في النار.
ولهذا المعني كان الحب في الله والبغض في الله من أصول الإيمان.
وخرج الترمذي (1) من حديث معاذ بن أنس الجهني، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من أعطى لله ومنع لله وأحب لله وأبغض لله؛ فقد استكمل إيمانه".
وخرج الإمام أحمد (2) وزاد فيه: "وأنكح لله" وفي لفظ له أيضاً (3) "أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن أفضل الإيمان قال: أن تحب لله وتبغض لله وتعمل لسانك في
=وابن حجر اجتهادهم في البحث عن إسناد لهذا الحديث، وعدم وقوفهم عليه.
(1)
برقم (2521) وقال: هذا حديث حسن.
(2)
(3/ 438، 440).
(3)
أخرجه أحمد (5/ 247) من طريقين.
قال الهيثمي في المجمع (1/ 89): "وفي الأولى: رشدين بن سعد، وفي الثانية ابن لهيعة وكلاهما ضعيف".
ذكر الله، وخرج أبو داود (1) من حديث أبي أمامة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من أَحَبّ لله وأبغض لله وأعطى لله؛ فقد استكمل الإيمان".
ومن حديث أبي ذر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"أفضل الإيمان: الحب في الله والبغض في الله"(2).
وخرج الإمام أحمد (3) من حديث البراء بن عازب، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إن أوثق عرى الإيمان أن تحب في الله وتبغض في الله".
ومن حديث عمرو بن الجموح، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا يجِدُ العبْدُ حقَّ صرِيح الإيمانِ حتَّى يُحبَّ للَّهِ ويبْغِضَ للَّه، فإذا أحبَّ للهِ، وأبْغَضَ للَّهِ فقدْ استحقَّ الولايَةَ منَ اللَّه، وإن أوْليائِي منْ عبادي وأحبَّائِي منْ خلقِي يُذْكَرُون بذِكرِي وأُذكرُ بذكرِهِم"(4).
وفي هذا المعني أحاديث كثيرة:
وروى ليث عن مجاهد عن ابن عباس قال: "من أَحَبّ في الله وأبغض في الله ووالى في الله وعادى في الله فإنما تنال ولاية الله بذلك، ولن يجد عبد طعم الإيمان وإن كثرت صلاته وصومه حتى يكون كذلك". وقد صار عامة مؤاخاة الناس علي أمر الدُّنْيَا وذلك لا يجدي عَلَى أهله شيئًا. خرجه ابن جرير الطبري.
وخرج أيضًا بإسناده عن ابن مسعود قال: "من أَحَبّ لله وأبغض لله ومنع لله وأعطى لله فقد توسط الإيمان".
وخرج الحاكم (5) من حديث عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(1) برقم (4681).
(2)
أخرجه أبو داود (4595)، وأحمد (5/ 146) بلفظ:"أفضل الأعمال".
(3)
(4/ 286) بلفظ: "إن أوسط
…
" وقال الهيثمي في المجمع (1/ 89 - 90): رواه أحمد، وفيه ليث بن أبي سليم، وضعفه الأكثر.
(4)
أخرجه أحمد (3/ 430).
قال الهيثمي في المجمع (1/ 89): فيه رشدين بن سعد، وهو منقطع ضعيف.
(5)
(2/ 291) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه. =
"الشرك أخفى من دبيب النمل عَلَى الصفا في الليلة الظلماء، وأدناه أن تحب عَلَى شيء من الجور، وتبغض عَلَى شيء من العدل، وهل الدين إلا الحب في الله والبغض في الله؟! قال تعالى:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ} [آل عمران: 31] وقال: صحيح الإسناد، وفيما قاله نظر؛ ففي هذا الحديث أن محبة ما يبغضه الله وبغض ما يحبه الله من الشرك الخفي.
وروينا من طريق الأصمعي، عن سفيان، عن ليث، عن مجاهد أنَّه قال في قوله تعالى:{يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور: 55] قال: لا يحبون غيره".
وحينئذ فلا يكمل التوحيد الواجب إلا بمحبة ما يحبه الله وبغض ما يبغضه الله، وكذلك لا يتم الإيمان الواجب إلا بذلك.
ومن هنا يعلم أن الإخلال ببعض الواجبات وارتكاب بعض المحرمَّات ينقص به الإيمان الواجب بحسب ذلك، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن
…
" (1) الحديث.
وروى الإمام أحمد (2) من طريق الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أبي بن كعب قال:"من أصبح وأكبر همه غير الله فليس من الله".
وقد رُوي هذا مرفوعًا من حديث أنس بأسانيد ضعيفة (3).
=وتعقبه "الذهبي" قائلا: عبد الأعلى، قال الدراقطني: ليس بثقة.
وأخرجه البزار (3566 - كشف) وقال: "لا نعلمه يروى عن عائشة إلا بهذا الإسناد". وقال الهيثمي في الجمع (10/ 23): رواه البزار، وفيه عبد الأعلى بن أعين، وهو ضعيف.
(1)
أخرجه البخاري (2475) وفي مواضع أخر، ومسلم (57).
(2)
في الزهد (ص 42).
(3)
أخرجه ابن عدي في الكامل (7/ 67) وأبو نعيم في الحلية (3/ 48) وقال أبو نعيم: لم يروها عن أنس رضي الله عنه غير فرقد، ولا عنه إلا وهب بن راشد، ووهب وفرقد غير محتج بحديثهما وتفردهما.
وقال ابن عدي في ترجمة وهب بن راشد: يروي عن ثابت ومالك بن دينار وفرقد السبخي، ليست روايته عنهم بالمستقيمة.=
فهذه الدرجة من محبة الله فرض واجب عَلَى كل مسلم وهي درجة المقتصدين أصحاب اليمين
الدرجة الثانية درجة السابقين المقربين، وهي أن ترتقي المحبة إلي ما يحبه الله من نوافل الطاعات، وكراهة ما يكرهه من دقائق المكروهات، وإلى الرضا بما يقدره ويقضيه مما يؤلم النفوس من المصائب، وهذا فضل مستحب مندوب إِلَيْهِ.
وفي صحيح البخاري (1)، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يقول الله عز وجل «مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنَتْهُ بِالْحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لِأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ قَبْضِ نَفْسِ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَ أَكْرَهُ مَسَاءَتَه» .
وقد رُوي هذا المعني عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث علي بن أبي طالب (2) رضي الله عنه وابن عباس (3) -وأبي أمامة (4) وعائشة (5) رضي الله عنهم بأسانيد
=ثم ساق ابن عدي لوهب أحاديث عن ثابت وفرقد، ومنها حديثنا هذا وقال: وهذه الأحاديث غير محفوظة، ولا أعلم يرويها غير وهب بن راشد.
ثم قال ابن عدي: ولوهب غير ما ذكرت، وأحاديثه كلها فيها نظر.
(1)
برقم (6502).
(2)
أخرجه الإسماعيلي في "مسند علي" كما في الفتح (11/ 349) وضعفه الحافظ.
(3)
أخرجه الطبراني في الكبير (12/ 12719) وضعفه الحافظ في الفتح.
وقال الهيثمي في "المجمع"(10/ 270): "فيه من لم أعرفه".
(4)
أخرجه الطبراني في الكبير (8/ 7833، 7880)، والبيهقي في الزهد الكبير (696) وقال في المجمع (2/ 248): فيه علي بن يزيد، وهو ضعيف.
(5)
أخرجه أحمد (6/ 256)، وأبو نعيم في "الحلية"(1/ 5).
قال الهيثمي في المجمع (1/ 269): فيه عبد الواحد بن قيس، وقد وثقه غير واحد، وضعفه غيرهم.
فيها نظر.
وذكر ابن أبي الدُّنْيَا بإسناده عن سهيل أخي حزم قال: بلغني عن عامر بن عبد قيس أنَّه كان يقول: "أحببت الله عز وجل حبًّا سهل علي كل مصيبة، ورضاني بكل قضية، فما أبالي مع حبي إياه ما أصبحت عليه وما أمسيت".
وقال إبراهيم بن الجنيد: حدثنا محمد بن الحسن، حدثني عبيد الله بن محمد التميمي "أن رجلاً قال لعابد: أوصني -أو عظني- فَقَالَ: أي الأعمال أغلب عَلَى قلبك؟ فَقَالَ الرجل: والله ما أجد شيئًا أنفع للمحب عند حبيبه من المبالغة في محبته وهل تدري ما ذلك؟ أن لا يعلم شيئًا فيه رضاه إلا أتاه، ولا يعلم شيئًا فيه سخطه إلا اجتنبه، فعند ذلك ينزل المحبون من الله منازل المحبة. قال: فصرخ العابد والسائل وسقطا".
وقد تبين بما ذكرناه أن محبة الله إذا صدقت أوجبت محبة طاعته وامتثالها، وبغض معصيته واجتنابها، وقد وقع المحب أحيانًا في تفريط في بعض المأمورات وارتكاب لبعض المحظورات ثم يرجع عَلَى نفسه بالملامة، وينزع عن ذلك ويتداركه بالتوبة.
وفي صحيح البخاري (1)"أن رجلاً كان يؤتى به إِلَى النبي صلى الله عليه وسلم قد شرب الخمر، فَقَالَ رجل: اللهم العنه، ما أكثر ما يؤتى به؟ فَقَالَ رسول الله: لا تلعنه؛ فإنَّه يحب الله ورسوله".
وقد رُوي عن الشعبي في "قوله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ} [البقرة: 222] قال: التائب من الذنب كمن لا ذنب له، وإذا أَحَبّ الله عبدًا لم يضره ذنبه".
وعن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال: "إن الله -تعالى- ليحب العبد حتى يبلغ من حبه إذا أحبه أن يقول له: اذهب فاعمل ما شئت؛ فقد غفرت لك".
(1) برقم (6780).
والمراد من هذا أن الله -تعالى- إذا أَحَبّ عبدًا وقدر عليه بعض الذنوب؛ فإنَّه يقدر له الخلاص منها بما يمحوها من توبة إو عمل صالح أو مصائب مكفرة، كما في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"أذنب عبد ذنبًا فَقَالَ: أي ربي، عملت ذنبًا؛ فاغفر لي؟ -فذكر الحديث- إِلَى أن قال- فليعمل ما شاء"(1).
والمراد ما دام عَلَى هذا، كما عمل ذنبًا اعترف به وندم عليه واستغفر منه، فأما مع الإصرار عليه فلا، وكذلك المحبة الصادقة الصحيحة تمنع من الإصرار عَلَى الذنوب وعدم الاستحياء من علام الغيوب.
وما أحسن قول بعضهم:
تعصي الإله وأنت تزعم حبه
…
هذا لعمري في القياس شنيع
لو كان حبك صادقًا لأطعته
…
إن المحب لمن يحب مطيع
…
(1) أخرجه البخاري (7507)، ومسلم (2758).