المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌السمة الحادية عشرةالإخبات والخشوع - حينما يعتكف القلب

[عبد الرحمن بن عبد العزيز العقل]

الفصل: ‌السمة الحادية عشرةالإخبات والخشوع

‌السِّمة الحادية عشرة

الإخباتُ والخشوع

(1)

إنَّ الله سبحانه وتعالى مدحَ في كتابِه المُخبتين له، والمنكسرين لعظمته، والخاضعين لكبريائه، فقال سبحانه:{وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الحج: 34، 35]، وقال تعالى:{إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: 90].

وقال تعالى: {وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ} إلى أنْ قال: {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 35].

ووصفَ المؤمنين بالخشوع له في أشرف عباداتهم التي هم عليها

(1)

ينظر في هذه السِّمة: الخشوع في الصلاة لابن رجب ص (11 - 28).

ص: 52

يحافظون، فقال تعالى:{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 1 - 2].

وأثنى سبحانه وتعالى على أهل الخشية المشفقين من عذاب الله فقال عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ} [المؤمنون: 57]، وقال جل جلاله:{الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء: 49].

إِذَا مَا اللَّيْلُ أَظْلَمَ كَابَدُوهُ

فَيُسْفِرُ عَنْهُمُ وَهُمُ رُكُوعُ

أَطَارَ الْخَوْفُ نَوْمَهُمْ وَقَامُوا

وَأَهْلُ الأَمْنِ فِي الدُّنْيَا هُجُوعُ

•••

وَمَا فُرْشُهُمْ إِلا أَيَامِنُ أُزْرِهِمْ

وَمَا وُسْدُهُمْ إِلا مُلاءٌ وَأَذْرُعُ

وَمَا لَيْلُهُمْ فِيهِنَّ إِلا تَحَوُّبٌ

وَمَا نَوْمُهُمْ إِلا عِشَاشٌ مُرَوَّعُ

وَأَلْوَانُهُمْ صُفْرٌ كَأَنَّ وُجُوهَهُمْ

عَلَيْهَا جِسَادٌ هِيَّ بِالْوَرْسِ مُشْبَعُ

وأصلُ الخشوع: لين القلب ورقته وسكونه وخضوعه، فإذا خشع القلب تبعه خشوع جميع الجوارح والأعضاء؛ لأنها تابعة له، كما قال صلى الله عليه وسلم: «أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ، صَلَحَ

ص: 53

الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ، فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ»

(1)

.

فإذا خشعَ القلبُ خشعَ السمع والبصر والوجه وسائر الأعضاء، وما ينشأ منها حتى الكلام، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في ركوعه في الصلاة:«خَشَعَ لَكَ سَمْعِي، وَبَصَرِي، وَمُخِّي، وَعَظْمِي، وَعَصَبِي»

(2)

.

ورأى بعض السلف رجلًا يعبث بيده في الصلاة، فقال:«لَوْ خَشَعَ قَلْبُ هَذَا؛ لَخَشَعَتْ جَوَارِحُهُ»

(3)

.

وقد وصف الله تعالى في كتابه الكريم الأرض بالخشوع فقال: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} [فُصِّلَت: 39]، فاهتزازها ورُبُوُّها -وهو ارتفاعها- مزيل لخشوعها، فدلَّ عَلَى أنَّ الخشوعَ الَّذِي كانت عليه هو سكونها

(1)

أخرجه البخاري (1/ 20) رقم (52)، ومسلم (3/ 1219) رقم (1599) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه.

(2)

أخرجه مسلم (1/ 534) رقم (771) من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

(3)

أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (2/ 86) رقم (6787)، وابن المبارك في الزهد (1/ 419) رقم (1188)، وعبد الرزاق في مصنفه (2/ 266) رقم (3308) من قول سعيد بن المسيب رحمه الله.

ص: 54

وانخفاضُها، فكذلك القلب إذا خشع فإنه تسكن خواطره وإراداته الرديئة، التي تنشأ من اتباع الهوى فينكسر ويخضع لله عز وجل.

فيزول بذلك ما كان فيه من البَأْو

(1)

والترفع والتكبر والتعاظم، ومتى حصل ذلك في القلب خشعت الأعضاء والجوارح والحركات كلها حتى الصوت، وقد وصف الله تعالى الأصوات بالخشوع في قوله:{وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا} [طه: 108]، وخشوع الأصوات هو سكونها وانخفاضها بعد ارتفاعها.

وينبغي أنْ يكونَ الخشوعُ حقيقةً لا تكلفًا، ومتى تكلَّف الإنسان تعاطِيَ الخشوع في جوارحه وأطرافه -مع فراغ قلبه مِن الخشوع وخُلوِّه منه- كان ذلك خشوعَ نفاقٍ، وهو الَّذِي كان السلف يستعيذون منه كما قال بعضهم: «اسْتَعِيذُوا بِاللهِ مِنْ خُشُوعِ النِّفَاقِ. قَالُوا: وَمَا خُشُوعُ النِّفَاقِ؟ قَالَ: أَنْ تَرَى الْجَسَدَ

(1)

البَأْو: المراد به الفخر. ينظر: الصحاح (6/ 2278)، مقاييس اللغة (1/ 328)، النهاية في غريب الحديث (1/ 96)(بأو).

ص: 55

خَاشِعًا وَالْقَلْبُ لَيْسَ بِخَاشِعٍ»

(1)

.

والخشوعُ الحق هو ما أحدثَ أثرًا وتأثيرًا، ورقة في القلب، كما ذكر الله في وصف العُلَمَاء مِن أهلِ الكتاب قبلنا، فقال سبحانه:{إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء: 107 - 109].

وهذه الآيات تضمنت امتداح مَن أوجبَ لهم سماعُ آيات الله تأثرًا وخشوعًا وبكاءً، وبالضد من ذلك توعد سبحانه قساة القلوب، فقال عز وجل: {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22) اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ

(1)

أخرجه ابن المبارك في الزهد (1/ 46) رقم (143)، وابن أبي شيبة في المصنف (7/ 243) رقم (35711)، والإمام أحمد في الزهد ص (117) رقم (762)، والبيهقي في شعب الإيمان (9/ 220) رقم (6567) موقوفًا على أبي الدرداء رضي الله عنه.

وأخرجه البيهقي في الشعب (9/ 220) رقم (6568) من حديث أبي بكر رضي الله عنه مرفوعًا، وإسناده ضعيف.

ص: 56

يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزُّمَر: 22 - 23]، ولين القلوب هو زوال قسوتها لحدوث الخشوع فيها والرقة.

وقد عاتب الله مَن لا يخشع قلبه لسماع كتابه، فقال تعالى:{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد: 16].

قال ابن مسعود رضي الله عنه: «مَا كَانَ بَيْنَ إِسْلَامِنَا وَبَيْنَ أَنْ عَاتَبَنَا اللهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ إِلَّا أَرْبَعُ سِنِينَ»

(1)

، وفي رواية:«فَأَقْبَلَ بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ: أَيُّ شَيْءٍ أَحْدَثْنَا؟! أَيُّ شَيْءٍ صَنَعْنَا؟!»

(2)

أي: جعل يُعَاتِب بَعضُهُم بعضًا.

أَمَّا عظمة القرآن وسطوة أثره على نفوس المؤمنين الخاشعين فشيءٌ قد شهد به السلفُ (، قال أبو عمران الجوني رحمه الله: «والله لقد صَرَّفَ إلينا ربُّنا في هذا القرآن ما لو صَرَّفه إِلَى

(1)

أخرجه مسلم (4/ 2319) رقم (3027).

(2)

أخرجها أبو يعلى في مسنده (9/ 167) رقم (5256)، وهي زيادة ضعيفة.

ص: 57

الجبال لمحاها وحناها»

(1)

.

وكان مالك بن دينار رحمه الله يقرأ هذه الآية ثم يقول: «أُقْسِمُ لَكُمْ لَا يُؤْمِنُ عَبْدٌ بِهَذَا الْقُرْآنِ إِلَّا صُدِعَ قَلْبُهُ»

(2)

.

ورُوي عن الحسن رحمه الله أنه قال: «يا ابن آدم إذا وسوس لك الشيطان بخطيئة، أو حَدَّثْت بها نفسَك، فاذكر عند ذلك ما حمَّلك الله من كتابه، مما لو حَمَلَته الجبال الرواسي لخشعت وتصدعت، أما سمعته يقول: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر: 21]»

(3)

.

والله سبحانه إنَّما ضرب لك الأمثال لتتفكر فيها، وتعتبر بها وتزدجر عن معاصيه عز وجل، وأنت يا ابن آدم أحق أنْ تخشعَ لذكرِ

(1)

أخرجه أبو نعيم في الحلية (2/ 311)، وينظر: الخشوع في الصلاة لابن رجب ص (19).

(2)

أخرجه الإمام أحمد في الزهد ص (258) رقم (1859)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (2/ 378).

(3)

ينظر: الخشوع في الصلاة لابن رجب ص (19).

ص: 58

الله، وما حمَّلك مِن كتابِه وآتاك مِن حكمة؛ لأنَّ عليك الحساب ولك الجنَّة أو النار.

وقد كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يستعيذُ باللهِ مِن قلبٍ لا يخشع، كما في حديث زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ، وَمِنْ قَلْبٍ لَا يَخْشَعُ، وَمِنْ نَفْسٍ لَا تَشْبَعُ، وَمِنْ دَعْوَةٍ لَا يُسْتَجَابُ لَهَا»

(1)

.

ولذلك شرع الله تعالى لعبادِه مِن أنواع العبادات ما يَظهر فيه خشوع الأبدان، الناشئ عن خشوعِ القلب وذله وانكساره، ومن أعظم ما يظهر فيه خشوع الأبدان لله تعالى مِن العبادات الصلاة، وقد مدح الله تعالى الخاشعين فيها بقوله عز وجل:{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 1، 2].

ومِن مواضع الخشوع: السجود، وهو أعظم ما يَظهر فيه ذُلُّ العبد لربِّه عز وجل، حيث يجعل العبد أشرف ما له مِن الأعضاء، وأعزها

(1)

أخرجه مسلم (4/ 2088) رقم (2722).

ص: 59

عليه وأعلاها أوضع ما يمكنه، فيضعه في التراب مُتَعَفِّرًا، ويتبع ذلك انكسار القلب وتواضعه وخشوعه لله عز وجل.

ولهذا كان جزاء المؤمن إذا فعل ذلك أن يُقربه الله عز وجل إِلَيْهِ، قال الله تعالى:{وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق: 19]، وقال صلى الله عليه وسلم:«أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ»

(1)

.

والسجود كان مما يأنف منه المشركون المستكبرون عن عِبادةِ الله عز وجل، وكان بعضُهم يقول: أكره أنْ أسجدَ فتعلوني استي، وكان بعضُهم يأخذُ كفًّا مِن حصى، فيرفعه إلى وجهه، ويكتفي بذلك عنْ السجود

(2)

.

وإبليسُ إِنَّمَا طردَه الله لما استكبرَ عن السجود لِمَنْ أمره الله بالسجودِ له؛ ولهذا يبكي إذا سجدَ المؤمن ويقول: أُمِرَ ابن آدم

(1)

أخرجه مسلم (1/ 350) رقم (482) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

أخرج البخاري (2/ 40)، رقم (1067)، ومسلم (1/ 405) رقم (576) من حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ {والنجم} فسجد فيها، وسجد من كان معه، غير أن شيخا أخذ كفا من حصى أو تراب فرفعه إلى جبهته، وقال: يكفيني هذا، قال عبد الله:«لقد رأيته بعدُ قُتِل كافرا» .

ص: 60

بالسجود ففعل فله الجنة، وأُمرتُ بالسجود فعصيتُ فلي النار

(1)

.

ومِن تمامِ خشوع العبد لله عز وجل وتواضعه له في ركوعِه وسجوده، أنه إذا ذَلَّ لربِّه بالركوع والسجود وصفَ رَبَّه حينئذ بصفات العِزِّ والكبرياء والعظمة والعلو، فكأنه يقول: الذلُّ والتواضع وصفي، والعلو والعظمة والكبرياء وصفك، فلهذا شُرع للعبد في ركوعِه أنْ يقول: سبحان ربي العظيم، وفي سجودِه: سبحان ربي الأعلى.

فمتى امتلأَ قلبُ العبدِ خشوعًا وإخباتًا، وخضوعًا وانكسارًا، وصلَ إلى لُبِّ العبادة، وحقق مقصودها، ونالَ غايتها.

ص: 61