الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
السِّمةُ الثالثة
جمعيةُ القلبِ وصِدقُ إقبالِه
إنَّ غايةَ الاعتكاف ومقصودَه: استقامةُ القلب، والقلبُ لا يستقيمُ على صراطِ الله إلا بإقبالِه بكُلِّيته على الله، ومتى ما انصرفَ عن الله وسَبَح في أشتاتٍ بعيدةٍ عنه؛ فقد فاته المقصودُ مِن الاعتكاف، ولو كان الجسدُ عاكفًا.
ولهذا؛ «لمَّا كانَ صلاحُ القلبِ واستقامتُه على طريقِ سيرِه إلى الله تعالى، متوقِّفًا على جَمعِيَّته على الله، ولَمِّ شَعْثِه بإقبالِه بالكُلِّيةِ على اللهِ تعالى، فإنَّ شعثَ القلبِ لا يَلُمُّه إلا الإقبالُ على اللهِ تعالى، وكان فضولُ الطعامِ والشرابِ، وفضولُ مخالطة الأنامِ، وفضولُ الكلامِ، وفضولُ المنامِ، مما يزيدُهُ شَعَثًا، ويُشتِّتهُ في كلِّ وادٍ، ويقْطَعُه عنْ سيرِه إلى اللهِ تعالى، أو يُضعفُه أو يَعُوقُه ويوقفُه؛ اقتضتْ رحمةُ العزيزِ الرحيم بعبادِه أنْ شرعَ لهم مِن الصومِ ما يُذهبُ فضولَ الطعامِ
والشرابِ، ويستفرغُ مِن القلبِ أخلاطَ الشهواتِ المُعوِّقة له عنْ سيرِه إلى اللهِ تعالى، وشرعِهِ بقْدرِ المصلحةِ، بحيثُ ينتفعُ به العبدُ في دُنياه وأُخراه، ولا يَضُرُّه ولا يَقْطَعُه عنْ مصالحِه العاجلة والآجلة.
وشرع لهم الاعتكافَ الذي مقصودُه وروحُه عكوفُ القلبِ على اللهِ تعالى، وجَمعيتُه عليه، والخلوةُ به، والانقطاعُ عنْ الاشتغال بالخلق، والاشتغالُ به وحده سبحانه بحيثُ يصيرُ ذكرُهُ وحُبُّهُ، والإقبالُ عليه في مَحلِّ هُموم القلب وخطراتِه، فيستولي عليه بَدَلها
(1)
، ويصيرُ الهَمُّ كلُّه به، والخطراتُ كلُّها بذكرِه، والتفكرُ في تحصيلِ مَرَاضِيه وما يُقربُ منه، فيصيرُ أُنسه بالله بدلًا عنْ أُنسه بالخلق، فيُعِدُّه بذلك لأُنسِه به يومَ الوحشةِ في القبور حين لا أَنيسَ له، ولا ما يفرحُ به سواه، فهذا مَقصودُ الاعتكافِ الأعظمِ»
(2)
.
(1)
أي: بدل الهموم والخطرات.
(2)
زاد المعاد (2/ 82، 83).