الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
السِّمةُ الثانية
العيشُ مع القرآن
لُبُّ العبادةِ وحياةُ القلبِ مصدرُها الأول: كتاب الله، الذي جعله الله روحًا وحياةً ونورًا، {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى: 52].
ولا غرو أنْ يجدَ المؤمنُ حياةَ قلبِه في تدبر القرآن؛ لأنَّه يتذوقُ بتلاوتِه المتأنية حلاوةَ المناجاة لكلامِ ربِّه، فيعيشُ في آفاق الآيات التي يسري رَوْحُها في خلجاتِ قلبه، فيجد حينها لقلبِه حياةً أخرى، ولقراءته لذَّةً لا يَصِفُها لسانُه، ولا تُدوِّنها أقلامُه، وذلك لعظمةِ الخطاب الرباني وروعةِ جماله الذي يَسلُبُ عقلَ المتدبرِ فترِقُّ نفسُه، ويَلُفها سكينة وخشية، فيتجلى للقلبِ مِن المعاني ما يَفيضُ نورًا وغيثًا يُضفي على القارئ جلالًا وجمالًا.
وكما أنَّ الغيثَ ربيعُ الأرضِ، فكذلك القرآن ربيع أفئدة أهل
الإيمان، وهو نهر الحياة لقلوبِهم، فلا شيء أنفع للقلبِ مِن قراءةِ القرآن بالتدبر والتفكر، فهو يُورث المحبَّة والشوق والخوف والرجاء، وسائر الأحوال التي بها حياة القلب وكماله، فلو علم النَّاس ما في قراءة القُرآن بالتدبر لاشتغلوا بها عنْ كلِّ ما سواها، فإذا قرأه بتفكر حتى مَرَّ بآيةٍ هو محتاجٌ إليها في شفاءِ قلبه، كررها ولو مائة مرة ولو ليلة، فقراءة آية بتفكر وتفهم خيرٌ مِن قراءةِ ختمة بغير تدبر وتفهم، وأنفع للقلب، وأدعى إلى حُصُولِ الإيمان وذوق حلاوة القرآن؛ فقراءة القرآن بالتفكر هي أصل صلاح القلب
(1)
.
وهذا ليس لكلِّ قارئ للقرآن، بل لمن «كان هَمُّه عند التلاوة للسورة إذا افتتحها: متى أتَّعِظُ بما أتلوه؟ ولم يكنْ مرادهُ: متى أختم السورة؟، مرادهُ: متى أعقل عنِ الله الخطاب، متى أزدجر، متى أعتبر؟ لأنَّ تلاوة القرآن عبادة، والعبادة لا تكون بغفلة»
(2)
.
ومتى ما عاش المعتكف مع القرآن على هذا النحو فقد أحرز عكوف القلب الذي هو بُغية طلاب الاعتكاف الحق.
(1)
مفتاح دار السعادة (1/ 187)، بتصرف.
(2)
أخلاق حملة القرآن ص (18).
إنَّ العيشَ مع القرآن وتدبره مفتاحُ استقامة القلب، ولا شيء يَعْدِلُ العيش مع القرآن في تثبيتِ القلب وإرساءِ دعائمه؛ ولذا أمر الله «بتدبر كتابه، والتفكر في معانيه، والاهتداء بآياته، وأثنى على القائمين بذلك، وجعلهم في أعلى المراتب، ووعدهم أَسْنَى المواهب، فلو أنفق العبدُ جواهرَ عُمُرِهِ في هذا الفن، لم يكنْ ذلك كثيرًا في جنب ما هو أفضل المطالب، وأعظم المقاصد، وأصل الأصول كلها، وقاعدة أساس السعادة في الدارين، وصلاح أمور الدِّين والدنيا والآخرة، وبه يتحقق للعبد حياةٌ زاهرة بالهدى والخير والرحمة، ويُهيئ الله له أطيب الحياة والباقيات الصالحات»
(1)
.
إنِّ الانطلاقةَ الأولى للعيشِ مع القرآن تكمُن في تدبُّره وطول التأمُّل في آياته.
نعم إنه «ليس شيءٌ أنفع للعبد في معاشه ومعاده، وأقرب إلى نجاتِه مِن تدبر القرآن، وإطالة التأمُّل فيه، وجَمْعِ الفكر على معاني آياته، فإنها تُطْلِعُ العبد على معالم الخير والشر بحذافيرهما، وعلى
(1)
القواعد الحسان لتفسير القرآن ص (7 - 8).
طُرُقَاتِهِما، وأسبابهما، وغاياتهما، وثمراتهما، ومآل أهلهما، وتَتُلُّ
(1)
في يده مفاتيح كنوز السعادة والعلوم النافعة، وتُثَبِّتُ قواعد الإيمان في قلبه، وتشيد بنيانه وتُوَطِّدُ أركانه، وتُرِيهِ صورة الدنيا والآخرة والجنة والنار في قلبه، وتُحْضِرُهُ بين الأمم، وتُرِيهِ أيام الله فيهم، وتُبَصِّرُهُ مواقع العبر، وتُشْهِدُهُ عدل الله وفضله، وتُعَرِّفُهُ ذاته، وأسماءه وصفاته وأفعاله، وما يُحبه وما يُبغضه، وصراطه الموصل إليه، وما لسالكيه بعد الوصول والقدوم عليه، وقواطع الطريق وآفاتها، وتُعَرِّفُهُ النفس وصفاتها، ومفسدات الأعمال ومصححاتها، وتعرفه طريق أهل الجنة وأهل النار وأعمالهم، وأحوالهم وسيماهم، ومراتب أهل السعادة وأهل الشقاوة، وأقسام الخلق، واجتماعهم فيما يجتمعون فيه، وافتراقهم فيما يفترقون فيه.
وفي تأمُّل القرآن وتدبره، وتفهمه، أضعاف أضعاف ما ذكرنا من
(1)
يَتُلُّ: بضم التاء، من الفعل (تَلَّ)، ويقال: يَتِلُّ بكسر التاء: ومعناه صَبَّه وألقاه. يُنظر: النهاية في غريب الحديث والأثر (1/ 195)، وتاج العروس (28/ 138).
الحِكَم والفوائد. وبالجملة فهو أعظم الكنوز، طِلَّسْمُه
(1)
الغوص بالفكر إلى قرار معانيه»
(2)
.
ومِن أنفعِ الوسائل المعُينة على تدبر القرآن: ترديد الآيات، فهو السبيل إلى استدرار كنوز القرآن وأسراره.
عن أبي ذر رضي الله عنه قال: «قَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِآيَةٍ حَتَّى أَصْبَحَ؛ يُرَدِّدُهَا وَالآيَةُ: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة:118]»
(3)
.
قال بِشْر بن السَّرِي: «إنما الآية مثل التمرة؛ كلما مضغتها استخرجت حلاوتها»
(4)
.
وقال المُوَفَّق ابن قدامة: «وإنْ لم يحصل التدبر إلا بترداد
(1)
الطلسم: هو اسم للسر المكتوم، والمراد بذلك المعاني الدقيقة التي لا تظهر لغير المتعمق في الفهم والعلم والتوسم. ينظر: تاج العروس (33/ 24، 25).
(2)
مدارج السالكين (1/ 450، 451).
(3)
أخرجه النسائي (2/ 177) رقم (1010)، وابن ماجه (1/ 429) رقم (1350)، وأحمد (35/ 309، 310) رقم (21388)، والحاكم (1/ 367) رقم (879)، وإسناده حسن.
(4)
البرهان في علوم القرآن للزركشي (1/ 471).
الآية، فليرددها»
(1)
.
ومن الْمُعِينات على تدبر القرآن: الإقبال عليه، واستشعار القارئ أنه مُخَاطَبٌ به، فإنَّ ذلك مِن دواعي الفتوحات فيه.
قال شيخ الإسلام رحمه الله مستشعرًا ما أفاض اللهُ على قلبِه مِن الفتوحاتِ العظيمة والاستنباطات البديعة، وذلك في أثناء سجنه وخلوته بربِّه، وإقباله التام على القرآن-:«قد فتح اللهُ عليَّ في هذا الحصن في هذه المرة مِن معاني القرآن، ومِن أصول العلم بأشياء، كان كثيرٌ من العلماء يتمنونها، وندمتُ على تضييع أكثر أوقاتي في غير معاني القرآن»
(2)
.
وقال تلميذه ابن القيم رحمه الله: «إذا أردتَ الانتفاعَ بالقرآن فاجمع قلبك عند تلاوته وسماعه، وألقِ سمعك، واحضُر حضور مَن يخاطبه به مَن تَكَلَّمَ به سبحانه منه إليه، فإنه خطابٌ منه لك على لسانِ رسولِه، قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ
(1)
مختصر منهاج القاصدين ص (53).
(2)
ذيل طبقات الحنابلة (4/ 519).
أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق:37]، وذلك أنَّ تمامَ التأثير لَمَّا كان موقوفًا على مُؤَثِّرٍ مُقْتَضٍ، ومَحَلٍّ قابلٍ، وشرطٍ لحصول الأثر، وانتفاء المانع الذي يمنع منه؛ تضمنت الآية بيان ذلك كله بأوجز لفظ وأَبْيَنِهِ وأَدَلِّهِ على المراد.
فإذا حصل الْمُؤَثِّر: وهو القرآن، والمحل القابل: وهو القلب الحي، وَوُجِدَ الشرط: وهو الإصغاء، وانتفى المانع: وهو اشتغال القلب وذهوله عن معنى الخطاب، وانصرافه عنه إلى شيءٍ آخر؛ حصلَ الأثر: وهو الانتفاع والتذكر»
(1)
.
إنَّ مِنَّةَ الله علينا عظيمة، حين أَذِنَ لمخلوقات ضعيفة مثلنا، أن تناجيه من خلال كلامه العظيم، قال ابن الصلاح رحمه الله:«ورد أن الملائكة لم يُعطُوا فضيلة قراءَة القُرآن، وهي حريصة لذلك على استماعه من الإنس، فإذن قراءة القُرآن كرامة أكرم الله بها الإنس، غير أن المُؤمنينَ من الجن بلغنا أنهم يقرؤونه، والله أعلم»
(2)
.
(1)
الفوائد ص (3) مختصرًا.
(2)
فتاوى ابن الصلاح (1/ 234)، وينظر: الإتقان في علوم القرآن (1/ 291).
إنَّ استحضارَ هذا الاصطفاء، واستحضارَ عظمة المتكلِّم بالقرآن، هو أقوى وسائل العيش مع القرآن، قال ابن الجوزي رحمه الله:«ينبغي لتالي القرآن العظيم أنْ ينظرَ كيف لطف الله تعالى بخلقه في إيصال معاني كلامه إلى أفهامهم، وأنْ يعلمَ أنَّ ما يقرؤه ليس مِن كلامِ البشر، وأنْ يَستحضرَ عظمة المتكلِّم سبحانه وتعالى، ويتدبر كلامه»
(1)
.
ومِن الْمُعِيناتِ على تدبر القرآن والعيش معه: الفرح به، وقراءته بروح الاستبشار والشعور بالفضل، فمَن رَامَ فَهْمَ القرآن؛ فليقرأه قراءة فرح واستبشار؛ فإنَّ ذلك مِن أعظم دواعي التدبر، قال تعالى في وصفِ عبادِه المؤمنين:{وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [التوبة:124].
وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:57، 58].
(1)
مختصر منهاج القاصدين ص (46).
(1)
.
(2)
.
(1)
تفسير ابن أبي حاتم (6/ 1960).
(2)
أخرجه السلمي في طبقات الصوفية (ص:94)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (10/ 22).
وأنشد ذو النون المصري:
مَنَعَ القُرَانُ بِوَعْدِه وَوَعِيدِهِ
…
مُقَلَ الْعُيُونِ بِلَيْلِهَا لَا تَهْجَعُ
فَهِمُوا عَنِ الْمَلِكِ الْعَظِيمِ كَلَامَهُ
…
فَهْمًا تَذِلُّ لَهُ الرِّقَابُ وَتَخْضَعُ
(1)
وقال أبو سليمان الداراني رحمه الله: «أهلُ الليل في ليلهم ألذُّ من أهل اللهو في لهوهم، ولولا الليل ما أحببتُ البقاء في الدنيا»
(2)
.
(3)
.
وهذا الشوق والأُنس بالله والإقبال عليه، أعظمُ بواعثه العيشُ مع القرآن وتدبره والتنعم بتلاوتِه.
(1)
ينظر: حلية الأولياء (9/ 369).
(2)
أخرجه أبو نعيم في الحلية (9/ 275)، وابن عساكر في تاريخ دمشق (34/ 146).
(3)
ذكره ابن القيم في مدارج السالكين (1/ 454)، وابن رجب في جامع العلوم والحكم (ص 189).
لقد فهم السلف الصالح هذا المعنى ووعوه؛ فأثمر ذلك لديهم هِممًا طامحةً لتخليةِ الذهن للقرآنِ في مواسمِ النفحات، وكان لديهم بقراءته عجائب، وكان يُسمع لهم به دَوِيٌّ كدوي النحل مِن التأثر.
إنَّ علينا جميعًا أنْ نستيقنَ أنَّ العيشَ مع القرآن وتدبره وتفهم معانيه والعمل به، هو مقصود التلاوة، كما أدرك ذلك سلفُنا الصالح.
قال الحسن البصري رحمه الله: «إنَّ مَن كان قبلكم رأوا القرآن رسائل مِن ربهم، فكانوا يتدبرونها في الليل، ويُنَفِّذُونَهَا في النهار»
(1)
.
فأطْلِقْ لنفسِك -أيها المُوفَّق- رُوحَها؛ لِتعُبَّ
(2)
من رياحين القرآن، وفرِّغ قلبك، وأخْلِ ذهنك للقرآن؛ كي تعيش معه فيُرفرف قلبك في قِمم السعادة، فتفوز فوزًا عظيمًا.
(1)
ذكره الغزالي في إحياء علوم الدين (1/ 275)، وينظر: التبيان في آداب حملة القرآن ص (28).
(2)
العب: شرب الماء بعنف وتتابع في الجرعات من غير مص ولا تنفس. ينظر: كتاب العين (1/ 93)، جمهرة اللغة (1/ 73).