الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
السِّمةُ الخامسة
تعظيمُ الله تعالى
إنَّ الأصلَ في عبوديتنا لله سبحانه وتعالى أنْ تكون قائمة على توقيره وتعظيمه وإجلالِه، ورمضانُ، وعَشْرُهُ الفاضلات، والاعتكافُ؛ بواباتٌ مباركةٌ لتنمية هذا التوقير والتعظيم في قلوبِنا، وهذه المناسبات مِن أعظمِ مُورِثاتِ هذا المطلبِ الجليل.
قال ابن عباس رضي الله عنهما في معنى قوله تعالى: {مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح: 13]: «ما لكم لا تَعظِّمونَ الله حقَّ عظمته»
(1)
، فحق التوقير: التعظيم في القلب، وحق التعظيم بالقلب: الطاعة بالجوارح
(2)
.
وكلما تدبر المؤمنُ آيات القرآن وأحاديث السُّنة التي جاء فيها
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان (23/ 634).
(2)
ينظر: روح الصيام ومعانيه، للدكتور/عبدالعزيز كامل ص (89).
ذكر أسماء الله الحسنى وعظمته وجلاله؛ انخلع قلبُه إجلالًا لله وتعظيمًا له، يتلو قول الله سبحانه:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزُّمَر: 67]، فتنساب إلى قلبه مشاعرُ من تعظيم الله وإجلاله، مشاعر فياضة تستخرج رواسب التعلق بالدنيا والإخلاد إليها، فلا يبقى في القلب سكنٌ لغير إجلال الله.
يقرأ قوله سبحانه: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 59]، يتأملُ هذه الآية ويقف عند معانيها فتستجيشُ في قلبه أطياف الشعور بعظمة هذا الكلام وعظمة المتكلِّم به سبحانه.
إنه «كلام الله، وقد تَجَلَّى الله فيه لعباده بصفاته، فتارة يَتَجَلَّى في جلباب الهيبة والعظمة والجلال، فتخضع الأعناق، وتنكسر النفوس، وتخشع الأصوات، ويذوب الكِبْرُ كما يذوب الملح في الماء، وتارة يَتَجَلَّى في صفات الجمال والكمال، وهو كمال الأسماء وجمال الصفات وجمال الأفعال
الدالُّ على كمال الذات، فيستنفد حبُّه من قلب العبد قوةَ الحب كلها بحب ما عرفه من صفات جماله ونعوت كماله؛ فيصبح فؤاد عبده فارغًا إلا من محبته، فإذا أراد منه الغير أن يعلق تلك المحبة به أبى قلبه وأحشاؤه ذلك كل الإباء كما قيل:
يُرَادُ مِنَ الْقَلْبِ نِسْيَانُكُمْ
…
وَتَأْبَى الطِّبَاعُ عَلَى النَّاقِل
فتبقى المحبة له طبعًا لا تكلفًا، وإذا تجلى بصفات الرحمة والبر واللطف والإحسان انبعثت قوة الرجاء من العبد وانبسط أمله، وقوي طمعه، وسار إلى ربه وحادي الرجاء يحدو ركاب سيره، وكلما قوي الرجاء جد في العمل، كما أن الباذر كلما قوي طمعه في المُغَلِّ
(1)
غَلَّق أرضه بالبذر، وإذا ضعف رجاؤه قَصَّر في البذر
…
وإذا تجلى بصفات العز والكبرياء أعطت نفسه المطمئنة ما وصلت إليه من الذلِّ لعظمته، والانكسار لعزته، والخضوع لكبريائه، وخشوع القلب والجوارح له، فتعلوه السكينة والوقار في
(1)
المغلُّ أو الغَلَّة: الدَّخْل الذي يُحَصَّلُ من الزرع والثمر. ينظر: النهاية في غريب الحديث والأثر (3/ 381)، ولسان العرب (11/ 504).
قلبِه ولسانه وجوارحه وسَمْتِهِ، ويذهب طيشه وتَوْقُه وحدته.
وجماع ذلك أنه سبحانه يتعرف إلى العبد بصفات إلهيته تارة، وبصفات ربوبيته تارة، فيوجب له شهود صفات الإلهية المحبة الخاصة، والشوق إلى لقائه، والأُنس والفرح به والمنافسة في قربه، والتودد إليه بطاعته، واللهج بذكره، والفرار من الخلق إليه، ويصير هو وحده همه دون ما سواه، ويُوجب له شهود صفات الربوبية؛ التوكل عليه، والافتقار إليه، والاستعانة به، والذل والخضوع والانكسار له»
(1)
.
وفي السُّنة الغراء يقرأُ المؤمنُ حديثَ عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يَطْوِي اللهُ عز وجل السَّمَاوَاتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ يَأْخُذُهُنَّ بِيَدِهِ الْيُمْنَى، ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ، أَيْنَ الْجَبَّارُونَ؟ أَيْنَ الْمُتَكَبِّرُونَ. ثُمَّ يَطْوِي الْأَرَضِينَ بِشِمَالِهِ، ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ أَيْنَ الْجَبَّارُونَ؟ أَيْنَ الْمُتَكَبِّرُونَ؟»
(2)
، فيُقَلِّب الطرف في أسرار هذا
(1)
الفوائد لابن القيم ص (69 - 70).
(2)
أخرجه البخاري (9/ 123) رقم (7412)، ومسلم (4/ 2148) رقم (2788)، واللفظ له.
الحديث، ويُسرح قلبه في ظلال معانيه، فيَتَملَّكُه شعور بالهيبة والإجلال لذي الجلال جل جلاله، إنها مشاعر سمو وعلو، يرتفع بها القلب إلى ذُرَى المقامات؛ جراء سطوة هذه النصوص التي تستفز القلب؛ فينبعث منه تعظيم الله وخشيته وإجلاله.
فكيف لا يكون القلب عاكفًا وقد امتلأ تعظيمًا لله جلَّ في علاه؟!، فلا ريب أنَّ القلب إذا امتلأ بذلك توصل إلى لُبِّ الاعتكاف وحقيقته.