الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
السِّمةُ السابعة
استحضارُ مِنَّة الله وفضله
مِن روائع التربية القرآنية في أوائل الدعوة النبوية ما جاء في مطلع سورة المُدَّثر، عندما أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بالنذارة والدعوة ثم قال له:{وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} [المدَّثر: 6].
إنها الوصية الربانية التي تجرد العبد من الاستعلاء بالعمل، وتملأ قلبه مهابةً وإجلالًا لله، واستحضارًا لمشاهد مِننه التي غمرت حياة العبد، فما من سبيلٍ إلا ولله على عبدهِ نعَمٌ، لا يَعدُّها عاد، ولا يُحصيها كتاب.
إنَّ المؤمنَ الحق هو مَن يُديم استحضار مشاهد مِنَنِ ربه عليه؛ لأنها قد طوقت المؤمن طوقًا يملأ الأرض والسماء، فهو الذي أفاض عليه نِعمًا أعلاها نعمة الهداية التي يعجز اللسان عن الوفاء بقدرها، حيث أخرجه ربُّه بها مِن ظُلمةِ الضلال إلى نور الهداية، ومِن لُجةِ
الغي إلى رحاب الإيمان، «يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ، فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ»
(1)
.
لذا عتب الله على مَن غفل عن مشاهدة مِننه، فقال:{يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ} [الحجرات: 17]. إنها تربية القرآن التي تُطهر القلب من الاستعلاء، وتمحو عنه مسارب
(2)
الإدلال
(3)
، وتملؤه إجلالًا لله واعترافًا بفضله ومِنَّتِهِ، كما فقه ذلك أولو الفضل من أمثال عمر رضي الله عنه حينما طُعن وقال له عبدالله ابن عباس رضي الله عنهما مواسيًا: «يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، وَلَئِنْ كَانَ ذَاكَ، لَقَدْ صَحِبْتَ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم فَأَحْسَنْتَ صُحْبَتَهُ، ثُمَّ فَارَقْتَهُ وَهُوَ عَنْكَ رَاضٍ، ثُمَّ صَحِبْتَ أَبَا بَكْرٍ فَأَحْسَنْتَ صُحْبَتَهُ، ثُمَّ فَارَقْتَهُ وَهُوَ عَنْكَ رَاضٍ، ثُمَّ صَحِبْتَ صَحَبَتَهُمْ فَأَحْسَنْتَ صُحْبَتَهُمْ، وَلَئِنْ فَارَقْتَهُمْ لَتُفَارِقَنَّهُمْ وَهُمْ عَنْكَ رَاضُونَ، قَالَ: «أَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنْ صُحْبَةِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم وَرِضَاهُ، فَإِنَّمَا ذَاكَ مَنٌّ مِنَ الله تَعَالَى مَنَّ بِهِ عَلَيَّ، وَأَمَّا مَا ذَكَرْتَ
(1)
قطعة من حديث قدسي أخرجه مسلم (4/ 1994) رقم (2577).
(2)
المسارب: المراعي التي ترعى فيها الدواب. ينظر: العين (7/ 249).
(3)
الإدلال: المنُّ بالعطاء. ينظر: تهذيب اللغة (14/ 48)، لسان العرب (11/ 248).
مِنْ صُحْبَةِ أَبِي بَكْرٍ وَرِضَاهُ، فَإِنَّمَا ذَاكَ مَنٌّ مِنَ الله جَلَّ ذِكْرُهُ مَنَّ بِهِ عَلَيَّ، وَأَمَّا مَا تَرَى مِنْ جَزَعِي فَهُوَ مِنْ أَجْلِكَ وَأَجْلِ أَصْحَابِكَ، وَالله لَوْ أَنَّ لِي طِلَاعَ الأَرْضِ
(1)
ذَهَبًا لَافْتَدَيْتُ بِهِ مِنْ عَذَابِ الله عز وجل، قَبْلَ أَنْ أَرَاهُ»
(2)
.
إنَّ استحضارَ مشهد مِنَّة الله يُزيلُ مِن القلبِ منابت العُجب، ويغسله مِن درن الإدلال، ويُطهره مِن الدنس ليكون وعاءً نظيفًا يتزكى بالإيمان، ويرتفع بأعمال القلوب، وينتفع بأعمال الجوارح، أما إذا وُجدت هذه الأعمال مع شوائب العُجب والإدلال بالعمل، فإنها تَسْحقُ قلبَ صاحبها سحقًا، فلا تُبقي فيه خيرًا ولا تذر، ومِنْ ثَمَّ قال الله لمن أدلَّ بعمله، «قَدْ غَفَرْتُ لِفُلانٍ، وَأَحْبَطْتُ عَمَلَكَ»
(3)
.
إنَّ إعجابَ المرء بعمله وإدلاله به سقطة مِن أشنع السقطات وأقبحها، إنه محرقةٌ للطاعات، ومَنْبِتٌ للرذائل وشتى الأدواء والآفات.
(1)
طِلَاعُ الأَرْضِ: ملؤها. ينظر: جمهرة اللغة (2/ 915)، والصحاح (3/ 1254).
(2)
أخرجه البخاري (5/ 12) رقم (3692).
(3)
حديث قدسي أخرجه مسلم (4/ 2023) رقم (2621)، من حديث جندب رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، عن ربه.
وكان السلفُ يحاذرون العُجب ويفرون منه، قال مطرف بن عبدالله بن الشخير:«لأنْ أبيتَ نائمًا وأُصبحَ نادمًا، أحبُّ إلي مِن أنْ أبيتَ قائمًا فأُصبح مُعجبًا»
(1)
.
«إنك أنْ تبيتَ نائمًا وتُصبح نادمًا، خير مِن أنْ تبيتَ قائمًا وتُصبح مُعجبًا، فإنَّ المُعجب لا يصعد له عمل، وإنك أنْ تضحك وأنت معترف، خير مِن أنْ تبكي وأنت مُدِلٌّ، وأنين المذنبين أحب إلى الله مِن زجل
(2)
المسبحين المدلين»
(3)
.
فأَوقِدْ أيها المُعْتكِف في ذهنك شرارة الشعور بمنة الله وتزكيته لك، {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [النور: 21].
(1)
أخرجه ابن المبارك في الزهد (1/ 151) رقم (448)، وأحمد في الزهد ص (195) رقم (1342)، وأبو نعيم في الحلية (2/ 200).
(2)
يقال: سمعتُ زَجَل القوم أي أصواتهم. والمراد تسبيح المسبحين. ينظر: البارع في اللغة (ص: 637)
(3)
مدارج السالكين (1/ 195).