الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مقدمة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:
تعتبر اللغة بصفة عامة الوعاء الذي يحتضن ويحمل العلم، ويُنْتَقَلُ به من مكان إلى مكان، ومن زمن لآخر، ولولا نعمة اللغة التي امتنّ الله بها على عباده، لما توارثت الأمم حضارات غيرها، واستفادت من عِبَرِ الأحداث وما تفتقت عنه عقول العقلاء في كل فن وعلم.
وخصت اللغة العربية من بين لغات العالمين بخصائص انفردت بها عن غيرها، سَمَتْ بها عن لغات الدنيا، وأصبحت بينها كالقمر بين الكواكب تتضاءل الأنوار من حولها، وكأنها القطب والكل في فلكها يدور.
فهي لغة القرآن الكريم، ولغة خاتم الأنبياء والمرسلين، تغيرت اللغات واندرست أخرى، وهي ثابتة في نمو وازدهار، تأثرت بالفصحاء في جمال تركيب الكلام وحسن البيان، وأثرت في البلغاء، فأمدتهم بأجمل الكلمات وأفصح الألفاظ، حتى وسعت كتاب الله لفظاً وغاية، وما ضاقت عن آية به وعضاة.
وإذا لم يكن للعرب تمدن مادي قديم، فإن مدنيتهم قد ظهرت في عنايتهم بلغتهم، حتى كان يندر من يلحن بينهم، ثم أصبح اللحن مثلبة في لسان الفتى.
وبهذه اللغة صاغ العرب الحِكَمَ والأمثال، ونظموا الأشعار وتحدثوا بأعذب العبارات، وأجمل الألفاظ، متأثرين بلغتهم العربية التي صنعت فيهم التمدن الفكري والذوقي، يقول مصطفى صادق الرافعي: ولكنا إذا اعتبرنا لغتهم رأينا حقيقة التمدن فيها متمثلة، وشروطه في مجموعها متحققة، فهي منهم بحر الحياة
الذي انصبت فيه جميع العناصر، وانبعث بها هذا التيار العقلي الذي يدفع بعضه بعضاً، وكأنها هي التي كانت تهذب نفوسهم وتزنها، وتعدلها وتخلصها برقة أوضاعها وسمو تراكيبها، حتى ينشأ ناشئهم في نفسه على ما يرى من أوضاع الكمال في لغته؛ لأنه يتلقنها اعتياداً من أبوية وقومه، ولهيَ أقوم على تثقيفهم من المؤدب بأدبه، والمعلم بعلمه وكتبه؛ لأنها حركات نفسية على مدارها انجذاب الطبع فيهم 1.
فجاء الإسلام فازدادوا حكمة على حكمتهم، وقدرة لغوية على قدرتهم، فهذب فكرهم، وصقل أذهانهم، فكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خير الناس، وخير الأصحاب، وأفضل من فكر وتدبر ودبر رضي الله عنهم أجمعين.
وبعد انتشار الإسلام، وتوسع الفتوحات الإسلامية في المشرق والمغرب، ودخول الناس في دين الله أفواجاً، وحصول الاختلاط بين الأجناس المختلفة، ضعف تقويم اللسان وكثر اللحن بين الناس، حتى أصبحت دراسة علوم اللغة العربية في الغالب قائمة على الاستيعاب المؤقت لحين تجاوز الاختبارات الدراسية، بيد أننا نجد اللغة العربية تمتاز بعذوبة ألفاظها، وجمال تراكيبها الكلامية ومحسناتها البديعية، مما يجعل دراستها رغبة في تذوق جمالياتها والتحلي بتطبيقاتها، إضافة إلى آثارها التربوية العميقة في غرس الفضائل الخلقية، ونبذ الرذائل السلوكية، من خلال أدب اللغة العربية الذي يزخر بفيض من الحكم والأمثال والقصائد والنثر الذي يشحذ الهمم نحو اكتساب الفضائل والتمثل بها، من صدق وأمانة وكرم وعفة ونحو ذلك.
إضافة إلى أن اللغة العربية كانت ومازالت مأرزاً في حفظ العلم وتسهيله
1 مصطفى صادق الرافعي، تاريخ آداب العرب (1/170) .
على طلابه من خلال نظم الكثير من متون العلم في قصائد بديعة جميلة، على ما سيأتي تفصيله في متن هذا البحث.
كما أن اللغة العربية وسيلة تربوية للنمو الفكري من حيث توسعة المدارك والخيال، والتأمل والتفكر.
فهذه الجوانب التربوية تمثل أهمية كبيرة في البناء العلمي والتربوي، وتحتاج إلى إيضاح وبيان لتسهم في تعزيز دراسة وتدريس اللغة العربة والاهتمام بتفعيل قواعدها وفروع علومها.
وأرجو أن يكون هذا البحث مساهمة في بيان أبرز الآثار التربوية للغة العربية وأن يكون عوناً لشحذ الهمم نحو مزيد من العناية بهذه اللغة الشريفة وبتدريسها ودراستها وتفعيلها في حياتنا.