الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فإني رأيت الكُتّاب. قد تركوا تفقد هذا من أنفسهم وخلّطوا فيه) 1.
واللغة العربية من خلال علومها المختلفة، وخاصة الأدب الشعري والنثري، يربي في قارئه ومستمعه النقد الخلقي الذاتي لألفاظه التي ينطق بها، وطباعه التي يتعامل بها، عندما يقيس سلوكه الذاتي بالمضامين الأدبية في جانب الأخلاق والسلوك، وهذا يقوي جانب النقد الخلقي الذاتي (وكلما نما النقد الذاتي لدى الإنسان دل على عقلية ناضجة متفتحة، ونفس نقية صافية، وإن لا بستها الشوائب الطارئة فسرعان ما تعود إلى حياة الاستقامة والعفة)2.
ونضج النقد الذاتي الواعي الرشيد يساعد على تقويم السلوك وإصلاح العيوب، وترقية الأخلاق وترك سبل المفاسد والمعاصي، وإن كانت تحقق له لذة مادية آنية كما يرده إلى سبيل الهدى والتقوى والصلاح باتباع أوامر الشرع الحكيم، واجتناب نواهيه، والتقيد بالفضائل والمكارم الخلقية والآداب الاجتماعية، التي تجعله يتذوق السعادة الحقيقية 3.
وجملة هذه الإشارات تدلل على أهمية اللغة العربية وفروع علومها في التربية الخلقية، ويتضح ذلك أكثر في استجلاء آثارها التربوية على نحو ما سيأتي.
1 ابن قتيبة، أدب الكاتب، ص (19ـ20) .
2 عبد الحميد الصيد الزّنتاني، أسس التربية الإسلامية في السنة النبوية، ص (679) .
3 المرجع السابق، ص (682ـ683) .
الآثار الخلقية للغة العربية:
للمتمعن في اللغة العربية وفروع علومها يجد أنها وعاء عميق للتربية الخلقية، وهجر الرذائل السلوكية، وأن العناية بها عناية بالأخلاق والسلوك، وأن رعايتها رعاية للتربية الخلقية؛ ذلك أن لها أثراً عظيماً وفاعلاً في بث الفضائل الخلقية، التي يمكن إيضاحها على سبيل التفريع الإجمالي لا التفريع
المبسوط؛ ذلك أن هذا الموضوع هو جزء من موضوع عنوان الدراسة وفرع منها، وإيضاحها فيما يلي:
1-
التمسك بأهداب الشريعة:
التمسك بأهداب الشريعة الإسلامية هو أول أوصاف الأخلاق الحميدة للفرد، فمن خلا من التقيد بالشريعة فقد خلا من لباس الفضائل الخلقية بأسرها، ذلك أن الدين الإسلامي كله خلق، يقول ابن قيم الجوزية:"إن حسن الخلق هو الدين كله، وهو حقائق الإيمان وشرائع الإسلام"1. "ويقول فالدين كله، خلق، فمن زاد عليك في الخلق زاد عليك في الدين"2.
قال الله تعالى في وصف النبي صلى الله عليه وسلم: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} 3. وقد قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في وصف خلق النبي صلى الله عليه وسلم: "فإن خلق نبي الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن" 4.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "أما الخُلُقُ العظيم الذي وصف الله به محمد صلى الله عليه وسلم فهو الدين الجامع لجميع ما أمر الله به مطلقاً، هكذا قال مجاهد وغيره، وهو تأويل القرآن كما قالت عائشة رضي الله عنها: "كان خلقه القرآن" وحقيقته المبادرة إلى امتثال ما يحبه الله تعالى بطيب نفس وانشراح صدر"5.
فالدين كله خلق، والتمسك بشرائع الدين دليل على العناية بأمر الخلق، وللغة العربية حظ ونصيب في البناء الخلقي فيما يتعلق باكتساب شرائع الدين
1 ابن قيم الجوزية، مدارج السالكين (2/319) .
2 المرجع السابق، (2/320) .
3 سورة القلم، آية رقم (4) .
4 مسلم (1/512ـ513) .
5 ابن تيمية، اقتضاء الصراط المستقيم، ص (207) .
والعناية بها، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:"واعلم أن اعتبار اللغة يؤثر في العقل والخلق والدين تأثيراً قوياً بيناً، ويؤثر أيضاً في مشابهة صدر هذه الأمة من الصحابة والتابعين، ومشابهتهم تزيد في العقل والدين والخلق"1.
ومن منصة الأدب الإسلامي يمكن تكوين أجيال مسلمة صحيحة العقيدة، سليمة الفكر، قويمة السلوك، وذلك أن الأدب بكلماته العطرة وأسلوبه النافذ يستطيع أن يسهم في إيصال السمو الخلقي الإسلامي للآخرين، فتنتشر تعاليمه بينهم، ويذوقوا حلاوة الإيمان، ويتنسموا ريح الحرية الحقيقية، وينعموا بالسعادة2.
ومن خلال البلاغة اللفظية التي تميزت بهااللغة العربية يستطيع الكاتب أو الداعية المتشرب للأدب اللغوي أن يثير بالنثر الجميل أو الشعر البديع التأمل في آيات الله الكونية، وما أودعه الله فيها من جمال وإعجاز وأسرار ليستجيش القلوب نحو الإيمان بالله الذي هو أساس كل فضيلة من خلال التأمل في مخلوقات الله تعالى التي دعانا المولى عز وجل إلى تأملها وأخذ العبرة منها. قال تعالى:{أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} 3.
وكم من أديب لبيب آثار بمقطوعاته الأدبية الحس الديني نحو التمسك بأهداب الدين والذود عنه والصبر في شأنه، أمام ملذات الدنيا وزينتها، وقد حكى لنا خُبيب بن عدي وقد سيق إلى الموت على أن يعفى عنه إذا أرتد عن الإسلام، فأقبل على الموت تحت وطأة النطع والسيف مؤثراً الشهادة دون
1 المرجع السابق، ص (207) .
2 انظر: كتاب نحو أدب إسلامي، محاضرات ألقيت في جامعة أم القرى، ص (29ـ31) .
3 سورة الغاشية، آية رقم (17ـ21) .
اكتراث للموقف وللدنيا، فيقول 1:
لقد جمع الأحزاب حولي وألَّبوا
…
قبائلهم واستجمعوا كل مجمع
وقد قربوا أبناءهم ونساءهم
…
وقُرِّبْتُ من جذع طويل ممنع
وكلهم يبدي العداوة جاهداً
…
عليّ لأني في وثاق بمضيع
إلى الله أشكو غربتي بعد كربتي
…
وما جمع الأحزاب لي عند مصرعي
وذلك في شأن الإله وأن يشأ
…
يبارك على أوصال شلو ممزع
وقد خيروني الكفر والموت دونه
…
وقد هملت عيناي في غير مجزع
وما بي جذارى الموت إني لميت
…
ولكن جذارى جحم نار ملفع
فلست بمبدٍ للعدو تخشعاً
…
ولا جزعاً إني إلى الله مرجعي
ولست أبالي حين أقتل مسلماً
…
على أي جنب كان في الله مصرعي
فكم من أثر لهذا الموقف الذي سطر في هذه القصيدة على القارئ والمستمع له، وكأنه يشعل في نفوس الآخرين جذوة الصبر، والدفاع عن الدين والتمسك به، وعدم الرضا بما هو دونه، والبعد عن كل ما يجافي الدين ويعارضه، فأكد بهذا المثال الرائع الذي صوره بلغة الضاد وأدبها الأثر التربوي للغة العربية بما تحمله من معاني ودلالات مؤثرة في النفس البشرية إذا صيغت الصياغة الأدبية.
2-
الحث على مكارم الأخلاق:
تعتبر الأخلاق في المنظور الإسلامي الهدف العام والأساسي في الإسلام، حيث يقول عليه الصلاة والسلام:"إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق"2.
ذلك أن الدين الإسلامي كله خلق في صلة العبد بربه، وبنبيه صلى الله عليه وسلم، وجميع المخلوقات؛ ولذلك قال ابن قيم الجوزية: "الدين كله خلق، فمن زاد عليك في
1 ابن عبد البر، الاستيعاب (2/302) ، عن الأدب الإسلامي لصالح آدم بيلو، ص (83 -84) .
2 أحمد (2/381) ، واللفظ له، ومالك (2/904) ، برقم (8) .
الخلق زاد عليك في الدين" 1.
ولقد أثر هذا المنطلق الإسلامي على تهذيب جارحة اللسان والبيان، ليأتي المنطوق نثراً أو شعراً في أدب جم، بل داعية بلفظه ومعناه إلى فضائل الأخلاق بحكم الالتزام الإسلامي الذي ربى فيهم هذا السلوك اللفظي الذي يربط المعنى النفسي باللفظ الكريم كما قيل:(من أراد معنى كريماً فليلتمس له لفظاً كريماً، فإن حق المعنى الشريف اللفظ الشريف، ومن حقهما أن تصونهما عما يفسدهما ويهجنهما)2.
ولذلك نجد الصحابة رضي الله عنهم ومن اقتفى أثرهم قد التزموا باللفظ الشريف، وتركوا ما كان مألوفاً عندهم من ألفاظ الجاهلية كوصف جمال النساء وذكر الخمر ونحو ذلك.
ومن جانب آخر نجد أن دائرة الأدب الشعري والنثري مليئة بما يشحذ الهمم ويقوي النفوس ويدفعها نحو مكارم الأخلاق في شتى الفضائل الخلقية، ومن أمثلة ذلك ما يلي:
في إكرام الضيف الذي أوصى به الإسلام خيراً، صاغته العبارات اللغوية الأدبية في صور متعددة، إذا ما سمعها السامع أو قرأها القارئ جسدت فيه كرم البشاشة، والتفاني للضيف بكل مقدوره، ومن تلك النماذج الأدبية التربوية المؤثرة قول أبو يعقوب الخريمي 3:
أضاحك ضيفي قبل إنزاله رَحْلِهِ
…
ويُخْضِبُ عندي والمحل جديب
وما الخِصْبُ للأضياف أن يكثر القِرَى
…
ولكنّما وجه الكريم خصيب
وهذه الأبيات عندما يقرؤها القارئ أو تطرق أذن السامع تُحدث تفاعلاً
1 ابن قيم الجوزية، مدارج السالكين (2/320) .
2 ابن عبد ربه، العقد الفريد (4/139) ، عن محمد بن سعد بن حسين، الأدب الإسلامي بين الواقع والتنظير، ص (44) .
3 ابن عبد البر، بهجة المجالس وأنس المجالس (1/298) .
تربوياً عميقاً، يضرب بجذوره في النفس البشرية ليجدها تتجاذب مع الكرم والعناية بالضيف، وتحويل البيت المجدب الذي لاشيء فيه مائدة من الطعام الذي قد وفره لضيفه.
وفي ميدان الحياء يقول حبيب بن أوس 1:
إذا جاريت في خلق دنيئا
…
فأنت ومن تجاره سواءُ
يعيش المرء ما استحيا بخيرٍ
…
ويبقى العود ما بقي اللحاء
فلا والله ما في العيش خيرٌ
…
ولا الدنيا إذا ذهب الحياء
إذا لم تخش عاقبة الليالي
…
ولم تستح فاصنع ما تشاء
فهذه الأبيات وأمثالها في باب الحياء، إنما تستثير في المرء تغليب جانب الحياء والبعد عن الفحش والتفحش الذي يتنافى مع الدين الإسلامي العظيم، وتبين مكانة الحياء، وارتباطه بالخير والفلاح.
وميدان الأدب ملئ بما يشحذ الهمم نحو ابتغاء معالي الأخلاق وأزكاها بالكلمة الطيبة، والتركيب الجميل والوصف المؤثر البليغ.
3-
التنفير من الرذائل الخلقية:
للكلمة الخبيثة المصاغة صياغة بلاغية تأثير فاعل في النفس البشرية؛ ذلك أنها بما تحمله من زخرف القول وديباجة اللفظ، تستثير مكامن الشر في الإنسان نحو الرذائل السلوكية.
1 المرجع السابق، ص (2/592ـ593) .
2 سورة الأنعام، آية رقم (112) .
بعضهم لبعض الأمر الذي يدعون إليه من الباطل ويزخرفون له العبارات، حتى يجعلوه في أحسن صورة ليغتر به السفهاء، وينقاد له الأغبياء، الذين لا يفهمون الحقائق، ولا يفقهون المعاني، بل تعجبهم الألفاظ المزخرفة، والعبارات المموهة، فيعتقدون الحق باطلاً، والباطل حقاً 1.
وجاء الإسلام بالمنهج التربوي القويم الذي يحمل الإنسان مسؤولية العبارة التي يتلفظ بها، ليجعل منه شخصية مهذبة الفعال واللسان. قال تعالى:{مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} 2.
وهذه المسؤولية غرست في اتباع المنهج الإسلامي استشعار تبعية الكلمة ومسؤوليتها وأهميتها وأثرها البالغ، وتبعاتها على مستمعها وقائلها، فهجر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ما اعتادوه وألفوه من ألفاظ الجاهلية السيئة كوصف الخمر، وذكر العورات والتباهي بالمناصرة الظالمة، وسار على نهجهم من اقتفى أثرهم من الخلق إلى يومنا هذا، فأخذت الكلمة أهميتها ومسؤوليتها في البيئة المسلمة.
فقد قيل لعبد الله بن رؤبة بن لبيد التميمي: "إنك لا تحسن الهجاء، فقال: إن لنا أحلاماً تمنعنا من أن نظلم وأحساباً تمنعنا أن نظلم، وهل رأيت بانياً إلا وهو على الهدم أقدر منه على البناء؟ وله رواية حديث عن أبي هريرة3
بل تحولت الكلمة الأدبية إلى سيف بتار يحارب به الرذيلة، مما جعل الأدب يسهم إسهاماً طيباً في التصدي للرذائل السلوكية، ومن ذلك قول الزبير بن العوام في خطبة خطبها بالبصرة: "أيها الناس إن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ يوماً بعمامتي من ورائي فقال: يا زبير إن الله يقول أَنفق أُنفق عليك، ولا توكئ فيوكأ عليك،
1 عبد الرحمن السعدي، تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (2/59ـ60) .
2 سورة ق، آية رقم (18) .
3 ابن دريد الأزدي، الملاحن، ص (84) .
أوسع يوسع عليك، ولا تضيق فيضيق عليك، واعلم يا زبير أن الله يحب الإنفاق ولا يحب الإقتار، ويحب السماحة ولو على فلق تمرة، ويحب الشجاعة ولو على قتل حية، أو عقرب، واعلم يا زبير أن لله كنوز أموال سوى الأرزاق التي قسمها بين العباد محتبسة عنده، لا يعطي أحداً منها شيئاً إلا من سأله من فضله، فسألوا الله من فضله" 1.
ومن الكلام الجميل في ذم البخل والحث على مكارم الأخلاق قول أخت عمر بن عبد العزيز: (أف للبخل! والله لو كان طريقاً ما سلكته، ولو كان ثوباً طريفاً ما لبسته)2.
وقال الإمام الشافعي رضي الله عنه 3:
إذا رمت أن تحيا سليماً من الردى
…
ودينك موفور وعرضك صَيِّن
فلا ينطقن منك اللسان بسوأة
…
فكلك سوءات وللناس أعين
وعيناك إن أبدت إليك معايباً
…
لقوم، فقل: يا عين للناس أعين
وعاشر بمعروف وسامح من اعتدى
…
ودافع ولكن بالتي هي أحسن
فهذه المقطوعات الكلامية النثرية والشعرية، التي صيغت صياغة أدبية لها التأثير التربوي العميق في الحث على الفضائل الخلقية، والتنفير من الرذائل السلوكية، وبالتالي ساهمت الكلمة الأدبية في البناء التربوي إسهاماً طيباً، فأصبحت جديرة بالعناية والرعاية والدراسة.
1 ابن عبد البر، بهجة المجالس وأنس المجالس، (2/625ـ626) .
2 المرجع السابق (2/627) .
3 الإمام الشافعي، ديوان الإمام الشافعي، ص (105) .