المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الآثار التربوية للذوق اللفظي: - الآثار التربوية لدراسة اللغة العربية

[خالد بن حامد الحازمي]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌الفصل الأول: مدخل الدراسة

- ‌المبحث الأول: الإطار التمهيدي

- ‌أهمية الدراسة

- ‌أهداف الدراسة:

- ‌حدود الدراسة:

- ‌منهج الدراسة:

- ‌المبحث الثاني: مفهوم وأهمية اللغة العربية والأدب

- ‌مفهوم اللغة

- ‌الأهمية التربوية للغة:

- ‌مفهوم الأدب:

- ‌الأهمية التربوية لأدب اللغة:

- ‌المبحث الثالث: العناية التربوية بعلوم اللغة العربية

- ‌مدخل

- ‌عناية العلماء التربوية باللغة:

- ‌عناية الخلفاء والأعيان باللغة:

- ‌الفصل الثاني: الأثار التربوية للغة العربية

- ‌المبحث الأول: تربية الذوق اللفظي

- ‌مدخل

- ‌مفهوم الذوق اللفظي:

- ‌أهمية الذوق اللفظي:

- ‌الآثار التربوية للذوق اللفظي:

- ‌المبحث الثاني: الكسب المعرفي

- ‌مفهوم الكسب المعرفي:

- ‌أهمية الكسب المعرفي:

- ‌الآثار التربوية:

- ‌المبحث الثالث: التربية الفكرية

- ‌مفهوم الفكر:

- ‌الأهمية التربوية للتفكير:

- ‌الآثار التربوية:

- ‌المبحث الرابع: التربية الأخلاقية:

- ‌مفهوم التربية الخلقية:

- ‌الآثار الخلقية للغة العربية:

- ‌‌‌النتائجوالتوصيات

- ‌النتائج

- ‌ التوصيات:

- ‌مصادر ومراجع

الفصل: ‌الآثار التربوية للذوق اللفظي:

قال ابن حجر رحمه الله: "وقد اتفق العلماء على مدح الإيجاز والإتيان بالمعاني الكثيرة بالألفاظ اليسيرة"1. وفي استخدام الألفاظ الجميلة والعبارات الطيبة الحسنة تربية اللسان على ما جمل وحسن من الألفاظ، فلا يألف المرء إلا الكلمات التي تجلب خيراً وتدفع شراً.

وفي تعود اللسان على ما حسن من الألفاظ وقوي، تمكين لصاحبه في التنقل بين حديقة الكلمات الغناء، وتسعفه بأحسن العبارات وأجمل الألفاظ.

وهذا ينعكس على سامعيه ومجالسيه، فتجده بينهم محبوب ولكلامه قبول، ولفكرته مستمعون، وأما صاحب الألفاظ البذيئة، فتجده لم يألف لسانه إلا أرذل الألفاظ وأبخسها، فإذا تحدث كان الناس عنه لاهون ولفكرته غير منتبهين يسأم منه جليسه ويئد فكرته بألفاظه، وسوء عباراته، ولنا في القرآن الكريم منهجاً قويماً، في عذوبة ألفاظه، وجزالة عباراته، وفصاحة بيانه، وحلاوة تراكيب ألفاظه حتى قال عنه أحد أعدائه الوليد بن المغيرة، عندما قال له قومه:"قل فيه قولاً يبلغ قومك أنك منكر له، وأنك كاره له، قال الوليد: وماذا أقول؟ فوالله ما فيكم رجل أعلم بالأشعار مني، ولا أعلم برجزه، ولا بقصيده مني، ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذي يقول شيئاً من هذه، والله إن لقوله الذي يقول: حلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه، ومغدق أسفله، وإنه ليعلو وما يعلى، وإنه ليحطم ما تحته"2.

كما أن لنا في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم القدوة الحسنة ولأسوة المباركة، تحدث بأحسن العبارات لفظاً، وأوضحها معناً، وأقواها دلالة، اشتملت على إيجاز في غير إعجاز، ووضوحاً في غير إطناب، فقد أعطي جوامع الكلم صلى الله عليه وسلم.

1 ابن حجر، فتح الباري (10/238) .

2 الحاكم، المستدرك (2/506ـ507) .

ص: 465

‌الآثار التربوية للذوق اللفظي:

لجمال الألفاظ آثار تربوية عظيمة تنعكس على صاحبها وعلى مستمعيه،

ص: 465

بعضها مباشر الأثر وبعضها مكنون الأثر، وبيانها فيما يلي:

1-

الإصغاء للكلمة الجميلة:

الكلمة الجميلة تأسر مستمعها، وتجعله يتابع أحداث معانيها ودلالاتها في تفاعل وتأثر؛ لأنها تجذب عواطفه وتأخذ بألبابه، فذاك عمر بن الخطاب رضي الله عنه تقدم عليه وفود أهل البلدان، فيتقدم إليه وفد أهل الحجاز، فاشرأب منهم غلام للكلام فقال عمر: يا غلام ليتكلم من هو أسن منك فقال الغلام: يا أمير المؤمنين! إنما المرء بأصغريه قلبه ولسانه، فإذا منح الله عبده لساناً لافظاً وقلباً حافظاً، فقد أجاد له الاختيار، ولو أن الأمور بالسن لكان هاهنا من هو أحق بمجلسك منك، فقال: عمر صدقت، تكلم؛ فهذا السحر الحلال! .." 1.

فتأمل كيف أثرت الفكرة الجميلة باللفظ البديع في عمر بن الخطاب أمير المؤمنين رضي الله عنه، وأصغى إلى الغلام حتى انتهى من كلامه وبيانه، وكيف تقدم هذا الغلام على أقرانه وكبراء قومه؟ وكأنه كبيرهم الذي لا يعقد رأي بدونه.

وليس من الجمال اللفظي التعمق، واستخراج المعاني والألفاظ الغريبة، يقول ابن قتيبة:"ويستحب له أن يدع في كلامه التقعر والتقعيب" 2 فهو يستثقل، والأدب غض، والزمان زمان، وأهله يتحلون فيه بالفصاحة، ويتنافسون في العلم 3.

ومثال ذلك قول علقمة عندما هاجت به مرة واجتمع عليه قوم، فقال لهم: ما لكم تتكأكؤن عليّ كتكأكئكم عليّ ذي جنة، افرنقعوا عني، فقال رجل منهم: دعوه فإن شيطانه يتكلم بالهندية، وقال لحجام يحجمه أشدد قصب الملازم، وأرهف ظبة المشرط، وخفف الوضع وعجل النزع، وليكن شرطك

1 القيرواني، أبو إسحاق إبراهيم على الحصري، زهر الأدب (1/40) .

2 ابن قتيبة، أدب الكاتب، ص (18) .

3 المرجع السابق، ص (18) .

ص: 466

وخزاً، ومصك نهزاً، ولا تكرهن أبياً ولا تردن آتياً، فوضع الحجام محاجمه في جونته وانصرف 1.

ويلزم ليحسن اللفظ ويجمل ترك اللحن في الكلام. قال عبد الملك: اللحن في الكلام أقبح من التفتيق في الثوب النفيس. وقال أبو الأسود: إني لأجد اللحن غمراً كغمر اللحم، وقال مسلمة بن عبد الملك اللحن في الكلام أقبح من الجدري في الوجه 2.

وقد اختصم رجلان إلى عمر بن عبد العزيز رحمه الله فجعلا يلحنان، فقال الحاجب: قما فقد آذيتما أمير المؤمنين، فقال عمر للحاجب: أنت والله أشد إيذاء منهما 3.

فلحن حاجب أمير المؤمنين، كان أثره وألمه أشد عليه. وفي هذا إشارة إلى أهمية التربية اللغوية. والعناية بها من خلال وسائل ووسائط التربية المختلفة ، فبهما تحفظ اللغة وتحسن الألفاظ.

فلكي يحدث الأثر اللفظي من حيث الإصغاء للغة الجميلة، فلا بد من معالجة خوارمها من التقعر في الألفاظ واللحن في الكلام، فإنه يبعد عن الإصغاء وينفر من متابعة الكلام.

ومن أمثلة الألفاظ المؤثرة والمعاني الجميلة: أنه دخل على عبد الملك بن مروان ابن القرية فبينما هو عنده إذ دخل بنو عبد الملك عليه فقال: من هؤلاء الفتية يا أمير المؤمنين؟ قال: ولد أمير المؤمنين، قال: بارك الله لك فيهم كما بارك لأبيك فيك، وبارك لهم فيك كما بارك لك في أبيك. قال: فشحن فاه دراً 4.

1 المرجع السابق، ص (17) .

2 ابن قتيبة، عيون الأخبار (2/158) .

3 الجاحظ، المحاسن، والأضداد، ص (13) .

4 الجاحظ، المحاسن والأضداد، ص (13ـ14) .

ص: 467

فجمال تلك الألفاظ تدل على الأثر التربوي العظيم للمتأدب والمتحلي ببديع البيان وحسن تركيب الكلام لألفاظ اللغة، فابن القرية لم يأت بألفاظ غريبة، وإنما أتى بألفاظ يستطيع أن يأتي بها كل أحد من المتكلمين بالعربية، غير أنه أبدع في تركيبها اللفظي فجاءت كالدرر.

وتأمل جمال اللفظ الوصفي في الأبيات التالية التي تدل على أن من نشأ نفسه على حسن البيان والألفاظ، فإنما أطعم لسانه جواهر الكلام.

قال السعدي أبو وجزة وقد قدم على المهلب بن أبي صفرة:

يا من على الجود صاغ الله راحته

فليس يحسن غير البذل والجود

عَمَّتْ عطاياك من بالشرق قاطبة

فأنت والجود منحوتان من عود 1

2-

التفاعل العاطفي:

كما تتفاعل العواطف مع الأحداث السارة والأحداث المؤلمة، فتبغض وتحب وتكرة وتميل، فإنها تتفاعل أيضاً مع الكلمات والألفاظ العذبة، بل ربما كان صور تلك العبارات الأدبية الجميلة أكثر تأثيراً من واقع الأحداث، فتتأثر لها القلوب وتتفاعل معها النفوس.

فتأمل قول البحتري في وصف بركة واسعة وكأنها أجمل من البحر والأنهار2:

يا من رأى البركة الحسناء رؤيتها

والانسات إذا لاحت مغانيها

يحسبها أنها من فضل رتبتها

تعد واحدة والبحر ثانيها

ما بال دجلة كالغير تنافسها

في الحسن طوراً وأطواراً تباهيها

كأنما الفضة البيضاء سائلة

من السبائك تجري في مجاريها

إذا علتها الصبا أبدت لها حبكاً

مثل الجواشن مصقولاً حواشيها

1 المرجع السابق، ص (15) .

2 البحتري، ديوان البحتري (4/2414ـ2421) .

ص: 468

فرونق الشمس أحياناً يضاحكها

وريق الغيث أحياناً يباكيها

إذا النجوم تراءت في جوانبها

ليلاً حسبت سماءً ركبت فيها

لا يبلغ السمك المحصور غايتها

لبعد ما بين قاصيها ودانيها

فهذا الوصف الأدبي الجميل يجعل قارئ القصيدة كأنه ينظر إلى تلك البركة المملوءة ماءً، وقد بلغت من حسنها وفضل رتبتها أنها الأولى والبحر ثانيها، وقد نافسها نهر دجلة المتدفق بمائه العذب كغيرة النساء فيما بينهن، وشبه جمال الماء وتلألؤه بالفضة ناصعة البياض، تجري في مصباتها، وأما الليل فانعكاس السماء بنجومها المتلألئة في سعة مائها يخيل للناظر أن السماء قد ركبت فيها.

وفي صورة أخرى من التفاعل العاطفي للكلمة أن دخل المختار بن أبي عبيدة على معاوية وكانت عليه عباءة رثة، فاستحقره، فقال له المختار: يا أمير المؤمنين إن العباءة لا تكلمك! ولكن يكلمك من فيها، وأنشد:

أما وإن كان أثوابي ملفقة

ليست بخزٍ ولا من نسج كتان

فإن في المجد هماتي وفي لغتي

فصاحة ولساني غير لحان 1

فيلاحظ الأثر التربوي للألفاظ والمعاني التي خالف بها المخبر المظهر، فتفاعلت معها أحاسيس قارئها وكأنه ينظر إلى ذلك الموقف ويعايشه، بل يجد عطفاً وتفاعلاً مع ذلك الرجل رث الثياب ذرب اللسان، حتى ليخيّل للمرء أنه لن يبالي بثيابه قدر ما يهتم بمخبره ولسانه.

ولما دخل ضمرة بن ضمرة على المنذر بن ماء السماء، وهو إذ ذاك ملك الحيرة واليمامة، وكان ضمرة ذا عقل وعلم، وحلم وحكمة وشجاعة إلا أنه كان دميم الخلقة، قصير القامة، وكان ذكره قد ذاع في الآفاق، فلما رآه المنذر احتقره لدمامة خلقته وقصر قامته، فقال سماعك بالمعيدي خير من أن تراه، فقال

1 على بن عبد الرحمن بن هذيل، عين الأدب والسياسة، ص (122ـ123) .

ص: 469

له ضمرة أيه الملك ليس المرء بحسنه وجماله، وبهائه وكماله وهيئته وثيابه، لا والله حتى يشرفه أصغراه لسانه وقلبه، وقد قال الشاعر:

وما المرء إلا الأصغران لسانه

ومقوله والجسم خلق مصور 1

فلتك العبارات التي ذكرها ضمرة أثرها على المنذر، إذ كشفت له عن شخصية تحمل صورة باطنة خلاف الصورة الظاهرة.

فهو ذلق اللسان، فأشار بكلامه إلى قلبه ولسانه، فبهما تكون قيمة المرء لا بجسمه ومظهره فقط، والمستمع لهذه الألفاظ الأدبية في هذا الموقف يجد أثر الكلمة على عواطفه قد أينعت، فجاذبت عواطفه نحو خصال تربوية هي الاهتمام بالناس دون النظر إلى مظاهر هم، والتفاعل مع عوائدهم لا مع صورهم.

فالتفاعل العاطفي مع اللغة الأدبية له تأثيراته وإيقاعاته على النفس البشرية فيربي فيها ما لا يتوقع من مكارم الأخلاق.

وفي صورة أخرى تصف كلمات أدبية شيئاً، قد لا يأبه به الإنسان لصغر حجمه ورخص ثمنه، فيتجاهل قيمته وأثره العظيم، ولكن بالوصف الجميل والكلمات الرصينة والعبارات المنمقة وسِعَةِ الخيال ما يجعل النفوس تتفاعل مع ذلك الموصوف وتعرف له قدره بما يزيل غباراً قد أنسى فضله.

وهذه المقطوعة الأدبية تحكي أن بعض الكتاب أهدى إلى أخ له أقلاماً وكتب إليه: (إنه أطال بقاءك! لما كانت الكتابة قوام الخلافة، وقرينة الرياسة، وعمود المملكة وأعظم الأمور الجليلة قدراً، وأعلاها خطراً، أحببت أن أتحفك من آلاتها بما يخف عليك محملة وتثقل قيمته، ويكثر نفعه، فبعثت إليك أقلاماً من القصب النابت في الأغذاء المغذو بماءِ السماء، كاللآلئ المكنونة في الصدف والأنوار المحجوب بالسدف، تنبو عن تأثير الأسنان، ولا يثنيها غمز البنان. كما

1 المرجع السابق، ص (122) .

ص: 470

قال الكميت:

وبيض رقاقٍ صحاح المتو

ن تسمع للبيض فيها صريرا

مهندةٍ من عتاد الملوك

يكاد سناهن يُعشي البصيرا

وكقِدْح في ثقل أوزانها، وقضب الخيزران له في اعتدالها، ووشيج الخط في اطرادها، تمر في القراطيس كالبرق اللائح وتجري في الصحف كالماء السائح1.

فمهما تنوعت المجالات والفنون فتظل الألفاظ الأدبية مؤثرة في سامعيها بما يجعلهم يتفاعلون معها عاطفياً، فينسكب أثرها في قوالب تربوية منابعها كلمات اللغة العربية.

3-

التفاعل العقلي والسلوكي:

إن بلاغة التصوير اللفظي للأشياء تشد ذهن المستمع أو القارئ لترتسم مكونات الأحداث في عقل المرء، كأنه يشاهدها فتتجاذب لذلك الألباب والعواطف في تفاعل، يُحدث لدى الفرد آثاراً تربوية تظهر في سلوكه وتجاذبه مع الحدث نتيجة ما سمع.

فكم نسمع من كلمات أدبية وقصائد شعرية تصف آلام الأمة في أقصى الكرة الأرضية، ونحن لم نشاهدها عياناً فتتفاعل لها العقول كأنها تشاهد تلك الأحداث وتعايشها، فيجول فكر المرء في جوانبها وربما تصور حلولاً، وهو في منأى عن مواقعها. حتى ليدفع المرء أغلى وأحسن ما يستطيع لتأثره بصورة بلاغية عن أحداث مؤلمة.

وسويعات تقرأ في كتب الرحلات أو تسمع أديباً يقص رحلة من رحلاته، فتستغرق في أعطاف الرحلة، وتبحر بالعقل لا بالجسم في جوانبها، وربما تأثر السامع بمواقف، ومواقع وتفاعل معها كأنه يعايشها.

1 القيرواني، إبراهيم بن علي الحصري، زهر الآدب (3/669) .

ص: 471

ومن صور الألفاظ البديعة التي تجعل المرء يقف ويفكر في سرعة البديهة وحضور الجواب، والقدرة على صياغة العبارات موقف امرأة وحسن جوابها مع المهدي، فقد قيل:(وقف المهدي على امرأة من بني ثعل، فقال لها: ممن العجوز قالت: من طيء، قال: ما منع طياً أن يكون فيها آخر مثل حاتم؟ قالت: الذي منع العرب أن يكون فيها آخر مثلك)1.

ولهذا الموقف الأثر التربوي الفاعل الذي يربي في المستمع بتكرار أمثاله، حسن الجواب وسرعة البديهة، ولما اشتملت عليه المحاورة من تسخير الكلمات والألفاظ لخدمة الأفكار، وربما أحجم البعض عن إيضاح الأفكار العظام التي يهتز لها أولى الألباب لضعف القدرة على تركيب الألفاظ وحسن البيان.

والتفاعل السلوكي وليد التأثير اللفظي في الجانب العقلي كما هو حال التأثير الفعلي. ذلك أن الكلمة الزكية واللفظ الجميل يأسر الألباب، ويحرك العقول لتؤثر في العواطف الانفعالية، فيظهر السلوك في الصورة والهيئة المناسبة مع وقع الكلمات المؤثرة والصياغة الجميلة. قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله:"إن الرجل ليكلمني في الحاجة يستوجبها فيلحن فأرده عنها، وكأني أقضم حب الرمان الحامض لبغض استماع اللحن، ويكلمني آخر في الحاجة لا يستوجبها، فيعرب فأجيبه إليها التذاذاً لما أسمع من كلامه، وقال: أكاد أضرس إذا سمعت اللحن"2.

وكذلك الكلمة المنمقة الجميلة التي تحمل في طياتها ما يهيج الشر، ويدعو إلى الرذيلة، تجدها تؤز سامعها إلى الشر أزاً، ما لم يكن له إيمان قوي يمنعه من اتباع زخرف القول غروراً، قال تعالى عن شياطين الإنس والجن: {وَكَذَلِكَ

1 الجاحظ، المحاسن والأضداد، ص (21) .

2 ابن دريد الأزدي، الملاحن، ص (72) .

ص: 472

جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ * وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ} 1.

والمعنى: (أي يزين بعضهم لبعض الأمر الذي يدعون إليه من الباطل، ويزخرفون العبارات حتى يجعلوه في أحسن صورة، ليغتر به السفهاء، وينقاد إليه الأغبياء الذين لا يفهمون الحقائق، ولا يفقهون المعاني، بل تعجبهم الألفاظ المزخرفة المموهة، فيعتقدون الحق باطلاً، والباطل حقاً، ولهذا قال تبارك وتعالى {وَلِتَصْغَى إِلَيْهَِ} أي ولتميل إلى ذلك الكلام المزخرف {أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ} لأن عدم إيمانهم باليوم الآخر وعدم عقولهم النافعة يحملهم على ذلك)2.

وهذا يدل على التأثير الفاعل للكلمة المزخرفة على من ضعفت قلوبهم ووهنت عقولهم، فربما أحدثت أثراً تربوياً سيئاً في التصور والفعال والأخلاق.

4-

تربية الذوق اللفظي وترسيخ المعاني:

لاستماع وقراءة الكلمات والعبارات والقصائد والنثر الأدبي الجميل أثر في حس المستمع والقارئ إذ تغرس فيه تذوق الكلمات واستشعار جمال مبانيها، ومحسناتها البديعية، وتراكيبها اللغوية، بما شملته من جناس وطباق وتشبيه حتى يألف حسه تلك الجمل والعبارات فينمو ذوقه اللغوي كما ينمو ذوقه الفكري.

ففي التعود على الألفاظ الجميلة وتربية اللسان عليها أثر عظيم الفائدة على المستمع أو القارئ؛ ذلك أن المتكلم يسحر الألباب بعذوبة ألفاظه وحسن بلاغته وجمال تراكيب كلامه، وقد كان للسلف عناية باللغة وألفاظها، فعن

1 سورة الأنعام، آية (112ـ113) .

2 السعدي، تيسير الكريم الرحمن (2/59ـ60) .

ص: 473

يونس بن عبد الأعلى، قال: ما كان الشافعي إلا ساحراً 1 ما كنا ندري ما يقول إذا قعدنا حوله، كأن ألفاظه سكر، وكأن قد أوتي عذوبة منطق وحسن بلاغة، وفرط ذكاء وسيلان ذهن، وكمال فصاحة وحضور حجة 2.

فتأمل موقع الكلمة وقدرها في هذا الوصف الجميل لألفاظ وكلام الإمام الشافعي رحمه الله وما أحدثته عند سامعيه.

بل إن في الكون الذي يحيط بنا آيات بينات، فكيف إذا لفت الانتباه لها بأسلوب أدبي رفيع يربي في الناشئة قوة الملاحظة بالوصف الجميل والبيان الواضح، فالكون من حولنا فيه تناسق.. والسماء فيها زينة

والأرض فيها جنات معروشات، وغير معروشات.. والحيوان فيه جمال.. والنبات والثمر والأزهار بألوانها وأشكالها وروائحها، فيها تناسق وجمال، والإنسان نفسه في أحسن صورة، وأكرم تقويم 3.

فإذا بينت الآيات الباهرات في هذه المخلوقات وغيرها بأسلوب أدبي بديع أحدثت في نفس السامع أثراً وذوقاً لغوياً، وترسخت تلك المعاني والألفاظ بصورها وأشكالها في ذهنه، ونسجت لها بيتاً لغوياً وأدبياً في ذاكرته، وعمرت معجمه اللغوي بألفاظ بديعة، تمكنه من التنقل بينها عند التعبير والإفصاح عن مراده.

ومثال ذلك وصف الزروع والمروج وهي تكسي الأرض الصفراء حلة خضراء مليئة بالأزهار والأطيار كالقصيدة المشهورة للبحتري في وصف الربيع التي مطلعها 4:

1 ليس المقصود هو إتيان السحر وإنما لبيانه جمالاً وعذوبة كما قال صلى الله عليه وسلم: "إن من البيان لسحراً".

2 الذهبي، سير أعلام النبلاء (10/48) .

3 عبد الحميد الهاشمي، الرسول العربي المربي، ص (66) .

4 ديوان البحتري، البحتري (2/290) .

ص: 474

اتاك الربيع الطلق يختال ضحاكاً

من الحسن حتى كاد أن يتكلما

وقد نبه النيروز في غسق الدجا

أوائل وردكن بالأمس نوما

فإن الاستمتاع بجمال الكون جزء أصيل مقصود في التربية الإسلامية لما له من آثار في النفس، فمن فوائد النظر إلى السماء، وآثاره النفسية أنه يذهب الخوف والوساوس، ويذكر بالله عز وجل، ويوقع في النفس تعظيمه وإجلاله، ويزيل الأفكار الرديئة من الذّهن1.

قال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآياتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّار} 2.

بل إن الذوق اللفظي الممتزج بعطر الشريعة الخلقي امتد إلى هجر الكلمات التي اعتادها اللسان في فترة الجاهلية كقولهم: أبيت اللعن، وعم صباحاً، وعم مساءً، وظهرت ألفاظ جديدة لم تكن تستعمل في أدب الجاهلين، كالإيمان والتوحيد والجهاد، والوحي والزكاة، والركوع والسجود والحلال والحرام 3.

كل هذه العبارات وتداولها في أدب اللغة شعره ونثره إنما تربي في المسلم حساً خلقياً وذوقاً رفيعاً يتعالى فيه ويسمو عن محقرات الأمور والدنايا إلى رفعة الكلمة وسمو معناها وذوقها اللفظي الذي يعبر عن الإنسان المسلم السوي.

1 عدنان با حارث، مسئولية الأب المسلم، ص (354) .

2 سورة آل عمران، آية رقم (190ـ191) .

3 عبد الصبور السيد الغندور، الأدب الإسلامي، مفهومه ومقوماته وطرق تدريسه، ص (25) .

ص: 475