الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والمتأمل في العلاقة بين اللغة العربية وعقلية أصحابها، يجد أن هناك تفاعلاً فكرياً عميقاً، فقد كانت الصلة قوية بين مفردات اللغة وعقلية أصحابها وعاداتهم، فالألفاظ العربية تدل على تفكير العرب ونظرتهم إلى الأشياء، ذلك أن في تسميتهم لها باسم بعينة، وفي إطلاق لفظ دون غيره عليه، واختيار صفة من صفاته ما يدل على اتجاههم في التفكير وفهمهم للأشياء ونظرتهم إليها.
فاستعمالهم لفظ العامل للوالي والحاكم يدل على أنهم فهموا الولاية بعد الإسلام على أنها عمل من الأعمال، وكلمة العقل المأخوذة من معنى الربط تدل على أنهم يفهمون العقل زاجراً عن الشر، ويربط الإنسان عنه، ويعتبرون فيه الجانب الخلقي لا الجانب الفكري وحده، وكلمة اليمين بمعنى القسم؛ لأن المتحالفين كان أحدهما يصفق بيمينه على يمين صاحبه 1.
وهذا يدل على عمق اللغة العربية وقدرتها الفائقة في نقل المعرفة بدقة متناهية، فهي التي وسعت كتاب الله لفظاً وغاية، كما يؤكد هذا الأهمية التربوية للغة العربية في النمو الفكري للإنسان.
1 المرجع السابق، ص (306ـ307) .
الآثار التربوية:
للغة العربية آثار تربوية جلية في النمو الفكري للإنسان، فهي مصدر قوي لسعة الخيال وتخصيبه، بصورها البلاغية وأدبها المتألق وقواعدها الرصينة، والتي فاضت كتب الأدب فيها بالأمثال والحكم التي لا تزيد قارئها إلا حكمة وأدباً وفهماً، ويمكن استجلاء شيئاً من آثارها التربوية الفكرية في الآتي:
1-
النمو الفكري:
يعتبر الجانب الفكري أحد المطالب التربوية التي تسعى المنشآت التربوية لترسيخها وبنائها وتنميتها في الناشئة، حيث (تعد عملية التفكير كعميلة عقيلة
عليا من أهم وظائف العقل البشري التي تمكنه من الفهم والإدراك، والتمييز والمعرفة والاستيعاب والاستنباط والاستنتاج، وإصدار الأحكام الصائبة) 1.
والمتأمل يجد أن اللغة العربية وعلومها من أهم المصادر الفاعلة في تربية الفكر الإنساني ونموه، لما حوته علوم اللغة العربية من الحكم والأمثال والقصائد الشعرية والأدب النثري الذي تزكو به العقول (فللعقول سجيات وغرائز بها تقبل الأدب، وبالأدب تُنَمَّى العقول وتزكو، فكما أن الحبة المدفونة في الأرض لا تقدر أن تخلع يبسها وتُظهر قوتها وتطلع فوق الأرض بزهرتها وريعها ونظرتها ونمائها إلا بمعونة الماء الذي يغور إليها في مستودعها، فيذهب عنها أذى اليَبَس والموت، ويحدث لها بإذن الله القوة والحياة، فكذلك سليقة العقل مكنونة في مغْرِزِها من القلب، لا قوة لها ولا حياة بها، ولا منفعة عندها حتى يعتملها الأدب الذي هو ثمارها وحياتها ولقاحها)2.
واللغة العربية لم تقتصر على كونها معبرة عن التفكير، بل كانت أداة نموه، وارتقائه 3. ويشهد لذلك القرائح الأدبية التي أثرت كتب الأدب بالنثر والشعر الذي حوته بين جوانبها.
والذي يتأمل خصائص اللغة العربية، ويدرسها بعمق، انما تزيده عمقاً فكرياً، ففي مكونات الكلمة أسرارٌ بديعة، يكشفها علماء اللغة العربية. فهناك. (تقابل بين أصوات الألفاظ، وما تدل عليه من المعاني، فمن ذلك أنه يرى ـ أي ابن جني ـ أن تكرار الحروف في اللفظ يقابل تكرار الحدث، أو الفعل في الواقع كما في زلزل، وجرجر، وأن تكرير العين في بناء الفعل، وهي أقوى حروفه، يقابل تكرير الفعل نفسه كما في كسّر وعلّق، ويرى ابن جني أن ما سبق لم يقع
1 عبد الحميد الصيد الزنتاني، أسس التربية الإسلامية في السنة النبوية، ص (444) .
2 عبد الله بن المقفع، الأدب الصغير والأدب الكبير، ص (11ـ12) .
3 محمد المبارك، فقه اللغة وخصائص العربية، ص (15) .
في هذه اللغة الشريفة مصادفة، وإنما هو أمر مقصود دلت عليه حكمة العرب التي شهدت بها العقول) 1.
فالمتأمل في فقه اللغة العربية يجد أن دراستها تنمي الفكر الإنساني بما يجده فيها من حكم وأسرار وجمال في التراكيب اللفظية والتناسق العجيب بين الكلمة ومرادها، وحتى بين أصوات اللغة وأصوات الطبيعة.
ويؤكد المتخصصون في اللغة (أن العلاقة بين الفكر واللغة علاقة وثيقة، تصل إلى درجة الارتباط العضوي عند العديد من الباحثين، فإذا كان الفكر محصلة النشاط العقلي في تفاعله مع الكون المحيط به من ناحية، ومع المذخور التجريدي الموجود في الذاكرة من ناحية ثانية، فإن التجسيد الحي لهذا الفكر يتمثل في اللغة)2.
والطفل لا يمتلك أي مهارة لغوية إلا بعد أن يصل إلى مستوى النضج العقلي، ولا يستطيع التفكير إلا بعد أن يمتلك ثروة لغوية " 3.
وهذه في مجملها تؤكد أهمية اللغة في النمو الفكري، وخاصة اللغة العربية التي اختارها الله لغة للقرآن الكريم ولنبيه محمد صلى الله عليه وسلم وصحابته رضي الله عنهم، وهي اللغة التي نقل بها علماء الأمة الرصيد العلمي الهائل للأجيال عبر تاريخها الطويل.
2-
سعة الخيال وخصوبته:
يعتبر سعة الخيال قدرة ذهنية فكرية متقدمة ذلك (أنه العملية العقلية التي تقوم في جوهرها على إنشاء علاقات جديدة بين الخبرات السابقة، بحيث تنظمها في صور وأشكال لا خبرة للفرد بها من قبل)4.
1 باسمة العلي، جماليات اللغة العربية، مجلة الفيصل، ص (60) .
2 محمد صالح الشنطي، المهارات اللغوية، ص (42) .
3 المرجع السابق، ص (43) .
4 فؤاد البهي السيد، الأسس النفسية للنمو، ص (161) .
فهي عملية عقلية تستعين بالتذكر في استرجاع الصور العقلية المختلفة ثم تمضي لتؤلف منها تنظيمات جديدة تصل الفرد بماضيه، وتمتد به إلى حاضره، وتستطرد به إلى مستقبله 1.
ولأسلوب تصوير المعاني وتخيلها وتجسيدها أثر عظيم وفاعل في الميدان التربوي؛ لأنه يثير في النفس العواطف والمشاعر 2.
فتأمل قول الله تعالى: {حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} 3.
فلعظم الشرك بالله وخطورته فإن من يشرك بالله فمثله كمثل الشيء الذي سقط من السماء فتخطفه الطير فتقطعه أعضاء، كذلك المشرك إذا ترك الاعتصام بالإيمان تخطفه الشياطين من كل جانب، ومزقوه وأذهبوا عليه دينه ودنياه، وإما أن تأخذه عاصفة شديدة من الريح فتعلوا به في طبقات الجو فتقذفه بعد أن تقطع أعضاءه في مكان بعيد جداً 4.
فنلحظ في هذه الآية الكريمة صورة بلاغية تجسد لقارئ كتاب الله تعالى عظيم الشرك وخطورته في صورة تستثير فيها خيال التالي للآية العظيمة الأنيفة.
وقد انعكست بلاغة القرآن الكريم وصوره البلاغية على شعراء المسلمين حيث (ارتقى خيال شعراء المسلمين، فاقتبسوا كثيراً من تصوير القرآن الكريم للأمواج والسحاب والنور والظلام، والقمر والنجوم وغيرها، فهذا النابغة الجعدي يقول5:
1 المرجع السابق، ص (161) .
2 مقداد بالجن، توجيه، المتعلم في ضوء التفكير التربوي، والإسلامي، ص (198) .
3 سورة الحج، آية رقم (31) .
4 السعدي، تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (3/319) .
5 عبد الصبور السيد الغندو، الأدب الإسلامي، مفهومه ومقوماته وطريقة تدريسه، ص (24ـ25) .
تبعث رسول الله إذ جاء بالهدى
…
ويتلو كتاباً كالمجرة نيرا
واللغة العربية لها أثر كبير وبالغ في تنمية الخيال وخصوبته، ذلك أن علومها من أدب وبلاغة تغرس في دارسيها وتربي في أذهانهم سعة الخيال وخصوبته من خلال صور الخيال الأدبية التي تزخر بها مضامين الشعر والنثر، وهذا الخيال المبحر في الأدب ليس خيالاً لا واقع له بل (جمع العرب بين الواقعية الحسية والمثالية المعنوية)1. ولكن مثاليتهم هذه ليست مثالية خيالية مجردة من الحياة، بل هي امتداد للواقعية وتسام بها، وتجريد وغاية لها " 2.
وليس المقصود من الخيال الجنوح بالذهن في متاهات الخيال عبر صور وتصورات لا واقع لها، بل هو وصف أشياء بأخرى أكثر وضوحاً وأعذب معنى وأبلغ بيان، كوصف الأعمال الخبيثة في هشاشتها وزوالها برماد اشتدت به الريح، والهموم المتلاحقة بأمواج البحر المتلاطمة، وظلمة الظلم بسواد الليل البهيم، فمثل هذه الأمثلة عندما تصاغ في عبارات أدبية تحدث أثراً تعليمياً هو القياس والتشبيه والاستعارة والمجاز، التي توسع رحابه الخيال، وتوضح المعنى أيما
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ * أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ
1 محمد المبارك، فقه اللغة وخصائص العربية، ص (310) .
2 المرجع السابق، ص (310) .
3 سورة الكهف، آية رقم (45) .
لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} 1.
ومن النصوص الشعرية التي تمثل فيها عمق الخيال التشبيهي قول امرئ القيس2.
وليل كموج البحر أرخى سُدُلَه
…
علىَّ بأنواع الهموم ليبتلي
فقلت له لما تمطى بصلبه
…
وأردف أعجازاً وناءَ بكلكل
ألا أيه الليل الطويل ألا انجل
…
بصبح وما الإصباح منك بأمثل
فهذه صورة خيالية بلاغية جميلة التصوير في توضيح عظم ما أصابه من هم، فشبه الشاعر الليل في رهبته بموج البحر في قوته وعنفوانه، وقد أسدل على الشاعر سواده ليختبر صبره، ثم يخاطب الليل وكأنه بعير يمد ظهره، ويثني برفع مؤخرته، ثم ينهض بصدره، ثم يسأل ويطلب انكشاف الليل عن الصباح وإن كان الصباح ليس بأحسن حالاً من الليل، لأن الهم قد ملأ ليله ونهاره.
وقول الشاعر طرفة بن العبد 3.
لخولة أطلالُ ببرقة ثهمد
…
تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد
فوصف الشاعر أطلال خولة بصورة رائعة التشبيه الخيالي كأنها مثل النقش القديم المتبقي علي اليد، وكأنه متهشم.
ومن شعر الدعوة، يقول أحدهم 4:
وأصغي إلى وحي السماء يهزني
…
وينساب في الأحشاء كالنبع صافياً
1 سورة النور، آية رقم (39ـ40) .
2 امرئ القيس، ديوان امرئ القيس (1/18) .
3 طرفة بن العبد، ديوان طرفة بن، ص (30) .
4 ناصر بن عبد الرحمن الخنين، الالتزام الإسلامي في الشعر، ص (214) ، وقائلها عبد الحفيظ عبد السميع صقر.
فأغسل قلبي في مناهل طهره
…
وأروى به من كان ظمآن صاديا
تحاول أعماقي تشرُّبَ روحه
…
لأصبح قرآناً على الأرض ماشياً
في هذا التصوير البليغ والتأثر العميق بالقرآن الكريم يصف الشاعر أثر القرآن على نفسه، بأنه يزيل عن قلبه كل ما يكدره ويرتوي بتلاوته كارتواء من كان شديد الظمأ، فينساب أثر القرآن على نفسه كانسياب الماء في الأحشاء.
فهكذا نجد أن اللغة العربية بعلومها الأدبية البلاغية الرائعة تمد المتتلمذ لها بفيض من الصور البلاغية التي توسع أفق ذهنه ورحابة تصوره بما يجعله واسع الخيال، بعيد النظر، قادر على تقريب المعاني بالتشبيه والاستعارة والمجاز، والتي هي وسيلة تربوية مهمة في تقريب المعاني للأفهام. والعلو بالمستفيد في ذرى التبليغ والتعليم وفن التدريس والدعوة والتوجيه.
3-
التمثل بالحكمة والموضوعية:
والحكمة: عبارة عن معرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم، ويقال لمن يحسن دقائق الصناعات ويتقنها: حكيم 1.
وهذا المفهوم يشير إلى أن الحكمة ليست معرفة الأشياء عن طريق التخمين، وإنما على أساس علمي، لتكون النتيجة صائبة مقبولة وفاعلة.
الحكيم: فَعِيل، وبمعنى فاعل، أو هو الذي يحكم الأشياء ويتقنها، وقيل ذو الحكمة 2.
والموضوعية هي ثمرة الحكمة؛ لأن الحكمة تتطلب من الفرد ومن الجماعة أن تضع الأمور في نصابها على أساس علمي أو معرفي، وبالتالي يمكن التقرير بأن الموضوعية هي الاستخدام الأمثل للحكمة وتنزيلها في مصبها ومجراها الصحيح.
1 ابن الأثير، النهاية في غريب الحديث والأثر (1/419) .
2 المرجع السابق، (1/418ـ419) .
وإن الموضوعية التي هي وليدة الحكمة أساس النجاح والتفوق في المنزل والمدرسة وميدان العمل والتجارة ومع الرفاق والأصدقاء والأعداء وغيرهم، ذلك أنها تجعل الفرد يضع الأمور في نصابها، ولا أحسن وأفضل من وضع الأمور في مواضعها، وقد امتن الله تعالى على عبده لقمان بأن آتاه الحكمة فقال تعالى:{وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} 1.
فيخبر الله تعالى في هذه الآية الكريمة عن امتنانه على عبده الفاضل، لقمان بالحكمة، وهي العلم بالحق على وجهه وحكمته، فهي العلم بالأحكام ومعرفة ما فيها من الأسرار والإحكام، فقد يكون الإنسان عالماً ولا يكون حكيماً.
وأما الحكمة: فهي مستلزمة للعلم، بل وللعمل، ولهذا فسرت الحكمة بالعلم النافع والعمل الصالح 2.
وقال تعالى مبيناً مكانة الحكمة ومنزلتها وعظيم شأنها: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الأَلْبَابِ} 3.
والحكمة كما يقول الشيخ السعدي هي: من العلوم النافعة والمعارف الصائبة والعقول المسددة، والألباب الرزينة، وإصابة الصواب في الأقوال والأفعال، وهذا أفضل العطايا، وأجل الهبات، ولهذا قال تعالى:{وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} ؛ لأنه خرج من ظلمة الجهالات إلى نور الهدى،
1 سورة لقمان، آية رقم (12) .
2 عبد الرحمن السعدي، تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (4/106) .
3 سورة البقرة، آية رقم (269) .
ومن حمق الانحراف إلى إصابة الصواب 1.
والحكمة بهذا تعتبر أس النجاح والتفوق والتقدم؛ لأنها التجسيد الحقيقي للمعرفة الصحيحة في واقع الأفعال والأقوال الإنسانية والجماعية والفردية.
والتربية الفاعلة تسعى إلى إكساب المتربين الحكمة من خلال التنشئة العلمية الصحيحة؛ لأن الأمور جميعها لا تصح إلا بالحكمة (التي هي: وضع الأشياء في مواضعها وتنزيل الأمور منازلها، والإقدام في محل الإقدام، والإحجام في موضع الإحجام)2.
فالحكمة شجرة تنبت في القلب، وتثمر في اللسان، وهي موقظة للقلوب من سِنَةِ الغفلة، ومنقذة للبصائر من الحيرة 3.
ولما أن مصنفات الأدب قد حوت في حوزتها وبين دفات كتبها الكثير من الحكم التي صيغت في قوالب بلاغية غاية في الإيجاز، وجمال اللفظ، فإنها جديرة بان يوليها الميدان التربوي الاهتمام اللائق بها من خلال المناهج الدراسية الصفية وغير الصفية.
وأما الموضوعية فتعتبر من أبرز مقومات الشخصية الفاعلة المتفاعلة ذات الأثر والتأثير في محيطها الاجتماعي؛ لأنها الشخصية المفعلة لنصوص الحكمة في جوانب الحياة المختلفة، حسب الحقائق لا حسب الأهواء والرغبات غير الموضوعية لأن (التعامل مع الحقائق جزء هام من الموضوعية، بل إنه يمثل الجزء الأهم؛ لأن إدراك الحقائق على ما هي عليه قد يكون ميسوراً في كثير من الأحيان لكن التعامل مع الحقائق بموضوعية لا يكون إلا معقداً، حيث إنه يحتاج إلى علم وخبره، ويحتاج إلى مرونة، وتجرد عن الهوى)4.
1 عبد الرحمن السعدي، تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (1/214) .
2 المرجع السابق (1/14) .
3 علي بن عبد الرحمن بن هذيل، عين الأدب والسياسة وزين الحسب والرياسة، ص (12) .
4 عبد الكريم بكار، فصول في التفكير الموضوعي، ص (92) .
والحكمة هي زبدة التجارب والمعارف، صيغت في قوالب أدبية رفيعة، إذا أخذ بها الفرد صنعت منه شخصية موضوعية فاعلة مؤثرة، نتيجة التطبيق الصحيح لما عرف من الحِكَمِ التي أثرى بها معارفه، فأكسبته خبرة لا عن مواقف وإنما عن عظات وعبر، سمع بها وقرأها وطبقها.
ولذلك فإن (العاقل ينظر فيما يؤذيه، وفيما يسره، فيعلم أن أحق ذلك بالطلب إن كان مما يحب، وأحقه بالاتقاء إن كان مما يكره أطوله وأدومه وأبقاه، فإذا هو قد أبصر فضل الآخرة على الدنيا، وفضل سرور المروءة على لذة الهوى، وفضل الرأي الجامع الذي تصلح به الأنفس والأعقاب على حاضر الرأي الذي يستمتع به قليلاً ثم يضمحل، وفضل الأكلات على الأكلة، والساعات على الساعة)1.
وكم من الأفراد يفوتهم شيءٌ كثيرٌ من هذا، فيفضل ساعات الراحة التي يعقبها أضعافها من التعب والمشقة. فيبدد شبابه وقوته في لذات زائلة، يشقى بها في شيخوخته، وكم من شخص ينظر لساعات الدنيا ولذتها وهي زائلة، ويقصر النظر عن لذات الآخرة وديمومتها وهي الباقية، فلا موضوعية مبنية على حكمة عند هذا النوع.
وكم من أفراد كانوا ضد ذلك، بما علموا وعملوا من حكمة وموضوعية التعامل، وقياس الأعمال والأقوال بنتائجها اليانعة وإن كانت آجله.
وعند العقلاء (كلمة حكمة من أخيك خير من مال يعطيك؛ لأن المال قد يطغيك والكلمة من الحكمة تهديك)2.
وهنا يتباين الناس في تقديم الحكمة والمال كتباين الليل والنهار، فمنهم من يفرح بالمال ولو كان على جهل، ويقدمه على العلم والحكمة، وأناس نظروا للعلم نظرة الاعتزاز؛ لأنه ذلول الحكمة وقدموه على المال، فجاءتهم الحكمة والمال، فظفروا بالاثنين معاً.
1 ابن المقفع، الأدب الصغير، والأدب الكبير، ص (15) .
2 علي عبد الرحمن بن هذيل، عين الأدب والسياسة، ص (13) .
وقال بعض السلف: القلوب تحتاج إلى قُوْتِهَا كما تحتاج الأبدان إلى قُوْتِهَا من الغذاء. وقال بعض الحكماء الحكمة خِلْةُ العقل، وميزان العدل، ولسان الإيمان، وعين البيان، وروضة الأرواح، وأمن الخائف، ومتجر الرابح وحظ الدنيا والآخرة، وسلامة العاجل والآجل 1.
فالحكمة عماد الأدب الموضوعي، والتطبيق الفعال، المثمر في نتائجه، وإن طال الطريق، وبعد المسير.
4-
تقوية البصيرة:
البصيرة: هي الفطنة، والبصير بالأشياء أي العالم بها 2.
والبصيرة هي أساس الوضوح وسلامة المنهج والطريق. قال تعالى في توجيه نبيه محمد صلى الله عليه وسلم في دعوة الخلق: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 3.
وخير وسيلة لتقوية البصيرة، وفطنة الفهم والتعقل كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم يأتي بعد ذلك الحكم والأمثال التي انقدحت عن ذوي الألباب من أهل العلم والأدب والتجارب، قال صلى الله عليه وسلم:"إن من البيان سحراً وإن من الشعر حكماً"4. وقال صلى الله عليه وسلم: "والحكمة الإصابة في غير النبوة" 5.
قال بعضهم: الحكمة نور الأبصار، وروضة الأفكار ومطية الحلم، وكفيل النجاح وضمين الخير والرشد، والداعية إلى الصواب، والسفير بين العقل والقلوب، لا تندرس آثارها، ولا تعفو ربوعها، ولا يهلك امرؤ بعد عمله بها 6.
1 المرجع السابق، ص (13) .
2 ابن منظور لسان العرب (4/65) .
3 سورة يوسف، آية رقم (108) .
4 أحمد (1/269) ، أبو داود (5/278ـ279) ، ابن ماجه (2/1235ـ1236) .
5 البخاري (3/33) ، برقم (3756) .
6 علي بن عبد الرحمن بن هذيل، عين الأدب والسياسة، ص (13) .
ومن الحكمة البيانية حسن الجواب وحضوره عند الحاجة إليه. قال مسلمة ابن عبد الملك: "ما شيء يؤتى العبد بعد الإيمان بالله تعالى أحبّ إليّ من جواب حاضر، فإن الجواب إذا انعقب لم يكن شيئاً"1.
ولتربية هذه الحاسة قراءة كتب الأدب التي اشتملت وجمعت مواقف في حسن الجواب وتمامه، وسرعة البديهة، وجمال اللفظ، وهي كثيرة وسيأتي ذكر شيء منها.
ومن الحكمة التعقل في اتخاذ القرار من حيث الوقت والمكان ونوع اللفظ والعبارة، ليستوجب صفة أولى الألباب (وليس كل ذي نصيب من اللب بمستوجب أن يسمى في ذوي الألباب، ولا يوصف بصفاتهم، فمن رام أن يجعل نفسه لذلك الاسم والوصف أهلاً فليأخذ له عتاده
…
فإنه قد رام أمراً جسيماً لا يصلُح على الغفلة، ولا يدرك بالمعجزة، ولا يصير على الأثرة) 2.
وإن مما يقدح البصيرة حفظ ما تيسر من الحكم التي حوتها كتب الأدب والتمثل بها عملاً وتطبيقاً.
ومن كتب الأدب النافعة هي هذا:
ـ الأدب الصغير والأدب الكبير، لعبد الله ابن المقفع
ـ عين الأدب والسياسة وزين الحسب والرياسة، لأبي الحسن علي بن عبد الرحمن بن هذيل.
ـ بهجة المجالس وأنس المجالس، للإمام ابن عبد البر القرطبي.
ـ أدب المجالسة وحمد اللسان، وفضل البيان، وذم العي وتعليم الإعراب للحافظ أبي عمر يوسف بن عبد الله المعروف بان عبد البر.
ـ الملاحن للإمام أبي بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي.
وغيرها من الكتب المماثلة لها.
1 الجاحظ، المحاسن والأضداد (21) .
2 ابن المقفع، الأدب الصغير والأدب الكبير، ص (14) .