الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التعصب المذموم والتشهي المشئوم، فإن ذلك لا يرضاه لنفسه العاقل إلا إذا طمس الله على بصيرته فلم يفرق بين الحق والباطل.
فصل في خلافة أبي بكر وملخص أوصافه
قد اتفق نقلة الأخبار على أن أبا بكر الصديق كان في الجاهلية من رجال قريش المعدودين أهل الحل والعقد فيهم، وأنه كان أول المسلمين من الرجال، وأنه من ذلك التأريخ كان هو الوزير الأعظم والصديق الأكبر الأكرم للنبي صلى الله عليه وسلم. وإنما سماه النبي صلى الله عليه وسلم بالصديق لمبادرته لتصديقه في أول إسلامه في كل ما أخبر به عليه الصلاة والسلام من الغيوب ولا سيما في صباح ليلة المعراج حينما كذبته كفار قريش. ولم يزل مرافقا له وموافقا في جمع حالاته مع العسر واليسر والشدة والرخاء والسفر والحضر والحرب والسلم وجميع الأحوال إلى حين وفاته صلى الله عليه وسلم.
أما الأحاديث التي وردت وصحت عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضله فهي كثيرة مدونة في الكتب ومشهورة على الألسنة، وكثير منها يجري على ألسنة الناس مجرى الأمثال. وكذلك ما ورد في حق عمر وعثمان وعلي وطلحة
والزبير رضي الله عنهم. وكذلك وردت أحاديث كثيرة في فضل السيدة فاطمة الزهراء والحسن والحسين وسائر أهل البيت الكرام وفضل السيدة عائشة وباقي أمهات المؤمنين وكثير من أفراد الصحابة ومجموعهم رضي الله عنهم أجمعين. ولا أريد أن أكثر الكلام هنا بنقلها لأنها معلومة، وكتبها في أيدي الناس مشهورة، وقد جمع منها الإمام ابن حجر في كتاب الصواعق جملة وافرة، وربما أذكر قليلا منها للمناسبة، ومن أرادها فليراجعها في محلها.
ومن المعلوم عند الخصوص والعموم أن أبا بكر رضي الله عنه لم يزل منذ أسلم إلى وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم هو عنده الوزير الأول والصديق الأكبر الذي عليه في مهماته المعول لا يشبهه ولا يدانيه في ذلك أحد، لا من الصحابة ولا من أهل البيت رضي الله عنهم أجمعين، حتى إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسمح له في غزوة بدر بالمبارزة في القتال، وقال له:"أمتعنا بنفسك" وسمح بذلك لسادات أهل بيته وقتئذ وهم علي وحمزة وعبيدة بن الحارث رضي الله عنهم، واعتمد عليه صلى الله عليه وسلم في حراسة العريش الذي أقام فيه عليه الصلاة
والسلام يدعو الله تعالى وقت الحرب ويستنجزه ما وعده من النصر، ولم يعتمد في ذلك على أحد سواه في هذا الأمر المهم الذي لا أهم منه وقتئذ. كما أنه صلى الله عليه وسلم لم يثق بأحد يكون رفيقه في هجرته من مكة إلى المدينة سوى أبي بكر رضي الله عنه، وقد استأذنه مرارا ليهاجر مع من هاجر قبل ذلك من الصحابة فلم يأذن له عليه الصلاة والسلام بذلك وأخره حتى هاجر معه صلى الله عليه وسلم. وكان مستشاره الأعظم في جميع مهماته صلى الله عليه وسلم الدينية والدنيوية، ولم يزل كذلك عنده في المحل الأعلى والمترل الأرفع الذي لا يشاركه فيه مشارك ولا يشبهه فيه مشابه، لا من الصحابة ولا من أهل البيت، إلى أن توفي صلى الله عليه وسلم وهو راض عنه تمام الرضا. ولما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم اضطربت الصحابة من أهل البيت وغيرهم غاية الاضطراب، حتى جاء هو وقرأ قوله تعالى:{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} (1) فحينئذ سكن اضطرابهم وعرفوا أن رسول الله - صلى الله عليه
(1) آل عمران: 144
وسلم - قد توفاه الله ونقله من دار الفناء إلى دار البقاء. فكان أبو بكر أعلمهم وأعقلهم وأحزمهم وأفضلهم. ولما كان فضله العظيم وتفوقه عند رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجميع بالتقريب والتعظيم مشهودا لهم معلوما عندهم - وآخر اختصاص خصه به رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره إياه في مرضه أن يصلي بالناس نيابة عنه - اتفقوا بأجمعهم على أن يجعلوه خليفة له عليه الصلاة والسلام، ولأن تخصيص النبي صلى الله عليه وسلم له بذلك كالصريح في استخلافه، ولذلك بايعه رضي الله عنه على الخلافة جمهورهم إلا نزرا قليلا من بعض المهاجرين والأنصار، لا لجحدهم فضله واستحقاقه ولكن لأسباب قامت في أنفسهم منعتهم من التعجيل في المبايعة، أهمها عدم مشاورتهم كما صرح بذلك علي والزبير رضي الله عنهما، ثم بايعوه بعد ذلك. وقد تمت له والحمد لله الخلافة باتفاق الصحابة من المهاجرين والأنصار وغيرهم.
فاستلم زمامها وتسنم سنامها وقام بحقوقها أحق القيام، حتى كان هو المجدد الأعظم لدين الإسلام بعد رسول الله عليه الصلاة والسلام، وقد اتفقت على مبايعته والسرور بخلافته والاغتباط بها الأمة المحمدية وقتئذ بأسرها من أهل المدينة المنورة ومكة المشرفة ومن تبعهم من جميع العرب. ولو فرضنا أن المبايعة بالخلافة كانت لغيره لكان المخالفون أكثر بكثير، لأن اعتبار أبي بكر رضي الله عنه عند الأمة
جميعها في حياته صلى الله عليه وسلم كان في الدرجة الأولى بلا خلاف عندهم في ذلك، فالذين ينافسونه على هذا المقام هم بلا شك أقل بكثير ممن ينافسون غيره. وقد ظهر ذلك فيما بعد حينما تركوا وشأنهم بعد قتل عثمان رضي الله عنه في خلافة علي رضي الله عنه. ولم يظهر في خلافة عمر لأن أبا بكر استخلفه قبل موته فلم يبق لهم الحق في نصب خليفة من عند أنفسهم حتى تختلف آراء بعضهم. وكذلك عمر حصرها في ستة، ومع ذلك لم يتفقوا على واحد منهم حتى حكموا فيها واحدا منهم وهو عبد الرحمن بن عوف يرضون بمن يعينه منهم بشرط أن لا يعين نفسه، فعين عثمان حين رآه الأصلح للأمر. ثم بعد قتل عثمان صارت الناس فوضى، فبايع أهل المدينة وأهل الحل والعقد وأصحاب السابقة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا رضي الله عنه لأن الأحقية انحصرت فيه، فإنه مع وجوده بعد عثمان لا يستحق الخلافة معه أحد. ومع ذلك قد خالف بيعته قوم كثير من العرب الصحابة وغيرهم. فمن هنا يظهر لك ظهورا جليا أن اعتبار أبي بكر في نفوس الأمة المحمدية
كان أكثر بكثير ممن بعده، ولذلك اتفقت الأمة عليه مع عدم تنصيص النبي صلى الله عليه وسلم على خلافته صريحا، ومع كونه ليس من أقربائه الأقربين ولا من المعروفين بكثرة العشيرة وكثرة المال والأحزاب، وإنما كان رأس ماله الأعظم قوة دينه وعلو مترلته عند النبي صلى الله عليه وسلم، فإذن لم يبعث الأمة على الانقياد إليه إلا علمهم بأحقيته وأفضليته وكونه لا يستحق الخلافة مع وجوده أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد كان عليه الصلاة والسلام قدمه للصلاة بهم في مرضه فقالوا:"نختار لدنيانا من اختاره رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا" ونعم هذا الاختيار. وقد صح عن إمامنا الشافعي كما في طبقات السبكي أنه مع كونه كان من أجل المحبين لآل البيت ومن بني عمهم وأمه علوية وأبوه من بني المطلب أخي هاشم قال له رجل: كيف تقدم أبا بكر وأنت من بني المطلب؟ فقال له: ليس الأمر كما تظن، ولكنهم حينما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم نظروا فلم يجدوا تحت أديم السماء أفضل من أبي بكر فولوه عليهم، ولو كان الأمر بالقرابة لكنت أقدم عليا لأنه ابن عمي
وجدي لأمي.
فإن قلت: بين لي أسباب مخالفة أولئك النفر وعدم مبادرتهم لمبايعة أبي بكر فإن النفس يبقى فيها شيء من هذه المخالفة؟ أقول في الجواب: لم يخالف من الأنصار إلا سعد بن عبادة سيدهم رضي الله عنه وعنهم، ومن المهاجرين سوى بعض أهل البيت رضي الله عنهم. وقد قدمت لك أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كأهل بيته ليس أحد منهم معصوما من الخطإ، فإنهم ليسوا أنبياء ولا ملائكة فيجوز عليهم الذهول ولا يستحيل عليهم الخطأ. أما سبب مخالفة سعد بن عبادة رضي الله عنه فإنه كان سيد الأنصار وهم جمهور الناس في المدينة وأهل البلد. وقد كان قبل قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم وهم في جاهليتهم رأوا ما لهم من القوة والثروة والعصبية فأرادوا أن يجعلوا عليهم ملكا عبد الله بن سلول وهو من الخزرج قوم سعد بن عبادة وهم معظم الأنصار، فانتقض ذلك بالإسلام وقدوم النبي عليه الصلاة والسلام، فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم اجتمع الأنصار ليبايعوا منهم سيدهم سعد بن عبادة ويجعلوه عليهم ملكا، ليس لاعتقادهم أنه أفضل من
أبي بكر ولكن لكونهم كانوا قد رتبوا هذا الأمر في الجاهلية لرجل منهم فحال بينهم وبينه وجود النبي صلى الله عليه وسلم، فلما توفي عليه الصلاة والسلام ظهر له أنه لا مانع من ذلك، فأرادوا مبايعة سعد المذكور لاعتقادهم أنه أهل لأن يكون ملكا عليهم وأنهم هم أهل لأن يكون منهم ملك بالنظر إلى كثرتهم وعصبيتهم وشجاعتهم وغناهم وكونهم هم أهل البلد، ولم ترض نفوسهم الأبية أن ينقادوا إلى غيرهم مع استيفاء الشروط فيهم، وإنما كانوا منقادين لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالدين ولم يقصدوا أن يكون واحد منهم خليفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم على الأمة المحمدية بأسرها، ولذلك قالوا للمهاجرين: منا أمير ومنكم أمير. فلما ذهب إليهم أبو بكر وعمر إلى محل اجتماعهم، سقيفة بني ساعدة، خوفا من وقوع الفتنة بين المهاجرين والأنصار، تكلم أبو بكر ووعظهم وذكرهم بما كانوا عنه غافلين، وتكلم عمر وذكرهم بفضائل أبي بكر وما كان له من علو المترلة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم. فتجلى لهم الحق والصواب وأعرضوا عما كانوا قصدوه
وبايعوا أبا بكر مع جملة الأصحاب وانقادوا إليه بزمام الدين، مع كونهم كانوا هم أهل البلد والقوة وكانوا يرون مترلة علي وغيره من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم، فلو علموا أن أحدا منهم أحب إلى الله ورسوله وأحق في هذا الأمر من أبي بكر لما فسخوا عزيمتهم التي كانوا صمموا عليها وتركوا تمليك واحد منهم الذي يترتب عليه فخرهم وشرف دنياهم وبايعوا أبا بكر، بل كانوا يبايعون ذلك الرجل الذي يرون فيه الأحقية والأولوية، لا سيما إذا كانوا من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم. فبهذا ظهر سبب ما وقع من الأنصار من الخلاف وما رجعوا إليه من الإنصاف.
أما سيدتنا فاطمة الزهراء رضي الله عنها فإنها حصل لها من الكرب بوفاة النبي صلى الله عليه وسلم ما شغلها عن كل شيء ولازمها الكمد حتى توفيت بعد ستة أشهر من وفاته صلى الله عليه وسلم، ولعلها كانت لعظم ما نزل بها وشدة محبتها لأبيها عليه الصلاة والسلام وجلالة قدرة إلى درجة لم يشاركه فيها أحد من الأنام لم تسمح نفسها بأن ترى أحدا من الناس يقوم بعده ذلك المقام فلذلك
تأخرت عن مبايعة أبي بكر. وقوى ذلك أنها طلبت منه رضي الله عنها وعنه أن يورثها أرضا تركها النبي صلى الله عليه وسلم فامتنع، لأنه سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله:«نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة» فبقي في نفسها من ذلك شيء، ولو جاز أن أبا بكر يحابي أحدا بما لا يعتقد جوازه لحاباها بذلك محبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم واستجلابا لرضاها ورضا زوجها وقومها رضي الله عنهم، فكانت الديانة والسياسة - وهو منهما في المحل الأعلى - يلزمانه بإعطائه إياها تلك الأرض لو لم يسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما سمعه، ومع ذلك فكان يزورها ويخضع لها ويلاطفها غاية الملاطفة لاستجلاب رضاها حتى رضيت عنه.
وأما زوجها علي رضي الله عنه فقد حصل له كذلك من شدة الحزن والكرب لوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لا تحمله الجبال الراسيات بحيث ضاقت عليه الدنيا ولازم بيته مدة من الزمان. ثم بايع أبا بكر واعتذر عن تأخره عن البيعة بما هو لا شك صادق فيه من ملازمة الأحزان مع اعتقاده أحقية أبي بكر لهذا الشأن ولعدم
مشاورته قبل البيعة في سقيفة بني ساعدة. ولو فرضنا أن تأخره عن البيعة لاعتقاده في نفسه أنه مقدم على أبي بكر في استحقاق الخلافة؛ نقول في الجواب: نحن نعلم أن جمهور الصحابة -ولا سيما المقربون منهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كالذين بشرهم بالجنة وخلافهم من أهل بدر وبيعة الرضوان- هم أعلم ممن جاء بعدهم بيقين بمن كان عالي المترلة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته إلى درجة تخوله حق الخلافة بعد وفاته، وكلهم قد أجمعوا على خلافة أبي بكر. فنضع خطأهم في ذلك بفرض وقوعه في جانب مع خطأ أبي بكر نفسه بقبولها لو فرضناه وخطأ جميع أهل عصرهم من المسلمين الذين أقروهم على ذلك، ونضع في الجانب الآخر خطأ علي في ذلك بفرض تصوره أنه أحق بالخلافة من أبي بكر ونضع أيضا صوابهم في ذلك في جانب وصواب علي على فرض تصوره في جانب، فمن يا ترى أقرب إلى رضا الله تعالى ورسوله؟ أن يكون أبو بكر وجميع الصحابة وغيرهم من المسلمين مخطئين في عملهم ويكون علي وحده مصيبا في تصوره، أو خطأ علي في هذا التصوير وإصابة الأمة
بأسرها وقتئذ أقرب إلى رضا الله ورسوله؟ لا أظن أن هذا السؤال يتوجه إلى أحد في قلبه نور إيمان ثم لا يرى أن الصواب مع أبي بكر والأصحاب، لا سيما وقد فرضنا أن عليا رضي الله عنه تصور الخلافة لنفسه، فهذا أقرب للخطأ ممن يتصورها لغيره كباقي الصحابة الذين تصوروها لأبي بكر فإن نفوسهم ليس لها حظ من خلافته إلا اتباع الحق وكونه أولى وأحق. ولو كان أبو بكر بمترلة علي في تصوره لنفسه والصحابة كلهم أو جلهم مع علي لكنا أيضا نكون مع الجمهور، إذ لا قرابة بيننا وبين أبي بكر تحملنا على محاباته، بل لو تساوى أبو بكر وعلي من كل الوجوه لكان المرجح عليه بقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولكن قد تحققتا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه كان عنده أبو بكر مقدما على علي وعلى سائر الأصحاب، فكيف نقدم نحن عليه عليا أو غيره؟ وإنما نحن مع الله ورسوله، لا مع أنفسنا، وهو إنا نحن نعلم حق العلم أن عليا رضي الله عنه كان من أقرب الأقرباء المحبوبين لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن أجل الأصفياء المقربين عنده، ومن أنفع
أصحابه له ولدينه وأعظمهم إقداما في نصرته وأكثرهم إلقاء لنفسه في مظان التلف في معارك الحروب، وهو الذي خلفه في فراشه ففداه بنفسه يوم الهجرة، وفوق ذلك أنه زوج ابنته سيدة نساء العالمين وأبو ذريته الطيبين الطاهرين إلى يوم الدين، مع وفرة العلم والفضل والشجاعة والكمال من كل الوجوه؛ ولكنا نعلم مع ذلك بأبي بكر من الفضائل الجمة والمناقب المهمة ما هو أكثر من ذلك وأن المترلة التي كانت له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يصل إليها علي ولا غيره.
وكل الصحابة كانوا يعلمون هذه الفضائل الجليلة لعلي رضي الله عنه ومع ذلك أقدموا على مبايعة أبي بكر على الخلافة مع وجوده، فلا شك أنهم وجدوا أبا بكر أحق بها وأولى. ولو بايعوا عليا لكان جديرا بها، ولكنهم علموا أنهم لو فعلوا ذلك لقدموه على من هو أحق منه فلم يفعلوا.
والله إني أتيقن أن عليا نفسه لم يتخطر أنه مقدم على أبي بكر، وكيف يكون ذلك وهو رضي الله عنه من أتقى الناس وأصدقهم وأكثرهم إنصافا. وقد كان مشاهدا لأحوال أبي بكر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من البداية إلى
النهاية، وقد كان هو صغير السن في ابتداء البعثة ثم كان بعد ذلك من الشبان الأقوياء الشجعان حتى فدى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه وألقى نفسه في الأخطار في محبة الله تعالى ورسوله. ولم نسمع أنه كان من أهل مشورة رسول الله صلى الله عليه وسلم في مهماته مثل أبي بكر لا سيما في وقت الشدة في أول البعثة. وأبو بكر ملازم للنبي صلى الله عليه وسلم في ليله ونهاره وحضره وأسفاره، يوالي من والاه ويعادي من عاداه، ولو وصله من ذلك أعظم ضرر يأتي على نفسه وماله وعياله، حتى شاهد المشركين يوما يؤذون النبي صلى الله عليه وسلم ففداه بنفسه وصار يضربهم ويضربونه، واشتد عليه الأمر حتى أغمي عليه وكاد يموت من كثرة الضرب والجراحات. وكان يطوف معه صلى الله عليه وسلم على قبائل العرب في المواسم يبلغ رسالة ربه ويدعوهم إلى نصرته، كل ذلك وعلي رضي الله عنه صغير السن وقتئذ. أترى أن الله تعالى ينسى ذلك لأبي بكر، أو ترى أن محمدا صلى الله عليه وسلم يعدل به بعد هذا أحدا من الناس، أو ترى أن أمته صلى الله عليه وسلم يخلفونه بما لا يرضيه في شأن هذا
الصاحب الذي كان له عليه كمال الاعتماد وقد فداه بالنفس والمال والأولاد، مع علمهم أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يعدل به أحدا من خلق الله تعالى مدة حياته حتى توفاه الله تعالى وهو راض عنه كمال الرضى. ومن لم يعلم ذلك فهو من أجهل الجاهلين بأحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أصحابه.
ثم ماذا كان من خلافة أبي بكر، هل كان منها ضرر على الدين والمسلمين؟ كلا والله، بل كانت كنبوة ثانية، أعز الله بها الإسلام والمسلمين وأيد وشيد قواعد هذا الدين المبين. فقد ارتدت أكثر قبائل العرب بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، فجمعهم رضي الله عنه طوعا وكرها على الإسلام. وفتح بلاد العراق والشام، وجيش جيوش المسلمين للجهاد في سبيل الله الملك العلام، وسيرهم إلى أعداء الدين أقواما بعد أقوام، حتى أظهر الله به دينه غاية الظهور وانتظمت على أحسن حال الأمور. وكان ذلك بعد أن جمع الصحابة، منهم عمر وعثمان وعلي وغيرهم من أكابر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار، واستشارهم في شأن أهل الردة فأشاروا جميعا عليه بتركهم وشأنهم
لأنهم معظم العرب وقتئذ ولا قدرة للمسلمين على محاربتهم لقلتهم بالنسبة إليهم، فكرر عليهم المشورة فكرروا هذا الرأي، وقالوا نعبد الله تعالى حتى نموت، فقال لهم: والله لأن أخر من السماء فتخطفني الطير أحب إلي من أن يكون هذا رأيي، والله لو منعوني عقالا لقاتلتهم عليه ولو انفردت بسالفتي. ووبخ عمر على هذا الرأي بقوله له: أجبار في الجاهلية خوار في الإسلام؟ مع أن عمر كان هو المعروف بالشدة في الدين وأبو بكر كان معروفا بالرفق واللين، فانعكس الموضوع في هذا الأمر المهم الذي لم يرد على الإسلام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر مثله. ثم قام أبو بكر من ذلك المجلس معلنا الحرب على أهل الردة قائلا: ها أنا متوجه بنفسي للجهاد في هؤلاء المرتدين، فمن تبعني فليتبعني. فانقادوا إليه وقالوا له كلهم: نحن معك يا خليفة رسول الله، وقال عمر: فما كان إلا أن شرح الله صدورنا لاتباع أبي بكر وكان فيه الخير والبركة. وقال بعضهم: لولا أبو بكر لما عبد الله تعالى بعد محمد صلى الله عليه وسلم. فجيش جيشا وأرسله مع خالد بن الوليد، فلم يزل يحاربهم قبيلة بعد قبيلة