الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عائشة إلى المدينة المنورة بغاية الإكرام والإعزاز. ولا يخفى أن هؤلاء هم أولى الناس رضي الله عنه وعنهم، ولكن الله إذا قضى شيئا لم ينفع العقل والنظر، وإذا وقع القضاء عمي البصر. ثم بعد أن كاد الفتح يتم له رضي الله عنه في وقعة صفين حصلت مكيدة رفع المصاحف على الرماح وطلب المحكمة إلى كتاب الله، فبطل الحرب ورجع كل إلى مأواه. ثم إن عسكر علي انشقوا فأنكروا التحكيم وخرجوا عليه فاشتغل بحربهم بمن أطاعه من عسكره، ومعاوية يجمع الجموع ويجيش الجيوش في الشام وقد اتفقوا على طاعته في الطلب بدم عثمان، وبقي الأمر كذلك لم يهنأ لعلي أمير المؤمنين عيش ولم ينتظم له أمر حتى قضى الله بقتله شهيدا سعيدا على يد أشقى الآخرين أحد الخوارج المارقين عبد الرحمن بن ملجم. ولهذه الأحوال العجيبة والمصادفات الغريبة حكمة باطنية وسبب ظاهر بحسب ما ظهر لفكري القاصر.
حكمة عدم انتظام الأمور في مدة خلافة أمير المؤمنين علي رضي الله عنه
أما الحكمة الباطنية في
عدم انتظام الأمور في خلافة أمير المؤمنين علي رضي الله عنه وكرم وجهه، فهي والله أعلم ما علمه الله تعالى من أنه سيفرط في حبه قوم حتى يعتقدوا فيه الألوهية، كما وقع ذلك من طوائف هم موجودون إلى الآن كطائفة النصيرية فإنهم يعتقدون ألوهيته. وقد ابتدأ هذا الأمر في مدة خلافته رضي الله عنه، فلما علم بذلك استحضر الذين بلغه ذلك عنهم واستتابهم فمن لم يتب منهم أحرقه بالنار، فقالوا: الآن زدنا اعتقادا بألوهيتك إذ لا يحرق بالنار إلا رب النار. وقوم أفرطوا في محبته بأنواع شتى ونسبوا له من أوصاف الكمال ما هو مختص بالنبيين أو برب العالمين سبحانه وتعالى، حتى قال بعض شعراء متأخريهم وهو ابن معتوق:
سيد الأوصياء مولى البرايا
…
عروة الدين صفوة الخلاق
مهبط الوحي معدن العلم والأف
…
ضال لا بل مقدر الأرزاق
عالم الغيب والشهادة لا يع
…
زب عنه حساب ذر دقاق
مع أن هذه الأبيات يمكن تأويلها، ولكن ظاهرها يوهم دعوى الألوهية فيه رضي الله عنه.
فلما علم الله أنه سيكون في حقه رضي
الله عنه تلك الدعاوى الكاذبة أظهر عجزه في المحل الذي لا يمكن فيه أن يدخر شيئا من قوته لو كانت عنده في ذاته قوة ألوهية كما زعموا، بل كان يهلك أولئك العبيد الذين عارضوه في أموره وشوشوا عليه خلافته. فأظهر عجزه الحق سبحانه وتعالى عن ضبط ما انتشر من رعاياه وسد ما انفتق عليه من أموره، وكثر المخالفون حتى حاربوه وحاربهم فانتصر على قوم منهم وكاد ينتصر على الآخرين، فلم يتم له الأمر. وتسهلت الأسباب بقدر الله تعالى وقضائه إلى معاوية حتى اجتمع عليه جموع كثيرة من قريش وغيرها من قبائل العرب ودهاتها؛ ولم يزل أمره في انتظام وإقبال وأمر علي رضي الله عنه في تفرق وإدبار إلى أن قتل شهيدا. وكان إذا رأى ما هو فيه من مخالفة عسكره له وطاعة عسكر معاوية له يعض على أصابعه ويقول: أعصى ويطاع معاوية. وهذا الأمر لو حدث به قبل وقوعه لما كاد أحد يصدقه لأن الفرق بينهما عظيم جدا. ولو تركت الخلافة للأحقية بحيث لا يتولاها إلا أهلها لتقدم على معاوية في ذلك العصر ألوف كثيرة من أهل بدر وأحد وبيعة الرضوان
الذين لا يخطر في بال أحد أن معاوية يتقدم على واحد منهم، وعلي كان سيدهم والمقدم عليهم أجمعين باتفاقهم واتفاق الأمة أجمع. ومع كون الأمر كذلك تهيأت الأسباب لمعاوية حتى صار ملكا منصورا. وقُتل الخليفة الحق مقهورا. ومع كل هذا العجز الظاهر الباهر الذي قدره الله تعالى على علي رضي الله عنه ما زال ناس كثيرون يدعون فيه الألوهية إلى زماننا هذا، كطائفة النصيرية في بلاد الشام وغيرها من طوائف بلاد الأعجام. فكيف لو حصل له رضي الله عنه من القوة واجتماع الكلمة وضبط الأمور وفتح الفتوحات ما حصل لأبي بكر وعمر وعثمان، فكان يخشى حينئذ أن يضل باعتقاد ألوهيته كثير من الناس غير من ضلوا. فقد اجتمع فيه من العلوم الزاخرة والأنوار الظاهرة والأسرار السافرة والفصاحة الباهرة ما يدهش العقول ويخيل لبعض الناس أن ذلك لا يمكن اجتماعه في بشر؛ ولذلك ضل فيه بعض الطغام من ضعفاء الأحلام. فهذه والله أعلم هي الحكمة في إظهار عجز هذا الإمام الكبير وقوة معاوية الذي هو