الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يوحده"، فهذه كانت معاملته صلى الله عليه وسلم مع أعدائه الكافرين، فكيف تكون معاملته مع أحبابه المؤمنين الذين هم بمترلة أولاده إذا أخطئوا بمحاربة علي، لا شك أن هؤلاء هم أولى بالعفو بكثير. ولا يخطر ببال عاقل منصف خلاف ذلك. والله أعلم.
فصل (في أن معاوية وسائر الصحابة الخارجين على علي كانوا مجتهدين)
اعلم أن معاوية في مذهبنا معاشر أهل السنة كسائر الصحابة الذين خرجوا على علي رضي الله عنه وعنهم كانوا مجتهدين فيما فعلوه من ذلك، ولكن عليا كان هو المصيب وكان الخارجون عليه مخطئين. والمجتهد مأجور لا مأزور، المصيب له عشر حسنات والمخطئ له حسنة واحدة بنيته، ونياتهم كانت صحيحة لقصدهم القصاص من قتلة عثمان، وقد ظهر لهم أن في ذلك موافقة الشرع الشريف والمصلحة للأمة لئلا يتجرأ الفجار على الأئمة الأخيار، وهكذا كانت نياتهم وهو ما أداهم إليه اجتهادهم المخطئ، ولذلك لم يخل خروجهم عليه في عدالتهم وتقواهم، فلم يتطرق بذلك خلل في أخذ الدين عنهم، رضي الله عنهم. ولنفرض أن بعضهم كمعاوية كما يقول الشيعة وبعض الجهلة الفساق من غيرهم
بناء على ما قرءوه في التواريخ الكاذبة إنما حارب عليا لأغراضه النفسية وشهواته الدنيوية. فنحن نسلم لهم ذلك جدلا ونقول: هو بشر وليس بمعصوم، ولكن هذا المقدار لا يكفره، وإنما يجعله عاصيا {والله غفور رحيم} وله حسنات كثيرة عظيمة في خدمة الدين وصحبة سيد المرسلين وجهاده معه صلى الله عليه وسلم، وفي مدة خلفائه الراشدين ومرابطته ومجاهدته في بلاد الشام أيام أبي بكر وعمر وعثمان، ثم بعد أن تم الأمر له اشتغل بالغزو والجهاد وفتح كثيرا من البلاد حتى وصلت جيوشه القسطنطينية. أترى أن الله تعالى مع كرمه وعدله ينسى له كل هذه الحسنات لأجل خطئه في محاربة علي. وقد قال تعالى:{إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} (1) وقال صلى الله عليه وسلم «أتبع السيئة الحسنة تمحها» فيلزم كل مسلم أن ينصف ويعتقد أن معاوية أساء غاية الإساءة بمحاربة علي وأنه أحسن كل الإحسان بالإيمان بالله ورسوله وصحبته والجهاد معه ومع خلفائه الراشدين وحينما أفضى إليه الأمر بحق أو بباطل، فإنه ولو كان مبطلا في
(1) هود: 114
الطريق التي توصل بها إلى عمل الحسنات بعد رسوله إلى مقصوده لا يجعل باطله ذلك تلك الحسنات سيئات، فإن السيئة في نفسها سيئة، والحسنة في نفسها حسنة، وكرم الله تعالى يقتضي العفو عن السيئات والمكافأة على الحسنات. ثم إن هذا الرجل -أعني معاوية- قد آذى عليا أعظم الأذى فلعلي عليه أكبر الحق، وعدل الله تعالى يقتضي الاقتصاص له ممن آذاه يوم القيامة، وقد صح في الحديث أنه يؤخذ يوم القيامة من حسنات المسيء وتعطى للمساء إليه، فإذا فرغت الحسنات أو لم تكن يؤخذ من سيئات المساء إليه وتلقى على المسيء ويلقى في النار، أما السيئات فلا نعتقد أن لعلي سيئة غير مغفورة، فإنه من أكابر أهل بدر الذين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأنهم:«وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر، فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» وأما الحسنات فعلي لا يحتاج في ذلك اليوم إلى حسنات معاوية حتى يأخذ منها شيئا، ولو كشف الحجاب واطلعنا على الحقيقة لرأينا -والله أعلم- أن معاوية مع جلالة قدره هو بالنسبة إلى علي بمترلة شرطي فقير حقير وعلي بمترلة ملك غني عظيم، أترى الملك الغني
العظيم يرضى أن يقتص له من الشرطي الفقير ويأخذ شيئا من ماله في مقابلة إساءته إليه؟ حاشا وكلا، لا يتصور ذلك عاقل.
هذا مع أنك إذا نسبت معاوية إلى من بعده ممن لم يحز فضل صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم لوجدته بمترلة الملك العظيم، وذلك الرجل الذي يحوز فضل الصحبة مهما كان كبيرا بالنسبة إليه بمترلة الشرطي الفقير. ومعاوية مع فضل الصحبة له حسنات كثيرة لا تعد ولا تحد من أجلها جهاده في سبيل الله إما بنفسه وإما بجيوشه حتى فتحت بلاد كثرة وصارت دار إسلام بعد أن كانت دار كفر. وبسببه دخل إلى الإسلام ألوف ألوف كثيرة ممن أسلموا على يده ويد جيوشه ومن ذراريهم إلى يوم القيامة، فله مثل حسناتهم أجمعين. وقال صلى الله عليه وسلم:«من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة» .
وها أنا أذكر لك شيئا تتحقق معه أن عليا يعفو عن معاوية يوم القيامة بلا شك، إذ لا يبقى في نفوس المؤمنين فضلا عن أكبر أكابرهم وأعظم أئمتهم مثل علي حقد إذ ذاك. قال تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ
مُتَقَابِلِينَ} (1) وقد صح عنه رضي الله عنه أنه قال: والله إني لأرجو أن أكون أنا والزبير وطلحة ممن قال الله فيهم {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ} وقد ذكر سيدي عبد الوهاب الشعراني في المنن الكبرى عن نفسه أنه يشفع يوم القيامة في أعدائه قبل أحبابه إظهارا للفتوة. ونقل مثل ذلك عن سيدي محيي الدين بن العربي. أترى أن عندهما من الفتوة أكثر مما عند أبي الحسن رضي الله عنه وكرم الله وجهه؟ حاشا ثم حاشا، وما المناسبة بينهما وبينه. ولا ريب أن عفوه عن معاوية وحزبه من المؤمنين يسر رسول الله صلى الله عليه وسلم لكونهم بمترلة أولاده في الشفقة، فلو لم يكن إلا هذا السبب لكفى في حمل علي على العفو عنهم بل والشفاعة لهم.
ولكن أنت أيها الرجل تطالع التأريخ، فترى تلك الأعمال الفظيعة المنسوبة إلى معاوية وحزبه في شأن علي، فيحملك الغيظ على كراهتهم، وتتصور أنك لو عمل معك أحد مثل ذلك العمل لا تعفو عنه أبدا، وتقيس عليا على نفسك فتظن أنه هو أيضا لا يعفو أبدا. فقد أخطأت بذلك خطأ عظيما. أين أنت من
(1) الحجر: 47