الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول: أثر المحافظة على الرابطة الإيمانية في الحصانة الفكرية
إن لكل مجتمع إنساني خصائص تميزه عن غيره، وروابط تشد بين أفراده، ومقومات تحكم تعاملهم مع بعضهم ومع غيرهم في المجتمعات الأخرى.
ويتوقف على حظ المقومات والروابط من الصلاح والتناسق، قوة المجتمع وصلاحه من عدمها.
وقد وردت تعاريف كثيرة لمصطلح المجتمع الإنساني، وكل من هذه التعاريف يتناول جانباً من جوانب المجتمع وخواصه الرئيسية كالعلاقات الاجتماعية، أو النظم والضوابط السلوكية، أو التجمع والتفاعل الإنساني، أو البقعة الجغرافية التي يعيش عليها الأفراد والجماعات، أو اللغة والتاريخ أو العادات والتقاليد والأهداف المشتركة التي يؤمن بها أبناؤه وهكذا1.
ورابطة الدم والعقيدة هي أقوى الروابط التي يجتمع عليها أفراد المجتمعات الإنسانية، أما الوطن فهو البقعة الجغرافية التي تقيم عليها تلك الجماعة ويشكل الحنين والولاء له رابطة تشد أبناء الوطن بعضهم إلى
1 انظر: دراسات في المجتمع العربي، تأليف نخبة من أساتذة الجامعات، الفصل الأول بعنوان: المجتمع الإنساني طبيعته ومقوماته، د. حسان محمد الحسن ص17.
بعض، كما أن المصالح المشتركة تكون في كثير من الأحيان رابطة يجتمع عليها الناس.
ويعتبر المجتمع متماسكاً قوياً إذا كانت الرابطة بين أفراده قوية والتزامهم بها شعوراً وولاء قوياً.
لكن تماسك المجتمع وقوته لا تعني أنه يسير على الحق والهدى والصراط المستقيم، ذلك أن القوة غير الهداية وإنما تمام الأمر أن تقترن القوة بالهداية، فتكون القوة مجندة لنشر الحق والدفاع عنه، والحق موجهاً للقوة.
وعلى هذا فالمجتمع السليم المهتدي هو الذي يسير على الهدى الذي جاء به الوحي المطهر النازل على أنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه عليهم.
ذلك المجتمع هو: الذي ربط بين أعضائه رباط الإيمان وشدهم التوحيد والشعور بالانتماء إليه، وبمسئولية نشره والدفاع عنه، وقَوِيَ ولاؤهم جميعاً له، واتّحدت أهدافهم التي يؤمّلونها في الدنيا والآخرة، وحُكِموا جميعاً بنظامه وشرعه، وتعاملوا بأخلاقه والحقوق التي أوجبها لكل منهم.
ولذلك فإن الرابطة الإيمانية هي أهم الأسس التي يقوم عليها المجتمع المسلم، وبالتالي فهي أهم وأقوى الحصون التي تحصن المجتمع من كيد أعدائه وأفكارهم المسمومة، وتخطيطاتهم الخبيثة.
وبهذا يكون الإسلام قد أبطل جميع الاعتبارات -غير رابطة الأخوة الإيمانية- أن تتخذ رابطة ولاء كرابطة ولاء وأخوة وتناصر، وأبقاها روابط تعارف وتراحم، تعتبر في الأنساب وبعض الأحكام الشرعية كالدية التي تكون على العاقلة، وولايات التزويج، والميراث ونحو ذلك.
قال الدكتور مصطفى عبد الواحد: "الأساس الأول الذي يشيد عليه الإسلام بناءه الاجتماعي هو الأخوة بين أفراده جميعاً
…
فمن الطبيعي وهو مجتمع يقوم على عقيدة تجمع بين أبنائه أن يجعل منها رابطة قوية تشد كل المسلمين وتؤلف بين قلوبهم.
إنه يجعل تلك الأخوة علاقة حقيقية تزيد على علاقة الدم والنسب، وتفضلها، وقد كان الإسلام بذلك أول من أقام مجتمعاً على أساس رابطة روحية يجعل لها الاعتبار الأول، ويعتمد عليها في تقرير الحقوق والواجبات. إن بين المؤمنين رباطاً روحياً يتمثل في إيمانهم بإله واحد، واعتقداهم بغاية واحدة للحياة ومصير واحد، ومن أجل ذلك فهم أخوة
…
هكذا يقرر القرآن الكريم: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَة} [الحجرات:10] .
وهذا الرباط من القوة والأصالة بحيث جُعل أساساً يتجمع حوله المسلمون دون اعتبار لما تواضع عليه البشر أزماناً طويلة، فلا اعتبار -في المجتمع الإسلامي- للنسب وشرفه، فقد وضع الإسلام عن الناس وزر التفاخر بالأنساب والتعصب لها
…
ولا اعتبار للجنس، فالإسلام يرفض أن يفترق الناس أجناساً مختلفة، وأن تفصل بينهم فواصل من صنع أيديهم.
ولهذا فقد احتضن المجتمع الإسلامي أول المسلمين من كل جنس، ولم يجد الحبشي أو الفارسي أو الرومي حائلاً يمنعهم من الانتساب لهذا المجتمع، بل والتصدر فيه.
وقد كانت الأخوة نوعاً جديداً من العلاقات لم يعهده المجتمع العربي قبل الإسلام، إذ كان ذلك المجتمع يقوم على رباط النسب والجنس، فجاء الإسلام ليجعل الترابط في مجتمعه على ذلك الأساس الروحي والفكري من وحدة العقيدة ووحدة الغاية، متخطياً في ذلك الروابط التي تحمل في طيّاتها عوامل التفكك وبذور الانهيار
…
"1.
وقد قرر الله هذه الرابطة والأخوة الإيمانية بقوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10] .
قال ابن كثير رحمه الله: "أي الجميع إخوة في الدين"2.
والأخوة من مدلولها معنى التقارب والمحبة والتراحم، والتعاون
1 المجتمع الإسلامي، أهدافه ودعائمه أوضاعه وخصائصه، في ضوء الكتاب والسنة، د. مصطفى عبد الواحد ص44، 45 مطبعة دار التأليف، مصر، ط: الأولى 1389هـ.
2 تفسير القرآن العظيم، ط: الشعب، 8/355.
والمناصرة، وهذه الأمور ثمرات الإيمان، نابعة منه ودالة عليه ولا يمكن أن يوجد بدونها، قال صلى الله عليه وسلم مبيناً الترابط الوثيق بين الحب والإيمان:" والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم "1.
ولا يجوز أن يبقى بين المسلمين ما يعكر صفو هذه الأخوة، لذلك قال تعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُم} .
وقال: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال:1] .
وقال صلى الله عليه وسلم محذراً من بعض الأمور التي تعكر صفو الأخوة الإيمانية، وتضعف الرابطة:" المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه "2 كما بيّن الله تعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم ما ينبغي أن يكون عليه المؤمنون فيما بينهم لتقوى الرابطة، وتتحقق الأخوة، فمن ذلك قول الله تعالى:{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29] .
1 رواه مسلم، كتب الإيمان، باب بيان أنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون، ح54 1/74 تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي.
2 متفق عليه: البخاري، كتاب المظالم، باب لا يظلم المسلم المسلم، الصحيح مع الفتح 5/97. ومسلم، كتاب البر
…
، باب تحريم الظلم، 4/1996.
وقال صلى الله عليه وسلم: " والله في عون العبد، ما كان العبد في عون أخيه "1.
وقال: " ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم، كمثل الجسد إذا اشتكى عضواً، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى "2.
وهذا الحديث مع بيانه لما يجب أن يكون عليه المؤمنون من التّوادّ والتراحم والتعاطف والتواصل، مع ذلك بيّن أمراً هاماً، ألا وهو أثر هذه الأخوة القائمة على الرابطة والتعاون الإيماني في حصانة المجتمع وتماسكه وقوته، حيث شبّه مجتمع المؤمنين بالجسد الواحد الذي يهتم سائر أفراده لما يحصل لبعضهم أو يحدث في مجتمعهم من خلل أو خطر، ويتكاتفون لصده.
ويؤيد هذا المعنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم: " إن المؤمن للمؤمن كالبنيان، يشد بعضه بعضاً"، وشبك بين أصابعه 3.
1 أخرجه مسلم، كتاب الذكر والدعاء
…
، باب فضل الاجتماع على الذكر 4/2074.
2 متفق عليه -واللفظ للبخاري-: البخاري، كتاب الأدب، باب رحمة الناس والبهائم الصحيح مع الفتح 10/438. ومسلم في كتاب البر، باب تراحم المؤمنين
…
، صحيح مسلم تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي 4/1999.
3 متفق عليه -واللفظ للبخاري-: البخاري، كتاب الصلاة، باب تشبيك الأصابع في المسجد وغيره، الصحيح مع الفتح 1/565. ومسلم، كتاب البر، باب تراحم المؤمنين
…
، صحيح مسلم 4/1999.
وتشبيه المجتمع المسلم بالبنيان من أبلغ التشبيهات، وذلك أن البنيان يتكون من لبنات، ومن مادة تشدّ بينها، وكذلك المجتمع المؤمن يتكون من أفراد، ومن رابطة تشد بينهم.
ففي البناء كلّما كانت اللبنات متقاربة مرصوصة، والمادة اللاصقة قوية، كان البناء أشد قوة وتماسكاً.
وكذلك الحال في المجتمع المسلم، كلما كانت الرابطة الإيمانية قوية، كانت القلوب متقاربة متحدة، وبذلك يكون المجتمع قوياً متماسكاً. فأول أساس لوحدة المسلمين هي الرابطة العقدية والأخوّة الإيمانية.
وهذه الرابطة لا تستحكم إلا إذا كان اعتقاد الجميع مستمداً من نصوص الكتاب الكريم والسنة الشريفة، وكانت العقيدة نقية من شوائب الشرك والبدع والعقائد المستمدة من المناهج المحدثة المخالفة لما كان عليه السلف في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين، والأئمة المهديين، الذين شهدت لهم الأمة بالخير والإمامة في العصور الثلاثة المفضلة، ومن سار على طريقهم في سائر العصور.
وعلى هذا فأول خطوة في الطريق إلى وحدة المسلمين اليوم هي العمل على تنقية العقائد وتصحيحها، ونشر الإيمان المبيّن في الكتاب والسنة والدعوة إلى نبذ ما خالفه.
وما لم تجتمع كلمة علماء الإسلام ودعاته على هذا، وينطلقون منه، سيبقى المسلمون في شتات وذلة وحيرة، وسيبقى العمل لا يثمر إلا مزيداً
من الفرقة والتحزب، وإعجاب كل فريق برأيه، {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم:32] ، فلا اجتماع إلا إذا اجتمعت القلوب، ولا اجتماع لها إلا بالتوحيد. فإن التوحيد يجمع أهله، ويفرّق بينهم وبين من خالفهم، قال ربنا تبارك وتعالى:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153] .
وإذا كانت الرابطة الإيمانية هي الأساس للوحدة الإسلامية، وكانت الوحدة حصناً قوياً للمجتمع من كل فكر دخيل هدام، وسلوك منحرف، فإن الفرقة والنزاع الناتج عن ضعف أو انعكاس الرابطة الإيمانية بين أفراد المجتمع المسلم يمثل ثغرة خطيرة تسهم وبسرعة في تفككه وضعفه، ومن ثم حصول الشر بين أفراده. قال تعالى:{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال:46] .
ومردّ التنازع بالدرجة الأولى إلى الفرقة في الدين الناتجة عن الانحراف في العقيدة، أو الابتداع في الشريعة. وكم خطط أعداء الإسلام للتفريق بين المسلمين، ولم يجدوا أنجح في تحقيق ذلك من نشر الأفكار المخالفة.1
1 انظر تفصيل ذلك فيما تقدم تحت عنوان: الصراع الفكري بين الحق والباطل.. من ص79-141.
فكلما وجدوا ثغرة في المجتمع الإسلامي أطلقوا فكرة ضالة جللوها بتلبيسات مزخرفة، فاستهوت بعض أفراد المجتمع ومالت بهم عن الجادة. وهكذا حتى تفرق المسلمون شيعاً وأحزاباً وطرقاً.
ولم يقف الحد عند ذلك، بل أوجدوا أفكاراً تهدف إلى إزالة الرابطة الإيمانية والأخوة الدينية من أساسها، وتدعو إلى الاجتماع والاتحاد على رابطة أخرى كالشعوبية الداعية إلى التعصب للدم والعرق، ومثلها القومية، والوطنية، والوجودية، والإنسانية أو الدعوة إلى التآخي على الرياضة والفنون أو غير ذلك من الروابط.
وبذلك يقل الولاء للدين، ويخفّ الحماس لنشره والدفاع عنه، وهذا انتصار للكفر بحرب باردة يذوب فيها شباب المجتمع ورجاله الذين هم جيش الإسلام وعدته تحت ألوان من الأفكار والدعوات المضللة، والولاآت المختلفة.
وبعد البيان لأهمية الرابطة الإيمانية لقوة المجتمع المسلم ووحدته وحصانته من الأفكار الهدامة، وأثر ضعف تلك الرابطة في تفككه وحدوث الثغرات التي يتسلل منها كل فكر خبيث ومبدأ هدام، بعد ذلك يأتي المجال لذكر أهم العوامل التي تنمي الرابطة الإيمانية وتشد منها.
وكل عامل من هذه العوامل هو شعيرة من شعائر الإسلام، بمعنى أن الإسلام أمر بها ونظمها، وهي في نفس الوقت لبنة في حصن المجتمع بقيامها يتماسك، وتقوى رابطته، وبضعفها أو زوالها يهتز بناء المجتمع،
وتضعف رابطته ويدب فيه الفساد.
وأهم العوامل التي تنمي الرابطة الإيمانية هي:
أولاً: التزام الأخلاق الفاضلة.
ثانياً: القيام بالحقوق المفروضة لبعض المسلمين على بعض.
ثالثاً: الالتزام بالنظام الاجتماعي والاقتصادي الإسلامي.
رابعاً: المحافظة على الوحدة الفكرية.
وسأتكلم بإذن الله على كل منها في مطلب مستقل.