الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول:ضوابط الإمامة في المجتمع المسلم
والمراد بهذا المبحث بيان الأمور التي بمراعاتها ينضبط أمر الإمامة وتصبح حصناً فعالاً قوياً.
إن قيام ولي الأمر ودولته بالدور الأكمل في حماية المجتمع وسلامته لا يتم إلا إذا توفرت فيه مقومات الحكم والاستخلاف.
فمع كونه رجلاً مسلماً حازماً قوياً، عدلاً عادلاً، عارفاً بأمور السياسة وشؤون الحكم، جريئاً على إقامة حدود الله لا تأخذه في الله لومة لائم، شجاعاً ذا دراية بمصالح الأمة وسبل تحقيقها، مع حرصه عليها وتقديمه لها1، مع ذلك كله لا بد من مراعاة أمور تعتبر أساسية في صلاح ولي الأمر وقيامه بمهام الحكم من أهمها:
أولاً: العلم.
يشترط للإمام أن يكون عالماً بالأحكام الشرعية، لأنه مكلف بتنفيذها، والعلم مقدم على العمل2.
1 القاضي أبو يعلى الفراء، وكتابه الأحكام السلطانية، د. محمد عبد القادر أبو فارس ص4، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط الأولى 1400هـ.
2 نفس المصدر ص359، 360.
ويتأكد على السلطان أن يعرف المقصود بالولاية وأنه: "إصلاح دين الخلق الذي متى فاتهم خسروا خسراناً مبيناً، ولم ينفعهم ما نعموا به في الدنيا، وإصلاح ما لا يقوم الدين إلا به من أمر دنياهم"1.
فوظيفة الإمام نوع من أنواع الجهاد، بل لا يقوم الجهاد إلا بها، فهو الذي يعقد الألوية، ويسيّر الجيوش، فإذا كان كذلك فغاية الإمام هي غاية المجاهدين وهي: أن تكون كلمة الله هي العليا، ويكون الدين لله. فمنصب الإمامة عبادة يتقرب بها إلى الله، يلزم فيها إصلاح النية، وبذل المستطاع في القيام بها.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "فالواجب اتخاذ الإمارة ديناً وقربة يتقرب بها إلى الله، فإن التقرب إليه فيها بطاعته وطاعة رسوله من أفضل القربات"2.
ومع علم ولي الأمر بمقصد الولاية وغايتها، ومعرفة الأحكام الشرعية، والأساليب الوسائل التي تحققها لا بد من معرفة أعداء الأمة، وما ذكر الله من عداوتهم وأساليبهم في الكيد للإسلام وأهله، ومعرفة الفرق والحركات المنحرفة التي ظهرت في عصور الإسلام، والأساليب التي سهلت عملها، بقصد أخذ العبرة والحيطة والحذر من تكرارها، ومعرفة
1 السياسة الشرعية لابن تيمية ص39.
2 ابن تيمية، المصدر السسابق، ص219.
الأساليب التي تسلل من خلالها المنافقون والمبتدعون إلى الحكام حتى تمكنوا من تمرير بعض شرهم من خلال سلطانه، ومعرفة الأخطار والتحديات المعاصرة، والاستعداد لمجابهتها بالخطط المضادة التي تحصن المجتمع وتحاربها وتقمعها.
وفي الجملة فإن على الإمام أن يكون عالماً بأهداف المجتمع المسلم، وسبل تحقيقها، عازماً متحمساً للعمل من أجل ذلك، كما يكون عالماً بالأخطار التي تهدده، وسبل مقاومتها والخلاص منها، مندفعاً إلى الأخذ بهذه السبل بكل ما أوتي من حيلة وقوة.
وحيث إن الإحاطة بهذه العلوم وتنفيذها، يحتاج إلى جهد عظيم يصعب تحققه في شخص واحد، فقد نص أهل العلم على أن تقريب العلماء وأهل الاختصاص يكمل قصوره في ذلك1.
ثانياً: استعمال الأصلح.
ولاية أمر الناس أمانة عظيمة، وحيث إنه لا يستطيع شخص واحد -مهما أوتي من قوة وعلم- أن يقوم بجميع مهامّها، لذلك وجب عليه أن يسند أمورها إلى ولاة يعينونه على القيام بها، وبذلك يتحملون هذه الأمانة معه كل فيما أسند إليه، وعليه في ذلك أن يولّي الأصلح الذي هو أهل لحمل تلك الأمانة.
1 أبو يعلى وكتابه الأحكام السلطانية ص360.
فالآية الأولى: بيّنت ما يجب على الحكام والأمراء ومن في حكمهم على وجه الإجمال، وهو أداء الأمانات والحكم بالعدل.
والثانية: بينت ما على الرعية من السمع والطاعة لله ولرسوله ولأولي الأمر، وأمر ثالث يشترك فيه الطرفان، وهو ردّ الأمر عند النزاع إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "قال العلماء: نزلت الآية الأولى في ولاة الأمور، عليهم أن يؤدوا الأمانات إلى أهلها، وإذا حكموا بين الناس أن يحكموا بالعدل، ونزلت الثانية في الرعية من الجيوش وغيرهم، عليهم أن يطيعوا أولي الأمر الفاعلين لذلك، في قسمهم وحكمهم ومغازيهم، وغير ذلك، إلا أن يأمروا بمعصية الله تعالى، فإذا أمروا بمعصية الله تعالى، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، فإن تنازعوا في شيء ردوه إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.. وإذا كانت الآية قد
أوجبت أداء الأمانات إلى أهلها، والحكم بالعدل، فهذان جماع السياسة العادلة والولاية الصالحة"1.
وأداء الأمانات عام لجميعها، قال ابن كثير رحمه الله: "وهذا يعم جميع الأمانات الواجبة على الإنسان، ومن حقوق الله عز وجل على عباده
…
وغير ذلك مما هو مؤتمن عليه لا يطلع عليه العباد، ومن حقوق العباد بعضهم على بعض"2.
وإسناد الأمر إلى أهله وتولية الأصلح، وعدم اعتبار القرابة، أو الصداقة أو أي اعتبار آخر في الولاية أمر داخل ضمن عموم الأمانات التي أمرت الآية بأدائها؛ إلا أنه متأكد من جهة انه من أعمال الحكام الذين خاطبتهم الآية في المقام الأول.
قال ابن تيمية رحمه الله: "أما أداء الأمانات ففيه نوعان: أحدهما الولايات، وهو كان سبب نزول الآية، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة وتسلم مفاتيح الكعبة من بني شيبه3،طلبها منه
1 السياسة الشرعية ص13.
2 تفسير القرآن العظيم، ط: الشعب 2/298.
3 بنو شيبة من نسل شيبة بن عثمان بن أبي طلحة عبد الله بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار، أسلم شيبة بعد الفتح، ودفع النبي صلى الله عليه وسلم مفتاح الكعبة إليه وإلى عثمان بن طلحة يوم الفتح، وقال:"خذوها يا بني أبي طلحة خالدة تالدة."
انظر: جمهرة أنساب العرب لابن حزم 127، وتهذيب التهذيب 4/376.
العباس1 ليجمع له بين سقاية الحاج، وسدانة البيت، فأنزل الله هذه الآية2 فأعاد مفاتيح الكعبة إلى بني شيبه، فيجب على ولي الأمر أن يولي على كل عمل من أعمال المسلمين، أصلح من يجده لذلك العمل"3.
وعلى ذلك عليه أن يجتهد في البحث عن المستحقين للولايات، من نوابه على الأمصار والوزراء والقضاة ومدراء المصالح العامة، ورؤساء العشائر، وأمراء الجند الصغار منهم والكبار، وعلى كل واحد من هؤلاء أن يستنيب ويستعمل أصلح من يجده4.
والميزان الذي يوزن به العمال هو: القوة والأمانة، والعلم والتقوى.
قال تعالى: {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص:26] .
وقال: {قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} [البقرة:247] .
1 العباس بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، هاجر قبل الفتح، وكان وهو في مكة مشفقاً على النبي صلى الله عليه وسلممحباً له، متعاوناً معه في تثبيت أمره، توفي سنة 32هـ.
انظر: سير أعلام النبلاء 2/78، والبداية والنهاية 7/168.
2 هي قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا
…
} .
3 السياسة الشرعية ص17.
4 انظر نفس المصدر 18، 19.
ويختار الأمثل فالأمثل، ويستعان بأهل العلم والرأي والفضل في التعرف عليهم.
ولا يجوز أن يكون المعيار هو القرابة أو الصداقة أو غير ذلك.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "فإن عدل عن الأحق الأصلح إلى غيره لأجل قرابة بينهما، أو ولاء عتاقة أو صداقة، أو موافقة في بلد أو مذهب أو طريقة، أو جنس كالعربية والفارسية والتركية والرومية، أو لرشوة يأخذها منه من مال أو منفعة، أو غير ذلك من الأسباب، أو لضغن في قلبه على الأحق، أو عداوة بينهما، فقد خان الله ورسوله والمؤمنين، ودخل فيما نهى عنه في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال:27] "1.
ومن المعايير التي جدت في زماننا بالإضافة إلى ما ذكره شيخ الإسلام تولية المناصب الوزارية أو الإدارية وغيرها من الولايات الهامة بالشهادات أو بسبق الطلب، والتقدم للوظيفة، دون التمييز بالصلاح والكفاءة من جهة القوة والأمانة.
فالشهادة تدل على العلم المهني أو الشرعي، ولكن لا تدل على الأمانة والقوة والتقوى، وهي أمور مقدمة، لذلك كان الواجب اختيار
1 السياسة الشرعية ص20.
من توفرت فيه هذه الأمور مجتمعة: فيكون حائزاً على الشهادة في التخصص الذي يسند إليه، مع معرفة الأحكام الشرعية المتعلقة به، وثبت بالتزكيات من الثقات أمانته وتقواه، ويبتلى لمعرفة قوته وحزمه في القيام بما يسند إليه.
وإذا لم تتوفر مجتمعة قدّم أهل الأمانة والقوة والتقوى بشرط علمهم بما يسند إليهم ولو دون شهادة، أو يعلمون ما يحتاجون إليه بعد الاختيار، مع تزويدهم بالأعوان والمساعدين المهرة المتخصصين، فيكملون نقصهم.
وهذا الواجب على ولاة الأمر -وهو تولية الأصلح- حصن ودعامة يقوم عليها سلامة المجتمع بانتشار العدل، ووصول الحقوق إلى أهلها، واستقامة أمور الناس العامة والخاصة على الهدى، وبذلك يقطع الطريق أمام كل فكر خبيث، أو تخطيط ماكر يستهدف تقويض أركان المجتمع المسلم، حيث إن كل صاحب ولاية على ثغرة من ثغرات المجتمع الإسلامي، عالم بدوره، مخلص صادق في تنفيذه والدفاع عنه، قوي على ذلك، فأنى يجد الشر إلى المجتمع سبيلاً؟.
وإذا اختل هذا الأمر وضيعت هذه الأمانة، وأسندت الأمور إلى غير أهلها، حصل خلل عظيم في المجتمع المسلم، وفتحت ثغرات خطيرة تمهد السبيل لأعداء الأمة للتسلل إليه للفساد والإفساد، وترويج الأفكار الهدامة، والسلوك المنحرف.
قال صلى الله عليه وسلم: "إذا ضيعت الأمانة، فانتظر الساعة " قال1: كيف إضاعتها يا رسول الله. قال: " إذا أسند الأمر إلى غير أهله، فانتظر الساعة "2.
فقد بين صلى الله عليه وسلم أن من علامات قرب الساعة تضييع الأمانة بإسناد الأمر إلى غير أهله، ومعلوم أن الساعة لا تقوم إلى على شرار الخلق، الذين انتشر الجهل بينهم والفساد، وبذلك يكون إسناد الأمر إلى غير أهله من أسباب فساد الناس في آخر الزمان.
وسر ذلك أن الأمور إذا لم تسند إلى أهلها فإنها تسند إلى الجهال أو السفهاء أو الضعفاء أو إلى الخونة والمنافقين.
فالجهال والسفهاء يخبطون في أعمالهم بلا هدى، ويضعون الأمور في غير مواضعها، وقد يفسدون وهم لا يشعرون، وكثيراً ما يغرر بهم ويخدعون من طائفة المنافقين والحاقدين.
أما الضعفاء فإنهم عاجزون عن تنفيذ ما يرونه صالحاً، ويغلبون على
1 القائل هو الأعرابي الذي سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الساعة، كما في الراوية الأخرى:"بينما النبي صلى الله عليه وسلم في مجلس يحدث القوم جاءه أعرابي، فقال: متى الساعة؟ .. الحديث رواه البخاري، كتاب العلم، باب من سئل علماً وهو مشتغل في حديثه
…
، صحيح البخاري مع الفتح 1/41 ح59.
2 رواه البخاري، كتاب الرقاق، باب رفع الأمانة، الصحيح مع الفتح 11/333،ح6496.
أمرهم فيبقى الحق الذي أمروا به بعيداً عن التنفيذ، ويظهر الفساد والمنكر في أعمالهم ويضعفون عن إزالته، وهذه ثغرة اجتماعية خطيرة ليس لها إلا أهل الحزم والقوة والعلم والديانة.
أمّا المنافقون فهم الشر المستطير، ومنهم الضرر الكبير، وشرهم حاصل للجماعة المسلمة دون أن يتولوا من أمورها شيئاً، فكيف إذا أسندت بعض الأمور الهامة إليهم. فتلك قاصمة الظهر، وسوسة النخر.
قال تعالى محذراً من طاعتهم ومشاورتهم: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً} [الأحزاب:1-3] .
قال ابن كثير رحمه الله: "قوله تعالى: {وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} أي لا تسمع منهم ولا تستشرهم {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} أي فهو أحق أن تتبع أوامره وتطيعه، فإنه عليم بعواقب الأمور، حكيم في أقواله وأفعاله، ولهذا قال:{وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ} أي من قرآن وسنة {إِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} أي فلا تخفى عليه خافية {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ} أي في جميع أمورك وأحوالك {وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً} أي وكفى به وكيلاً لمن
توكل عليه وأناب إليه"1.
فبعد أن نهاه الله عن طاعة الكافرين والمنافقين، أمره باتباع الوحي النازل من العليم الحكيم الخبير، ففيه النور والهداية والرشاد.
وأرشده للتوكل عليه وحده، وتفويض الأمور إليه، وتعلق القلب به في التسديد والتوفيق لما فيه صلاح الدين والدنيا، وفي ذلك إشارة إلى عدم تعلق القلب أو رجاء الهداية من أعداء الله مهما كان عندهم من العلم، أو أظهروا من النصح فلا يولون ولا يستشارون، بل يحذرون ويجتنبون.
وقد بيّن الله العلة من النهي عن طاعة الكافرين والمنافقين، وهي كونهم يضمرون الشر لأهل الإسلام ويخططون لإخراجهم من دينهم.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ} [آل عمران:100] .
وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} [آل عمران:149] .
وقال: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ
1 تفسير القرآن العظيم ط الشعب 6/376.
اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:109] .
فإذا كان هذا هو حال الكفار عموماً، واليهود والنصارى خصوصاً يعملون جاهدين لصدّ المسلمين عن دينهم، فالمنافقون هم الجسر الذي يتوصلون من خلاله إلى المجتمع المسلم، وينفذون بواسطتهم أفكارهم الخبيثة ومخططاتهم الشريرة.
قال تعالى في معرض بيان حال المنافقين: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة:14، 15] .
قولهم: {إِنَّا مَعَكُمْ} أي: "على مثل ما أنتم عليه"1، فهم مع الكفار مشاركين لهم في الكفر وعداوة الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وفي الكيد للإسلام وأهله.
وقال تعالى: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ} [المائدة:52] .
1 تفسير القرآن العظيم، ط: الشعب 1/77.
قال ابن كثير رحمه الله: "وقوله تعالى: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} أي شك وريب ونفاق {يُسَارِعُونَ فِيهِمْ} أي يبادرون إلى موالاتهم في الباطن والظاهر {يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ} أي يتأولون في مودتهم وموالاتهم أنهم يخشون أن يقع من ظفر الكافرين بالمسلمين، فتكون لهم أياد عند اليهود والنصارى فينفعهم ذلك"1.
فالمنافقون يتخذون عند اليهود والنصارى وغيرهم من الكفار أيادٍ يرضونهم ويتحببون بها إليهم، فيُسدون لهم الخدمات، ومن أعظمها مساعدتهم في التجسس على المسلمين، وتمرير خططهم وكيدهم إلى جسد الأمة الإسلامية، والذي يعتبر ضرباً فعّالاً في حرب الكافرين للمسلمين، يستهدف زعزعة الجبهة الداخلية، وانحلال أسباب قوتها وتماسكها، فيسهل الظفر بها، فيخرجوا من قدروا عليه من المسلمين من دينه، كما هو حالهم في كثير من البلاد التي احتلوها.
قال تعالى: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة:217] .
والحق أن الكفار لا يريدون من المنافقين أكثر من هذا، وفي المقابل يقدمون للمنافقين الكثير من المال، ومتاع الدنيا.
1 تفسير القرآن العظيم 3/124.
والمنافقون مع كونهم ثغرة في حصن المجتمع المسلم تنفذ من خلالها الشرور الخارجية، فهم في حد ذاتهم منبع شر وضرر وفساد للمجتمع لما اتصفوا به من إشاعة الشبهات، ومحبة ظهور الفاحشة في الذين آمنوا، وأمرهم بالمنكر ونهيهم عن المعروف.
قال تعالى: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [التوبة:67] .
لذلك كانت تولية الكفار أو المنافقين المناصب الهامة- كالوزارات أو الإدارات أو وظائف التخطيط، أو التعليم، أو اتخاذهم مستشارين لولي الأمر، أو عُمّاله أو تقريبهم بأي شكل من الأشكال، كالمنادمة أو المصاهرة -يعتبر من الخيانة للأمانة، وهو خرق عظيم في حصن المجتمع المسلم، وسوف يناله به فساد ذريع، ومن أخطر نتائجه الترويج للأفكار الهدامة وزخرفتها بدعم من المنافقين الذين اشتدت شوكتهم بتقريب ولاة الأمر لهم.
وكم حرص الكفار والمنافقون على التقرب لولاة الأمر وأعوانهم بشتى الوسائل، فتعلموا المهن النادرة: كالطب والصناعة ونحوها، وانتحلوا الشعر والظرافة للمؤانسة والمنادمة، وتسللوا إلى بيوتهم بإهداء الجواري الحسان، والخادمات الماهرات، أو عن طريق المصاهرة وهو أخطرها.
وإذا فتح لهم المجال إلى الولاة، ولو قليل استغلوه أسوأ استغلال، وكانت خطوتهم الأولى هي التقليل من شأن العلماء بأساليب متنوعة، وإيحاءات ماكرة، فيصفونهم بالانزواء وعدم الانفتاح، والتشدد والبعد عن حياة الناس، والجهل بأمور السياسة، وأنه لا ينبغي استشارتهم إلا في أمور العبادات فقط.
وفي المقابل يشيرون عليهم بتولية أشخاص مشبوهين يعرفون عنهم النفاق، ويطمعون في ظل ولايتهم في الانطلاق في أهوائهم ومخططاتهم المعادية للإسلام.
وهكذا شيئاً فشيئاً حتى يكثر عددهم ويتفاقم شرهم، فيستحوذون على السلطان، ويصيب الإسلام منهم أعظم الرزايا، كما حصل في عهد هارون الرشيد1 عندما استولى أبناء فارس من البرامكة2 وغيرهم على
1 الخليفة العباسي أبو جعفر هارون بن المهدي محمد بن المنصور عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، ولي الخلافة بعد أخيه الهادي سنة 170هـ وكان من أنبل الخلفاء وأحشم الملوك ذا حج وجهاد وغزو وشجاعة ورأي، توفي سنة 193هـ. انظر: سير أعلام النبلاء 9/286، والبداية والنهاية 10/222.
2 البرامكة: أسرة يرجع أصلها إلى فارس، تنسب إلى برمك بن جاماس، تولى الوزارة عدد من أفرادها لبعض خلفاء بني العباس، ولما آلت الخلافة إلى الرشيد، تقدموا عنده وارتفعت مكانتهم لديه، ثم نقم عليهم فقتل جعفر بن يحيى بن خالد البرمكي وسجن الباقين من أسرته. انظر: وفيات الأعيان 1/328، والبداية والنهاية 10/196.
الوزارات وقيادة الجيوش، وكثرت نساؤهم في بيوت الخليفة وأبنائه وأقاربه: من زوجات، وأمهات أولاد، وخادمات ومربيات، وولد لهارون ابنه المأمون من جارية فارسية، وتربى في كنف أخواله من أبناء وبنات الفرس، ثم آلت الخلافة إليه فحصل للأمة بسببه فتنة عظيمة، فقمع أهل السنة وعزلهم عن مناصب القضاء والفتيا، ومنعهم من التدريس، وحملهم على القول بخلق القرآن، وتعطيل صفات الباري عز وجل، وما نجم عن ذلك من تعذيب وسجن وقتل عدد من علماء الأمة وفضلائها، وعلى رأسهم إمام أهل السنة أحمد بن حنبل رحمه الله الذي سجن بأمر المأمون، وجلد في عهد المعتصم، ولا حول ولا قوة إلا بالله1.
وفي مقابل ذلك مكن المأمون أهل البدعة من المعتزلة والشيعة والفلاسفة، وشجع ترجمة كتبهم، فكانت أعظم فتنة فكرية جابهت الإسلام من داخله، ودُعِمت من خليفة المسلمين، بفعل تخطيط أعداء الإسلام الطويل الأمد2.
1 2 انظر: تاريخ الطبري، تاريخ الرسل والملوك، لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري 8/631-645، والبداية والنهاية لابن كثير 1/272-275 ومن 331-335، الخمينية وريثة الحركات الحاقدة والأفكار الفاسدة لوليد الأعظمي ص136-140.
ثالثاً: المشاورة.
والمقصود أن مشاورة ولي الأمر لأهل العلم والعقل والتجربة والاختصاص في النوازل والأمور الهامة، أمر لا غنى عنه، وهو حصن تتحصن به الأمة من عواقب الاستبداد بالحكم والقرار الذي يفتح عليها ثغرات خطيرة، قد لا يدركها ولي الأمر، وإنما بالمشاورة ينبه إليها.
"فمبدأ الشورى من أهم مقومات الحكم في الإسلام، به نطق القرآن وجاءت به السنة، وأجمع عليه الفقهاء، وهو حق للأمة وواجب على الخليفة"1.
قال ابن تيمية رحمه الله: "لا غنى لولي الأمر عن المشاورة، فإن الله أمر بها نبيه صلى الله عليه وسلم، فقال: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران:159] "2.
ويروى عن أبي هريرة رضي الله عنه: "ما رأيت أحداً أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله"3.
1 أصول الدعوة، لعبد الكريم زيدان ص207، دار عمر بن الخطاب الإسكندرية، ط3، 1396هـ.
2 السياسة الشرعية 213.
3 رواه الترمذي هكذا بصيغة التمريص، أبواب الجهاد، باب ما جاء في المشاورة 3/129. واستشهد به شيخ الإسلام ابن تيمية في السياسة الشرعية ص213، وذكره ابن حجر في الفتح، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، وقال:"ورجاله ثقات، إلاأنه منقطع" 13/340.
ولمعناه شواهد كثيرة من سيرة النبيصلى الله عليه وسلمذكر طرفاً منها: ابن كثير في التفسير 1/420، وابن حجر في الفتح 13/340، 341.
وامتدح الله جماعة المؤمنين بالتزامهم بهذا المبدأ الهام، فقال:{وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى:38] .
وأولى الناس بالمشورة العلماء أهل الذكر، الذين عرفوا أحكام الشريعة وحدود الله، ودرسوا ما في الكتاب والسنة من الحكم والعبر والسنن، واستناروا بنورهما.
قال البخاري رحمه الله: "وكان الأئمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم يستشيرون الأمناء من أهل العلم في الأمور المباحة، ليأخذوا بأسهلها، فإذا وضح الكتاب والسنة لم يتعدوه إلى غيره اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم"1. وقال أيضاً: "وكان القراء أصحاب مشورة عمر كهولاً وشباناً، وكان وقافاً عند كتاب الله عز وجل"2.
فواجب على الإمام تقريب العلماء واستشارتهم في الأمور المهمة من أمور الدين والدنيا.
وإذا استشارهم في أمور الدين، فإن بين له بعضهم ما يجب اتباعه
1، 2 صحيح البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة 13/339.
من كتاب الله، أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، أو إجماع المسلمين، فعليه اتباعه ولا طاعة لأحد خلاف ذلك1. فإن من أهداف المشورة اتضاح الحكم إذا كان خافياً على الإمام.
قال الإمام الشافعي رحمه الله: "إنما يؤمر الحاكم بالمشورة، لكون المشير ينبهه على ما يغفل عنه، ويدله على ما لا يستحضره من الدليل"2.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وأولو الأمر صنفان: الأمراء والعلماء، وهم الذين إذا صلحوا صلح الناس، فعلى كل منهم أن يتحرى فيما يقوله وما يفعله، طاعة الله ورسوله واتباع كتاب الله. ومتى أمكن في الحوادث المشكلة معرفة ما دل عليه الكتاب والسنة، كان هو الواجب، وإن لم يمكن ذلك لضيق الوقت، أو عجز الطالب، أو تكافؤ الأدلة عنده أو غير ذلك، فله أن يقلد من يرتضي علمه ودينه، هذا أقوى الأقوال"3.
أما استشارتهم في أمور الدنيا، فتكون في شؤون الدولة المهمة مثل: تسيير الجيوش، وإعلان الحرب، وعقد المعاهدات، وإسناد المناصب المهمة في الدولة إلى مستحقيها4.
1 انظر: السياسة الشرعية لابن تيمية 214.
2 فتح الباري شرح صحيح الباخري لابن حجر 13/342.
3 السياسة الشرعية ص214.
4 انظر: أصول الدعوة ص209.
وكذلك السياسات الداخلية والخارجية، كسياسة التربية والتعليم، والسياسة المالية والصناعية، والتجارية، والطبية، وكذا خطط الدولة التنموية، وعلاقاتها الخارجية.
فكل ناحية منها لها جانبان: جانب يتعلق بالمهنة، وجانب يتعلق بالتعامل، وكل منهما له ضوابط شرعية يجب مراعاتها، ويلزم عرضها على أهل الشريعة بعد أهل الصنعة للتأكد من سلامة الخطة والسياسة من مخالفات شرعية أو ثغرات تؤدي إلى مفاسد خلقية أو اجتماعية أو نحوها.
فنظر العلماء لا يقل أهمية عن نظر المختصين والخبراء. وليس هناك مجال من مجالات الحياة ليس للعلماء نظر فيه. ودور العلماء لا يقتصر على المشاورة في الخطوط العريضة للأمور بل يتعدى ذلك إلى التفاصيل الدقيقة المنظمة لذلك الأمر.
ونظراً لتشعب نواحي الحياة ودقتها في الوقت الحاضر، فيقتضي الأمر تشكيل هيئة استشارية لها لجان متعددة مختصة بدراسة جميع أوضاع الدولة من الناحية الشرعية. يكلف بعض هذه اللجان بالنظر في الأوضاع القائمة، ودراسة البحوث المقدمة فيها، واقتراح الإصلاحات. ولجان أخرى تنظر في المشاريع المقترحة والنوازل الطارئة، والتأكد من ملائمة ما يقترح لها من جميع نواحيه لأحكام الشريعة الإسلامية. واقتراح التعديلات المناسبة.
ويقوم على هذه اللجان نخبة من العلماء الأمناء، ويستعينون عند
الحاجة بالعلماء الآخرين الذين ليسوا أعضاء فيها.
ولا يقتصر في المشاورة في أمور الدنيا على العلماء، بل يشترك معهم أهل النظر والاختصاص والتجربة من سائر المسلمين، ويشترط فيهم الأمانة وسلامة الديانة والنصح للأمة.
والتزام ولي الأمر بمبدأ المشاروة -وخاصة مشاروة أهل العلم- يمثل حصناً سلطانياً اجتماعياً تتكاتف فيه العقول المستنيرة على انتهاج أفضل السبل وأكثرها نقاء وصفاء وبعداً عن شوائب الجاهلية وأفكارها وأنظمتها الفاسدة.
وبذلك يقطع الطريق على المفسدين من المنافقين والكافرين والفاسقين الذين يحاولون جاهدين أن يمرروا باطلهم عن طريق السلطان. لذلك شدد الله النهي لرسوله صلى الله عليه وسلم في أكثر موضع عن طاعتهم أو مشاروتهم. كما في قوله تعالى: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً} [الإنسان:24] .
وقوله: {وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً} [الأحزاب:48] .
واختلال هذا المبدأ -إما بالاستبداد من ولي الأمر والمشاركين له في الحكم، أو بترك مشاورة أهل العلم، والجنوح إلى مشاورة أهل الفسق والخيانة والنفاق- ينتج عنه خطر عظيم، فهو ثغرة تمرر من خلالها أفكار
الجاهلية ونظرياتها، ونظمها تحت أغلفة براقة، وشبه منمقة، كادعاء الحاجة أو الضرورة، وعدم وجود البديل، وغير ذلك من المبررات التي قد يستحسنها الولاة، ويعملون بها عند تعطيل الشورى.
وخلاصة هذا المبحث: أن ولي الأمر يمثل دعامة من دعائم المجتمع المسلم، فإذا كان صادق الإيمان، مراقباً لله في كل ما يأتي ويقرر، قائماً بما عليه خير قيام، كانت الثغرة التي من قبله مسدودة آمنة، وأهم عوامل سلامة هذه الدعامة أن يكون ولي الأمر عالماً بالأحكام الإسلامية، وبمهام الحكم ومقاصد الولاية، غيوراً على الإسلام متحمساً لتنفيذه، والدفاع عنه ونشره، وان يستعمل الأصلح في أعماله، ويحذر من توليه الكافرين والمنافقين، أو غير الأمناء، أو الضعفاء، وأن يستشير أهل العلم والصلاح والرأي والخبرة.
وبذلك يكون المجتمع قوياً من الداخل ضد أي شر يتربص به الدوائر، وخاصة الأفكار الهدامة التي تستهدف القضاء على مقوماته الدينية والاجتماعية.