الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول: أثر التزكية في طمأنينة القلب
.
طمأنينة القلب هي من أعظم نعم الله على المؤمن، وذلك أن سكون النفس واستقرارها هو الدافع للخير والشعور بالغبطة والسعادة، وبقيمة الحياة وهدفها، والثقة بالله ووعده.
ولذا كانت طمأنينة القلب هي حصنه الحصين الذي يستعصي على الشياطين، وذلك أن النفس المطمئنة والقلب الثابت لا سبيل إلى زعزعته بإذن الله.
ولكي يتبين أثر الطمأنينة في تحصين القلب، ينبغي أن أشير إلى ما يحدثه ضدها، وهو القلق من ثغور في القلب تتسرب من خلالها القاذورات من مستنقعات الجاهلية.
فالقلق: هو انزعاج القلب وانفعاله، وخروجه من استقراره وطمأنينته وراحته، فهو شعور بالضيق وعدم الرضى1.
1 انظر: المعجم الفلسفي د. جميل صليبا 2/199، دار الكتاب اللبناني، بيروت ط: الأولى 1973م، والموسوعة الطبية الحديثة 11/1579، تأليف نخبة من علماء مجمع "قلودن برس بأمريكا"، ترجمة لجنة تحت إشراف الإدارة العامة للثقافة بوزارة التعليم العالي بمصر، الناشر مؤسسة سجل العرب، القاهرة 1969.
والدوافع للقلق كثيرة، أهمها الخوف من حصول مكروه أو فوات محبوب، ومنها الشوق فإذا اشتاق العبد لشيء قلق من أجله واهتم له، ومن هذا النوع الشوق إلى المعرفة.
وهناك نوع من القلق لم يجد له علماء النفس سبباً معروفاً، وهو عبارة عن انزعاج واضطراب القلب يصحبه حزن وكآبة وضيق صدر، وقد انتشر هذا النوع انتشاراً واسعاً في السنوات الأخيرة، كشفت ذلك بعض الدراسات المتخصصة1، وهذا النوع من القلق معروف سببه لدى أهل الإيمان، فمرجعه إلى مخالفة الفطرة، وذلك أن الإنسان مجبول على الركون إلى الخير والحق والاطمئنان له، والقلق من الشر والضيق به.
فهذا النوع إذاً مرده إلى قيام الكفر أو الشرك أو النفاق أو المعاصي بالإنسان، واستمراره عليها.
وسوف أتكلم عن نوعين من أنواع القلق لما لهما من أثر في جنوح الفرد إلى الأفكار الخبيثة المخالفة للحق.
النوع الأول: القلق الناتج عن الشوق للمعرفة.
النوع الثاني: القلق الناتج عن مخالفة الفطرة بالشرك أو المعاصي.
1 انظر: علم الصحة النفسية، د، مصطفى خليل الشرقاوي، ص273، دار النهضة العربية للطباعة والنشر، بيروت، ط: الأولى 1983م. وانظر: دراسة حول ذلك في جريدة الشرق الأوسط، ص22 العدد 4124، الأربعاء 14/3/1990م.
النوع الأول: القلق الناتج عن الشوق للمعرفة.
هذا النوع من القلق أصله فطري قد جبل عليه أكثر الخلق، فكل إنسان عاقل لديه رغبة في المعرفة، وإذا أحس بجهله بأمر انفعل طلباً لمعرفته.
وقد ذكر الله لنا مثلاً على هذا القلق الذي يصيب الإنسان طلباً للعلم، فإذا حصل ما تشوق إليه القلب من العلم سكن واطمئن، قال تعالى:{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة:260] .
أورد المفسرون أن هذا القلق والشوق لهذا النوع من العلم إنما وجد عند إبراهيم عليه السلام بعد محاجته للنمرود1 في قضية أن الله هو الذي يحيي ويميت.
فقد ذكر ابن جرير رحمه الله عن بعض السلف أن سبب مسألة
1 نمرود هو ملك بابل زمن نبي الله إبراهيم عليه السلام، قيل إنه ملك الدنيا وأنه استمر في ملكه أربعمائة سنة، كان من الطغاة المتجبرين، ادعى لنفسه الربوبية فأبطل الخليل عليه السلام دليله وألجمه الحجة.
انظر: البداية والنهاية 1/148.
إبراهيم ربه ذلك المناظرة والمحاجة التي جرت بينه وبين نمرود في ذلك، من غير شك في الله تعالى ذكره، ولا في قدرته، ولكنه أحب أن يعلم ذلك وتاق إليه قلبه، فقال: ليطمئن قلبي، أي: ما تاق إليه إذا هو علمه1.
وهذا الشوق للمعرفة عند المؤمن إنما يرويه ما نزل من الحق في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم خاصة في الأمور الغيبية والمطالب الإلهية، والشرائع التعبدية.
إلا أن هذا الشوق يتحول إلى مرض إذا صاحبه عدم الرضى أو عدم الثقة بالنصوص الناقلة للعلم نتيجة لاستحكام الشبهات فيجنح عند ذلك إلى طلب الحق من مصادر أخرى.
يقول عبد الرحمن البدوي: "فإن أمثال هؤلاء المفكرين الذين يشعرون بالتوتر العظيم، بين النقل والعقل، أو بين الدين والعلم، لا يجدون خيراً من هؤلاء الفلاسفة
…
لكي يشبعوا هذه الرغبة"2.
فجنوح المنتسبين إلى الإيمان إلى كتب الفلاسفة، أو الأديان الباطلة كالهندية والفارسية ونحوها، مرده إلى عدم الطمأنينة إلى مصدر الحق، وهو الوحي المطهر وقلة الثقة به، كمصدر كاف لمعرفة الحقائق، أو عدم الثقة بنقلته الذين بلغوه.
1 انظر: جامع البيان 3/48.
2 كتاب أرسطو، لعبد الرحمن البدوي ص275، مكتبة النهضة المصرية القاهرة، ط: الثانية، 1944م.
أما زعم من قال إن الفلسفة تشبع هذه الرغبة، فهذا ادعاء كاذب مردود بشهادة المختصين في دراسة الفلسفة قديماً وحديثاً، وخاصة في هذا العصر الذي بلغت فيه الفلسفة أوجها، وقمة مجدها، حيث تبنتها الحضارة الغربية، وأقامت نظمها الاجتماعية عليها، وإليك بعض هذه الشهادات: ورد في كتاب مدخل إلى الفلسفة: "ومن الطبيعي أن يصبح الباحث حين يواجه هذه الحالة مرتبكاً مشدوهاً فاتر الهمة، فبينما كان يرجو أن يجد الحقيقة الواحدة، وجد نفسه بدلاً من ذلك مسوقاً إلى أن يسأل: ما هو الحق؟ لقد رجا أن يمسح على شكوكه بيد اليقين، لكنه بدلاً من ذلك وجد أن التفلسف يثير شكوكاً وارتباكات أكثر مما يطمئن، وأنه يثير أسئلة هي أعسر بكثير من أن يقدر على الإجابة عنها، والحاصل غالباً هو انتفاء الرجاء في الفلسفة
…
فما الفائدة؟ إن الفلسفة لا تقدر أن تبرهن على شيء
…
والفلاسفة لا يتفقون أبداً، كلها استراق وتحايل على كل حال، وهكذا يقع المتشكك فريسة سائغة لمعتقد يبشر به أهله تبشيراً تعسفياً"1.
وورد في الموسوعة الفلسفية المختصرة كلمة المحرر قوله: " ومن
1 مدخل إلى الفلسفة، تأليف جون هرمان راندال، وجوستاس يولخر ص30 ترجمة د. ملحم قربان، دار العلم للملايين، بيروت 1963م.
هناك كانت أي مجموعة من الإجابات التي توضع لمشكلات الفلسفة الرئيسية
…
إما أن تمثل وجهة نظر واحدة من بين ما لا يحصى من وجهات النظر، وأن تكون بمثابة بيان حزبي، وإما أن يظل يناقض بعضها بعضاً، ويترتب على هذا أن لا يمكن لأية موسوعة فلسفية أن تضطلع بتقديم إجابات قاطعة لمشكلات الفلسفة دون أحد أمرين: فإما أن تخدع قراءها بأن تصور لهم ما هو في حقيقة الأمر أحد الآراء المتخاصمة على أنه الإجابة المتفق عليها. وإما أن تربكهم بسلسلة من الإجابات المتعارضة، ولما كان الأمر كذلك، فقد آثرنا ألا نجيب عن هذه الأسئلة إطلاقاً"1.
وهذا الكلام الذي يقوله الذين يشرحون الفلسفة للقراء ويبسطونها لهم، هو بمثابة إعلان بالإفلاس، وإشعار القارئ أنه لن يجني خيراً منها، فما أقربه من تحذير الملكين الذي ذكره الله بقوله:{وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} [البقرة:102] .
وبهذا الدافع جنح كثير من المنتسبين إلى العلم إلى الفلسفة وعلم الكلام، طلباً للحق في المطالب الغيبية بزعمهم، فلم يجنوا لأنفسهم إلا
1 الموسوعة الفلسفية المختصرة، يشرف على تحريرها: جي يورمسون، تصدر باللغة الانجليزية، ترجمة نخبة من المترجمين المقدمة ص1، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة 1963.
الحيرة والضلال والخلاف، والانقسام لأمة الإسلام، فضلوا وأضلوا.
والغرض هو بيان أن قلق القلب، وتشوفه للعلم المصحوب بأي نوع من أنواع عدم الثقة أو القناعة بالوحي، يكون دافعاً للوقوع في الأفكار المنحرفة المخالفة، وبهذا يتبين أثر الإيمان في طمأنينة القلب وثقته فيما جاء من عند الله من الهدى والنور.
النوع الثاني: القلق الناتج عن مخالفة الفطرة بالعصيان.
لقد خلق الله عباده على فطرة سوية، قال تعالى:{وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} [الشمس:7] .
قال ابن كثير رحمه الله: "أي خلقها سوية مستقيمة على الفطرة القويمة"1.
وقال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الروم:30] .
وقال صلى الله عليه وسلم: " ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه "2.
1 تفسير القرآن العظيم 4/516.
2 متفق عليه: البخاري، كتاب الجنائز، باب إذا أسلم الصبي فمات
…
ح1538 الصحيح مع الفتح 3/219. ومسلم، كتاب القدر، باب معنى كل مولود يولد على الفطرة
…
ح2568 4/2047.
قال ابن رجب رحمه الله: "وهذا يدل على أن الله فطر عباده على معرفة الحق والسكون إليه وقبوله، وركز في الطباع محبة ذلك، والنفور من ضده"1، ثم استدل ببعض النصوص المتقدمة.
وإذا تبين هذا فإن الاعتقاد الصحيح، والعواطف الرشيدة من محبة الإيمان وما يتصل به، وكراهية الكفر وما ينتسب له أو يؤدي إليه، كل ذلك يوجب للقلب والنفس طمأنينة وراحة وسكينة.
وخلاف ذلك من الشرك أو الكفر والنفاق والعصيان يوجب للقلب الخوف والوحشة والقلق والانزعاج.
قال ابن القيم رحمه الله في معرض بيانه لعقوبة المعاصي: "ومن عقوبتها ما يلقيه الله سبحانه من الرعب والخوف في قلب العاصي، فلا تراه إلا خائفاً مرعوباً، فإن الطاعة حصن الله الأعظم، من دخله كان من الآمنين من عقوبات الدنيا والآخرة، ومن خرج منه أحاطت به المخاوف من كل جانب"2.
وقال: "وهل العذاب إلا عذاب القلب، وأي عذاب أشد من
1 جامع العلوم والحكم ص239.
2 الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي ص50، 51.
الخوف والهم والحزن وضيق الصدر"1.
وقال أيضاً: "ومن عقوباتها أنها توقع الوحشة العظيمة في القلب، فيجد المذنب نفسه مستوحشاً قد وقعت الوحشة بينه وبين ربه، وبينه وبين الخلق، وبينه وبين نفسه، وكلما كثرت الذنوب اشتدت الوحشة"2.
وقال في سر ذلك: "وسر المسألة أن الطاعة توجب القرب من الرب سبحانه، وكلما اشتد القرب قوي الأنس، والمعصية توجب البعد من الرب، وكلما زاد البعد قويت الوحشة"3.
ولا شك أن هذه الأدواء المزمنة المتمثلة في الخوف والقلق والوحشة والضيق، سوف تؤدي بصاحبها إلى طلب الخلاص منها، وإذا أضيف إلى ذلك ضعف البصيرة وقسوة القلب الناتجة عن المعاصي، وكون المعاصي تطلب ما يلائمها، فإن الغالب على من قامت به أن يطلب الخلاص منها في أمور محرمة أخرى تزيد في مرضه وبعده عن الطمأنينة، فالمعاصي يجر بعضها بعضاً.
والكثير المشاهد أن هذه القلوب التي أحرقها لهيب الوحشة والقلق والضيق، تهرع إلى وسائل الترفيه والمرح التي لا يخلو بعضها من محرم
1 الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي ص50، 51.
2 نفس المصدر والصفحة.
3 نفس المصدر والصفحة.
وفتنة، وبعضها ينطوي على جملة من المحرمات، كممارسة الغناء والرقص أو سماعه ومشاهدته، ومشاهدة مواد التلفزيون وأشرطة الفيديو الفاسدة، والتردد على المسارح والسينما التي تُبث من خلالها الأفكار الهدامة على نطاق واسع، وأساليب مختلفة، ومن ذلك كثرة النزهات والتردد على الملاهي التي لا يخلو الكثير منها من الفتنة واختلاط الرجال بالنساء وبعض المحرمات، والإفراط في الاشتغال بالأدب والرياضة والفنون، وقراءة الروايات والمجلات التي تصد عن ذكر الله وتوقد الغرائز وتحرف الأفكار، وقد تزيد الوحشة والقلق فيلجأ إلى تعاطي المسكرات والمخدرات، أو يجنح إلى الفواحش والجريمة، أو الانتحار أو يصاب بالجنون.
وقد بين بعض الباحثين في أحوال الأمم الكافرة -المولعة باللهو واللعب والترفيه- أن الناس يلجؤون إلى هذه الوسائل للتخلص من القلق1، ويقول الكاتب "بسكال"2:"إن الناس قد اخترعوا شتى ضروب اللهو أو التسلية، حتى يتجنبوا الخوف من الوحدة أو العزلة"3.
1 انظر: الموسوعة الطبية الحديثة 11/1580، وجريدة الشرق الأوسط، ص22، العدد 4124، الأربعاء 14/3/1990م، زاوية "دراسات".
2 "باسكال" مؤلف فرنسي ولد عام 1923م، وتوفي 1963م.
انظر: دائرة المعارف، بطري البستاني 5/418، مطبعة المعارف، بيروت، 1881م.
3 نقلاً عن كتاب: في سبيل موسوعة نفسية، تغلب على الخوف، لمجموعة من علماء النفس الغربيين، عرض وتقديم د. مصطفى غالب، ص13، دار مكتبة الهلال، بيروت 1985م.
وكثيراً ما استخدم شياطين الإنس والجن هذه الوسائل كطعم لصيد الناس وإيقاعهم في الفواحش والأفكار الهدامة المفسدة للعقائد والأخلاق.
قال الشيخ محمد قطب مبيناً استغلال أعداء الإسلام لهذه الوسائل في هدم الإسلام: "كان من المفاسد الجديدة التي جاء بها الاستعمار: التعالن بالفاحشة باسم "التحرر" و"الانطلاق" و"المدنية" والدعوة إلى السفور والدعوة إلى الاختلاط، وكان منها توسيع دائرة "اللهو" باسم "الفن" و "الرقي" و"الحضارة" فمرة مسرح، ومرة سينما، ومرة إذاعة ماجنة تقدم الغناء الفاحش، والتأوهات المريضة والألفاظ العاتية، ومرة يكتب عليه صراحة اسم "ملهى" ومرة.. ومرة.. ومرة"1.
وقال أيضاً: "وجدت بعد أيام الاستعمار الأولى وسائل أخرى كلها للإفساد، من أبرزها التلفزيون والفيديو
…
واتخاذ الصحافة النسوية ثم السينما والتلفزيون لإغراء المرأة بمزيد من التبذل والفساد"2.
ولخص بعد ذلك أهم أهدافهم من وراء نشر ذلك بأنها صرف
1 الجهاد الأفغاني ودلالاته، محمد قطب، ص52 مؤسسة المدينة للصحافة والطباعة والنشر، جدة ط الأولى، 1410?.
2 نفس المصدر، والصفحة.
الناس عن الصلاة بعدما صرفوهم عن تحكيم شريعة الله، والقضاء على روح الجد في الأمة، والقضاء على ما بقي من روح الجهاد فيها1.
ولا شك أن زعزعة اعتقاد المسلمين وإفقادهم الثقة والعزة بدينهم من أهم أهدافهم.
والحق أن هذه الأمور التي يلجأ إليها الناس للتخلص من القلق لا تحقق لهم هذا المطلب، بل تزيدهم قلقاً ووحشة، فهي تصرف فكر الإنسان وتشغله عمّا يعانيه من القلق مؤقتاً ما دام في لهوه، ثم يعود بعد ذلك أسوأ حالاً مما كان عليه.
ورد في الموسوعة الطبية الحديثة: "أما الإقبال على المشروبات الكحولية، والترويح السلبي من أمثال مشاهدة التلفزيون والسينما، فلا يخفف القلق، بل على العكس يزيد من سوئه"2.
"فاللهو حمض أكّال، يرهّل النفس، ويقتل الوقت، ويمنع التوجه لمعالي الأمور، وهو في الوقت ذاته مغر بالمزيد، ولا تشبع منه النفس إذا وجهت همها إليه، وإنما تسعى للاستزادة منه مع "التفنن" الدائم في التغيير! "3.
فالنفس لا تشبع من اللهو لأنه ليس علاجاً صحيحاً، لما فيها من
1 المصدر السابق، ص52، 53.
2 الموسوعة الطبية الحديثة 11/1580.
3 الجهاد الأفغاني ودلالاته محمد قطب ص53.
القلق والضيق، إذ لو كان علاجاً مناسباً لقطع القليل منه دابر الداء أو خففه. كما يحدث للمؤمن عند فعل الطاعات، لكن اللهو مسكن؛ تماماً كالحبوب المسكنة للآلام البدنية، يشعر المريض بالراحة ويسكن الألم إذا تعاطاها، والمرض في الحقيقة يزيد إذا لم يعالج بعلاجه المناسب.
وسعي النفس للاستزادة -حيث إنها كلما جربت نوعاً من اللهو بحثت عن غيره- دليل على زيادة الدافع للهو ألا وهو القلق والضيق والكآبة.
وبهذا يتبين أن القلق وعدم سكون القلب دافع لطلب الأفكار الهدامة، أو تعاطي الأمور التي تستخدم لنشرها، فهو إذاً ثغرة في القلب خطيرة، قد تؤدي بصاحبها إلى الوقوع فريسة للأفكار الهدامة المفسدة للدين. وبهذا تتبين الأهمية الكبرى للإيمان في جلب الطمأنينة للقلب، وتحصنه بذلك من الجنوح إلى شيء من أباطيل الجاهلية أو أفعالها القبيحة.
وقد جاء المجال للكلام على الطمأنينة كأثر فعال في تحصين قلب المؤمن، والله المستعان.
الطمأنينة حصن للقلب:
إذا تقرر أن قلق القلب إنما هو فقر وحاجة تدفعه إلى طلب ما يرويها ويلائمها من الشهوات المحرمة أو وسائلها من اللهو واللعب ونحوه،
أو إلى تطلب الحق في غير محله، ومن غير أهله، وفي ذلك وقوع في الأفكار الفاسدة، أو في مصائد المفسدين التي يستدرجون بها أهل الخير إلى مهاوي الرذيلة والضلال
…
إذا تقرر ذلك، فإن طمأنينة القلب وسكونه تعني غناه وركونه إلى الإيمان وعقائده وشرائعه، فلم يعد فيه قلق أو حيرة في أي مطلب علمي تدفعه إلى طلب الحق فيه من غير الوحي المبارك، وليس في قلبه مرض يميل به إلى الفاحشة أو مواردها حيث حبب الله إليه الإيمان وزينه في قلبه، وكره إليه الكفر والفسوق والعصيان، فهو مطمئن سليم. فالطمأنينة إذاً هي غنى القلب الذي يتحصن به المؤمن من كل شر فكري يؤثر في عقائده، أو عاطفي يخل بعواطفه وإرادته.
سبب طمأنينة القلب:
طمأنينة القلب وسكون النفس قضية تهم البشر جميعاً، فكل إنسان يبحث عن هذا الأمر، لذا كثر كلام المفكرين قديماً وحديثاً عن أسباب الطمأنينة وكيفية حصولها، واختلفوا في ذلك اختلافاً واسعاً، كعادتهم في كل القضايا الرئيسية الهامة.
والقرآن الكريم أنزله الله على رسوله صلى الله عليه وسلم هادياً للبشرية إلى الحق في جميع نواحي الحياة {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء:9] .
{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى
وَالْفُرْقَانِ} [البقرة:185] .
ونظراً لأهمية هذه القضية وخطورتها، فلا بد أن يأتي البيان لها فيما نزل من الوحي بوضوح يتفق مع أهميتها.
وقد جاء البيان للسبب الذي به تطمئن القلوب في كثير من النصوص، من ذلك قوله الله تعالى:{الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] .
ففي قوله: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّه} علامة على المؤمنين الذي صدقوا في إيمانهم وتمكن من قلوبهم، وهي اطمئنان قلوبهم لذكر الله، أي:"تسكن قلوبهم وتستأنس بذكر الله"1.
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله: "ثم ذكر تعالى علامة المؤمنين، فقال: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللهِ} أي يزول قلقها واضطرابها وتحضرها أفراحها ولذاتها"2.
وهذه العلامة ينبغي أن يتحقق وجودها في نفسه كل من ينتسب
1 جامع البيان لابن جرير 13/145.
2 تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان 4/108، طبع ونشر الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، الرياض 1404هـ.
للإيمان، فإن كان من الذين تنشرح صدورهم عند قراءة القرآن أو سماعه، وفي حلق العلم وسماع الدروس، ويتلذذون ويرتاحون في الصلاة، ومجالسة الصالحين، وفي كل ما يذكرون الله به أو يذكرهم به، فهو من {الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللهِ} فليحمد الله وليلزم.
أما إن كان يجد ثقلاً وانقباضاً عند ذلك، وفي المقابل ينشرح صدره ويرتاح عند سماع الغناء واللهو، وأمام الملهيات وفي مجالس القيل والقال، والغفلة أو في المعاصي، فهو ليس من {الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللهِ} بل إيمانه ضعيف، وفي قلبه مرض، وهو على خطر عظيم فليستفد من هذه العلامة وليتدارك نفسه.
أما قوله: {أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} فلها مدلول أعمق.
فهي مع تأكيدها لما تقدم من طمأنينة قلوب المؤمنين بذكر الله حيث إنه هو الحقيق بأن يطمئن له ويسكن إليه1، فهي مع ذلك تشير إلى حقيقة هامة، يحتاج إلى إدراكها كل إنسان، وعلى إدراكها أو عدمه يتحدد سلوكه في الحياة.
هذه الحقيقة هي أنه لا طريق إلى طمأنينة القلوب وسعادتها وأنسها
1 تفسير القرآن العظيم 2/512.
وبهجتها، إلا بذكر الله {أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} لا بغيره، فالسبب الوحيد لطمأنينة القلوب وشفائها من أمراضها، وزال قلقها ووحشتها هو ذكر الله، ذكر الله بمدلوله الواسع الشامل لكل ما يذكّر بالله، أو يُذكر الله به، ما يُذكر بالله من العلوم النافعة والأدلة القاطعة في الآيات البينات الناطقات أو المشاهدات، وما يذكر به الله من سائر الأذكار والعبادات، وإقامة الأحكام والمعاملات على شرع الله.
ويجمع ذلك العلم بما نزل من الوحي والعمل به. فذلك هو الطريق إلى طمأنينة القلوب وسعادتها في الدنيا والآخرة، قال تعالى مشيراً إلى هذه الحقيقة:{قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه:123-126]
قال سيد قطب رحمه الله: في تعليقه على قول الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ} "تطمئن بإحساسها بالصلة بالله، والأنس بجواره والأمن في جانبه وفي حماه تطمئن من قلق الوحدة، وحيرة الطريق، وبإدراك الحكمة في الخلق والمبدأ والمصير، وتطمئن بالشعور بالحماية من
كل اعتداء، ومن كل ضرر ومن كل شر إلا بما شاء مع الرضى بالابتلاء والصبر على البلاء، وتطمئن برحمته في الهداية والرزق والستر في الدنيا والآخرة:{أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} وذلك الاطمئنان في قلوب المؤمنين حقيقة عميقة يعرفها الذين خالطت بشاشة الإيمان قلوبهم، فاتصلت بالله، يعرفونها، ولا يملكون بالكلمات أن ينقلوها إلى الآخرين الذين لم يعرفوها، لأنها لا تنقل بالكلمات، إنما تسري في القلب فيستروحها ويهش لها ويندى بها ويستريح إليها، ويستشعر الطمأنينة والسلام" 1.
وقد يقال: إذا كانت القلوب لا تطمئن إلا بذكر الله، فكيف نجد من يطمئن بغير ذلك من اللهو والمعاصي، وغير ذلك مما هو مخالف لذكر الله؟!
فالجواب: إن طمأنينة من يتعاطى ذلك غير صحيّة، فهي راحة كاذبة لموافقتها ما قام في قلوبهم من الشر والمرض، فيشعر بنشوة وراحة لذلك، لكنها راحة مؤقتة لا تلبث أن تنقشع عن نار محرقة في القلب، لذلك يغلب على هؤلاء إدمان اللهو واللعب والمرح، أو المسكرات والمخدرات هرباً من مجابهة ما يثور في قلوبهم من النكد والضيق إذا فتر اللهو.
وقد أشار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إلى هذا النوع من الراحة
1 في ظلال القرآن 5/94.
التي يجدها مرضى القلوب، وأنها ليست ناتجة عن منفعة حقيقية، وصلاح في القلب وزوال لمرضه، وإنما هي راحة مؤقتة مع بقاء أصل المرض الذي كدر القلب، فالقلب في الحقيقة قلق مضطرب منكود، فقال: "والتحقيق أن الحسد هو البغض والكراهة لما يراه من حسن حال المحسود وهو نوعان:
أحدهما: كراهة للنعمة عليه مطلقاً، فهذا هو الحسد المذموم، وإذا أبغض ذلك فإنه يتألم ويتأذى بوجود ما يبغضه، فيكون ذلك مرضاً في قلبه، ويلتذ بزوال النعمة عنه، وإن لم يحصل له نفع بزوالها، لكن نفعه زوال الألم الذي كان في نفسه
…
وهو راحة، وأشده كالمريض الذي عولج بما يسكن وجعه والمرض باق" 1.
وقد بين الله في كتابه حال بعض من يطمئنون بغير ذكر الله، وأن سبب ذلك مرض في قلوبهم، نتج عنه ذلك الاطمئنان المنحرف، قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يونس:7، 8] فبين سبحانه أن رضوانهم بالحياة الدنيا واطمئنانهم بها ناتج عن مرض الكفر بالله وبلقائه سبحانه، وأن ذلك كله مترتب على مرض الجهل الحاصل من
1 مجموع الفتاوى 10/111، 112.
الغفلة عن آيات الله.
وبهذا يتبين أن الطمأنينة الحق هي طمأنينة القلب السليم، الذي عمر بالإيمان وتغذى من الوحي المطهر، وانصبغت عقائده وعواطفه وانفعالاته وإراداته بالعلوم المستقاة منه، وكلما زاد الإيمان، زادت الطمأنينة واستغنى القلب وعظم انفكاكه وابتعاده عن أفكار الجاهلية وأعمالها.
الإيمان
…
والطمأنينة:
والمقصود بهذا العنوان بيان أن الإيمان بمختلف شعبه يحقق للقلب ما يصبو إليه ويتشوق لتحصيله من المعلومات والمحبوبات، والتي تُوجِد به الخير والصلاح، وتعمل على ثباته وقوته واستقراره.
ومن أجل بيان هذا المطلب المهم ينبغي معرفة ما يحتاج إليه الإنسان السوي، ويتطلع إلى حصوله من الأمور التي فطر على الحاجة إليها، أو التي يوحي له عقله بالبحث عنها لتحقيق السعادة والأمن، ثم معرفة دور الإيمان في تلبية تلك الحاجات، وسكون النفس وطمأنينة القلب بذلك، فالإنسان مفطور على أن له خالقاً أوجده ويملكه ويدبره، فهو بأشد الشوق إلى معرفة: خالقة، ومبدأ خلقه، والغرض الذي من أجله أوجده، ودوره ووظيفته التي يقوم بها، ثم مصيره ومنتهاه، وهو بحاجة إلى ركن شديد يعتمد عليه، ويركن إليه في حصول الخير الذي يصبو إليه، ويطمئن تحت حمايته من الأخطار الكثيرة التي تحيط به أو التي يتوقعها، ويستعينه
على كشف ما نزل منها، وكلما زادت معرفته بالأخطار كان قلقه وحاجته إلى الحماية والإعانة أشد، كما أنه محتاج إلى أن يعرف الاستجابة المناسبة الصحيحة لما يجري عليه أو حوله من أقدار الله. فإذا تحققت هذه المطالب سكن القلب واطمأن، وإلا كان مضطرباً قلقاً بقدر ما نقص منها. فأين يجد الإنسان ما يسد حاجة قلبه وقلق نفسه؟
لا شك أن هذه الأمور -لأهميتها وكثرة تخبط البشر في تحديدها- جاء بيانها في الوحي المطهر بياناً كشف جميع جوانبها وطرق تحصيلها، والعلم الذي يحصل به الإيمان بالله والعمل بموجبه كفيل بإشباع القلب وإرواء النفس لما ترنو إليه.
"إن في فطرة الإنسان فراغاً لا يملؤه علم، ولا ثقافة، ولا فلسفة، إنما يملؤه الإيمان بالله جل وعلا.
وستظل الفطرة السليمة تحس بالتوتر والجوع والظمأ حتى تجد الله وتؤمن به، وتتوجه إليه، هناك تستريح من تعب، وترتوي من ظمأ، وتأمن من خوف، هناك تحس بالهداية بعد الحيرة، والاستقرار بعد التخبط، والاطمئنان بعد القلق، ووجدان المنزل والأهل بعد طول الغربة والضرب في أرض التيه"1.
1 الإيمان والحياة، د. يوسف القرضاوي ص96، مؤسسة الرسالة، بيروت ط 9، 1403هـ.
وقد بين الإمام ابن القيم رحمه الله حاجات القلب الفطرية وأثر الإيمان في إشباعها بقوله: "ففي القلب شعث: لا يلمه إلا الإقبال على الله، وفيه وحشة، لا يزيلها إلا الأنس به في خلوته. وفيه حزن: لا يذهبه إلا السرور بمعرفته، وصدق معاملته. فيه قلق: لا يسكنه إلا الاجتماع عليه1، والفرار منه إليه.
وفيه نيران حسرات: لا يطفئها إلا الرضى بأمره ونهيه، وقضائه ومعانقة الصبر على ذلك إلى وقت لقائه. وفيه طلب شديد: لا يقف دون أن يكون هو وحده مطلوبه. وفيه فاقة: لا يسدها إلا محبته، والإنابة إليه، ودوام ذكره، وصدق الإخلاص له، ولو أعطي الدنيا وما فيها لم تسد تلك الفاقة منه أبداً"2.
أثر معرفة الله بأسمائه وصفاته وأفعاله في طمأنينة القلب:
إن معرفة الله بأسمائه وأفعاله وصفاته تخصب القلب بالخير في عقائده، وعواطفه وإراداته، كما أنها عامل في توازن القلب واستقراره، وكلما كانت معرفته أكمل، كان حظه من ذلك أكبر.
1 يقصد رحمه الله بالاجتماع على الله: "جمع الهمة على الله سبحانه، محبة وإنابة وتوكلاً وخوفاً ورجاء ومراقبة، وجمع الهمة على تنفيذ أوامر الله في الخلق دعوة وجهاداً، فهما جمعان: جمع القلب على المعبود وحده، وجمع الهم له على محض عبوديته". مدارج السالكين 3/459.
2 مدارج السالكين 3/172.
وذلك أن لكل اسم من أسماء الله تعالى عبودية خاصة، وأثراً معيناً في القلب والفكر والسلوك.
أما العبودية، فتكون بإثبات الاسم لله تعالى، واعتقاد أن الله متصف بما دل عليه من الصفة، وقيام العواطف المناسبة في القلب، ثم دعاؤه والثناء عليه به، بالحال التي تتناسب مع ما دل عليه من المعاني، فإذا كانت حال الداعي طلب مغفرة ورحمة، دعاه باسمه "الغفور الرحيم"، وإذا كانت حالة استشعار الرحمة وفيض النعمة أثنى عليه بالجواد الكريم المعطي المنعم
…
وهكذا.
أما أثر الأسماء -وهو المقصد الأهم في هذا المجال- فكل اسم له أثر خاص يتناسب مع ما يدل عليه من المعنى والصفة، فإن إثبات الاسم لله تعالى واعتقاد أنه متصف بالصفة التي دل عليها يحدث أثراً في القلب، فالقلب باستشعاره لمعنى الصفة يتفاعل ويتجاوب مع ذلك المعنى ويتأثر به، وينبعث لموجبه، محبة أو خوفاً، رغبة أو رهبة، أو تعظيماً وإجلالاً، أو توكلاً ورجاء.
ذلك الانفعال في القلب الناتج عن الاعتقاد، له تأثير على العواطف والإرادات والتفكير، وبالتالي على السلوك؛ ولكل اسم من أسماء الله معنى خاص وتأثير خاص، ولا تزال معاني الأسماء والصفات تتوارد على القلب وتحدث فيه تأثيراً مناسباً لكل منها، حتى تصبح فيه معرفة متكاملة لربه سبحانه وتعالى، وأثراً متكاملاً يخصب فيه نوازع الخير في عواطفه وأعماله
الصالحة، كما يصبح فه توازن مستفاد من استشعار جميع أو أغلب الصفات التي وردت في الكتاب والسنة، دون أن يستشعر معاني بعض الصفات ويتأثر بها وينفعل لموجبها، ويغفل عن استشعار ما يقابلها، فيصبح عنده خلل في أعمال القلب والتفكير والسلوك؛ فكل جهل أو ضلال بمعنى اسم من أسماء الله ينتج عنه خلل في القلب والفكر وانحراف في السلوك، ويفقد من الطمأنينة والاتزان بقدر جهله أو ضلاله.
قال ابن القيم رحمه الله: "
…
والتعرفات إلى عباده بأسمائه وصفاته، واستدعاء محبتهم له، وذكرهم له، وشكرهم له، وتعبدهم له بأسمائه الحسنى، إذ كل اسم فله تعبد خاص به، علماً ومعرفة وحالاً، وأكمل الناس عبودية: المتعبد بجميع الأسماء والصفات التي يطلع عليها البشر، فلا تحجبه عبودية اسم عن عبودية اسم آخر، كمن يحجبه التعبد باسمه "القدير" عن التعبد باسمه "الحليم الرحيم" أو يحجبه اسمه "المعطي" عن عبودية اسمه "المانع" أو التعبد بأسماء "التودد، والبر واللطف، والإحسان" عن أسماء العدل، والجبروت، والعظمة والكبرياء، ونحو ذلك"1.
أمثلة على أثر بعض الأسماء في طمأنينة القلب:
من ذلك أن إدراك العبد لمعاني أسماء الله "العليم، الخبير، الحكيم" يوجب له ثقة واطمئناناًَ إلى أن أمره ومصيره وما يجري عليه بيد ملك
1 مدارج السالكين 1/452.
مدبر عليم حكيم خبير، فيزول عنه كابوس الخوف والقلق من المستقبل والمجهول الذي ينخر قلوب الكافرين الجاهلين بربهم، ومثال ذلك، {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [النحل:60] . لو أن ركاباً في سفينة تجري في البحر علموا أن قائد السفينة عاقل حليم ماهر عالم بأحوال البحار وأمواجه، له خبرة في معرفة الطريق والجهات، فإن هذا العلم يوجب لهم أمناً واطمئناناً وثقة به، بخلاف ما لو أدركوا أنه طائش أو جاهل بالقيادة أو بأحوال البحر، فإن ذلك يوجب لهم خوفاً وقلقاً يزيد كلما زاد علمهم بالأخطار.
ومن ذلك أن استشعار القلب لصفات معينة كالتي تدل عليها أسماء الله "الرحمن، الرحيم، المنعم، اللطيف، المنان، الودود، الكريم، الجواد، الغفور، العفو، التواب"، ونحوها.
وبعض الأخبار الواردة عن الله من أن الله واسع المغفرة، وأن يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء، وأن رحمة الله قريب من المحسنين، وأن رحمته وسعت كل شيء، وشهود القلب لآثار هذه الصفات في الكون: كنزول المطر، وتجدد النعم وحصول البركات، والهداية، والأمن
…
ونحوها، كل ذلك يوجب للقلب أثراً معيناً يتمثل في محبة المنعم ورجائه سبحانه، وتعلق القلب به، وتوكله عليه؛ وذلك يوجد فيه قدراً عظيماً من الطمأنينة؛ كما أن فقه القلب لمدلول تلك الصفات يجعله يحبها، ويتخلق بتلك المعاني
الحسنة التي يحبها، فيحرص أن يكون كريماً رحيماً عفواً
…
الخ.
كما أن إدراك القلب لمعاني صفات أخرى كالتي تدل عليها أسماء الله "العزيز الجبار، المتكبر، القهار
…
ونحوها"، والأخبار والواردة عنه سبحانه من أن أخذه أليم شديد، وأنه سريع العقاب، وفعال لما يريد، وأن بطشه شديد.. ونحوها، ومشاهدة آثار ذلك في الكون من حصول المصائب والكوارث والحروب، وذهاب الأمن ووقوع الفتن، والزلازل والبراكين.. ونحوها، فإن ذلك يحدث في القلب أثراً آخر من الخوف والخشية والتعظيم والمهابة.
وهذه الأعمال التي قامت بالقلب تؤثر في العواطف والإرادات نفوراً من الظلم والشر والمعاصي التي يمقتها الله، وتوجب سخطه وعقوبته، فيقوم في القلب نتيجة لذلك محبة ورجاء مستفادة من إدراك القلب لمعاني بعض الأسماء، وخوف ورهبة وتعظيم مستفاد من معرفة القلب لمجموعة أخرى من الأسماء، محبة تدفعه وخوف يمنعه، محبة تبعث فيه الرجاء وتدفعه إلى فعل الطاعات والمسارعة إلى الخيرات طلباً لرضوان المحبوب والقرب منه، وخوف يمنعه من كل ما يغضب الله خوفاً من بعده عن محبوبه والتعرض لسخطه وعقوبته.
ولذلك جمع الله بين الخوف والرجاء في سياق واحد في معرض مدحه لعباده المؤمنين، فقال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ
أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} [الإسراء:57] .
وقال: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء:90] .
وفي الحديث عن أنس بن مالك رضي الله عنه: " أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على شاب وهو في الموت، فقال: كيف تجدك؟ قال: أرجو الله يا رسول الله وأخاف ذنوبي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن، إلا أعطاه الله ما يرجوه وآمنه مما يخاف "1.
والقلب ليس له صلاح بدونهما -الخوف والرجاء- ولا بانفراد أحدهما بالسيطرة على القلب، فإن ذلك يخرجه عن طمأنينته واستقراره، ويجنح في عواطفه وسلوكه، وتضطرب عبوديته.
فلو غلب جانب الرجاء بأن استشعر الأسماء والأخبار وما يفيده الاعتبار مما يدل على عفو الله ورحمته وكرمه ولطفه ونحوها، وحجب قلبه عما يقابلها مما يدل على مكر الله بالظالمين واستدرجه لهم وانتقامه منهم،
1 رواه الترمذي، أبواب الجنائز، الباب العاشر، ح988 2/227، وابن ماجه في كتاب الزهد، باب ذكر الموت والاستعداد له، ح4261 2/1423 واللفظ له، وأورده الألباني في السلسة الصحيحة 3/41، وحسنة بالمتابعة.
وعقوبته لمن خالف أمره، فإنه ينتج عن ذلك الأمن من مكر الله، وذلك يؤدي بصاحبه إلى أن يضرب بالمعاصي ولا يبالي، فيتوزع القلب في محبة الشهوات، وسيِّئ الإرادات فيتنازعه الهم والقلق، وفي أقل أحواله يخلد إلى الدعة والراحة وترك العمل فيما يعود عليه بالنفع في الدين والدنيا، إذ إن الطمأنينة الناتجة عن الأمن والرجاء المطلق الذي بدون خوف، هي عامل فساد وخمول وعقم في القصد والطلب، وهي ناتجة عن جهل بالله ولا يسلم من كان كذلك من مرض في عقائده أو عواطفه وسوء ظن بربه.
وقد حذر الله تعالى من الأمن من مكره وبين أنه من أحوال الخاسرين، فقال تعالى:{أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَاّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:99] .
أما إذا كان العكس بأن أدرك قلبه من معاني الأسماء والصفات ما يدل على عظمة الله وجبروته وسرعة عقابه وشدة انتقامه، وحجب قلبه عن الأسماء الدالة على الرحمة واللطف والتوبة والمغفرة
…
الخ، فيسيطر على القلب الخوف فيسلمه ذلك إلى اليأس من روح الله والقنوط من رحمته؛ مما يؤدي به إلى ترك العمل، إذ لا فائدة منه بزعمه، وهذه طامة من الطوام وكبيرة من كبائر الذنوب، تُخرج القلب عن سكينته وأنسه إلى انزعاجه وقلقه وهمه.
وقد حذر الله من القنوط من رحمته واليأس من روحه، فقال:{قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَاّ الضَّالُّونَ} [الحجر:55، 56] .
وقال حاكياً عن نبيه يعقوب عليه السلام: {يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف:87] .
وهكذا سائر أسماء الله وصفاته، فإن لمعرفتها أثراً كبيراً في سلامة القلب واتزانه، وبالتالي سلامة واتزان التفكير والسلوك، كما أن لها أثراً مهماً في طمأنينة القلب وتوكله وركونه إلى ربه، وتسليمه لشرعه، راضياً بقدره، واثقاً بعدله وحكمته، مطمئناً إلى عفوه ومغفرته عند زلته وتوبته.
قال ابن القيم رحمه الله كاشفاً هذا الأثر العظيم لمعرفة العبد بأسماء الله وصفاته، وكيف أنها تعمل في إصلاح القلب واطمئنانه واستقراره: "القرآن كلام الله وقد تجلى الله فيه لعباده بصفاته، فتارة يتجلى في جلباب الهيبة والعظمة والجلال، فتخضع الأعناق، وتنكسر النفوس، وتخشع الأصوات، ويذوب الكبر كما يذوب الملح في الماء، وتارة يتجلى في صفات الجمال والكمال، وهو كمال الأسماء وجمال الصفات، وجمال الأفعال الدال على كمال الذات فيستنفد حبه من قلب العبد قوة الحب
كلها، بحسب ما عرفه من صفات جماله ونعوت كماله، فيصبح فؤاد عبده فارغاً إلا من محبته
…
وإذا تجلى بصفات الرحمة والبر واللطف والإحسان انبعثت قوة الرجاء من العبد، وانبسط أمله وقوي طمعه وسار إلى ربه وحادي الرجاء يحدو ركاب سيره، وكلما قوي الرجاء جد في العمل
…
وإذا تجلى بصفات العدل والانتقام والغضب والسخط والعقوبة، انقمعت النفس الأمارة، وبطلت أو ضعفت قواها من الشهوة والغضب واللهو واللعب والحرص على المحرمات، وانقبضت أعنة رعونتها، فأحضرت المطية حظها من الخوف والخشية والحذر
…
وإذا تجلى بصفات السمع والبصر والعلم، انبعثت من القلب قوة الحياء فيستحيي من ربه أن يراه على ما يكره، أو يسمع منه ما يكره، أو يخفي في سريرته ما يمقته عليه، فتبقى حركاته وأقواله وخواطره موزونة بميزان الشرع غير مهملة ولا مرسلة تحت حكم الطبيعة والهوى.
وإذا تجلى بصفات الكفاية والحسب والقيام بمصالح العباد وسوق أرزاقهم إليهم، ودافع المصائب عنهم ونصره لأوليائه وحمايته لهم، ومعيته الخاصة لهم، انبعثت من العبد قوة التوكل عليه والتفويض إليه، والرضى به وبكل ما يجريه على عبده ويقيمه فيه مما يرضى به هو سبحانه، والتوكل معنى يلتئم من علم العبد بكفاية الله وحسن اختياره لعبده، وثقته به ورضاه بما يفعله ويختاره له. وإذا تجلى بصفات العز والكبرياء أعطت نفسه المطمئنة ما وصلت
إليه من الذل لعظمته والانكسار بعزته والخضوع لكبريائه، وخشوع القلب والجوارح له، فتعلوه السكينة والوقار في قلبه ولسانه وجوارحه وسمته، ويذهب طيشه وقوته وحدته"111 [40] .
ومما تقدم يتجلى أثر معرفة الله بأسمائه وصفاته وأفعاله تبارك وتعالى في طمأنينة القلب، وكلما زادت المعرفة زادت الطمأنينة والشعور بالثقة والأمن.
أثر معرفة المبدأ والغاية والمصير في طمأنينة القلب:
إن الشوق إلى معرفة المبدأ والغاية والمصير، فطري قائم في أعماق كل إنسان يسأل عنها بإلحاح، منتظراً الجواب الذي يزيل قلقه وتطمئن به نفسه.
والإسلام يقدم إجابة متميزة عن إجابة غيره، تميزاً أمدها قوة وثباتاً يبعث على الثقة والاطمئنان، والسر في ذلك أنها قائمة على مرتكزات اختصت بها أهمها:
1-
شعور المتلقي أنه يتعلم من خالقه الذي هو أعلم به وبما يصلحه.
2-
قيام الدلائل على إعجاز القرآن، وعلى صدق النبي صلى الله عليه وسلم، وكلما زاد علمه بهذه الدلائل والمعجزات كانت ثقته واطمئنانه بالعلم المستقى منها أعظم.
3-
موافقة تلك الأجوبة للفطرة.
فالعلم الذي قرره الإسلام يروي المطالب الفطرية، والتكاليف والشرائع تراعي الغرائز الفطرية، فالانسجام والتوافق في أعلى قممه بين الإسلام والفطرة الإنسانية، ولا عجب، فالإسلام هو الدين الذي شرعه خالق الإنسان.
قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الروم:30] .
4-
انسجام تلك الأجوبة مع العقل السليم.
فليس في شيء من تلك الأجوبة وتفاصيلها ما تستحيله العقول السليمة، بل إن التفكير السديد يدل على أنها متناسقة مع واقع الإنسان وما فُضل به من العقل والخلق، ويتجلى ذلك في ظهور التكريم للإنسان وتفضيله وتكليفه، ومؤاخذته في تفاصيل هذه المطالب، فالحكمة ظاهرة متناسقة.
فالعقل يدرك أن ما حصل من تكريم الله للإنسان من خلقه له بيده، وإسجاد الملائكة له، أنه يتناسب مع مكانة الإنسان ووظيفته التي كلفه بالقيام بها من الخلافة في الأرض وتحقيق العبودية.
كما أن العقل يقرر أن عبودية المخلوق لخالقه، والمتفضل عليه والذي يملكه ويدبره هي الحق المتعين، والخلافة في الأرض على منهجه هو
الغرض المتحتم، كما يحكم بأن الإنسان بما أُعطي من عقل وقدرات نفسية وبدنية هو المهيأ وحده للقيام بهذه الوظيفة على الأرض.
والعقل يرى أن العدل أن يبعث الناس للحساب، فيقتص للمظلوم من الظالم، ويجازي المحسن بالإحسان، والمسيء بالعقاب والحرمان.
فإذا تحققت هذه الخصائص في أجوبة الأسئلة الفطرية الموجودة في قلوب الناس وغيرها من العلوم، كان تقبلها لها عظيماً وركونها إليها قوياً، وأحدثت فيها سكينة واطمئناناً، وثقة في مصدر التلقي ينسحب على العلوم المستفادة منه، ويستغني به عن غيره.
وقد بين الشيخ د. يوسف القرضاوي التوافق العظيم بين الفطرة والعقل، وبين ما جاء به الوحي المطهر، فقال:
"تقول الفطرة والعقل: إن الناس لم يُخلقوا من غير شيء، ولم يخلقوا هم أنفسهم، ولم يخلقوا مما حولهم ذرة في الأرض أو في السماء.
ويقول القرآن: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ} [الطور:35-36] .
وتقول الفطرة والعقل: لا بد إذن من خالق لهذا الإنسان العجيب، ولهذا الكون العريض، ولا بد أن يكون هذا الخالق واسع العلم، بالغ الحكمة، نافذ المشيئة، عظيم القدرة، ويقول القرآن: {كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ
كَانُوا بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَاراً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [غافر:63-64] .
وتقول الفطرة والعقل: إن هذا الخالق الحكيم لا بد أن يكون وراء تنظيمه لهذا الكون، ووضع الإنسان فيه غاية وحكمة، وتعالت حكمته أن يكون خلق هذا كله عبثاً، ويقول القرآن:{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلاّ َبِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الدخان: 38-39] .
وهذا الحق الذي به خلقت السموات والأرض هو ما يستشفه العقل وتحس به الفطرة -وإن يكن إحساساً غامضاً- أن لهذا الإنسان في الوجود رسالة وأن وراء هذه الحياة -حياة الابتلاء والفناء- حياة أخرى، هي الغاية وإليها المنتهى يُجزى فيها المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، حتى لا يستوي الخبيث والطيب، والبر والفاجر، وهذا ما تقتضيه الحكمة.
ويقول الله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص:27، 28] .
{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون:115] .
وتشعر الفطرة والعقل أن لهذا الخالق العظيم -بحكم خلقه لعباده، وإمدادهم بنعم لا تحصى- حقاً عليهم: أن يُعرَف فلا يُجحد، ويُشكر فلا يُكفر، ويُطاع فلا يُعصى، ويُفرد بالعبادة فلا يُشرك به، وينادي القرآن الناس جميعاً:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:21، 22] .
ويبين القرآن الغاية من خلق السموات والأرض عامة، ومن خلق الجن والإنس خاصة، فيقول:{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} [الطلاق:12] .
{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَاّ لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} [الذاريات: 56، 57] .
وبهذه الأجوبة القرآنية اهتدى المؤمن إلى سر وجوده ووجود العالم كله، لقد عرف الله فعرف به كل شيء، وحل به كل لغز، واهتدى به
إلى كل خير، فالعالم مملكة الله، وكل ما فيه من آثار رحمة الله، والإنسان خليفة الله، خٌلِق لعبادة الله، وتحمل أمانة الله، والحياة هبة من الله، والموت قدر من الله، والدنيا مزرعة لطاعة الله، والآخرة موعد الحصاد، والجزاء من الله، والسعيد من اهتدى بهدى الله، والشقي من أعرض عن ذكر الله.
والإنسان مبتلى ومسئول في هذه الدار الفانية، ليصقل ويعد للخلود في تلك الدار الباقية، والموت هو القنطرة التي تصل بين الدارين"1.
وحيث إن خلق الإنسان ليس للإنسان أثر فيه، وبما أن المصير والمنتهى ثمرة ونتيجة لسعي الإنسان في الدنيا متوقف على مدى تحقيقه للغاية التي من أجلها خلق، فلذلك كانت معرفة الغاية والحكمة من خلق الإنسان مطلباً أساسياً في سلوك المسلم واستقراره النفسي.
والإسلام يجعل غاية الإنسان وهدفه الأساسي هو حسن الصلة بالله تبارك وتعالى، والحصول على مرضاته بالقيام بالعبودية الخالصة، فهذه غايته ومنتهى سعيه وأمله، {يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ} [الانشقاق:6] .
والكدح المجدي الذي ينتهي بصاحبه نهاية سعيدة هو القيام بحق الله، وهو عبادته وحده لا شريك له.
1 الإيمان والحياة ص103-105.
وعلى هذا فمن المهم هنا بيان أثر توحيد الأُلوهية في حصول الاستقرار والطمأنينة في نفس المؤمن.
أثر توحيد الألوهية في طمأنينة القلب:
إن شعور المسلم أن لسعيه وكدحه وجهة وغاية واحدة، هي وجه الله وابتغاء مرضاته وحده، وأن السعي والكدح يتم وفق شريعة محددة شاملة واضحة، جاءت من معبوده الذي أسلم له وجهه، وتعلقت به غايته، إن لذلك كله آثاراً عظيمة على نفسه من أهمها:
أولاً: إحساسه أن لحياته معنى وقيمة، ولعيشه طعماً، وأنه لم يخلق عبثاً، ولن يترك سدى، فهو لا يعيش في ظلام، ولا يخبط خبط عشواء، بل يسير على هدى من ربه وبينة من أمره، واستبانة لمصيره، بعد أن عرف الله وأقر بالوحدانية1
فالله الذي خلقه ويدبر أمره، منه وحده يستمد منهجه، وهو الذي يميته ويبعثه، ويغفر ذنوبه ويرحمه، وبيده وحده مصيره يوم القيامة.
{فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إلَاّ رَبَّ الْعَالَمِينَ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ وَالَّذِي أَطْمَعُ
1 انظر: سلسلة دراسات إسلامية، النفس المطمئنة، د. عبد الرحمن مرسي ص20 مطتبة وهبة، القاهرة، ط: الأولى، 1403هـ.
أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [الشعراء:77-82] .
وله وحده سعيه وكدحه، ومنه وحده يرجو الجزاء عليه.
{قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162-163] .
{بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:112] .
فلله كم يشعر الإنسان بالبهجة والغبطة والرضى، وهو يشعر أن لوجوده معنى سامياً وغرضاً نبيلاً، ويطمع في ثمرة طيبة لهذا السعي في الدنيا والآخرة!
ثانياً: سلامة النفس من التمزق والصراع الداخلي، والتوزع والانقسام بين مختلف الغايات وشتى الاتجاهات1.
"ولقد اختصر الإسلام غايات الإنسان في غاية واحدة، هي إرضاء الله تعالى، وركز همومه في هم واحد هو العمل على ما يرضيه سبحانه، ولا يريح النفس الإنسانية شيء كما يريحها وحدة غايتها ووجهتها في
1 انظر: النفس المطمئنة د. عبد الحميد مرسي ص21.
الحياة
…
فتعرف من أين تبدأ؟ إلى أين تسير؟ وفي أي اتجاه تمضي؟
ولا يُشقِي الإنسان شيء مثل تناقض غاياته، وتباين اتجاهاته، وتضارب نزعاته
…
فهو حيناً يشرق وحيناً يغرب، وتارة يتجه يميناً، وطوراً يتجه يساراً، ومرة يرضي هذا، فيغضب ذلك، وهو في كلا الحالين حائر بين رضى هذا، وغضب ذاك"1.
وقد أشار الله إلى هذا الأثر الذي يحدثه التوحيد في نفس الموحد من الاستقرار والطمأنينة، وضده من الشرك وما ينتج عنه من تشتت النفس واضطرابها.
فقال تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:29] .
ففي هذه الآية ضرب الله مثلاً للكافر الذي يعبد آلهة شتى، ويطيع جماعة من الشياطين، والمؤمن الذي لا يعبد إلا الله الواحد2.
وحول هذه الآية قال سيد قطب رحمه الله: "يضرب الله المثل للعبد الموحد والعبد المشرك بعبد يملكه شركاء يخاصم بعضهم بعضاً فيه، وهو بينهم موزع، ولكل منهم فيه توجيه، ولكل منهم عليه تكليف، وهو بينهم حائر لا يستقر على نهج، ولا يستقيم على طريق، ولا يملك أن
1 د. عبد الحميد مرسى، المصدر السابق ص21.
2 انظر: جامع البيان لابن جرير 23/213.
يرضي أهواءهم المتنازعة المتشاكسة المتعارضة التي تمزق اتجاهاته وقواه! وعبد يملكه سيد واحد، وهو يعلم ما يطلبه، ويكلفه به، فهو مستريح مستقر على منهج واحد صريح
…
{هَلْ يَسْتَوِيَان ِ مَثَلاً} إنهما لا يستويان، فالذي يخضع لسيد واحد ينعم براحة الاستقامة والمعرفة واليقين، وتجمع الطاقة ووحدة الاتجاه، ووضوح الطريق، والذي يخضع لسادة متشاكسين معذب مقلقل، لا يستقل على حال، ولا يرضي واحداً منهم، فضلاً على أن يرضي الجميع!.وهذا المثل يصور حقيقة التوحيد، وحقيقة الشرك في جميع الأحوال.
فالقلب المؤمن بحقيقة التوحيد هو القلب الذي يقطع الرحلة على هذه الأرض على هدى
…
ولأنه يعرف مصدراً واحداً للحياة والقوة والرزق، ومصدراً واحداً للنفع والضر، ومصدراً واحداً للمنح والمنع، فتستقيم خطاه على هذا المصدر الواحد، يستمد منه وحده، ويعلق يديه بحبل واحد يشد عروته ويطمئن اتجاهه إلى هدف واحد لا يزوغ عنه بصره، ويخدم سيداً واحداً يعرف ماذا يرضيه فيفعل، وماذا يغضبه فيتقيه..وبذلك تتجمع طاقاته كذلك وتتوحد، فينتج بكل طاقته وجهده وهو ثابت القدمين على الأرض متطلع إلى إله واحد في السماء
…
ويعقب على المثل الناطق الموحي بالحمد لله الذي اختار لعباده الراحة والأمن والطمأنينة والاستقامة والاستقرار، وهم مع ذلك ينحرفون
وأكثرهم لا يعلمون"1.
إن عقيدة التوحيد التي منحت المسلم الرضى بالله رباً ومعبوداً عليه يتوكل وإليه ينيب، وفي فضله يطمع، ومن قوته يستمد، وله يتودد وإليه يحتكم، جعلت منه معتصماً بالله مهتدياً إلى صراطه المستقيم.
قال تعالى: {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [آل عمران:101] .
والاعتصام بالله بأفراده سبحانه بالعبودية والتوكل والدعاء والاستعانة، كما أنه يجلب للقلب الاستقرار الطمأنينة -كما تقدم- فهو أيضاً حصن منيع يحمي الله به العبد من الأخطار جميعاً الخارجية والداخلية، المادية والفكرية التي تستهدف إفساد دينه.
قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الحج:78] .
قال ابن القيم رحمه الله مبيناً ثمرة الاعتصام بالله: "هو الدافع عن العبد -والله يدافع عن الذين آمنوا- فيدفع عنه الشبهات والشهوات وكيد عدوه الظاهر والباطن، وشر نفسه ويدفع موجب أسباب الشر بعد
1 في ظلال القرآن 7/138، 139.
انعقادها، بحسب قوة الاعتصام به وتمكنه"1.
وخلاصة ما تقدم: أن لمعرفة المبدأ والغاية والمصير أثراً هاماً حصول الطمأنينة في القلب من جهة تلبية الرغبة الفطرية لمعرفة ذلك على وجه يلائم الفطرة ولا يتعارض مع العقل.
كما أن سعي الإنسان وفق هذه المعرفة بتحقيق توحيد الألوهية بإخلاص العبودية لله، والاستسلام له في كل شؤون الحياة، من المقاصد والوسائل والغايات، عامل مؤثر في حصول السكينة وسلامة النفس من الصراع والتشتت والقلق.
وكل ذلك يجعل القلب غنياً بدينه مطمئناً به وإليه، بعيداً كل البعد عما يضاده من الأفكار والمبادئ الهدامة.
أثر التوكل على الله في طمأنينة القلب:
تقدمت الإشارة2 إلى أن الإنسان مفطور على الحاجة إلى ركن شديد يعتمد عليه، ويركن إليه، في حصول الخير الذي يصبو إليه، ويطمئن تحت حمايته من الأخطار الكثيرة التي تحيط به الظاهرة والباطنة.
وإلى هذه الحاجة يعود تدين جميع البشر على اختلاف شعوبهم وأديانهم، فكل طائفة اتخذت معبوداً تعتقد أنه مصدر للنفع لها ودافع الضر
1 مدارج السالكين 1/497.
2 انظر ص 470 وما بعدها.
عنها، تستنصره إذا خافت وتفزع إليه في الشدائد، وأكثر الأمم قد ضلوا في تعيين المعبود الحق، أو أشركوا معه غيره.
ويرى فريق من علماء النفس أن مصدر الخوف ليس وجود المخاطر والمكروهات المحدقة بالإنسان، وإنما سببه هو الشعور بأنه ليس هناك وسيلة تضمن له عدم التعرض لأي خطر من الأخطار، أو ملاذ آمن يلوذ به الإنسان ويحتمي به من ضربات القدر المفاجئة1.
وعلل هؤلاء رأيهم بأن الطفل يتعلق بأمه لإشباع حاجته إلى الحماية حيث إنها تمثل -في نظر الطفل- الملجأ الحصين الذي يلبي حاجته إلى الطمأنينة والأمن والسلام2.
وإذا كبر ونما عقله وأدرك عجز والديه عن تلبية حاجاته إلى ذلك، انتابه الخوف والقلق لعدم ركونه إلى من يلبي ذلك.
وهذه حقيقة تصور حال الكافر الخائف الحيران الذي لا يرى في الوجود وسيلة تضمن له الأمن، ولا ملاذاً يحتمي به من المخاطر والشرور.
وبها تتبين أهمية التوكل على الله للمؤمن، ومدى أثرها البالغ في حصول الطمأنينة والسكينة في نفسه.
فالمسلم هداه الله إلى وسيلة تضمن له الأمن والهداية، هي الإيمان
1 في سبيل موسوعة نفسية، تغلب على الخوف ص11.
2 نفس المصدر ص11.
الخالص وعبادة الله وحده لا شريك له.
{الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82] .
وهو يعرف ركناً شديداً يعتمد عليه ويلوذ به، ويحتمي بحماه، هو رب العالمين الذي بيده ملكوت السموات والأرض، وبأمره يقوم كل شيء.
{وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق:3] .
{وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الحج:78] .
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال:64] .
وإذا انتابه هم، أو نزلت به مصيبة، أو أصابه فزع، فهو موصول بمولاه وإلهه الملك المدبر الرؤوف الرحيم، يدعوه ويضرع إليه، واثقاً بوعده مستشعراً قربه ومعيته، يترقب نصره وتأييده وفرجه وحفظه والدفاع عنه. {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2، 3] .
{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَاّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن:11]
{إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} [الحج:38]
وهو في ذلك كله مغتبط بما شرع الله منقاد إليه، راضٍ بما قدر الله محتسب للأجر، صابر يترقب الفَرَج وحسن العاقبة.
أمره كله خير، ونفسه مطمئنة واثقة بالله وبثوابه.
فيا له من شعور عظيم بالغبطة والأمن والثقة والطمأنينة ينتاب من استشعر هذه المعاني!
قال ابن القيم رحمه الله مبيناً أثر التوكل في طمأنينة القلب: "فالتوكل: محض الاعتماد والثقة، والسكون إلى من له الأمر كله، وعلم العبد بتفرد الحق تعالى وحده بملك الأشياء كلها، وأنه ليس له مشارك في ذرة من ذرات الكون: من أقوى أسباب التوكل، وأعظم دواعيه. فإذا تحقق ذلك علماً ومعرفة، باشر قلبه حالاً: لم يجد بداً من اعتماد قلبه على الحق وحده وثقته به، وسكونه إليه وحده، وطمأنينته به وحده، لعلمه أن حاجاته وفاقاته وضروراته، وجميع مصالحه كلها: بيده وحده، لا بيد غيره. فأين يجد قلبه مناصاً من التوكل بعد هذا؟ "1.
1 مدارج السالكين 2/142.
فالتوكل على الله ثمرة من ثمرات معرفة الله، وتعلق القلب بموجب أسمائه وصفاته تبارك وتعالى.
فيتوكل على الله في مغفرة الذنوب وصرف شؤمها وعقوباتها عنه استشعاراً لأسمائه: "الغفار، والتواب، والعفو، والرؤوف، والرحيم".
وفي حصول الرزق والإحسان يتعلق قلبه بأسمائه: "الفتاح، والوهاب، والرزاق، والمعطي، والمحسن".
ويتعلق بأسمائه: "المعز، المذل، الحافظ، الرافع، المانع" في حفظه ونصره على عدوه، وفي إذلال أعداء دينه وخفضهم، ومنع أسباب النصر عنهم.
وللتوكل تعلق عام بجميع الأسماء الحسنى، وكلما كان بالله أعرف، كان توكله عليه أقوى1.
وإذا تبين أن التوكل على الله وثقة العبد واطمئنانه إلى ربه ومليكه ومدبره يمثل حصناً يحمي الله به العبد، فيكون راسخ الإيمان قوياً ثابتاً عند الابتلاء وفي مجابهة الفتن والمغريات التي تستهدف زعزعة دينه
…
إذا تبين ذلك، فإن القلق الناتج عن عدم التوكل على الله عند من قام في قلبه مرض الريب والنفاق، يكون دافعاً إلى موالاة غير المسلمين والركون إليهم والتعاون معهم على نشر الفكر الخبيث والتخطيط والمكر
1 انظر: مدارج السالكين 2/230 بتصرف.
لأهل الإسلام.
قوله تعالى: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} يدل على أن الدافع لهم للتوكل على غير الله وموالاة اليهود والنصارى هو مرض القلوب بالشك والريب والنفاق، وعلى العكس من ذلك، فالإيمان الصحيح الراسخ دافع للتوكل على الله وحده.
قوله: {يُسَارِعُونَ فِيهِمْ} أي يسرعون في موالاتهم ومصانعتهم ومناصحتهم ومساعدتهم في غش المؤمنين1.
قوله: {يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ} : بيان لغاية موالاتهم للكافرين من اليهود والنصارى وغيرهم من الكفار، وأنه بغية الحماية منهم إن
1 جامع البيان لابن جرير 6/279.
دارت على المنافقين الدوائر، أو الظفر لديهم إن كانت الدائرة للكفار. فهم إذاً سارعوا إلى موالاتهم، بعد أن توكلوا عليهم.
ولا يقف الأمر عند محبتهم وموالاتهم، وإنما يتعدى ذلك إلى الدخول مع الكفار في مخططاتهم الشريرة لحرب الإسلام، من سماع الإشاعات، وترويج الكذب والأباطيل والشبهات، والتجسس لصالح أعداء الإسلام.
قال ابن كثير رحمه الله: "نزلت هذه الآيات الكريمة في المسارعين في الكفر الخارجين عن طاعة الله ورسوله، المقدمين آراءهم وأهواءهم على شرائع الله عز وجل {قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ} أي أظهروا الإيمان بألسنتهم وقلوبهم خراب خاوية منه، وهؤلاء هم المنافقون {وَمِنَ الَّذِينَ
هَادُواْ} أعداء الإسلام وأهله وهؤلاء كلهم {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ} أي مستجيبون له منفعلون عنه {سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوك} أي يستجيبون لقوم آخرين لا يأتون مجلسك يا محمد، وقيل المراد أنهم يستمعون الكلام وينهونه إلى قوم آخرين ممن لا يحضر عندك من أعدائك"1.
وكلام ابن كثير هذا يدل على أن علاقة المنافقين بأعداء الدين تقوم على التعاون في الكيد بجماعة المؤمنين في جانبين:
الأول: استماعهم للقوم الآخرين من رؤوس الكفر والشر، وتصديقهم لكذبهم واستجابتهم لما يأمرونهم به من الشر والباطل.
الثاني: تجسس المنافقين على المؤمنين لحساب أعداء الدين، فينقلون ما يسمعون ويشاهدون إليهم ويدلونهم على عورات المؤمنين.
وقال تعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة:14، 15] .
فهذه الآية تؤكد استماع المنافقين وتعلمهم الشر، واستجابتهم للأوامر الشريرة التي تصدر من أعداء الإسلام من اليهود والنصارى
1 تفسير القرآن العظيم 2/58.
وغيرهم، يدل على ذلك قوله "شياطينهم" فَوَصْفُ أعداء الله ورسوله ودينه بأنهم شياطين وإضافتهم إليهم، يدل على أن العلاقة علاقة شر وإفساد في الأرض، وتآمر على الإسلام وأهله، وذلك من فعل الشياطين وأتباعهم.
قال ابن جرير رحمه الله: "وكذلك أخبر عنهم في هذه الآية أنهم يقولون للمؤمنين المصدقين بالله وكتابه ورسله بألسنتهم: آمنا وصدقنا بمحمد وبما جاء به من عند الله، خداعاً عن دمائهم وأموالهم وذراريهم، ودرءاً لهم عنها، وأنهم إذا دخلوا إلى مردتهم وأهل العتو والشر والخبث منهم ومن سائر أهل الشرك الذين هم على مثل الذي هم عليه من الكفر بالله وبكتابه ورسوله وهم شياطينهم -وقد دللنا فيما مضى من كتابنا على أن شياطين كل شيء مردته- قالوا لهم {قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ} أي إنا معكم على دينكم وظهراؤكم على من خالفكم فيه، وأولياؤكم دون أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، إنما نحن مستهزئون بالله وبكتابه ورسوله وأصحابه"1.
فالمنافقون الذين ركنوا إلى أعداء الله، وتوكلوا عليهم، وأحسنوا الظن بهم وأحبوهم وأعجبوا بحالهم، هم الجسر والمنفذ الذي يتسلل منه الفكر الجاهلي ويشاد برجاله، وتحسن أحواله، وتثبت نظرياته وفلسفاته
1 جامع البيان 1/129.
وسائر شروره من خلاله بين المسلمين.
قال الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين مبيناً بعض علامات النفاق: "ومنها محبة أعداء الإسلام وأئمة الكفر ومدحهم ونشر آرائهم المخالفة للإسلام، قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [المجادلة:14] "1.
وخلاصة القول: أن التوكل على الله باعث في طمأنينة القلب وثقته بربه، وتعلقه به وحده، مما يمثل حصناً يحميه من الركون إلى أعداء الله والثقة بهم، والتأثر بأفكارهم وشبهاتهم، كما أن عدم التوكل على الله أو ضعفه الناتج عن النفاق أو ضعف الإيمان، ثغرة في القلب تميل به إلى الركون إلى أعداء الله وموالاتهم ومحبتهم، والإعجاب وحسن الظن بهم، والتأثر بجاهليتهم وباطلهم وفكرهم الخبيث وسلوكهم المنحرف، ثم التعاون على نشره والترويج له في المجتمعات الإسلامية.
أثر زكاة القلب بالعلم والإيمان بالقدر في طمأنينته:
إذا عرف العبد ربه وخالقه ومدبره، وعرف الحكمة من خلقه، وأنها تنحصر في تحقيق العبودية لله، والخلافة في أرضه بشرعه، وعرف مصيره ومنتهاه، فإن ذلك سيحقق له قدراً عظيماً من الطمأنينة والسكون،
1 مجالس شهر رمضان، الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين ص130 الجامعة الإسلامية، المدينة المنورة، ط الثانية 1406هـ.
ويصرف عنه القلق الناتج عن الجهل أو الضلال في معرفة هذه المطالب.
إلا أنه سيبقى في القلب قلق كامن وشوق مستمر يثور ويشتد أحياناً إذا وجد ما يثيره ويبعثه، ألا وهو حاجته لمعرفة الكيفية التي ينبغي أن تكون عليها استجابته لأوامر الله المتوجهة إليه بمختلف أنواعها.
وأمر الله: هو كلامه الذي يأمر به1، وهو ينقسم إلى قسمين:
أمر شرعي متوجه إلى المكلفين من الإنس والجن بالأمر والنهي والتكليف، وهو كلام الله الذي يأمر به المكلفين طلباً للفعل، كقوله:{وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة:43] .
وقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [البقرة:21] ، أو طلباً للترك، كقوله:{وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} [الإسراء:32] .
2-
أمر قدري كوني: وهو كلامه الذي يأمر به الشيء الذي أراد خلقه وإيجاده، فيقول له:"كن" فيكون كما أراد وقدر.
1 ويأتي "أمر الله" بمعنى مأموره، أي الشيء الذي وجد أو سيوجد بأمره، كقوله تعالى:{أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل:1] وقوله: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء:85] ونحوها، وقد جمع الله بين الأمر بمعنى المأمور، والأمر بمعنى كلامه الذي يأمر به في أول سورة النحل بقوله:{أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} .
كما قال تعالى: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً} [الأحزاب:38] .
وقوله: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82] .
ومن ذلك قوله: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:69] .
والأمر الشرعي ينقسم إلى أمر بالفعل أو أمر بالترك.
والأمر الكوني له متعلقات كثيرة، ومنها ما يتعلق بالإنسان مما يقدر له في طبيعة خلقه: كالحسن أو القبح، والطول والقصر
…
ونحوها، أو حاله: كالغنى والفقر، وما يجري عليه من المصائب والنعم، وما يصدر منه من الطاعات والمعاصي، ومنها ما يجري على مجتمعه ومحيطه من النوازل الضار منه أو السار
…
إلى غير ذلك.
ولا شك أن التفريق بينها ومعرفة الاستجابة المناسبة لكل منها أساس عظيم في صلاح القلب وسلامته وطمأنينته، وبالتالي صلاح العبودية واستقرارها على الصراط المستقيم.
وهذا أمر عظيم زل فيه كثير ممن ينتسب إلى الزهد والعبادة والعلم فضلاً عن غيرهم ممن قل حظهم من العلم والعبادة، لذلك نجد شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتابه الجليل "العبودية" بعد أن بين معنى العبودية وحقيقتها، وما تستلزمه، وشمولها لجميع الدين، والفرق بين العبودية الكونية والشرعية، بعد ذلك ناقش حال فريق من الناس لم يفرقوا
بين الأمر الكوني القدري، والأمر الشرعي، واستغرق ذلك معظم الكتاب، وقال في بداية مناقشتهم:"وبالفرق بين هذين النوعين1 يعرف الفرق بين الحقائق الدينية الداخلة في عبادة الله ودينه وأمره الشرعي التي يحبها ويرضاها ويوالي أهلها ويكرمهم بجنته، وبين الحقائق الكونية التي يشترك فيها المؤمن والكافر، والبر والفاجر، والتي من اكتفى بها ولم يتبع الحقائق الدينية كان من أتباع إبليس اللعين، والكافرين برب العالمين، ومن اكتفى فيها ببعض الأمور دون بعض، أو في مقام دون مقام أو حال دون حال نقص من إيمانه وولايته لله حسب ما نقص من الحقائق الدينية، وهذا مقام عظيم غلط فيه الغالطون، وكثر فيه الاشتباه على السالكين، حتى لزق فيه من أكابر الشيوخ المدعين للتحقيق والتوحيد والعرفان ما لا يحصيه إلا الذي يعرف السر والإعلان"2.
1 بين رحمه الله هذين النوعين فيما سبق من كلامه في الكتاب المذكور وخلاصته:
النوع الأول: هي العبودية التي يمتثل فيها أمر ربه الشرعي الذي كلفه به، ويكون العبد بمعنى: العابد.
النوع الثاني: العبودية العامة التي يخضع لها جميع الخلق، والمتعلقة بأمر الله القدري الكوني الذي يجري على المؤمن والكافر والبر والفاجر، ويكون العابد بمعنى المُعبَّد انظرص50، 51 بتصرف.
2 العبودية، لشيخ الإسلام ابن تيمية ص50، 51 المكتب الإسلامي، بيروت ط: الخامسة، 1399هـ.
وبين ابن القيم رحمه الله أهمية هذا الفرق بين الأمر القدري الكوني الذي يرضى به العبد، وبين الأمر الشرعي الذي يجب عليه فيه فعل ما أمر به وعدم الرضى بفعله الذي يخالف الشرع، كما أشار إلى اضطراب كثير من الناس في ذلك، فقال:"وهذا هو التفصيل الواجب في الرضى بالقضاء. وقد اضطرب الناس في ذلك اضطراباً عظيماً، ونجا منه أصحاب الفرق والتفصيل"1.
وبعد هذه الإشارة إلى أهمية التفريق بين الأمر القدري، والأمر الشرعي، واستجابة العبيد لكل منها، وقبل بيان أثر هذه المعرفة المتزنة، وأثر الرضى بالقدر في حصول الطمأنينة للقلب، أذكر قبل ذلك باختصار أنواع الأوامر الشرعية والقدرية، والاستجابة المناسبة لكل منها، لتتم الفائدة بإذن الله.
أولاً: الأمر الشرعي.
التكليف الإلهي للإنسان ينحصر في أمرين: عبادة الله، والخلافة في الأرض وعمارتها.
ففي مجال العبادة: هو مأمور بفعل الطاعات، واجتناب المعاصي والمحرمات.
1 مدراج السالكين 2/197.
قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَاّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] .
والاستجابة المناسبة لذلك تتم بأصلين:
الأول: الاجتهاد في فعل أسباب الهداية والنجاة، علماً وعملاً بقدر استطاعته واجتناب أسباب الضلال والهلاك.
قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ} [الحشر:7] .
وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال:24] .
الثاني: التوكل على الله والاستعانة به في التوفيق لذلك وتيسيره، والثبات عليه، والإحسان فيه وإتمامه، وقد جمع الله بين هذين الأصلين بقوله:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] .
وقوله: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود:123] .
وفي مجال الاستخلاف في الأرض: فالإنسان مأمور أن يسعى في الأرض لإصلاحها وإقامة الحق والعدل فيها، ويسعى في مصالح نفسه ومجتمعه، كل ذلك وفق شريعة الله.
قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:30] .
والاستجابة لذلك تكون بالأصلين السابقين، وهما:
فعل الأسباب المناسبة، والتوكل على الله والاستعانة به في التوفيق إليها وتيسيرها وإنجاحها والمباركة فيها وحصول الخير منها.
ففي الحكم بين الناس يطبق شرع الله وأحكامه وحدوده، وهي الأسباب التي شرعها الله لتسير عليها حياة الناس سيراً صحيحاً آمناًَ.
وفي جوانب الحياة الأخرى -التي يحتاج إليها المسلمون لصلاح حياتهم كالتجارة، والصناعة، والزراعة.. ونحوها، أو لحمايتهم وجهادهم كإعداد السلاح وتصنيعه- يأخذون بكافة الأسباب المتاحة المشروعة، ويجتهدون في ذلك علماً وعملاً، مع التوكل على الله في تيسيرها وتسهيلها وإنجاحها، والمباركة فيها.
قال تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة:10] .
وقال: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ} [الأنبياء:80] .
وقال: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} [الواقعة:64، 65] .
وقال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال:60] .
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجز
…
"1.
ثانياً: الأمر القدري الكوني.
ونقصد هنا ما كان له علاقة أو أثر على الإنسان، وهو في الجملة ينقسم إلى أربعة أقسام رئيسية هي:
1-
النعم والمسرات، من حصول الأمن ورغد العيش، وتيسر أسباب الحياة. واستجابة العبد لذلك، تكون بالثناء على المنعم، والإحسان في عبادته وإلى خلقه، وتقدير النعمة بصيانتها عن الترف والإسراف والطغيان، وبذلك يكون شكرها.
قال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7] .
2-
نعمة الهداية والتوفيق، وما يتصل بها من البركات العامة
1 رواه مسلم، كتاب القدر، باب الأمر بالقوة وترك العجز والاستعانة بالله وتفويض المقادير لله، ح2664 4/2052.
لجماعة المؤمنين، أو الخاصة لأفرادهم.
والاستجابة لذلك تكون بالفرح بها، والثناء على الله وذكره وشكره عليها، ويتم ذلك بالعناية بها والمحافظة عليها علماً وعملاً، والتواصي بإقامة دين الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله والجهاد في سبيله.
قال تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58] .
3-
المصائب التي تقع على عامة الناس، أو تخص بعضهم.
والاستجابة المناسبة لهذا النوع تكون بالصبر والرضى وحسن الظن بالله، قال تعالى في آية البر في معرض بيان صفات الأبرار.
{وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ} [البقرة:177] .
وقال جل ذكره: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ
وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:155-157] .
4-
المعايب والمعاصي التي يقع فيها الإنسان.
والاستجابة المناسبة لذلك، أن يتوب ويستغفر ولا يرضى بفعله الذي خالف به شرع ربه.
قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135] .
وبعد هذه الإشارة الموجزة إلى أهم أنواع الأوامر الإلهية المتوجهة للعباد، وما ينبغي أن تكون عليه استجابتهم إزاء كل نوع منها، أصل بعون الله إلى المقصود، وهو بيان أثر هذه المعرفة، وأثر الرضى بالقدر-وفق التفصيل المتقدم- في تزكية القلب وطمأنينته.
فأقول وبالله التوفيق:
لا شك أن استقرار القلب على يقين في هذه المطالب الهامة، وبهذا الوضوح، يجلب للقلب الثبات والثقة، ويرفع عن كاهله الحيرة والشك والمخاوف، ويسهل عليه الطريق، وسر هذا الأثر القلبي هي الواقعية في التكليف المتوجه إلى العباد، والمتمثلة في التفريق بين الاستجابات بما يتناسب في كل أمر مع استعدادات الإنسان وطاقاته.
ففي جانب الأمر الشرعي يراعي تمتع الإنسان بالعقل والقدرة، فالعقل يفهم به الخطاب، ويميز به، والقدرة يزاول بها الأسباب التي كلف بها.
فالمؤمن يؤدي ما كلف به عن رضى بالله وبشرعه، حيث يدرك انه بمقدوره وليس شاقاً عليه.
{لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَاّ وُسْعَهَا} [البقرة:286] فهو يدرك أنه مسئول مطلوب منه بذل الجهد المستطاع في امتثال الأمر.
ومن جهة أخرى يشعر بالغبطة والرضى، حين يشعر أنه في طاعة ملك الملوك مدبر السموات والأرض، وأنه يرضى عنه مادام قائماً بطاعته، ويكون معه يحوطه بعنايته وتوفيقه في الدنيا، ويجزيه خير الجزاء في الآخرة، مما يجعله يؤدي الواجبات ويتجافى عن المحرمات متلذذاً بذلك مرتاحاً إليه.
ومن جهة ثالثة يشعر بالأمل والثقة لمعرفته أن باب التوبة مفتوح فيما لو زل وخالف شرع ربه، وأن بإمكانه التوبة والرجوع والإقلاع عن ذنبه، وسوف يجد الله تواباً رحيماً، وفي هذا عظيم الأثر في طرد اليأس والقنوط، ومنع انغلاق النفس، وغلبة الوساوس.
وهذه الأسس المتمثلة في: الشعور بالمسئولية والتكليف، والرضى والغبطة بالقيام بذلك، واستشعار محبة الله مع الأمل والثقة بحسن العاقبة، هي العوامل الرئيسية في طمأنينة النفس وعطائها المثمر الخير، وفي إحساسها بالسعادة والرضى.
وفي جانب الأمر القدري يراعى فيه ضعف الإنسان وأن عقله
صغير، وعلمه قاصر، وقدرته محدودة محكومة بإرادة الله النافذة، فما عليه إلا أن يصبر على ما يجري عليه من الشدائد والمصائب التي لا قدرة له على ردها ويرضى محسناً الظن بربه الحكيم الخبير، محتسباً الأجر وحسن العاقبة.
والباعث على الرضى على المقادير أمور:
منها علمه أنه لم يخلق ليدوم، وإنما خلق ليكدح ويعمل ثم ينقطع أثره من هذه الدنيا، والخلود إنما هو في الدار الآخرة، ويعلم أن الدنيا دار ابتلاء وامتحان واختبار، وأن كل ما يجري عليه إنما هو نوع من ذلك، أما السلامة والأمن التامان فهما في دار السلام. كما يبعث على الرضى حسن ظنه بالله واستشعاره لأسمائه وصفاته الحسنى، وأنه رحيم بعباده، عليم بما هو خير لهم، فالرضى بالله وعن الله1 هما ركنا الهداية ومفاتح
1 الرضى بالله: أي الرضى به رباً وإلهاً، قال ابن القيم:"فالرضى به رباً متعلق بذاته وأسمائه وصفاته، وربوبيته، وحكماً ووكيلاً وولياً، وناصراً ومعيناً وكافياً وحسيباً ورقيباً، ومبتلياً ومعافياً، وقابضاً وباسطاً إلى غير ذلك من صفات ربوبيته
…
فالرضى بالله يتضمن توحيده وعبادته والإنابة إليه، والتوكل عليه، وخوفه ورجاءه ومحبته، والصبر له وبه، والشكر على نعمه
…
" مدارج السالكين 2/192، 193.
والرضى عن الله: أي الرضى عنه فيما أولى وأعطى، قال ابن القيم:"وأما الرضى عنه: فهو رضى العبد بما يفعله به، ويعطيه إياه، ولهذا لم يجئ إلا في الثواب والجزاء". نفس المصدر 2/192.
السعادة في الدنيا والآخرة.
وقد بين الله تعالى أثر الإيمان بالقدر في تخليص القلب من القلق الناتج عن الحزن على فوات محبوب، أو الخوف من حصول مكروه، فقال:{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [الحديد:22، 23] .
ففي هذه الآية بين سبحانه عموم قدره، وأنه شامل لعموم المصائب التي تصيب الخلق من خير وشر، فكلها قد كتب في اللوح المحفوظ.
وحيث إن الناس ليس في مقدورهم دفع المقادير ولا تغييرها، فما هي الحكمة إذاً من إخبارهم بالقدر السابق؟
إن الحكمة من ذلك بينها ربنا بقوله: {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} .
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله: "وأخبر الله عباده بذلك، لأجل أن تتقرر هذه القاعدة عندهم، ويبنوا عليها ما أصابهم من الخير والشر، فلا ييأسوا ويحزنوا، على ما فاتهم، مما طمحت له أنفسهم، وتشوفوا إليه لعلمهم أن ذلك مكتوب في اللوح المحفوظ، لا بد من نفوذه
ووقوعه، فلا سبيل إلى دفعه، ولا يفرحوا بما آتاهم الله، فرح بطر وأشر، لعلمهم أنهم ما أدركوه بحولهم ولا قوتهم، وإنما أدركوه بفضل الله ومنّه، فيشتغلوا بشكر مَن أولى النعم ودفع النقم"1.
فالله تعالى أخبر أنه قدّر المقادير، وجعل ذلك جزءاً من اعتقاد المسلم كي يحدث ذلك الاعتقاد أثره في نفسه، فلا يحزن حزناً شديداً-عند المصيبة- يخرجه إلى الجزع والسخط واليأس، ولا يفرح فرحاً شديداً -عند النعمة- يحمله على البطر والبغي، وهذا أثر عظيم يُكسبه توازناً في مشاعره وسلوكه، واستقراراً وطمأنينة في حياته، ورضى وتسليماً لربه العليم الحكيم.
إلا أن هناك نوعاً من المصائب تكون شديدة الوطأة، تحدث في النفس انفعالاً حاداً، يخرج الإنسان بسببه من سلطان عقله، وتصبح تصرفاته طائشة غير منضبطة، مما قد يدفعه إلى بعض الأفعال التي تعود عليه بالضرر في دينه أو دنياه.
وإزاء هذا النوع من المصائب نجد أن للإيمان أثراً معيناً يتناسب مع طبيعة ما تحدثه من الأثر، فالإنسان في مثل هذه المواقف –التي يضعف فيها تأثير العقل- بأشد الحاجة إلى مؤثر خارجي يكبح جماحه ويسدد تصرفاته.
1 تيسير العزيز الرحمن في تفسير كلام المنان 7/299، 300.
وهذا هو الذي يحدث تماماً للمؤمن، فقد بين الله تعالى أن الإيمان سبب لحصول ولاية الله وعنايته بعبده عند المصيبة، فيهدي قلبه ويربط عليه ويثبته، فلا يتصرف تصرفاً أحمقَ يعود عليه بالضرر في دينه أو دنياه.
قال تعالى مبيناً هذا الأثر: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [التغابن:11] .
قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية: "أي ومن أصابته مصيبة فعلم أنها بقضاء الله وقدره فصبر واحتسب واستسلم لقضاء الله هدى الله قلبه، وعوضه عما فاته من الدنيا هدى في قلبه ويقيناً صادقاً، وقد يخلف عليه ما كان أخذ منه أو خيراً منه"1.
فالمراد بقوله: {وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ} : أي يعلم ويؤمن بقدر الله ويطمئن إلى أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه.
وقوله: {يَهْدِ قَلْبَهُ} : أي يزيده إيماناً وتصديقاً وصلاحاً وثباتاً، وتكون الهداية متناسبة مع شدة المصاب، وحاجة العبد وهو في هذه الحالة في أشد الحاجة إلى أن يربط على قلبه ويسدد انفعالاته وإراداته، فالله يثبت عبدهُ بما شاء، وكيف شاء.
وعلى هذا فالعلم والإيمان بالقدر، والرضى به، من أهم أسباب
1 تفسير القرآن العظيم لابن كثير 4/375.
طمأنينة القلب. وقد ذكر ابن القيم رحمه الله ثنتين وستين فائدة للرضى1، أذكر منها ما له علاقة في أثر الرضى في حصول الطمأنينة والسكينة لقلب المؤمن، قال رحمه الله:"إن السخط باب الهم والغم والحزن، وشتات القلب، وكسف البال وسوء الحال، والظن بالله خلاف ما هو أهله، والرضى يخلصه من ذلك كله، ويفتح له باب جنة الدنيا قبل جنة الآخرة"2.
وقال أيضاً: "إن الرضى يوجب له الطمأنينة، وبرد القلب، وسكونه وقراره، والسخط يوجب اضطراب قلبه، وريبته وانزعاجه، وعدم قراره"3.
كما قال: "إن الرضى ينزل عليه السكينة التي لا أنفع له منها، ومتى نزلت عليه السكينة، استقام، وصلحت أحواله، وصلح باله، والسخط يبعده منها بحسب قلته وكثرته، وإذا ترحلت عنه السكينة ترحل عنه السرور والأمن والدعة والراحة، وطيب العيش، فمن أعظم نعم الله على عبده: تنزل السكينة عليه، ومن أعظم أسبابها: الرضى عنه في جميع الحالات"4.
1 انظر: مدارج السالكين 2/214-239.
2 نفس المصدر 2/216.
3 نفس المصدر 2/216.
4 نفس المصدر 2/216.
وبهذا يتبين أن زكاة القلب بالعلم والإيمان بالقدر وفق ما دل عليه الكتاب والسنة، وقرره السلف الصالح يجلب للقلب الاتزان والطمأنينة والسكينة.
وفي مقابل ذلك فإن اضطراب تلك المعرفة بالجهل أو الضلال في هذا الباب يجلب للقلب قلقاً وحيرة، وسوء ظن بالله، وعدم رضى عن الله؛ يزيد ذلك وينقص بقدر الجهل والضلال الحاصل في العلم الإيمان بتفاصيل القدر.
وهذا القلق وعدم الرضى يدفع صاحبه إلى البدع والأهواء والمعاصي، وقد أشار ابن القيم رحمه الله إلى هذه الثغرة الخطيرة في حصن القلب بقوله:"إن عدم الرضى يفتح باب البدعة، والرضى يغلق عنه ذلك"1.
وقال أيضاً: "إن أول معصية عصي الله بها في العالم إنما أنشأت من عدم الرضى، فإبليس لم يرض بحكم الله الذي حكم به كوناً، من تفضيل آدم وتكريمه، ولا بحكمه الديني، من أمره بالسجود لآدم، وآدم لم يرض بما أبيح له من الجنة، حتى ضم إليه الأكل من شجرة الحمى، ثم ترتبت معاصي الذرية على عدم الصبر وعدم الرضى"2.
1 المصدر السابق 2/220.
2 نفس المصدر 2/223.
وعلى هذا يتبين بجلاء أثر تزكية القلب بالعلم والإيمان بالقدر في طمأنينة القلب واستقراره، ورضاه عن ربه وزوال القلق الدافع إلى الأفكار الهدامة أو مواردها.
وخلاصة هذا المبحث: أن طمأنينة القلب تنتج عن: تزكيته بالإيمان الصحيح القوي، القائم على معرفة الله بأسمائه وصفاته وأفعاله، واعتقاد تفرده بذلك وإخلاص العبادة له وحده، واستشعار القلب بأن الله خالقه ومدبره وإليه مرجعه، وأن سعيه سوف يرى ويجازى عليه، وتوكل العبد على ربه وحده والإيمان بالقدر القائم على التمييز بين الأمر الشرعي المكلف به العبد، والأمر الكوني الجاري على العبيد وفق القدر السابق، ومعرفة الاستجابة الصحيحة المناسبة لكل منها.
وإذا اطمأن القلب استغنى بالإيمان والعلم المُتلّقى من الوحي، وسكن واستأنس بربه، واشتغل بما يرضيه. وفتح له بابُ الرضى عن ربه، الأملَ بمعونته وتوفيقه له في الدنيا، والرضى عليه وإكرامه في الآخرة.
كما أن القلب إذا اطمأن زال قلقه ومرضه الذي يدفعه إلى الأفكار الهدامة المخالفة، أو ممارسة أساليب اللهو والترفيه ونحوها التي كثيراً ما تكون ستاراً لترويجها.