الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني: أثر القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في تحصين المجتمع من الأفكار الهدامة
تقدم الكلام على أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للمجتمع المسلم، وأن ذلك الأمر من صفات أهل الحق من النبيين وأتباعهم، وأنه من أخص وظائف هذه الأمة وسر أفضليتها، وهو الوسيلة التي يجابهون بها كيد المفسدين ويتحصنون به من تسلل الشرور إلى مجتمعاتهم.
وحيث إن هذا البحث يدور حول آثار الإيمان وشعائره في وقاية المؤمنين من الأفكار الهدامة، فسوف أشير في هذا المطلب إلى أثر هذه الشعيرة في هذه الناحية خاصة.
إن المنافقين والحاقدين على هذا الدين يدركون أن دعوة المسلمين مباشرة إلى ترك الدين، أو المجاهرة بما يخالفه أمر ينفر منه المؤمن، ويتحفزون لمجابهة الداعين إليه، لذلك فهو يلجؤون إلى أساليب غير مباشرة تنطوي على الخبث والتدرج، ووسيلتهم في ذلك نشر الأفكار الضالة المستوردة من الجاهليات القديمة والحديثة، وإلباسها لباس الإسلام بزخرف القول وصنوف من التلبيسات والشبهات بقصد حرف المفاهيم لدى المسلمين.
وهذا الأسلوب لا ينجح إلا إذا جاهر أولئك المبطلون بدعواتهم وهُيئت لهم الفرصة لمخاطبة أفراد المجتمع، وذلك لا يتسنى لهم إلا بغياب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الواعي الحازم، لذلك يجب أن تكون الأمة يقظة مهتمة بذلك، محافظة على وسائل الاتصال العامة من أن يتطرق إليها خلل يسمح للمفسدين بمخاطبة المجتمع ونشر تلبيساتهم.
"إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ضمانة للبيئة من التلوث الفكري والأخلاقي، وهذا النوع من التلوث لا يقل خطورة وفتكاً عن التلوث الحسي الذي ينجم -مثلاً- عن الحرب الجرثومية التي تفزع الناس، وتقض مضاجعهم، أو غيرها من وسائل التلوث.
فإتاحة الفرصة مثلاً لأهل الرذيلة ليمارسوا الفساد من خلال الأغنية والمجلة والكتاب، والأجهزة المرئية، وبيوت الدعارة، وغيرها، هذا يلوث البيئة العامة وينشر الوباء الأخلاقي الفاتك في المجتمع، مما يعسر مهمة المصلحين ويجعلهم يقفون أحياناً عاجزين عن مقاومة تيار الانحلال.
وقل مثل ذلك في نشر الشبهات الفكرية التي تشكك الناس في دينهم من خلال الكتاب، والمجلة والجريدة، والشريط، والقصيدة ونحوها، فإن في ذلك أيضاً تلويثاً للبيئة من الناحية الفكرية، مما يجعل كثيراً من الناس يتخبط في بحر الشبهات التي تتجاذبه من هنا وهناك
…
والمجتمع الذي تظهر فيه المنكرات -فكرية أو أخلاقية- يتعرض لهزات عظيمة لا يعلم مداها إلا الله، ولهذا قيل: إن المنكر إذا خفي، لم
يضر إلا صاحبه، أما إذا أعلن، فإنه يضر الخاصة والعامة
…
وكم هو محزن أن ينشأ بعض أطفال المسلمين في بيئات ملوثة بالسموم الفكرية أو الأخلاقية أو غيرها من سموم الفساد، فيرضعون الرذيلة مع حليب الأم، ويستنشقون الهواء الملوث بالجراثيم المعنوية الفاتكة، فينشأ أحدهم ضحل الثقافة، بعيداً عن الدين، منحرف الفكر والسلوك، غاية علمه خليط من قمامات الأغاني، والتصورات التائهة، والاهتمامات التافهة لا يكاد يقيم آية من القرآن الكريم، يستنكر المظاهر الإسلامية إذا رآها لأنه لم يعتدها ولم يألفها، فيستوحش مثلاً من منظر المرأة المحجبة العفيفة، ويستغرب من صنيعها، لأنه ترعرع في بيئة ملوثة بضروب الجراثيم السلوكية والفكرية"1.
ومحصلة هذا الوضع التمزق الفكري، والاختلاف في القناعات والمفاهيم، ثم التبيان في السلوك والمناهج، ثم التحزب والتكتل على تلك المناهج، ونهاية المطاف التناحر والخصام.
فالبداية كانت في التفريط في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو سوء استخدامه، كالإنكار عن جهل أو الغلو في الإنكار.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله مبيناً العلاقة بين الاختلاف
1 حتى لا تغرق السفينة ص22-24.
والتفريط بهذه الوظيفة: "وإذا كان الكفر والفسوق والعصيان سبب الشر والعدوان، فقد يذنب الرجل والطائفة، ويسكت آخرون عن الأمر والنهي، فيكون ذلك من ذنوبهم، وينكر آخرون إنكاراُ منهياً عنه، فيكون ذلك من ذنوبهم، فيحصل التفرق والاختلاف والشر، وهذا من أعظم الفتن والشرور قديماً وحديثاً، إذ الإنسان ظلوم جهول، والظلم والجهل أنواع، فيكون ظلم الأول وجهله من نوع، وظلم كل من الثاني والثالث وجهلهما من آخر وآخر. ومن تدبر الفتن الواقعة رأى سببها ذلك، ورأى أن ما وقع بين أمراء الأمة وعلمائها، ومن تبعهم من العامة في الفتن هذا أصلها"1.
فحصول الفتن والتفرق وضع حاصل من ظلم مركب من بغْي وانحراف بعض أفراد المجتمع، والسكوت أو الإنكار غير السديد من البعض الآخر.
قال الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين مبيناً أثر الإخلال بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في حصول الاختلاف والتفرق: "فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دعامتان قويتان لبقاء الأمة وعزتها ووحدتها، حتى لا تتفرق بهم الأهواء وتتشتت بها المسالك، ولذلك كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من فرائض الدين على كل مسلم ومسلمة مع
1 رسالة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ص76، 37.
القدرة، {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران:104، 105] .
فلولا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لتفرق الناس شيعاً، وتمزقوا كل ممزق كل حزب بما لديهم فرحون
…
"1.
فالفرقة والاختلاف كما أنها النتيجة الحتمية للفوضى الفكرية السائدة في المجتمع بسبب غياب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهي أيضاً أنسب الظروف لاستعار الأفكار الهدامة، ونشاط المروجين لها، وانقسام المجتمع وتحزبه عليها.
فبهذا يتبين أثر الإيمان من خلال شعبة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في تحصين المجتمع وصيانته من الأفكار الهدامة، وأنه دعامة قوية وهامة يجب المحافظة عليها، والحزم في إقامتها للمحافظة على الأسس التي يقوم عليها المجتمع المسلم.
1 مجالس شهر رمضان 97.