المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الثاني: أثر التزكية في حصول النور والفرقان - أثر الإيمان في تحصين الأمة الإسلامية ضد الأفكار الهدامة - جـ ٢

[عبد الله بن عبد الرحمن الجربوع]

فهرس الكتاب

-

- ‌المجلد الثاني

- ‌الباب الثاني: أثر الإيمان في تحصين القلب ضد الأفكار الهدامة

- ‌الفصل الثالث: أثرالإيمان في تزكية القلوب

- ‌المبحث الأول: أثر التزكية في طمأنينة القلب

- ‌المبحث الثاني: أثر التزكية في حصول النور والفرقان

-

- ‌الباب الثالث: أثر الإيمان في تحصين المجتمع المسلم ضد الأفكار الهدامة " الأثر الإجتماعي

-

- ‌الفصل الأول: أثر الرابطة الإيمانية والأخلاق والنظم الإسلامية في صيانة المجتمع المسلم من الانحراف الفكري

-

- ‌المبحث الأول: أثر المحافظة على الرابطة الإيمانية في الحصانة الفكرية

- ‌المطلب الأول: أثر الالتزام بالأخلاق الفاضلة في تقوية الرابطة الإيمانية

- ‌المطلب الثاني: أثر قيام أفراد المجتمع بالحقوق المفروضة لبعضهم على بعض في قوة الرابطة الإيمانية

- ‌المطلب الثالث: الالتزام بالنظام الاجتماعي والاقتصادي الإسلامي وأثره في قوة الرابطة الإيمانية

- ‌المطلب الرابع: المحافظة على الوحدة الفكرية

-

- ‌المبحث الثاني: العمل على سلامة مقومات المجتمع المسلم

- ‌المطلب الأول:أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وكونه واجباً اجتماعياً

- ‌المطلب الثاني: أثر القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في تحصين المجتمع من الأفكار الهدامة

-

- ‌الفصل الثاني: دور ولاية الأمر في حماية المجتمع من الأفكار الهدامة

- ‌المبحث الأول:ضوابط الإمامة في المجتمع المسلم

- ‌المبحث الثاني: وظائف الإمامة، ومقاصد الحكم

- ‌الفصل الثالث: أثر وضع الدولة المتمكن في الأرض في تحصين المجتمع ضد الأفكار الهدامة

- ‌مصادر ومراجع

الفصل: ‌المبحث الثاني: أثر التزكية في حصول النور والفرقان

‌المبحث الثاني: أثر التزكية في حصول النور والفرقان

إن القلب إذا تزكى بالعلم المستمد من الكتاب والسنة، وما يتولد عن ذلك من العقائد الصحيحة، والعواطف السليمة، والإرادات الخيرة، فإنه يشرق بالنور ويصبح لديه -بفعل هذه الأمور- ملكة يعرف بها الحق، ويميز بها الخير والشر، والهدى والضلال، ويتجافى بها عن الأفكار الهدامة وسائر الأخطار.

وهذا الأثر من أهم آثار الإيمان التي يكرم الله بها المؤمن.

فمن المعلوم أن اجتناب الطاغوت شرط لصحة الإيمان، كما قال تعالى:{فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:256] .

وقال: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ} [الزمر:17] .

فالمسلم الذي اجتنب الطاغوت، وتبرأ من الكفر والشرك وأهله وتجافى عن كل خصائص الجاهلية، يلزمه الاستمرار على ذلك، لاستمرار إيمانه وصحته.

ص: 521

وحيث إن أمور الجاهلية -ومنها الأفكار الهدامة- كثيرة متشعبة، يروج لها دعاة الضلال، ويزخرفونها بالشبهات، كما أخبر الله بذلك بقوله:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} [الأنعام:112] ، فقد جعل الله للمؤمن حصناً يحتمي به من ذلك، ألا وهو النور والفرقان في قلبه، يفرق بهما بين الهدى والضلال، فيستمر في اجتنابه للطاغوت وموارد الهلكة التي تحيط به.

قال تبارك وتعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:122] .

قال ابن جرير رحمه الله: " {فَأَحْيَيْنَاهُ} ، يقول: فهديناه للإسلام فأنعشناه، فصار يعرف مضار نفسه ومنافعها، ويعمل في خلاصها من سخط الله وعقابه في معاده، فجعل إبصاره الحق تعالى ذكره بعد عماه عنه، ومعرفته بوحدانيته وشرائع دينه بعد جهله بذلك حياة وضياء يستضيء به، فيمشي على قصد السبيل، ومنهج الطريق في الناس {كَمَن

ص: 522

مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ} لا يدري كيف يتوجه، وأي طريق يأخذ لشدة ظلمة الليل وإضلالة الطريق، فكذلك هذا الكافر الضال في ظلمات الكفر، لا يبصر رشداً، ولا يعرف حقاً، يعني في ظلمات الكفر"1.

فالله تبارك وتعالى يجعل للمؤمن نوراً في قلبه يستنير به، يهتدي به إلى سبل السلام، ويكشف له الظلمات وموارد العطب ومنها الأفكار المضلة، فيحيد عنها، هذا النور حصن يحصن الله به عباده المؤمنين المتقين المتبعين للرسول صلى الله عليه وسلم.

قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحديد:28] .

فدلت هذه الآية على أن من اتقى الله وأطاعه مؤمناً مقتدياً بالرسول صلى الله عليه وسلم، فسوف يجعل له نوراً يمشي به؛ ذلك النور هو نور الإيمان والعلم المستمد من الكتاب والسنة، قال ابن جرير رحمه الله في المراد بقوله:{وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ} : "وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكره، وعد هؤلاء القوم أن يجعل لهم نوراً يمشون به، والقرآن مع اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم نور -لمن آمن بهما وصدقهما- وهُدَى،

1 جامع البيان 8/22، ط:3.

ص: 523

من آمن بذلك فقد اهتدى"1.

قوله: "

نور -لمن آمن بهما وصدقهما- وهدى": يدل على أن نور القرآن والسنة لا يهتدي به إلا المؤمن الذي يتعلمهما، ليعمل بهما.

كما في قوله تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة:15، 16] .

وقول الله تعالى: {الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:1، 2] .

دلت هذه الآيات أن الله يجعل في قلب عبده المؤمن نوراً، وأن سبب ذلك هو الإيمان والتقوى، فالنور إذاً أثر من آثار تزكي القلب بالإيمان والعلم المستقى من الوحي، وليس هناك طريق آخر لحصول النور للعبد بدون هذا الطريق، قال سبحانه في تأكيد هذا المعنى:{يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} [النور:35] .

1 جامع البيان 27/245.

ص: 524

{وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور:40] .

وقد بين سبحانه -كما في الآيات المتقدمة- أن الذين يهديهم لنوره ويجعل لهم نوراً يمشون به هم الذين آمنوا واتقوا واتبعوا رسوله صلى الله عليه وسلم.

ووجود النور في قلب المؤمن وجود حقيقي -كما قال تعالى: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ} [النور:35] .

أورد ابن جرير رحمه الله في المعنى بالهاء في قوله: {مَثَلُ نُورِهِ} عن بعض السلف قولهم: "مثل نور المؤمن الذي في قلبه من الإيمان والقرآن مثل مشكاة"1.

وقال ابن القيم رحمه الله: "والمراد نور الإيمان الذي جعله له خلقاً وتكويناً، كما قال تعالى {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} فهذا النور إذا تمكن من القلب وأشرق فيه: فاض على الجوارح، فيرى أثره في الوجه والعين، ويظهر في القول والعمل"2.

وبوجود هذا النور في قلب المؤمن يصبح القلب مبصراً حقيقة، يرى مواقع السلامة ومواقع الهلكة، كما تبصر العين الحسن والقبيح، قال تعالى

1 جامع البيان 18/136.

2 مدارج السالكين 3/240.

ص: 525

مبيناً هذه الحقيقة: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46] .

وكما أن الإيمان جالب للنور وحياة القلب وبصيرته، فكذلك الكفر هو سبب موت القلب وعماه كما قال تعالى:{أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ} [الرعد:19] . {كَلَاّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14] .

والنور الذي يجعله الله في قلب المؤمن هو نور زائد على النور الذي يحصل له من العلم الذي قام به، والمستمد من الوحي المطهر.

قال تعالى: {نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} [النور:35] .

وقد اختلفت عبارات المفسرين حول المراد بالنورين في الآية.

ففسر بعضهم النور الأول، بالحجج والبراهين الكونية التي نصبها الله لعباه والتي تكاد من بيانها ووضوحها تضيء لمن فكر فيها ونظر، والنور الثاني: هو القرآن الذي أنزله منبهاً على توحيده، ومنبهاً ومذكراً بآياته، فزادهم إلى حججه عليهم قبل ذلك1.

1 انظر: جامع البيان لابن جرير 18/143.

ص: 526

وفسر بعضهم النور الأول بالفطرة السليمة والنور الثاني بالقرآن.

قال ابن كثير رحمه الله: "فشبه قلب المؤمن وما هو مفطور عليه من الهدى، وما يتلقاه من القرآن المطابق لما هو مفطور عليه، كما قال تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ} [هود:17] . فشبه قلب المؤمن في صفائه في نفسه بالقنديل من الزجاج الشفاف الجوهري، وما يستهدي به من القرآن والشرع بالزيت الجيد الصافي المشرق المعتدل الذي لا كدر فيه ولا انحراف"1.

وفسر بعض العلماء النورين بالإيمان والقرآن.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حول قوله تعالى: {نُّورٌ عَلَى نُورٍ} : "نور الإيمان الذي في قلبه يطابق نور القرآن، كما أن الميزان العقلي يطابق الكتاب المنزل، فإن الله أنزل الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط"2.

وقد استدل لهذا المعنى بأدلة من القرآن والسنة وأقوال السلف الصالح3.

1 تفسير القرآن العظيم، ط: الشعب، 6/16.

2 مجموع الفتاوى 10/475.

3 انظر: نفس المصدر من 474-477.

ص: 527

وسوف أذكر من ذلك دليلاً واحداً لكونه مع دلالته على ما ذهب إليه شيخ الإسلام، يدل أيضاً على أثر هذين النورين في تحصين المسلم ضد الأفكار الهدامة وأسبابها -التي هي موضوع الدراسة.

قال صلى الله عليه وسلم: "ضرب الله مثلاً صراطاً مستقيماً وعلى جنبتي الصراط سوران، فيهما أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة، وعلى باب الصراط داع يقول: يا أيها الناس ادخلوا الصراط جميعاً ولا تنفرجوا، وداع يدعو من جوف الصراط، فإذا أراد أن يفتح شيئاً من تلك الأبواب قال: ويحك لا تفتحه، فإنك إن تفتحه تلجه، والصراط الإسلام، والسوران حدود الله، والأبواب المفتحة محارم الله تعالى، وذلك الداعي على رأس الصراط كتاب الله عز وجل، والداعي فوق الصراط واعظ الله في قلب كل مسلم "1.

وخلاصة هذه الأقوال الثلاثة أنها متفقة على أن أحد النورين هو القرآن وما يدل عليه من العلم، أما النور الثاني فهو في قول: الفطرة السليمة، وفي آخر: الحجج والبراهين العقلية، وفي الثالث: الإيمان.

1 أخرجه الإمام أحمد في المسند واللفظ له 4/182، 183 من حديث النواس بن سمعان، والحاكم وقال:"صحيح على شرط مسلم" ووافقه الذهبي، المستدرك 1/73 ووافقهما الألباني، انظر: ظلال الجنة في تخريج السنة مع كتاب السنة لابن أبي عاصم 1/41، وقال ابن كثير:" هو إسناد حسن صحيح" تفسير القرآن العظيم 1/43 ط: الشعب.

ص: 528

وفي نظري أن القول الثالث ينتظم تلك الأقوال، وذلك أن قلب المؤمن على الفطرة القويمة، وهو القلب الذي ينتفع بالحجج والبراهين فيتعقلها.

وعلى هذا فمبدأ هذا النور هو الفطرة، ويزيده النظر والإيمان والقرآن قوة وحدة واستقامة، وقد أشار ابن تيمية إلى هذا المعنى، فقال: "وأيضاً فالله سبحانه وتعالى فطر عباده على الحنيفية: وهو حب المعروف وبغض المنكر، فإذا لم تستحل الفطرة، فالقلوب مفطورة على الحق، فإذا كانت الفطرة مقومة بحقيقة الإيمان، منورة بنور القرآن

"1.

فالنور في القلب يقوى بقوة الإيمان والعلم المستقى من الكتاب والسنة الذي يغذي الفطرة القويمة، الموافقة للتوحيد، القابلة لدلائله المطمئنة لها.

قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الروم:30] .

وقد أشار الله تعالى إلى أن المستحقين لهذا النور هم الموحدون المخلصون كما في سورة "الزمر" التي تميزت بالكلام على الإخلاص وعامة قضايا التوحيد، وصفة أهله وجزائهم، ثم مقارنة ذلك كله بما يقابله

1 مجموع الفتاوى 10/474.

ص: 529

من أحوال المشركين، حيث قال تعالى مبيناً أهم ركائز العبودية التي كلف الله بها عباده، والتي حققها الرسول صلى الله عليه وسلم الذي هو إمام الموحدين وقدوتهم:{قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي} [الزمر:11-14] .

ثم بين سبحانه في نفس السياق أهم أساس يقوم عليه الإخلاص، وأنه اجتناب الطاغوت والإنابة إلى الله وحده، فقال:{وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ} [الزمر:17] .

وفي نفس السياق أيضاً وبعد أن ذكر بعض صفاتهم التي استحقوا بها هداية الله وبين مصيرهم ومصير أعدائهم، وبعض دلائل التوحيد، أتبع ذلك ببيان أن هؤلاء الذي شرح صدورهم للإسلام فكانوا على نور من ربهم، فقال:{أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الزمر:22] .

فدل هذا السياق على أن النور عطيّة الله للموحدين المخلصين، وكلما رسخ التوحيد والعلم والعمل بموجبهما، تم النور وقوي حتى يصبح العبد يرى بنور الله، ويتكلم بالحق ويعمل به، فالنور الذي في قلب المؤمن

ص: 530

مظهر من مظاهر عناية الله به؛ وقد تكلمت فيما سبق عن أهم سبب لحصول ولاية الله لعبده، وأنه التوحيد الخالص، بما يغني عن إعادته1.

والذي يستفيده المسلم من هذه المعرفة -وهي اختصاص أهل الإخلاص بالنور وزيادته برسوخهم في العلم والعبادة- هو الحرص على تعلم التوحيد والتزامه، ومعرفة الشرك وخصائص الجاهلية والطاغوت واجتنابها، ثم تعلم ما ورد في الكتاب والسنة من الشريعة والعمل بها، وغير ذلك من الحكم والوصايا والمواعظ والعبر والاهتداء بها في جميع نواحي الحياة.

كما يستفيد المسلم من هذه المعرفة أن يلازم الذين هذه صفتهم فيواليهم، ويأخذ بفتواهم، فهم أهل الذكر والنور والبصيرة، وخاصة عند حصول الفتن التي تذهل فيها عقول الرجال، وتختلف الأقوال، فإن الملاذ من ذلك هو الفرار إلى الله، والاستنارة بأقوال وأحوال عباد الله الموحدين، فإن الله قد ضمن أن يوجد أمثال هؤلاء الذين يقولون بالحق وبه يعدلون في كل زمان حجة على العباد وقدوة لطالب الرشاد -كما في الحديث:" لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك "2.

1 راجع ص 227 وما بعدها.

2 رواه مسلم، كتاب الإمارة، باب لا تزال طائفة من أمتي

، 3/1523.

ص: 531

ومن ثمرات هذا النور في قلب المؤمن الفرقان، الذي يفرق به بين الحق والباطل، وبذلك يصبح مشيه في الحياة وبين الناس سليماً آمناً.

قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الأنفال:29] .

أورد ابن جرير عن بعض السلف في قوله {يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً} أنه فسره بفرقان يفرق في قلوبهم بين الحق والباطل حتى يعرفوه، ويهتدوا بذلك الفرقان1.

قال ابن القيم رحمه الله: "ومن الفرقان ما يعطيهم من النور الذي يفرقون به بين الحق والباطل

"2.

ومن خصائص هذا النور الذي أشرق به القلب أنه يعطي ملكة يتذوق بها ما يناسبه وما لا يناسبه، فالمؤمن قلبه سليم عامر بالخير، يرتاح ويطمئن له، وينفر من الشر، فإذا عرض له أمر من الأمور لا يجد فيه نصاً من الكتاب والسنة، ولم يبلغه كلام أهل العلم فيه، فإن القلب -المنور بالإيمان والعلم بذوقه السليم وتفرسه- يقبل ذلك الأمر أو ينفر منه.

والذوق كما عرفه ابن القيم رحمه الله: هو:"مباشرة الحاسة

1 انظر: جامع البيان لابن جرير، ط: الثالثة، 9/5229.

2 الفوائد لابن القيم ص170.

ص: 532

الظاهرة والباطنة للملائم والمنافر"1.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ولفظ "الذوق" وإن كان قد يظن أنه في الأصل مختص بذوق اللسان فاستعماله في الكتاب والسنة يدل على أنه أعم من ذلك مستعمل في الإحساس بالملائم والمنافر"2.

وقال أيضاً ذاكراً قول بعض السلف في قوله تعالى {نُّورٌ عَلَى نُورٍ} : "قال بعض السلف في الآية: هو المؤمن ينطق بالحكمة وإن لم يسمع فيها بأثر، فإذا سمع بالأثر كان نوراً على نور، نور الإيمان الذي في قلبه يطابق نور القرآن، كما أن الميزان العقلي يطابق الكتاب المنزل، فإن الله أنزل الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط"3.

وقد بين شيخ الإسلام رحمه الله أن الذوق الصحيح هو ذوق قلوب أهل التوحيد التي عمرت بالإخلاص لله، وبالعلم المستمد من الكتاب والسنة، وأن كلا من المؤمنين الموحدين معه من هذا الذوق بقدر إيمانه وعلمه4.

فالمؤمن قد ذاق حلاوة الإيمان وأشربه قلبه وتلذذ به، وإذا ذاق

1 مدارج السالكين 3/90.

2 مجموع الفتاوى 10/334.

3 نفس المصدر 10/475.

4 نفس المصدر 10/335.

ص: 533

القلب طعم الإيمان عرف عند ذلك ما يناسبه وما يخالفه، كما إذا تذوق الإنسان بلسانه طعم العسل والحنظل، ثم أتى بثالث لم يذكر له نوعه، فإنه إذا تذوقه عرف إلى أيهما أقرب.

قال صلى الله عليه وسلم: "ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد رسولاً "1.

وقال: " ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار "2.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله معلقاً على هذين الحديثين: "فبين صلى الله عليه وسلم أن ذوق طعم الإيمان لمن رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً، وأن وجْد حلاوة الإيمان حاصل لمن كان حبه لله ورسوله أشد من حبه لغيرهما، ومن كان يحب شخصاً لله لا لغيره، ومن كان يكره ضد الإيمان، كما يكره أن يلقى في النار، فهذا الحب للإيمان والكراهية للكفر حلاوة الإيمان، كما استلزم الرضى المتقدم ذوق طعم الإيمان، وهذا هو اللذة، وليس هو نفس التصديق والمعرفة الحاصلة في القلب، ولا نفس الحب الحاصل في القلب، بل هذا نتيجة ذاك وثمرته ولازم له، وهي أمور

1 رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب الدليل على أن

ح56 1/62.

2 متفق عليه-واللفظ للبخاري-: البخاري، كتاب الإيمان، باب حلاوة الإيمان، ح 16 1/60. ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان خصال

1/66 ح67.

ص: 534

متلازمة، فلا توجد اللذة إلا بحب وذوق"1.

قوله رحمه الله: "بل هذا نتيجة ذلك وثمرته": فيه إشارة إلى أن ذوق القلب ووجده لحلاوة الإيمان لا يقوم إلا إذا تمكن الإيمان منه.

وهذا الذوق هو بمثابة ميزان حساس يستشعر ما يناسبه من الخير والإيمان فيرتاح له ويأنس به، كما يستشعر ما لا يناسبه فينفر ويشمئز منه، وهذا الميزان الإيماني بجانب النور العلمي هما -والله أعلم- الفرقان الذي يفرق به القلب بين الحق والباطل والملائم والمنافر.

قال صلى الله عليه وسلم: " البر ما سكنت إليه النفس واطمأن إليه القلب، والإثم ما لم تسكن إليه النفس، ولا يطمئن إليه القلب، وإن أفتاك المفتون "2.

والمقصود هنا نفس المؤمن وقلبه العامر بالإيمان والعلم، إذ هو الذي يطمئن ويأنس بالخير ويرتاح إليه، وينفر من الشر.

"فالقلب الذي دخله نور الإيمان وانشرح به وانفسح، سكن للحق واطمأن به ويقبله وينفر عن الباطل ويكرهه ولا يقبله"3.

1 مجموع الفتاوى 10/327.

2 رواه الإمام أحمد من حديث أبي ثعلبة الخشني، المسند 4/194، وقال ابن رجب عن سنده "وهذا إسناد جيد" جامع العلوم والحكم 237، وقال عنه الهيثمي في مجمع الزوائد:"ورجاله ثقات" 1/176، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير 3/25، 26.

3 جامع العلوم والحكم لابن رجب ص239.

ص: 535

ومما تقدم من النصوص وكلام أهل العلم نخرج بضوابط مهمة لهذا الأثر القلبي الذي يحدثه الإيمان في قلوب العباد فتتحصن به من كيد شياطين الإنس والجن.

هذه الضوابط تتلخص فيما يلي:

1-

أن معرفة العقائد والشرائع والخير والشر والحلال والحرام والحسن والقبح إنما طريقه الكتاب والسنة.

2-

أن الله فطر القلوب السليمة العامرة بالعلم والإيمان على الراحة والأنس للخير والنفرة من الشر، وهذه علامة خص الله بها قلوب المؤمنين بالإضافة إلى النور المستفاد من العلم، وأنها تزيد كلما زاد العلم ورسخ الإيمان.

3-

أنه متى استبان الحكم من الدليل الشرعي فيجب المصير إليه، وإن لم ينشرح به الصدر، ولا عبرة بالإحساس المخالف، كما يتحرج بعض المسلمين من الفطر في السفر، وكما كره بعض الصحابة التحلل من الحج إلى العمرة، وبعض ما ورد في مفاوضته لقريش في الحديبية1.

4-

أن فائدة هذه العلامة -وهي التذوق والإحساس الذي يفرق به المؤمن بين الحق والباطل - إنما تكون عند المتشابهات، واختلاف الفتيا أو في الأمور الحادثة التي لم يتبين حكمها.

1 انظر: جامع العلوم والحكم لابن رجب ص240.

ص: 536

قال ابن رجب رحمه الله: "فإن ما شرعه الله ورسوله يجب الإيمان والرضى به والتسليم له، كما قال تعالى:{فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65] .

أما ما ليس فيه نص من الله ولا عمن يُقتدى بقوله من الصحابة وسلف الأمة، فإذا وقع في نفس المؤمن -المطمئن قلبه بالإيمان المنشرح صدره بنور المعرفة واليقين- منه شيء وحاك في صدره بشبهة موجودة، ولم يجد من يفتي فيه بالرخصة إلا من يخبر عن رأيه، وهو ممن لا يوثق بعلمه وبدينه، بل هو معروف باتباع الهوى، فهنا يرجع المؤمن إلى ما حاك في صدره وإن أفتاه هؤلاء المفتون"1.

وبهذه الضوابط تخرج المفاهيم الضالة التي أحدثها المبتدعون المبطلون، وجعلوها أساساً لمعرفة الحقيقة، وعارضوا بها ما دل عليه الوحي المطهر كفكرة الكشف والفيض والوجد ونحوها من الأوهام والظنون.

قال ابن رجب رحمه الله: "وإنما ذم أحمد وغيره المتكلمين على الوساوس والخطرات من الصوفية حيث كان كلامهم في ذلك لا يستند إلى دليل شرعي بل إلى مجرد رأي وذوق، كما كان ينكر الكلام في

1 جامع العلوم ص240.

ص: 537

مسائل الحلال والحرام بمجرد الرأي من غير دليل، فأما الرجوع في الأمور المشتبهة إلى حواز القلوب فقد دلت عليه النصوص النبوية وفتاوى الصحابة"1.

وخلاصة هذا المبحث: أن الإيمان القائم على الإخلاص والعلم المستمد من الوحي المطهر يوجد في القلب نوراً وفرقاناً يهدي صاحبه إلى مواطن الخير ويكشف له عن مواطن الهلكة والضلال، كما يصبح في القلب ملكة وحساسية يتذوق بها ما يلائمه من الخير فيميل إليه ويسكن، وما ينافره من الشر فيشمئز منه وينفر، وواعظاً يذكره؛ وبهذا يكون القلب محصناً بالعلم والنور، والفطرة السليمة، وواعظ الإيمان والحساسية المرهفة ضد أي فكر خبيث يستهدف زعزعة عقائده أو حرف عواطفه والميل بإراداته.

وإذا ضعف الإيمان وقل العلم ضعفت هذه الحصون، وخفت نور القلب، وقلت حساسيته، فيكون عرضة للانخداع ببعض الأفكار الضالة، وخاصة ما كان منها مزخرفاً بالشبهات الموهمة ولبس في الحق بالباطل.

1 نفس المصدر ص241.

ص: 538