الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
شيوع الخوف أو الفزع على النفس أو العرض أو المال، يجعل الحياة فيه عسيرة أشد العسر، ويهدد بانهياره وسقوطه، ويصادر تقدمه ونموه.
[مواجهة ظاهرة الجريمة]
هنا، يبدو تفوق السياسة الجنائية الإسلامية في مواجهة ظاهرة الجريمة، وهي ظاهرة اجتماعية قديمة، لم يخل منها مجتمع من المجتمعات الإنسانية.
لقد ورد في القرآن الكريم، ذكر أول جريمة قتل وقعت على الأرض:
وظاهر الآية، يفيد أن الباعث على القتل، كان الحقد والحسد، وهو باعث لم يزل قائما وإن تنوعت أسبابه.
وتقوم السياسات الجنائية الحديثة، على أساس معرفة رد الفعل الاجتماعي، أو ما يسمى بسياسة الدفاع الاجتماعي.
ونجد في شريعة الله في مواجهة جريمة القتل - وهي أخطر جريمة على الإنسان، إذ هي تسلبه نعمة الحياة - تحذيرا عظيما، يمثل أقصى ما يدافع به مجتمع عن بقائه واستمراره، في مواجهة هذه الجريمة:
{أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32](المائدة الآية 32) .
ونجد فيها عقوبة رادعة في العقاب والجزاء الدنيوي على هذه الجريمة:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة: 178](البقرة الآية 178)
{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 179](البقرة الآية 179)
{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45](المائدة الآية 45) .
وذلك فضلا عن الوعيد بالخلود في نار جهنم للقاتل عمدا:
{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 93](النساء الآية 93) .
ويبدو النهج الإلهي في دفاع المجتمع المسلم، ضد جريمة القتل، أكمل المناهج وأوفاها بتحقيق العدل، والمصلحة.
إن العقل يدرك أن القصاص فيه إحياء للأنفس، ووقاية من القتل، حتى ولو لم يكن عقل مسلم يقرأ في كتاب الله عز وجل:
{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة: 179](البقرة الآية 179) .
وقد قال العرب قبل أن ينزل القرآن: "القتل أنفى للقتل".
فعقوبة القصاص في جرائم الاعتداء على النفس وما دونها، وهي العقوبة التي تلتزم تطبيقها المملكة العربية السعودية، هي أعدل العقوبات وأوفاها بالمصلحة الاجتماعية.
ولقد ترددت النظم الجنائية الوضعية في العصر الحديث، في الأخذ بعقوبة القصاص (أو الإعدام قصاصا) على جرائم القتل.
وكان ذلك، ناشئا عن أفكار ومذاهب ادعت الحرص على النفس الإنسانية والاحتياط لها، فعدلت دول كثيرة عن توقيع عقوبة الإعدام على مرتكبي جناية القتل.
وتأثرت بذلك بعض المواثيق الدولية، فدعت إلى
نبذ عقوبة الإعدام بحجة مفادها: أن المجتمع لم يمنح الإنسان حياته، حتى يكون له الحق في سلبها منه، وأن العقوبة لم تمنع من ارتكاب جرائم القتل، وأن الخطأ في توقيع العقوبة يستحيل إصلاحه.
وكل هذه الحجج، مردودة على أصحابها، فالمجتمع لم يمنح الجاني حياته، وإنما الحياة وهبها الله عز وجل للجاني وللضحية، والله تعالى هو الذي أمرنا بالقصاص من القاتل عمدا وعدوانا بغير حق، فلا شأن لغير الله عز وجل في الإحياء، ولا راد لأمره في توقيع القصاص على من يستحقه.
أما أن شدة العقوبة، لا تمنع من ارتكاب الجرائم، فإن ذلك فهم مغلوط، فالإنسان لا يقدم في الغالب على ما يجلب عليه تلف نفسه، وارتكاب جريمة القتل، هو استثناء يقدم عليه من قد يستهين بالعقوبة، إذا لم تمس حياته.
وهؤلاء، هم الذين يتوجه إليهم الإنذار بالعقوبة
التي تؤثر في نفوسهم، وقد يحجمون، فيكون في ذلك إحياء لأنفسهم ولغيرهم من الناس.
أما خوف الخطأ، فإن التشدد في الإثبات، وهو مبدأ الشريعة الإسلامية في كل الجرائم حتى يمكن توقيع العقوبة، يكفل أعظم درجات الاحتياط.
فالشهادة في الإسلام ولاية وسلطان، يتطلب الشرع فيمن يؤديها العدالة، وهو ما لا تشترطه النظم الوضعية، حتى في جرائم القتل.
ويتطلب الرؤية الصادقة للواقعة المشهود عليها، يقول صلى الله عليه وسلم:
«إذا رأيت كالشمس فاشهد وإلا فدع» رواه الطبراني، والديلمي في مسند الفردوس.
فاحتمال الخطأ في الإثبات الشرعي نادر، والنادر لا حكم له، وهذا الاحتمال، يزداد وقوعه في النظم الجنائية بقبول الشهادة من غير العدل، ومن أراذل الناس، ومن الأطفال، وقبول شهادة السامع، وربما تأثر القاضي بما يحيط بالجريمة من إعلان وإعلام.
وذلك أمر تأباه قواعد الإثبات في الشريعة الإسلامية، كما هو معروف ومفصل في كتب الفقه في أبواب القصاص والحدود.
وقد احتال المنكرون لحدود الله، لتبرير رفضهم لعقوبة القصاص، وجعلوها تنافي ما تنادوا به من حقوق للإنسان.
ولا شك أن حق الحياة، كفلته الشريعة للإنسان، وحمته من كل عدوان يقع عليه.
ولكن هؤلاء يعتبرون الحياة حقا، لا يجوز المساس به، وإن تعدى صاحبه بغير حق على إنسان آخر، فسلبه حياته.
وهي تفرقة لا تجد سندا من العقل ولا العدل.
وكان من نتيجة هذا المسلك المعوج، أن ألغت دول كثيرة عقوبة الإعدام، حتى على جريمة القتل العمد العدوان.
ولكن بعضها عدل عن ذلك بعد ما تبين لها فساده.
وما زالت عشر ولايات في الولايات المتحدة الأمريكية، لا تبيح قوانينها الحكم بعقوبة الإعدام، ويكتفى فيها في جرائم القتل، بعقوبة السجن مدى الحياة، حيث يعيش المجرم القاتل على نفقة غيره في السجن، بعد أن سلب غيره حق الحياة.
وارتفعت الأصوات تطالب بتوقيع عقوبة الإعدام على الجرائم التي تصل في بشاعتها وقسوتها على الإنسان إلى حد يستفز مشاعر البشر، وهي تنشر في الصحف وفي أجهزة الإعلام كل يوم، في تلك المجتمعات التي تدعي التحضر والحفاظ على الأنفس.
ولا أحد يجهل في هذا العصر، صرخات كثير من المجتمعات المتقدمة مدنيا، مثل المجتمع الأمريكي أو الأوروبي بوجه عام، من تفاقم ظاهرة الجريمة، التي ترتبت على الحرية المطلقة التي يعيش في ظلها الناس، حرية التنافس والتقاتل على تحصيل المال واللذة والسلطان، حرية لا تحدها الأديان ولا قيم الأخلاق،
ولا يكاد يقف في طريقها إلا مصلحة الآخرين في المنافسة.
وفي عصر حقوق الإنسان، الذي تعترف فيه كثير من المجتمعات بكرامته وحقه في الحياة، وفي التكافل الاجتماعي والمشاركة العامة، تنتهك الأعراض، وتسلب الأموال، ويشتد ساعد عصابات الإجرام، وتقف كثير من الحكومات عاجزة عن التصدي للفساد.
في الولايات المتحدة الأمريكية كما نشر في أجهزة الإعلام، تقع آلاف من جرائم الاغتصاب سنويا، وعشرات الآلاف من جرائم السرقة والاعتداء على الناس، وينشر الكثير عن أرقام المبالغ والأرباح التي يحققها النشاط الإجرامي في تجارة البشر، في الدعارة، وفي أنواع الفواحش، وفي تجارة المواد المخدرة.
وتعد الحكومات، الخطط للقضاء على الجريمة أو تقليل آثارها.
ولكن يحول دون ذلك، أن عقوبة الإعدام للقاتل
لا يعترف بها، وأن الزنى والفواحش، كلها من قبيل ممارسة الحرية الفردية، وربما ارتفعت أصوات في بعض البلاد، بأن من طرق مقاومة انتشار المخدرات، إباحة بعض أنواعها، وكأن المجتمع ينحني أمام ظاهرة الجريمة، ولا يجرؤ على التصدي لها بحزم.
إن السياسة الجنائية في الإسلام، هي في الأصل سياسة وقاية من الجريمة، وحماية للمجتمع، وصيانة للأنفس والأموال والأعراض.
وهي سياسة تشهر في وجه الجريمة سيف الحدود والقصاص، عقوبة جسيمة، تتهدد المجرم قبل أن يهم بارتكاب جريمته، ثم لا توقع عليه إذا ارتكبها إلا بعد ثبوت كامل، وأدلة قاطعة وضمانات عادلة.
إن الإسلام لا يقطع الأيدي استهانة بها، ولا يجلد الظهور تحقيرا للإنسان، ولكن تهديداً للمجرم وهو واحد، ونشراً للطمأنينة لآلاف البشر.
وخوف عشرات أو مئات من المجرمين، في