الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني: الرد على النصارى في دعاوى المجيء
المبحث الأول: بطلان المصادر المعتمدة إجمالاً
المطلب الأول: العهد القديم، وطعن طائفة من اليهود والنصارى فيه
…
الفصل الثاني: الرد على النصارى في دعاوى المجيء
مما لاشك فيه أن المسيح عيسى عليه السلام سينزل قبل يوم القيامة، وهو من علامات الساعة الكبرى52، إلا أن الفرق واسعٌ، والبون شاسعٌ بين عقيدتنا في المسيح عليه السلام وكذلك مصادرنا، وبين عقيدة النصارى فيه ومصادرهم.
فمن هنا نرد في هذا المبحث على الانحرافات في دعاوى المجيء، والمبنية إما على نصوصٍ خاطئةٍ، أو غير صحيحةٍ، أو فهومٍ باطلة فاسدة.
المبحث الأول: بطلان المصادر المعتمدة إجمالاً
المصادر التي اعتمد عليها النصارى في هذه المسألة وفي غيرها من المسائل لايصح اعتمادها مصادر، لعدم ثبوتها من ناحية تاريخية، وإقرار كثيرٍ من النصارى بجهالة كُتَّابها، وسنذكر بشيء من الإيجاز ما يتعلق بكلٍ من العهد القديم والعهد الجديد.
المطلب الأول: العهد القديم، وطعن طائفة من اليهود والنصارى فيه:
العهد القديم53؛هو الكتاب المشترك بين كل من اليهود والنصارى، ويعتقد كلٌ منهما أنه موحى به من الله تعالى.
فاليهود الأرثوذكس54 يعتقدون أن أسفار موسى بصفةٍ خاصةٍ هي كلام الإله الذي أوحي إلى موسى حرفاً بحرفٍ وأملاه عليه حينما صعد إلى جبل سيناء، وهو كلام أزلي لا يتغير، والكتب الأخرى في العهد القديم هي نتاج الروح القدس، تلك الروح في قولهم التي تغمر روح الإنسان فيتحدث باسم الإله 5.
والنصارى كذلك يعتقدون أن العهد القديم موحى به من الله، فقد جاء في "وثائق المجمع الفاتيكاني الثاني" ما نصه "الكتاب المقدس كله بجميع أجزائه موحى به من الله"، ثم ذكروا أن الروح القدس هو الذي كان يساند عمل الكُتَّاب وينير عقولهم حتى يكتبوا كل ما يريد الله إعلانه، ثم قالوا ما نصه:"لذا يحق القول – بكل صدق – إن الله تعالى نفسه هو المؤلف الأصلي للكتب المقدسة وأنها كلمة الله"56.
كما يزعم طائفة من النصارى موافقين في ذلك دعوى اليهود في التلمود: أن موسى هو الكاتب للتوراة، وأن جُل أسفار العهد القديم كتبها الأشخاص الذين وضعت أسماؤهم عليها57.
هذا اعتقاد المتدينين من اليهود، واعتقاد جُل طوائف النصارى الكبار مثل: الكاثوليك والأرثوذكس اليونان والأرثوذكس الأقباط والبروتستانت ونحوهم. إلا أن ذلك كله دعوى لا دليل عليها ولا تصمد أمام التحقيق العلمي، إلا أنا هنا لا يمكن أن نستوعب الكلام والأدلة التي تبين بطلان ذلك، إلا أننا سنذكر فيما يلي بعض الحقائق التي تبين بطلان دعواهم:
أولاً: إنكار طائفةٍ كبيرةٍ من اليهود والنصارى للوحي والإلهام في التوراة.
قام كل من اليهود والنصارى بنقد التوراة والكتب الأخرى معها، وكان من أوائل نقادها اليهودي القرَّائي58 "حيوى البلخي" ممن عاش في القرن التاسع الميلادي، ومن أظهر النقاد المتأخرين الفيلسوف اليهودي "سبينوزا" الذي أنكر أن يكون موسى هو كاتب التوراة وأن كاتبها هو "عزرا".
والإصلاحيون من اليهود59 ينكرون أن العهد القديم موحى به من الله ويعتبرونه من صنع الإنسان. كما أن الصهاينة60من اليهود يعتبرون التوراة تراثاً يهودياً شعبياً61.
ومما يؤكد أن التوراة لا يمكن أن تكون من كتابة موسى، هو أن جمهور النصارى يرون أن التوراة فقدت من بنى إسرائيل خاصةً عند مهاجمة الملك البابلي "بختنصر" بيت المقدس وتدميره له، وأن الموجود الآن بين أيديهم إنما كتبه "عزرا" الذي كان في زمن السبي البابلي62، إلا أن السؤال هو: من أين وصلت التوراة إلى عزرا وبينه وبين موسى عليه السلام أكثر من ثمانية قرون؟
اليهود والنصارى يقولون: إن الله أو الروح القدس ألهمه التوراة، إلا أن هذه الدعوى لا يوجد ما يدل عليها في "سفر عزرا" ولافي "سفر نحميا" اللذين حكيا جمع عزرا للتوراة، وإنما ورد في "سفر عزرا" ما يدل على أن "عزرا" قد اجتهد في جمع التوراة وتعليمها فقد قالوا:"لأن عزرا هيأ قلبه لطلب شريعة الرب والعمل بها وليعلٍّم إسرائيل فريضة وقضاء"63.
وليس في هذا دلالةً على أن الله أوحى إليه التوراة كما يزعم اليهود والنصارى، ولو كان الله أوحى إليه التوراة لذكر ذلك لأنه مفخرة عظيمة له، وفيه تأييد له وبرهان على صحة ما كتب، فلما لم يذكر ذلك دل على أن الله لم يوح إليه شيء.
وأظهر ما يكون في الأسفار الخمسة التي يزعمون أنها "التوراة" أنها بشكلها العام من وضع "عزرا"، وقد يكون "عزرا" استفاد من أصولٍ أقدم كانت بين يديه لايعلم على التحقيق أصولها ولا كُتَّابها ولا تواريخها، مما يعطي
عمل عزرا قيمةً أدبيةً ونوعاً ما تاريخية، لكنه لا يمكن بحالٍ أن يرتقي إلى درجة الكتب المقدسة الموحى بها من الله المعصومة عن الخطأ والزلل.
ثانياً: إقرار كثير من النصارى أن كتاب تلك الكتب مجهولون.
كما أفاد كثيرٌ من كُتَّاب النصارى التشكيك في كُتَّاب تلك الكتب، والتشكيك في أن يكون موسى عليه السلام هو كاتبها، ومن هؤلاء: هيئات كنسية معتبرة، من ذلك أصحاب كتاب "مدخل إلى الكتاب المقدس" وهم مجموعة من المؤلفين أفادوا عن كُتَّاب العديد من الأسفار أنهم مجهولون. من ذلك: أنهم قالوا عن "سفر التكوين": إن كاتبه مجهول، لكن "العه
د الجديد" يدل ضمناً على أن كاتبه هو "موسى"، ولم يعترض أحدٌ على هذا المفهوم حتى العصر الحديث.
وقالوا: إننا لا نعرف كيف كتب هـ
_________
ذا السفر، لكن من المعقول أن نرى موسى كمحرر استطاع أن يضم معاً عدداً كبيراً من القصص والحقائق، التي قد يكون بعضها قد أصبح شائعاً قبل تاريخ تدوينه64.
وذكروا نحو هذا عن "سفر التثنية"، و"سفر يشوع"، و"سفر القضاة" و"راعوث"، و"صموئيل الأول والثاني"، و"الملوك الأول والثاني"، و"أخبار الأيام الأول والثاني"، و"عزرا"، و"أيوب"، و"المزامير"، و"الجامعة"، و"نشيد الإنشاد"، و"أشعيا"، و"أرميا"، و"مراثي أرميا"، و"حزقيال"، و"دانيال"، و "يونان"65.
فهذه المجموعة الكبيرة من كتب "العهد القديم" طُعن فيها بما يؤكد أن كُتَّابها مجهولون، أو غير متحقق من شخصية كاتبيها، وكذلك تاريخ كتابتها مجهول، بل جميعها كتبت بعد أزمانٍ من تاريخ حياة من نسبت إليه.
ثالثاً: اكتشاف علماء النصارى أن لكتب العهد القديم عدة مصادر:
ومما يدل على أن التوراة الموجودة بين أيدي اليهود والنصارى ليست هي التي أنزلت على موسى: أن النقاد من النصارى اكتشفوا أنها جمعت من مصادر عديدة، يقول "صموئيل يوسف" في كتابه "المدخل إلى العهد القديم" بعد أن ذكر أن المحافظين من علماء الكتاب يرون أن موسى عليه السلام هو كاتب الأسفار الخمسة، قال:"ويرى التقدميون بأنه لا يمكن أن يكون موسى كاتب "الأسفار الخمسة" ومنها "سفر التكوين"، ومنهم "جان ستروك إيكهورن"، والكاهن "الكسندر جديس"، و"فيلهوزن"، و"يوديه" و"أدتويشفيلد"، والعالم اللاهوتي "جيرهارد فون راد"، وغيرهم كثير، يعتقدون أن "الأسفار الخمسة" كتبت بواسطة كاتب غير معروف استعان على كتابته لها بمصادر العديدة.
ثم ذكروا أن أولئك العلماء وغيرهم اكتشفوا ما يسمى "نظرية المصادر" وهي: أن جامع "الأسفار الخمسة" استعان على كتابته وجمعه لها بمصادر عديدة، وفَّق بينها، وأخرج من مجموعها النص الموجود، واستطاعوا اكتشاف أربعة مصادرٍ أساسيةٍ وهي:
1 -
اليهوية التي يرمز إليها بحرف "J" وتاريخ كتابته ما بين 950 – 850 ق. م.
2 -
"الألوهيم" التي يرمز إليها بحرف "E" وتاريخ كتابته في حدود 850 – 750 ق0م.
وهذان المصدران يميزهما استخدام الأولى منها لاسم الإله "يهوه" والأخرى تستخدم اسم الإله "إلوهيم".
3 -
"سفر التثنية" وهو خاص بذلك السفر ويرمز إليه بحرف "D"، وتاريخ كتابته في حدود ما بين القرن الثامن إلى القرن السادس قبل الميلاد.
4 -
"النص الكهنوتي" ويرمز له بحرف "P" وتاريخه القرن الخامس إلى الرابع قبل الميلاد.
وتشير التواريخ المذكورة أن تلك المصادر كتبت بعد موسى عليه السلام بفترة طويلة، تصل إلى تسعة قرون في بعضها.
كما اكتشفت مصادر أخرى لكل مصدر من هذه المصادر بحيث صار المصدر الواحد يتوزع في أصله بين عدة مصادر66.
والمقصود بذلك أن جامع "الأسفار الخمسة" الموجودة الآن جمعها من مصادر عدة كُتبت قبله، فأخذ من هذا المصدر شيئاً وأخذ ما بعده من مصدرٍ آخر، وكمَّل بعضها من بعض، وقد يكون قد تصرف في ألفاظها حتى يوجد بينها الترابط المناسب، وأخرج من مجموع ذلك ما يسمى بـ "الأسفار الخمسة" أو "التوراة".
إلا أن هذا العمل بما فيه من أخطاء موجودة في المصادر، وأخطاء أخرى وقع فيها الجامع والناسخ، تبين أن تلك الكتب لا يمكن أن تكون وحياً من الله تعالى، وأنها تضمنت وضع وتصرفات البشر.67.