الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
10 - كتاب: الجهاد
234- باب: في فضل الجهاد
قال الله تعالى (1) : (وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) .
وَقَالَ تَعَالَى (2) : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ
ــ
كتاب الجهاد
أي: مقاتلة الكفرة؛ لإعزاز الدين (قال الله تعالى: وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً) أي: جميعاً (كما يقاتلونكم كافة) هو محمول على ما عدا أهل الذمة من أهل الكتاب، بدليل قوله تعالى في الآية الآخرى:(قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله)(3) إلى قوله: (من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) ، (3) والآية فيها الإِيماء إلى تقديم داعي قتال الكفار على داعي الطبع، من ترك قتال نحو قريب وخليل وصاحب كفار، أي: لأنهم إذا لم يراعوا لكم ذلك وجهادهم في سبيل الكفر، فأنتم أحق بأن لا تراعوه منهم (واعلموا أن الله مع المتقين) الشرك بالنصر والإِعانة، وهو تشجيع على الإِقدام عليهم وإن كثرت جموعهم، فمن ينصره الله لا يغلب (وقال تعالى: كتب) أي: فرض (عليكم القتال) أي: قتال الكفرة (وهو كره لكم) جملة في محل الحال من نائب الفاعل أي: وهو مكروه لكم بحسب الطبع لما فيه من تعريض النفس للقتل (وعسى) للترجي (أن تكرهوا شيئاً) هو أو غيره (وهو) أي: المكروه (خير لكم) في نفس الأمر (وعسى) للإِشفاق (أن تحبوا شيئاً) بحسب الطبع (وهو
(1) سورة التوبة، الآية:36.
(2)
سورة البقرة، الآية:216.
(3)
سورة التوبة، الآية:29.
شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) . وقال تعالى (1) : (انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) .
وقال تعالى (2) : (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) .
ــ
شر لكم) في نفس الأمر (والله يعلم) النافع لكم من الضار (وأنتم لا تعلمون) ذلك جملة اسمية معطوفة على الاسمية قبلها، أو حالية، وفي الآية إيماء إلى وجوب التفويض في كل الأمور لله عز وجل، والرضى بما جرى به قدره، وإن لم يكن ملائماً للطبع ولا مشتهى للنفس فالخيرة في الواقع (وقال تعالى: انفروا) أي: اخرحوا (خفافاً وثقالاً) شمالاً وشيوخاً أو نشاطاً وغير نشاط، أو ركباناً ومشاة، أو فقراء وأغنياء، أو قليلي العيال وغير قليل، أو خفافاً من السلاح وثقالاً منه، أو أصحاء ومرضى، أو مسرعين بعد الاستعداد، وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله بشراء آلات الحرب وبذل النفس إعزازاً لدين الله (وقال تعالى: إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم) التي هو خلقها (وأموالهم) التي هو رزقها (بأن لهم الجنة) قيل: هو (3) تمثيل لإثابة الله من بذل نفسه وماله في سبيله على هذا البذل بالجنة (يقاتلون في سبيل الله فيقتلون) الأعداء (ويقتلون) في ميدان الحرب، والجملة مستأنفة لبيان ما لأجله الشراء (وعداً عليه حقاً) مصدران مؤكدان، فإن الاشتراء بالجنة مستلزم الوعد بها (في التوراة) حقاً (والإِنجيل والقرآن) أي: هذا الوعد الموعود به المجاهد ثابت فيهما، كما هو ثابت في القرآن. قال بعضهم: الأمر بالجهاد ثابت في جميع الشرائع، وقال بعض: بين فيهما أنه اشترى من أمة محمد أنفسهم وأموالهم بالجنة كما بين في القرآن (ومن أوفى بعهده من الله) أي: لا أحد أوفى بعهده منه فهو كقوله تعالى: (ومن أصدق من الله قيلاً)(4)(فاستبشروا بيعكم الذي بايعتم به) أي: افرحوا به غاية الفرح فإنه موجب للفرح الأبدي (وذلك هو الفوز العظيم) نزلت حين قال عبد الله بن رواحة وأصحابه ليلة العقبة
(1) سورة التوبة، الآية:41.
(2)
سورة التوبة، الآية:111.
(3)
هو أي البيع والشراء المدلول عليهما بأشتري. ع.
(4)
سورة النساء، الآية:122.
وقال تعالى (1) : (لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95) دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا)
ــ
لرسول الله صلى الله عليه وسلم: اشترط لربك ولنفسك ما شئت. فقال: أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، ولنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم. قالوا: فما لنا؟ قال: الجنة. قالوا: ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل (وقال تعالى: لا يستوي القاعدون) عن الجهاد (من المؤمنين غير أولي الضرر) بالرفع صفة القاعدون فإنه ما أراد به قوماً معيناً فهو كالنكرة أو بدل، ومن قرأ منصوباً فهو حال أو استثناء، وبالجر صفة المؤمنين أو بدل منه كما مر في الرفع نزلت أولاً (لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله) إلى آخر الآية فجاء ابن أم مكتوم وهو أعمى فقال: يا رسول الله فكيف بمن لا يستطيع الجهاد فغشي على رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلسه، ثم سري عنه فقرأ لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر (وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ) أي: لا مساواة بينهم وبين من قعد عن الحرب غير أولي الضرر (فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين) غير أولي الضرر صرّح به ابن عباس (2) والحديث الصحيح يدل عليه (درجة) الجملة موضحة لما نفي الاستواء فيه ونصب درجة بنزع الخافض أي: بدرجة عظيمة تندرج تحتها الدرجات، أو على المصدر، لأنه تضمن معنى التفضيل (وكلاً) أي: من القاعدين لغير عذر والمجاهدين (وعد الله الحسنى) الجنة والجزاء الجزيل (وفضل الله المجاهدين على القاعدين) بلا عذر (أجراً عظيماً) ثم أبدل منه قوله (درجات منه ومغفرة ْورحمة) كل واحد منهما بدل من أجر، أو كرر تفضيل المجاهدين، وبالغ فيه إجمالاً وتفصيلاً تعظيماً للجهاد وترغيباً فيه، وقيل:
الأول: ما خولهم به في الدنيا من الغنيمة والظفر وجميل الذكر.
والثاني: ما جعل لهم في الآخرة، وقيل: المراد بالدرجة ارتفاع منزلتهم عند الله،
(1) سورة النساء، الآيتان: 95، 96.
(2)
لعله يريد أنها قراءة لابن عباس. ع.
وَقَالَ تَعَالَى (1) : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ)
والآياتُ في آلْبابِ كَثيرَة مَشْهورَة.
وأَمًا الْأحَاديثُ في فَضْلِ الْجِهادِ فَأكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَرَ، فَمِنْ ذَلِكَ:
ــ
وبالدرجات منازلهم في الجنة، وقال بعض المفسرين: القاعدون. الأول: هم الأضراء أي: هم أولو الضرر فإن المجاهدين أفضل منهم بدرجة واحدة؛ لأن لهم نية بلا عمل وللمجاهدين نية وعمل والقاعدون. الثاني: هم غير أولي الضرر فإن بين المجاهدين وبينهم درجات كثيرة، وهذا خلاف ما قدمناه (وقال تعالى: يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكنم من عذاب أليم) المراد به عذاب الله مطلقاً (تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم) استئناف مبين للتجارة كأنهم قالوا: دلنا يا ربنا فقال: تؤمنون إلخ (ذلكم) أي: المذكور من الإيمان والجهاد (خير لكم إن كنتم تعلمون) أي: إن كنتم غير جاهلين (يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم) جواب الشرط مقدر؛ لكونه جواباً للأمر المذكور بلفظ الخبر، للمبالغة أي: آمنوا وجاهدوا فإن تؤمنوا وتجاهدوا يغفر لكم، وسميت جنة عدن؛ لخلود المؤمن فيها يقال: عدن بالمكان إذا أقام فيه (وأخرى) أي: ولكم نعمة أخرى (تحبونها) فإن الأمر العاجل محبوب للنفوس (نصر من الله) بدل أو بيان (وفتح قريب) عاجل (وبشر المؤمنين) يا محمد بثواب الدارين عطف على تؤمنون فإنه بمعنى آمنوا ويكون جواباً للسؤال. وزيادة كأنهم قالوا: دلنا يا ربنا قيل: آمنوا يكن لكم كذا وبشرهم يا محمد بثبوته، وقل عطف على محذوف أي: قل يا أيها الذين آمنوا وبشر (والآيات في فضل الجهاد في الكتاب) أي: القرآن (كثيرة) يؤدي استيعابها إلى طول زائد (مشهورة) واضحة (وأما الأحاديث) النبوية (في فضل الجهاد فأكثر من أن تحصر) ؛ لكثرتها (فمن ذلك) أي: فبعض المذكور ما ثبت.
(1) سورة الصف، الآيات: 10-13.
1285-
وعن أَبي ذرّ رضي الله عنه، قَالَ: قُلْتُ: يَا رسول الله، أيُّ العَمَلِ أفْضلُ؟ قَالَ:"الإيمَانُ بِاللهِ، وَالجِهَادُ في سَبِيلهِ" متفقٌ عَلَيْهِ (1) .
1286-
وعن أنس رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"لَغَدْوَةٌ في سَبيلِ اللهِ، أَوْ رَوْحَةٌ، خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا" متفقٌ عَلَيْهِ (2) .
ــ
1285-
(وعن أبي ذر رضى الله عنه قال: قلت: يا رسول الله أى الأعمال أفضل) هو كالعمل في اللذين قبله؛ لأن أل الجنسية تبطل معنى الجمعية وتصيره كالواحد، ويدل عليه قوله (قال: الإِيمان بالله) أي: ورسوله فاكتفى بما ذكر عن قرينه لتلازمهما شرعاً ولجمع إليه الضمير في قوله: (والجهاد في سبيله) وذلك لأنه ولو كان باقياً على معنى الجمعية لأجاب بثلاث فما فوقها، ولا يلزم من كون المذكورين فيه أفضل الأعمال تساويهما فيها، يخالف ما قبله يقال: أفضل علماء البلد زيد وعمر وإن تفاوتا فيما بينهما (متفق عليه) وتقدم أن اختلاف الأفضل في الأخبار إما باعتبار حال السائل، أو باعتبار زمن الجواب أو نحو ذلك.
1286-
(وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لغدوة) بفتح المعجمة وسكون المهملة قال في النهاية: الغدوة المرة من الغدو وهو سير أول النهار نقيض الرواح. اهـ واللام مؤذنة بالقسم المقدر أتى بها لتأكيد الأمر عند السامع، وقال العيني: هي لام التأكيد لا لام القسم (في سبيل الله) ظرف لغو متعلق بغدوة أو مستقر صفة لها (أو) للتنويع لا للشك، قاله العيني (روحة) بفتح المهملتين وسكون الواو بينهما المرة من الرواح (خير من الدنيا وما فيها) وذلك للثواب المرتب على كل منهما، وقد ورد أن أقل أهل الجنة منزلة من يعطى قدر الدنيا عشر مرات فما بالك بأوساطهم، فضلاً عن أعلاهم، والتفضيل بينه وبين الدنيا باعتبار ما استقر في النفوس من حب الدنيا ورؤيا خيرها، وإلّا فلا مناسبة بين ديني عظيم ثوابه باقٍ وبين دنيوي مخدج فانٍ، لكنه صلى الله عليه وسلم خاطبنا بما نألف. ويحتمل أن يكون المراد، أن هذا القدر من الثواب خير من الثواب الذي يحصل لمن حصلت له الدنيا وأنفقها في طاعة الله غير الجهاد (متفق عليه) .
(1) أخرجه البخاري في كتاب: العتق، باب: أي الرقاب أفضل (5/105) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الإِيمان، باب: بيان كون الإِيمان بالله تعالى أفضل الأعمال، (الحديث: 136) .
(2)
أخرجه البخاري في كتاب: الجهاد، باب: الغدوة والروحة في سبيل الله (6/11) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الإمارة، باب: فضل الغدوة والروحة في سبيل الله، (الحديث: 112) .
1287-
وعن أَبي سعيدٍ الخدريِّ رضي الله عنه، قَالَ: أَتَى رَجُلٌ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: أيُّ النَّاسِ أفْضَلُ؟ قَالَ: "مُؤْمنٌ يُجَاهِدُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ في سَبيلِ اللهِ" قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: "مُؤْمِنٌ في شِعبٍ مِنَ الشِّعَابِ يَعْبُدُ اللهَ، وَيَدَعُ النَّاسَ مِنْ شَرِّهِ" متفقٌ عَلَيْهِ (1) .
1288-
وعن سهل بن سعد رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "رِبَاطُ يَوْمٍ
ــ
1287-
(وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: أتى رجل) قال الحافظ في الفتح: لم أقف على اسمه، وقد سبق أن أبا ذر سأل عن مثل ذلك (إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: أي الناس أفضل) أي: أكثر ثواباً (قال: مؤمن يجاهد) الكفار (بنفسه وماله) بأن يبذلهما لله تعالى طلباً لمرضاته (في سبيل الله) قال العيني في شرح البخاري: أي: أفضل الناس مؤمن مجاهد، قالوا: هذا عام مخصوص والتقدير من أفضل الناس، وإلا فالعلماء أفضل وكذا الصديقون، كما تدل عليه الأحاديث، ويدل له أن في بعض طرق النسائي لحديث أبي سعيد "أن من خير الناس رجلاً عمل في سبيل الله على ظهر فرسه". اهـ (قال: ثم من؟ قال: مؤمن في شعب من الشعاب) ابتدأ بالنكرة فيهما؛ لكونها للتنويع فهو كقوله: فيوم لنا ويوم علينا، والشعب بكسر المعجمة وسكون المهملة قيل: هو الطريق وقيل: الطريق في الجبل وجمعه شعاب وذكره جري على الغالب، من تيسر الخلوة فيه عن الناس فالمراد: هي لا هو بخصوصه، وقوله:(يعبد الله ويدع الناس من شره) خبر بجملة بعد خبر بمفرد، أو جملة حالية من الضمير المستقر في الظرف، أو مستأنفة جواب عن سؤال تقديره ماذا يعمل فيه. والحديث تقدم مشروحاً في باب العزلة، وتقدم بلفظ "رجل يعتزل في شعب من الشعاب يعبد ربه" وفي رواية "يتقي الله ويدع الناس من شره"(متفق عليه) .
1288-
(وعن سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: رباط) بكسر الراء مصدر كالمرابطة، وإضافته إلى (يوم) (1) على معنى في كقوله تعالى: (تربص أربعة
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الجهاد، باب: أفضل الناس مؤمن
…
الخ (6/4) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الإمارة، باب: فضل الجهاد والرباط، (الحديث: 122) .
(1)
قوله: يوم فيه دلالة على صدق الرباط على يوم واحد خلافاً لمالك في قوله أقله أربعون يوماً.
فِي سَبِيلِ اللهِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا، وَمَوْضِعُ سَوْطِ أَحَدِكُمْ مِنَ الجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا، وَالرَّوْحَةُ يَرُوحُهَا العَبْدُ في سَبِيلِ اللهِ تَعَالَى، أَوْ الغَدْوَةُ، خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا" متفقٌ عَلَيْهِ (1) .
ــ
أشهر) (2)(في سبيل الله)(3) في محل الصفة لرباط (خير من الدنيا وما عليها) عبر بفي في الحديث قبله وبعلى هنا؛ تفنناً في التعبير. ويحتمل أن يكون من نيابة الحرف الجار عن مثله، كما هو مذهب الكوفيين. قال العيني: وفائدة العدول عن في إلى على أن معنى الاستعلاء أعم من الظرفية وأقوى فقصد؛ لزيادة المبالغة (وموضع سوط أحدكم من الجنة) أي: هذا القدر اليسير منها، (خير من الدنيا وما فيها) من الزهرات والشهوات والمستلذات؛ لأنه فانٍ لا بقاء له (والروحة يروحها العبد في سبيل الله تعالى) بائعاً لنفسه من الله تعالى بالجنة، والرضى منه تعالى (والغدوة) حذف الجملة الواقعة صفة أو حالاً اكتفاء بدلالة قرينتها عليها (خير من الدنيا وما عليها) خبر عنهما وأفرد؛ لأنه أفعل تفضيل مجرد من أل والإِضافة، وإذا كان كذلك يجب إفراده وتذكيره، أخبر أن صغير الزمان وصغير المكان في الآخرة خير من طويل الزمان وكبير المكان في الدنيا، تزهيداً فيها وتصغيراً لها، وترغيباً في الجهاد، إذ بهذا القليل يعطيه الله في الآخرة أفضل من الدنيا وما فيها، فما ظنك بمن أتعب نفسه وأنفق ماله، وقال القرطبي: أي: الثواب الحاصل على مشيئة واحدة في الجهاد خير لصاحبها من الدنيا وما فيها لو جمعت له بحذافيرها، والظاهر أنه لا يختص ذلك بالغدو والرواح من بلدته، بل يحصل هذا الثواب بكل غدوة أو روحة في طريقه إلى الغزو. قال المصنف: وكذا غدوة أو روحة في موضع القتال؛ لأن الجميع يسمى غدوة وروحة في سبيل الله (متفق عليه) ورواه أحمد والترمذي. وقال: حديث حسن صحيح، ثم هذا الحديث فيه فضل الرباط، وهو ملازمة المكان الذي بين المسلمين والكفار لحراسة المسلمين منهم، وقال العيني: الرباط هو المرابطة، وهي ملازمة ثغر الحدود، قال ابن قتيبة: أصل الرباط أن يربط هؤلاء خيولهم وهؤلاء خيولهم في الثغر، كل يعد لصاحبه واشترط ابن التين أن يكون غير وطنه ونقله عن ابن حبيب عن مالك، ونظر فيه العيني بأنه قد
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الجهاد، باب: فضل رباط يوم في سبيل الله (6/11، 64) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الإِمارة، باب: فضل الغدوة والروحة في سبيل الله، (الحديث: 113) .
(2)
سورة البقرة، الآية:226.
(3)
السبيل يضاف كثيراً إلى الله والمراد به كل عمل خالص يتقرب به إليه لكن غلب إطلاقه على الجهاد حتى صار حقيقة شرعية فيه في كثير من المواطن. ع.
1289-
وعن سَلمَانَ رضي الله عنه، قَالَ: سَمِعْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول:"رِبَاطُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ خَيْرٌ مِنْ صِيَامِ شَهْرٍ وَقِيَامِهِ، وَإنْ مَاتَ جَرَى عَلَيْهِ عَمَلُهُ الَّذِي كَانَ يَعْمَلُ، وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ، وَأَمِنَ الفَتَّانَ" رواه مسلم (1) .
1290-
وعن فَضَالَةَ بن عُبَيْدٍ
ــ
يكون بوطنه وينوي بالإِقامة فيه دفع العدو، ويقال: الرباط المرابطة في نحور العدو وحفظ ثغور الإِسلام، وصيانتها عن دخول الأعداء إلى حوذة بلاد المسلمين.
1289-
(وعن سلمان) هو الفارسي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: رباط يوم وليلة) هو ظاهر فيما ذهب إليه ابن مالك، في آخرين من مجيء الإِضافة على معنى في أيضاً كما تقدم. ومن منع ذلك قال: هي فيه على معنى اللام والإِضافة لأدنى ملابسة (خير من صيام شهر وقيامه) وذلك لأن نفع الرباط متعد وعام ونفعها قاصر خاص (وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمل) أي: أجر ما كان يعمله حال رباطه، وأجر رباطه قاله القرطبي (وأجري عليه رزقه) أي: يرزق من الجنة، كما ترزق الشهداء الذين تكون أرواحهم في حواصل الطير تأكل من ثمر الجنة. ذكر المصنف نحوه (وأومن) هو وما قبله بالبناء للمفعول، وضبط أمن بالبناء للفاعل أيضاً بلا واو حكاه العلقمي عن السيوطي (الفتان) بفتح الفاء وتشديد الفوقية، أي: فتان القبر، ففي رواية لأبي داود في سننه "وأمن من فتاني القبر" بصيغة المثنى، وهو مراد من رواية مسلم؛ لأن المفرد المحلى بأل الجنسية يصدق بالواحد والمتعدد، وضبط أيضاً بضم الفاء جمع فتن. قال القرطبي: وتكون أل للجنس، أي: كل ذي فتنة، وقال العلقمي: المراد فتان القبر من إطلاق الجمع على اثنين أو على أنهم أكثر من اثنين، فقد ورد أن فتان القبر ثلاثة أو أربعة، وقد استدل غير واحد بهذا الحديث على أن المرابط لا يسأل في قبره كالشهيد، وقال الشيخ ولي الدين العراق: المراد به مسألة منكر ونكير. قال: ويحتمل أن يراد أنهما لا يجيئان إليه ولا يختبرانه بالكلية، ويكتفي بموته مرابطاً في سبيل الله شاهداً على حصة إيمانه، ويحتمل إنهما يجيئان إليه لكنه يأنس بهما بحيث أنهما لا يضرانه ولا يروعانه، ولا يحصل له بسبب مجيئهما فتنة، اهـ. (رواه مسلم) .
1290-
(وعن فضالة) بفتح الفاء، وتخفيف الضاد المعجمة واللام (ابن عبيد) بصيغة
(1) أخرجه مسلم في كتاب: الإِمارة، باب: فضل الرباط في سبيل الله عز وجل، (الحديث: 163) .
رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"كُلُّ مَيِّتٍ يُخْتَمُ عَلَى عَمَلِهِ إِلَاّ المُرَابِطَ فِي سَبيلِ اللهِ، فَإنَّهُ يُنْمى لَهُ عَمَلهُ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، وَيُؤَمَّنُ فِتْنَةَ القَبْرِ" رواه أَبُو داود والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح (1) .
1291-
وعن عثمان رضي الله عنه، قَالَ: سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، يقول:
ــ
مصغر، عبد بن نافذ بن قيس الأنصاري الأوسي رضي الله عنه أول ما شهد أحداً، وشهد ما بعدها من المشاهد ومنها: بيعة الرضوان، وشهد فتح مصر، ثم نزل دمشق وولي قضاها لمعاوية، ومات سنة ثمان وخمسين، وقيل: قبلها، كذا في التقريب للحافظ. وفيه خرج له البخاري في التاريخ ومسلم، والأربعة روي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسون حديثاً، روى مسلم منها حديثين. اهـ، ودفن بباب الصغير من دمشق سنة ثلاث وخمسين، وقيل: تسع وستين، والصحيح الأول فقد نقلوا أن معاوية حمل نعشه، وقال لابنه: أعني يا بني فإنك لا تحمل بعده مثله، وتوفي معاوية سنة ستين قاله المصنف في التهذيب. (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كل ميت يختم على عمله) فلا يزداد ثواباً ولا عقاباً (إلا المرابط) بالنصب على الاستثناء (في سبيل الله) ثم بين وجه الاستثناء بقوله (فإنه ينمي) بفتح أوله، وسكون النون، وتخفيف الميم المكسورة وبالياء (2) قال السيوطي في قوت المغتذى: قال العراقي: كذا وقع في رواية الترمذي بياء في آخره وفي رواية أبي داود "ينمو" بالواو، والأفصح ما هنا وهو الذي ذكره ثعلب في الفصيح. اهـ أي: يزداد (له عمله إلى يوم القيامة) بتنمية ثوابه والزيادة فيه ْ (ويؤمن من فتنة القبر) فلا يسأله الملكان عن إيمانه بل موته مرابطاً آية إيمانه كما تقدم (رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيحاً ورواه الطبراني في الكبير وأبو نعيم في الحلية من حديث العرباض بن سارية، بلفظ "كل عمل منقطع عن صاحبه إذا مات، إلَّا المرابط في سبيل الله فإنه ينفي له عمله ويجري عليه رزقه إلى يوم القيامة" أورده في الجامع الصغير.
1291-
(وعن عثمان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: رباط يوم في
(1) أخرجه أبو داود في كتاب: الجهاد، باب: في فضل الرباط، (الحديث: 2500) .
وأخرجه الترمذي في كتاب: فضائل الجهاد، باب: ما جاء في فضل من مات مرابطاً، (الحديث: 1621)
(2)
وفي الصحاح قال الكسائي: ولم أسمعه بالواو إلا من أخوين من بني سليم ثم سألت عنه بني سليم فلم يعرفوه بالواو وحكى أبو عبيدة نما ينمو وينمى اهـ. ع.
"رِبَاطُ يَوْمٍ في سَبيلِ اللهِ، خَيْرٌ مِنْ ألْفِ يَوْمٍ فِيمَا سِوَاهُ مِنَ المَنَازِلِ" رواه الترمذي، وقال:"حديث حسن صحيح"(1) .
1292-
وعن أَبي هريرة رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تَضَمَّنَ الله لِمَنْ خَرَجَ في سَبيلِهِ، لا يُخْرِجُهُ إِلَاّ جِهَادٌ في سَبيلِي، وَإيمَانٌ بِي، وَتَصْدِيقٌ بِرُسُلِي، فَهُوَ عَلَيَّ ضَامِنٌ أنْ أُدْخِلَهُ الجَنَّةَ، أَوْ أُرْجِعَهُ إِلَى مَنْزِلهِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ بِمَا نَالَ مِنْ أجْرٍ، أَوْ غَنيمَةٍ،
ــ
سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل) قال الحافظ في الفتح: نقلاً عن ابن بريرة، لا تنافي بينه وبين حديث "خير من صيام شهر"، لأنه يحمل على الإعلام بالزيادة في الثواب على الأول، أو باختلاف العاملين. اهـ قال العلقمي: أو باختلاف العمل قلة وكثرة.
قال البيهقي في الشعب: القصد من هذا ونحوه الإِخبار بتضعيف أجر المرابط على غيره، ويختلف ذلك بحسب اختلاف حال الناس نيةً وإخلاصاً، وباختلاف الأوقات (رواه الترمذي وقال: حديث حسن) وقال الحافظ في الفتح: ورواه أحمد وابن حبان، وفي الجامع الصغير ورواه النسائي والحاكم في المستدرك.
1292-
(وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تضمن الله) أي: التزم فضلا وإحساناً (لمن خرج في سبيله (2) لا يخرجه إلا جهاد (3) في سبيلي وإيمان بي) أي: بوعدي (وتصديق برسلي) أي: بأخبارهم، وبنبوتهم ورسالتهم، وجملة لا يخرجه الخ في محل الحال من فاعل خرج (فهو) أي: الله تعالى (ضامن) أي ملتزم تفضلاً وكرماً لمن كان كذلك (أن أدخله الجنة) ابتداءً من غير سابقة عذاب، أي: إن قتل في الحرب (أو أرجعه) بفتح الهمزة، من رجع المتعدي، ومنه قوله تعالي:(فإن رجعك الله إلى طائفة منهم)(4) الآية (إلى منزله الذي خرج منه) للجهاد مصحوباً (بما نال) أي: بالذي ناله (من أجر) أخروي (أو غنيمه) أصابها من مال الكفار، ويصح أن يكون ضامن بمعنى مضمون، كماء
(1) أخرجه الترمذي في كتاب: فضائل الجهاد، باب: ما جاء في فضل المرابط، (الحديث: 1667) .
(2)
يمكن أن يقال إن في الكلام حذفاً تقديره بقوله: إن علي عهداً لمن خرج في سبيلي لا يحرجه.
(3)
وفي كثير من النسخ جهاداً وإيماناً وتصديقاً بالنصب فيكون على أنه مفعول له أي لا يخرجه المخرج إلا الجهاد الخ وقوله فهو ضامن الأولى أن تكون من كلام الله تعالى جواباً عن شرط فقدر تقديره من كان كذلك فهو على ضامني أن أدخله الخ كما في العمدة ونسخة قديمة من شرح مسلم.
(4)
سورة التوبة، الآية:83.
وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، مَا مِنْ كَلْمٍ يُكْلَمُ في سَبيلِ اللهِ، إِلَاّ جَاءَ يَوْمَ القِيَامَةِ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ كُلِم؛ لَوْنُهُ لَوْنُ دَمٍ، وَرِيحُهُ ريحُ مِسْكٍ. وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ
ــ
دافق أي: مدفوق أو بمعنى ذو ضمان أي: حفظ ورعاية كلابن وتامر وعليهما، فضمير هو راجع إلى الغازي، هذا واختلف في معنى أو فقيل للتقسيم أي: بأجر فقط وهو لمن لم يغنم وتارة بغنيمة فقط. قال العيني: وليس كذلك بل هو راجع بالأجر كانت غنيمة، أو لا. قاله ابن بطال، ويدل لأجره مطلقاً حديث ابن عمرو بن العاص مرفوعاً "ما من غازية تغزو في سبيل الله فيصيبون الغنيمة إلا تعجلوا ثلثي أجرهم من الآخرة، وبقي لهم الثلث فإن لم يصيبوا غنيمة تم لهم أجرهم" فهذا يدل على أنه لا يرجع بدون أجر، لكن ينقص أجر من أصاب الغنيمة، وتضعيف هذا الحديث بحميد بن هانىء وهو غير مشهور، رد بأنه غير ملتفت إليه فهو ثقة محتج به عند مسلم، ووثقه النسائي وابن يونس وغيرهما، ولا يعرف فيه تجريح لأحد، وفي رواية البخاري من حديث أبي هريرة "وتوكل الله للمجاهد في سبيله بأن يتوفاه أن يدخله الجنة أو يرجعه سالماً مع أجره أو غنيمة" قال العيني: أي: ضمن الله بملابسة التوفي إدخال الجنة، وبملابسة عدم التوفي الرجوع بالأجر أو الغنيمة. قال الكرماني: يعني لا يخلو من الشهادة أو السلامة، فعلى الأول: يدخل الجنة بعد الشهادة في الحال، وعلى الثاني: لا ينفك عن أجر أو غنيمة، مع جواز الجمع بينهما في قضية مانعة خلو لا مانعة جمع. قال: ولفظ الضمان والتكفل والتوكيل والانتداب الواقعة في الأحاديث كلها بمعنى تحقيق الوعد على وجه الفضل منه. وعبّر عليه الصلاة والسلام عن تفضل الله سبحانه وتعالى بالثواب بلفظ الضمان ونحوه مما جرت به العادة بين الناس؛ لتطمئن به النفوس وتركن إليه القلوب (والذي نفس محمد) أظهر مكان الإِضمار؛ لفخامة هذا الاسم فهو كقول الخليفة الخليفة فعل كذا دون فعلت (بيده) أي: بقدرته، وفيه ندب القسم لتأكيد الأمر عند السامع (ما من كلم) أي: جرح، والتنكير للإِشاعة فيصدق بالقليل منه والكثير (يكلم) بالبناء للمفعول (في سبيل الله) الظرف مستقر في محل الحال، والمراد به الجهاد، ومثله كل من جرح في ذات الله وكل ما دافع فيه المرء بحق فأصيب فهو مجاهد (إلا جاء يوم القيامة كهيئة) أي: جاء حال كونه مماثلاً لهيئته (يوم كلم) أي: في الدنيا وبين وجه الشبه على طريقة الاستئناف البياني بقوله (لونه لون دم وريحه ريح مسك) وروى البخاري هذه الجملة القسمية من حديث أبي هريرة أيضاً بلفظ "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: والذي نفسي بيده لا يكلم أحد في سبيل الله والله أعلم بمن يكلم في سبيله إلا جاء يوم القيامة واللون لون دم والريح ريح المسك" وجملة لونه لون دم حالية. وفي الحديث: أن الشهيد يبعث في حالته
لَوْلَا أنْ يَشُقَّ عَلَى المُسْلِمِينَ مَا قَعَدْتُ خِلَافَ سَرِيَّةٍ تَغْزُو في سَبيلِ اللهِ أبداً، وَلكِنْ لَا أجِدُ سَعَةً فأحْمِلُهُمْ وَلَا يَجِدُونَ سَعَةً، وَيَشُقُّ عَلَيْهِمْ أنْ يَتَخَلَّفُوا عَنِّي. وَالَّذِي نَفْس مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَوَدِدْتُ أنْ أغْزُوَ في سَبيلِ اللهِ، فَأُقْتَلَ، ثُمَّ أغْزُوَ فَأُقْتَلَ، ثُمَّ أغْزُوَ فَأُقْتَلَ"،
ــ
التي قبض عليها، والحكمة فيه أن يكون معه شاهد فضيلته ببذل نفسه في طاعة ربه ويشهد له على ظالمه بفعله، وفائدة رائحته الطيبة أن ينشهر في أهل الموقف إظهاراً لفضله (والذي نفس محمد بيده) أعاد جملة القسم؛ لأن المقسم عليه ثانياً غير المقسم عليه أولاً (لولا أن أشق على المسلمين) أي: العاجزين عن الخروج للجهاد (ما قعدت خلف سرية) منصوب على الظرفية، بدليل رواية مسلم الآخرى "ما قعدت خلف سرية" وبه فسر المصنف هذا الحديث في شرح مسلم، أو على الحال أي: مخالف سرية بأن يخالف فعلى فعلها فتذهب وأقيم، والسرية القطعة من الجيش يبلغ أقصاها أربع مائة، تبعث إلى العدو، وجمعها سرايا سموا بذلك؛ لأنهم خلاصة العسكر وخيارهم من السرى وهو الشيء النفيس وجملة (تغزو في سبيل الله) في محل الصفة لسرية (أبداً) أي: في زمان من الأزمنة الآتية (ولكن) استدراك من حاصل الكلام السابق ببيان المانع عن خروجه مع كل (لا أجد سعة) بفتح أوليه المهملين، أي: ما يسع سائر المسلمين (فاحملهم) بالنصب في جواب النفي (ولا يجدون سعة) فيخرجوا بأنفسهم (ويشق عليهم أن يتخلفوا عني) لما فيه من فقدهم الاجتماع عليه صلى الله عليه وسلم تلك المدة، مع فوات أجر الغزو الذي تخلفوا عن شهوده (والذي نفس محمد بيده لوددت) بكسر الدال الأولى (أن أغزو في سبيل الله فأقتل) بالنصب عطفاً على المنصوب قبله (ثم أغزو فاقتل ثم أغزو فاقتل) ولفظ البخاري من طريق الزهري عن ابن المسيب عن أبي هريرة قال:"سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: والذي نفسي بيده لولا أن رجالاً من المؤمنين لا تطيب أنفسهم أن يتخلفوا عني، ولا أجد ما أحملهم عليه، ما تخلفت عن سرية تغزو في سبيل الله، والذي نفسي بيده لوددت أني أقتل في سبيل الله ثم أحيا ثم أقتل ثم أحيا ثم أقتل ثم أحيا ثم أقتل" قال العيني: استشكل بعضهم صدور هذا اليمين من النبي صلى الله عليه وسلم، مع علمه بأنه لا يقتل. وأجاب ابن المنير بأنه لعنه كان قبل نزول قوله تعالى:(والله يعصمك من الناس)(1) وأعترض بأن نزولها كان أوائل قدومه المدينة، وقد صرح أبو هريرة بسماعه من النبي صلى الله عليه وسلم، وهو إنما قدم أوائل سنة سبع. وأجاب بعضهم بأن تمني الفضل والخير لا يستلزم الوقوع. قال العيني: أو ورد على المبالغة في فضل الجهاد والقتل فيه. وجاء عن أنس
(1) سورة المائدة، الآية:67.
رواه مسلم، وروى البخاري بعضه. "الكَلْمُ": الجَرْحُ (1) .
1293-
وعنه، قَالَ: قَالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ مَكْلُومٍ يُكْلَم في سَبيِلِ الله إِلَاّ جَاءَ يَومَ القِيَامةِ، وَكَلْمُهُ يدْمِي: اللَّوْنُ لَوْنُ دَمٍ، وَالرِّيحُ ريحُ مِسكٍ" متفقٌ عَلَيْهِ (2) .
1294-
وعن معاذٍ رضي الله عنه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ قَاتَلَ في سَبِيلِ الله من رَجُلٍ مُسْلِمٍ فُوَاقَ نَاقَةٍ، وَجَبَتْ لَهُ الجَنَّةُ، وَمَنْ جُرِحَ جُرْحاً في سَبِيلِ اللهِ
ــ
مرفوعاً في الشهيد "أنه يتمنى أن يرجع إلى الدنيا فيقتل عشر مرات لما يرى من الكرامة" رواه مسلم وسيأتي، وروى الحاكم بسند صحيح عن جابر "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ذكر أصحابه الذين استشهدوا في أحد قال: والله لوددت أني غودرت مع أصحابي بفحص الجبل وفحص الجبل ما بسط منه وكشف من نواحيه". اهـ (رواه مسلم) في الجهاد (وروى البخاري بعضه) بل كله بنحوه، لكن مفرقاً كما علمت (الكلم) بفتح فسكون (الجرح) كذلك.
1293-
(وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من مكلوم) أي: مجروح (يكلم) بالبناء للمفعول، فيعم ما كان الكلم من الكفار وما كان من غيرهم، كدق حجر أو شجر أو عود (في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة وكلمه يدمى) جملة حالية مصدرة بواو الحال وقوله (اللون لون دم والريح ريح مسك) جملة حالية أيضاً من فاعل يدمى، أو مستأنفة استئنافاً بيانياً جواب سؤال، تقديره كيف صفة ذلك (متفق عليه) اقتصر السيوطي في الجامع الكبير على عزوه للبخاري، ولم أر هذا اللفظ في باب من يخرج في سبيل الله من البخاري، ولا في فضل الجهاد من صحيح مسلم والله أعلم.
1294-
(وعن معاذ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من قاتل في سبيل الله من رجل مسلم)
من فيه بيانية للإِبهام الذي في من (فواق ناقة) بضم الفاء وتخفيف الواو وآخره قاف، وسيأتي معناه: وهو كناية عن قليل الجهاد (وجبت له الجنة) ففيه بشارة لمن جاهد في سبيل الله طلباً
(1) أخرجه مسلم في كتاب: الإِمارة، باب: فضل الجهاد والخروج في سبيل الله، (الحديث: 103) .
وأخرجه البخاري في كتاب: الجهاد، باب: من يخرج في سبيل الله عز وجل (6/154) ، وباب. تمني المجاهد أن يرجع إلى الدنيا وتمني الشهادة وغيرها مع اختلاف في الألفاظ.
(2)
أخرجه البخاري في كتاب: الذبائح، باب: المسك واللفظ له (9/569 و6/15) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الإمارة، باب: فضل الجهاد والخروج في سبيل الله، (الحديث: 103) .
أَوْ نُكِبَ نَكْبَةً فَإنَّهَا تَجِيءُ يَوْمَ القِيَامَةِ كَأَغزَرِ مَا كَانَتْ؛ لَونُها الزَّعْفَرَانُ، وَريحُها كَالمِسْكِ" رواه أَبُو داود والترمذي، وقال: "حديث صحيح (1) .
ــ
لمرضاة الله بالموت على الإِسلام إذ لا تجب الجنة لغيره (ومن جرح) بالبناء للمجهول (جرحاً في سبيل الله) ظرف لغو متعلق بجرح، أو مستقر في محل الوصف للمصدر والأول أولى. قال في الكشاف في قوله تعالى:(ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض)(2) إن قلت الظرف متعلق بالفعل، أو بالمصدر قلت بالفعل، وإذا جاء نهر الله بعلل نهر معقل (أو نكب نكبة) بضم النون وسكون الكاف، ثم موحدة وحذف الظرف المعتبر فيها أيضاً اكتفاءً بدلالة ذكره في قرينتها على ذلك، وهي كما قال ابن الأثير: ما يصيب الإِنسان من الحوادث، وقال الجوهري: النكبة واحدة نكبات الدهر يقال أصابته نكبة. اهـ وعطفها على الجرح من عطف العام على الخاص، وقد ترجم البخاري في صحيحه لكل منهما باباً فقال: باب من ينكب في سبيل الله ثم باب من يجرح في سبيل الله (فإنها) أي: المرة من الجرح أو النكبة، أو فإن النكبة وأعيد الضمير إليها؛ لقربها ولأنها تعم ما قبلها (تجيء يوم القيامة كأغزر ما كانت لونها لون الزعفران) والكاف في كأغزر مزيدة وما مصدرية، أي: تجيء ودمها أغزر مما كانت في غير ذلك الوقت، فالوقت مقدر قاله العاقولي (وريحها كالمسك) وهذا محمول على ما كان منها ذا مادة كجرح ونحوه، ولا يخالف ما ورد من أن لونها لون الدم؛ لجواز جمعه لكل من الحمرة والصفرة، أو لأن الأمر فيهما تقريبي، وأغزر أفعل تفضيل من الغزارة بالغين والزاي المعجمتين، وهي الكثرة يقال: غزر الماء بالضم غزراً وغزارة فهو غزير، كذا في المصباح (رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث صحيح) وفي نسخة: حسن صحيح، وأورده في الجامع الكبير وزاد بعد قوله:"من قاتل في سبيل الله فواق ناقة وجبت له الجنة، ومن سأل الله القتل من نفسه صادقاً ثم مات أو قتل فإن له أجر شهيد، وقال: في آخره: وريحها ريح المسك، وزاد: ومن خرج به خراج في سبيل الله كان عليه طابع الشهداء" أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي، وقال: صحيح، والنسائي وابن حبان والطبراني والبيهقي عن معاذ بن جبل، ورواه ابن ماجه والحاكم في المستدرك إلى قوله: أجر شهيد، وروى أحمد
(1) أخرجه أبو داود في كتاب: الجهاد، باب: فيمن سأل الله تعالى الشهادة، (الحديث: 2541) .
وأخرجه الترمذي في كتاب: فضائل الجهاد، باب: من جاء فيمن يُكلم في سبيل الله، (الحديث: 1657) .
(2)
سورة الروم، الآية:25.
1295-
وعن أَبي هريرة رضي الله عنه، قَالَ: مَرَّ رَجُلٌ مِنْ أصْحَابِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بِشِعبٍ فِيهِ عُيَيْنَةٌ مِنْ مَاءٍ عَذْبَة، فَأعْجَبَتْهُ، فَقَالَ: لَو اعْتَزَلْتُ النَّاسَ فَأقَمْتُ في هَذَا الشِّعْبِ، وَلَنْ أفْعَلَ حَتَّى أسْتَأْذِنَ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فذكَرَ ذَلِكَ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "لَا تَفعلْ؛ فَإنَّ مُقامَ أَحَدِكُمْ في سَبيلِ اللهِ أفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهِ في بَيْتِهِ سَبْعِينَ عَاماً، أَلَا تُحِبُّونَ أنْ يَغْفِرَ الله لَكُمْ، وَيُدْخِلَكُمُ الجَنَّةَ؟ أُغْزُوا في سَبيلِ الله،
ــ
وابن زنجويه عن عمرو بن عنبسة مرفوعاً "من قاتل في سبيل الله فواق ناقة حرم الله على وجهه النار" اهـ.
1295-
(وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: مر رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم) لم أر من سماه (بشعب) بكسر فسكون، الطريق في الجبل (فيه عيينة) بضم المهملة، وتكسر إتباعاً للياء، تصغير عين وكأنه لقلة مائها وهي مؤنثة تأنيثاً معنوياً فلذا ظهرت التاء حال تصغيره (من ماء) صفة عُينية وكذا قوله (عذبة) بفتح فإسكان أي: سائغة الشراب، قال العاقولي: جيء بها ليلتذ السامع ويستروح إلى ذكرها، فكيف بالكون عندها، (فأعجبته) أي: العين (فقال: لو) للتمني ولذا لم يؤت لها بجواب، ويحتمل أنها للشرط، والجواب محذوف أي لو (اعتزلت الناس) أي: تركت الخلطة معهم (فأقمت في هذا الشعب) منفرداً أتعبد لكان أولى وأفضل، وجملة فأقمت معطوفة على جملة اعتزلت (ولن أفعل) شيئاً من الاعتزال والإِقامة (حتى أستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم) غاية للفعل لمنفي، وجملة ولن أفعل معطوفة على لو ومدخولها، وفيه ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من لزوم الأدب معه صلى الله عليه وسلم، وأنه كان لا يبت (1) أحد منهم أمراً ولو في خاصته حتى يعرض ذلك عليه صلى الله عليه وسلم. (فذكر) عطف على مقدر أي فرجع من الشعب فذكر (ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لا تفعل) هو نهي تنزيه عن المفضول وتحريض على ضده ولذا قال: (فإذا مقام أحدكم) مصدر ميمي أي: قيام أحدكم (في سبيل الله أفضل من صلاته في بيته سبعين عاماً) هذا كان في ابتداء الأمر، ومثله ما إذا ألجأ الأمر للجهاد، بأن هجم الكفار على بلاد المسلمين، وخشي استيلاؤهم عليها، فالاشتغال بالجهاد حينئذٍ لما فيه من إنقاذ المسلمين أفضل من صلاة النافلة وذلك؛ لأنه نفع متعد، وأما إذا لم ينته الأمر لذلك فأفضل العبادات البدنية الصلاة كما قاله الجمهور (ألا) بتخفيف اللام أداة عرض (تحبون أن يغفر الله لكم) حذف المفعول؛ إيماءً للتعميم
(1) يبت بضم الباء أي لا يقطع وتقال بالكسر شذوذاً لأن المضعف المكسور لم يتعد إلا قليلاً.
القَانتِ بآياتِ الله لا يَفْتُرُ مِنْ صِيَامٍ، وَلَا صَلَاةٍ، حَتَّى يَرْجِعَ المُجَاهِدُ في سَبِيلِ اللهِ" متفقٌ عَلَيْهِ، وهذا لفظ مسلمٍ.
وفي رواية البخاري: أنَّ رَجُلاً قَالَ: يَا رسول الله، دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ يَعْدِلُ الجِهَادَ؟ قَالَ:"لَا أجِدُهُ" ثُمَّ قَالَ: "هَلْ تَسْتَطِيعُ إِذَا خَرَجَ المُجَاهِدُ أنْ تَدْخُلَ مَسْجِدَكَ فَتقومَ وَلَا تَفْتُرَ، وَتَصُومَ وَلَا تُفْطِرَ"؟ فَقَالَ: وَمَنْ يَسْتَطِيعُ ذَلِكَ؟! (1) .
ــ
معناه لكل ما قبله، ويصح كونها للتعدية متعلقة على سبيل التنازع بالقائم، أو بالقانت ويراد به القارىء، ومنه حديث "أفضل الصلاة طول القنوت" أي: القراءة على أحد قولين فيه أو يراد به المطيل للقيام. قال العاقولي: يطلق القنوت على القيام وعلى طوله، وقوله (لا يفتر) بضم الفوقية أي: لا يغفل (من صلاة ولا صيام حتى يرجع المجاهد في سبيل الله) أتى بالظرف إطناباً. (متفق عليه وهذا لفظ مسلم) في أواخر الجهاد من صحيحه (وفي رواية البخاري) أي: واللفظ في روايته، بنحو رواية مسلم وهو قوله:(أن رجلاً) قال الحافظ في الفتح: لم أقف على اسمه (قال: يا رسول الله دلني على عمل) التنوين فيه للتعظيم باعتبار ثوابه (يعدل الجهاد) بفتح التحتية (قال: لا أجده) أي: لا أجد عملاً يعدله من حيث الثواب، وهذا جواب السؤال (ثم قال) أي: النبي صلى الله عليه وسلم مستأنفاً مخاطباً للسائل عن ذلك (هل تستطِيع) أي: تقدر (إذا خرج المجاهد) أي: للحرب (أن تدخل مسجدك فتقوم) بالنصب عطفاً على الفعل قبله، وكذا الأفعال التي بعده (ولا تفتر) أي: تسكن عن حدتك قال في المصباح: فتر عن العمل فتوراً من باب قعد سكن عن حدته، ولان بعد شدته (وتصوم ولا تفطر) أي: تداوم على الصلاة والصوم مدة غيبته عن أهله (فقال) أي: ذلك الرجل (ومن يستطيع ذلك) استفهام إنكاري أي: لا طاقة بذلك، وهذا باعتبار العادة البشرية المألوفة، وإلا فذلك داخل تحت الإِمكان لا سيما لأرباب المجاهدات. قال السيوطي في التوشيح: ْإن قيل تقدم حديث ما لعمل في أيام أفضل منها في هذه الأيام يعني أيام العشر عشر ذي الحجة، قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله. أجيب بأنه يحتمل أن يخص بهذا الحديث حديث الباب أو يحمل على ما في تتمة الحديث: إلا رجل خرج يخاطر بماله ونفسه فلم يرجع من ذلك بشيء.
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الجهاد، باب: فضل الجهاد والسير، (الحديث: 2785) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الإِمارة، باب: فضل الشهادة في سبيل الله تعالى، (الحديث: 110) .
1297-
وعنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"مِنْ خَيْرِ مَعَاشِ النَّاسِ لَهُمْ، رَجُلٌ مُمْسِكٌ عِنَانَ فَرَسِهِ في سَبِيلِ اللهِ، يَطِيرُ عَلَى مَتْنِهِ، كُلَّمَا سَمِعَ هَيْعَةً أَوْ فَزْعَةً طَارَ عَلَيْهِ يَبْتَغِي القَتْلَ وَالمَوْتَ مَظَانَّهُ أَوْ رَجُلٌ في غُنَيْمَةٍ في رَأسِ شَعَفَةٍ مِنْ هَذَا الشَّعَفِ، أَوْ بَطْنِ وَادٍ مِن الأَوْدِيَةِ، يُقِيمُ الصَّلَاةَ، وَيُؤتي الزَّكَاةَ، وَيَعْبُدُ رَبَّهُ حَتَّى يَأتِيَهُ اليَقِينُ، لَيْسَ مِنَ النَّاسِ إِلَاّ في خَيْرٍ" رواه مسلم (1) .
ــ
1297-
(وعنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من خير معاش) أي: ما يعيش به (الناس لهم) الظرف الأول في محل الخبر لقوله (رجل ممسك بعنان فرسه) على تقدير مضاف أي: معاش رجل، والعنان بكسر المهملة وتخفيف النون بينهما ألف، اللجام. قال في المصباح: سمي بذلك لأنه يعن أي: يعترض الفم فلا يلجه، والظرف الثاني في محل الحال من الاستقرار في الأول (في سبيل الله) حال من ضمير ممسك (يطير) بفتح التحتية الأولى وسكون الثانية أي: يسرع (على متنه) بفتح فسكون للفوقية وبعدها نون أي: ظهره (كلما سمع هيعة) بنصب كل على الظرفية لطار المذكور بعد، والهيعة بفتح فسكون التحتية بعدها عين مهملة، هي الصوت للحرب (أو) للشك من الراوي (فزعة) قال المصنف: فيما تقدم هي نحو الهيعة (طار على متنه) وقوله: (يبتغي) أي: يطلب بإسراعه لذلك (القتل أو الموت) شك من الراوي، أي: في اللفظين الواردين، وعلى الثاني ففيه إيماء لفضل الموت في الحرب، ولو بغير القتل فبه أولى (مظانه) بفتح الميم والظاء المعجمة، وتشديد النون منصوب على الظرفية، أي: يطلبه في المحل الذي يظن وجوده فيه طلباً لمرضاة الله سبحانه وتعالى (ورجل) معطوف على المبتدأ بتقدير المضاف (في غنيمة) صفة لما قبله، أو متعلق بمعاش المقدّر إن جعل مصدراً، وهو تصغير غنم، وهي مؤنث معنوي فلذا برزت التاء في ْالتصغير (في رأس شعفة) بفتح الشين المعجمة والعين المهملة وبالفاء فالهاء (من هذه الشعف) في محل الصفة للمجرور قبله، أي: في أعلا جبلِ من هذه الجبال (أو) للتنويع في بطن واد من هذه الأودية) وذلك لتيسر الخلوة فيهما غالباً، وقوله:(يقيم الصلاة ويؤتى الزكاة ويعبد ربه) هو من عطف العام على الخاص (حتى يأتيه اليقين) أي: الموت جمل في محل الحال من الاستقرار في الظرف الوصفي (ليس من الناس) أي: من أحوالهم في حال من الأحوال (إلا في) حال (خير) فهو استثناء متصل مما قبله باعتبار المضاف المقدر (رواه مسلم) وتقدم مشروحاً في باب استحباب العزلة عند فساد الزمان.
(1) أخرجه مسلم في كتاب: الإِمارة، باب: فضل الجهاد والرباط، (الحديث: 125) .
1298-
وعنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"إنَّ في الجنَّةِ مِئَةَ دَرَجَةٍ أعَدَّهَا اللهُ لِلْمُجَاهِدِينَ في سَبِيلِ اللهِ مَا بَيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ" رواه البخاري (1) .
1299-
وعن أَبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أنَّ رَسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"مَنْ رَضِيَ بِاللهِ رَبّاً، وَبِالإسْلَامِ ديناً، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولاً، وَجَبَتْ لَهُ الجَنَّةُ"، فَعَجِبَ لَهَا أَبُو سَعيدٍ، فَقَالَ: أَعِدْهَا عَلَيَّ يَا رسولَ اللهِ، فَأَعَادَهَا عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ:"وَأُخْرَى يَرْفَعُ اللهُ بِهَا العَبْدَ مِئَةَ دَرَجَةٍ في الجَنَّةِ، مَا بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَينِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ"،
ــ
1298-
(وعنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله) الجملة الفعلية محتملة؛ لكونها خبرًا بعد الخبر الظرفي؛ ولكونها حالاً من الاستقرار في الخبر فتكون على تقدير قد ولكونها مستأنفة، وفيه عظيم فضل المجاهد وعظم عناية الله به، وأتى بلفظ الجلالة آخراً والمقام للإِضمار إظهاراً لتفخيم الجهاد إذا أضيف إلى الاسم العلم الأعظم (ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض) ما فيهما موصول اسمي وصلته في كل منهما الظرف، والمراد بذلك بيان علو منزلتهم في الجنة ورفعة مقامهم فيها (رواه البخاري) .
1299-
(وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من رضي بالله رباً وبالإِسلام ديناً وبمحمد رسولاً وجبت له الجنة) أي: بدخولها إما ابتداءً مع الناجين أو بعد مكث في النار، ففيه إيماء إلى الموت على الإِسلام (فعجب لها أبو سعيد) اللام فيه للتعليل (فقال: أعدها علي يا رسول الله) استلذاذاً بذكر المحبوب (فأعادها عليه ثم قال) أي: النبي صلى الله عليه وسلم (وأخرى) أي: خصلة أخرى من البر (يرفع الله بها العبد مائة درجة في الجنة) ظرفاً لعفو، متعلق بيرفع (ما بين كل درجتين) من المائة (كما بين السماء والأرض) جملة اسمية مسوقة لبيان عظم رفعة المجاهد، وعظم رتبته. قال السيوطي في الديباج: قال القاضي عياض: يحتمل أن هذا على ظاهره وأن الدرجات هناك المنازل التي بعضها أرفع من بعض في الظاهر، وهذه صفة منازل الجنة، كما جاء أهل الغرف وأنهم ليراءون كالكوكب الدري قال: يحتمل أن يكون المراد بالرفعة الرفعة في المعنى من كثرة تعدد النعم وعظيم
(1) أخرجه البخاري في كتاب الجهاد، باب: درجات المجاهدين لا سبيل الله (6/9 و10) .
قَالَ: وَمَا هيَ يَا رسول الله؟ قَالَ: "الجِهَادُ في سَبِيلِ اللهِ، الجهَادُ في سَبيلِ اللهِ" رواه مسلم (1) .
1300-
وعن أَبي بكر بن أَبي موسى الأشعريِّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبي رضي الله عنه، وَهُوَ بَحَضْرَةِ العَدُوِّ، يقول: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ أبْوَابَ الجَنَّةِ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ"
ــ
الإِحسان مما لا يخطر على قلب بشر ولا يصفه مخلوق، وأن أنواع ما أنعم الله به عليهم من البر والكرامة تتفاضل تفاضلاً كثيراً، ويكون تباعدها في الفضل كما بين السماء والأرض في البعد. قال القاضي: والأول أظهر. قال المصنف: وهو كما قال والله أعلم، وقال القرطبي: ْالدرجة المنزلة الرفيعة، ويراد بها غرف الجنة ومراتبها التي أعلاها الفردوس. قال: ولا يظن من هذا أن درجات الجنة محصورة بهذا العدد؛ بل هي أكثر من ذلك ولا يعلم حصرها ْإلا الله تعالى، ألا ترى أن في الحديث الآخر يقال لصاحب القرآن: اقرأ وارق فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها. فهذا يدل على أن في الجنة درجات عدد آي القرآن وهي تنوف على ستة آلاف، فإذا اجتمعت للإِنسان فضيلة الجهاد مع فضيلة القرآن جمعت له تلك الدرجات كلها وهكذا ما زادت أعماله اهـ (قال) أي: أبو سعيد (وما هي) أي: الخصلة المشار إليها بما ذكر (يا رسول الله قال: الجهاد في سبيل الله الجهاد في سبيل الله) كرره تعظيماً له وتحريضاً عليه، وهو بالرفع خبر محذوف أي: هو اكتفاءً بدلالة وجوده في السؤال (رواه مسلم) في الجهاد من صحيحه، ورواه فيه النسائي وكذا في عمل اليوم والليلة له.
1300-
(وعن أبي بكر بن أبي موسى الأشعري) . قال الحافظ في التقريب: إسمه عمرو أو عامر، ثقة من أوساط التابعين، مات سنة ست ومائة، وكان أسن من أخيه أبي بردة. خرج من حديثه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي (قال: سمعت أبي رضي الله عنه وهو بحضرة العدو يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أبواب الجنة تحت ظلال السيوف) قال القرطبي: هذا من الكلام النفيس البديع، فإنه استفيد منه الحض على الجهاد والإِخبار بالثواب عليه، والحض على مقاربة العدو، واستعمال السيوف والاعتماد عليها، واجتماع المتقاتلين حين الزحف بعضهم لبعض، حتى تكون سيوفهم بعضها تقع على العدو وبعضها
(1) أخرجه مسلم في كتاب: الإِمارة، باب: بيان ما أعده الله تعالى للمجاهدين في الجنة من الدرجات، (الحديث: 116) .
فَقَامَ رَجُلٌ رَثُّ الهَيْئَةِ، فَقَالَ: يَا أَبَا مُوسَى أأنْتَ سَمِعْتَ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقول هَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ، فَرَجَعَ إِلَى أصْحَابِهِ، فَقَالَ: أقْرَأُ عَلَيْكُم السَّلَامَ، ثُمَّ كَسَرَ جَفْنَ سَيْفِهِ فَألْقَاهُ، ثُمَّ مَشَى بِسَيْفِهِ إِلَى العَدُوِّ فَضَربَ بِهِ حَتَّى قُتِلَ. رواه مسلم (1) .
1301-
وعن أَبي عبسٍ عبد الرحمان بن جَبْرٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما اغْبَرَّتْ قَدَمَا عَبْدٍ في سَبيلِ اللهِ فَتَمَسَّهُ النَّارُ"
ــ
ترتفع عليهم، حتى كأن السيوف أظلت الضاربين بها، والمراد أن الضارب بالسيف في سبيل الله يدخله الله الجنة بذلك. اهـ ملخصاً وتقدم سوقه بلفظه في آخر باب الصبر (فقام رجل رث الهيئة) بفتح الراء وتشديد المثلثة، أي: خلق الثياب، وهذا الرجل لم أقف على اسمه لا في شرح مسلم للمصنف ولا في شرح غيره (فقال: يا أبا موسى أأنت) بتخفيف الهمزتين، ويجوز تسهيل الثانية بقلبها ألفاً، كما هو كذلك في أصل مصحح من الرباض، وفي أخرى بألف واحدة بلا مد، وهو على نية حذف همزة الاستفهام (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: هذا) أراد بهذا الاستفهام المبالغة في تحقيق الخبر وقلة الوسائط بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن كثرتها مظنة الغلط والسهو وإلا فمرسل الصحابي حجة، كما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عبرة بمن خالف فيه، فألحقه بمرسل غيره (قال: نعم فرجع إلى أصحابه) وكأنه ليوصيهم بما عليه الوصية به ويودعهم ولذا قال: (فقال: أقرأ عليكم السلام) أي: مودعاً لكم (ثم كسر جفن سيفه) بفتح الجيم وسكون الفاء وبالنون أي: غلافه، وجمعه جفون وقد يجمع على جفان (فألقاه) وإنما فعل ذلك قطعاً لطمع نفسه من الحياة، وإيئاساً لها من العود (ثم مشى بسيفه إلى العدو) لكفرة المقاتلين (فضرب به حتى قتل) بالبناء للمجهول، وحتى غاية لاستمرار مقدر (رواه مسلم) قال المنذري في الترغيب: ورواه مسلم والترمذي وغيرهما.
1301-
(وعن أبي عبس) بفتح المهملة وسكون الموحدة، فسين مهملة، كنية (عبد الرحمن بن أجبر) بفتح الجيم وسكون الموحدة، ابن ريد بن جثم الأنصاري رضي الله عنه وقيل: اسمه عبد الله، وقيل: معدٍ حكاه الحافظ في التقريب، وفيه: أنه صحابي شهد بدراً وما بعدها، ومات سنة أربع وثلاثين، عن سبعين سنة خرج حديثه البخاري والترمذي والنسائي. اهـ روي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث الباب (قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما اغبرت قدما عبد في سبيل الله فتمسه النار) بالنصب بأن في جواب النفي، وفيه بشارة للمجاهد
(1) أخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب: ثبوت الجنة للشهيد، (الحديث: 146) .
لَا تَمسُّهُمَا النَّارُ: عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ، وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ في سَبيلِ اللهِ" رواه الترمذي، وقال: "حديث حسن" (1) .
1304-
وعن زيد بن خالد رضي الله عنه: أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "مَنْ جَهَّزَ غَازياً في سَبيلِ اللهِ فَقَدْ غَزَا،
ــ
شخصان، فهو من التعبير باسم الجزء الأشرف عن الكل، ويحتمل على بعد أنه إن دخل فيها لا تتألم العين بالعذاب (لا تمسها النار عين بكت من خشية الله) أي: لخشيته، فمن تعليلية ويجوز كونها ابتدائية، والخشية الخوف الناشىء عن تعظيم ومعرفة، ولذا خصّها الله تعالى بالعلماء قال تعالى:(إنما يخشى الله من عباده العلماء)(2)(وعين باتت تحرس في سبيل الله) شامل لمن حرس الجيش من عدو، ومن حرس الثغر بالرباط فيه (رواه الترمذي وقال: حديث حسن) ورواه أبو يعلى والضياء من حديث أنس، ورواه الطبراني في المعجم الأوسط من حديث أنس أيضاً، لكن بلفظ "عينان لا تريان النار أبداً عين بكت في جوف الليل من خشية الله، وعين باتت تكلأ في سبيل الله".
1304-
(وعن زيد بن خالد) هو الجهني رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من جهز غازياً في سبيل الله) بأن أعانه بآلات السفر من زاد ونفقة ومركوب وآلته أو بشيء من ذلك (فقد غزا) يفسره ما رواه ابن ماجه من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من جهز غازياً حتى يستقل كان له مثل أجره حتى يموت أو يرجع " وما اقتضاه من ترتب الأمر على الاستقلال المقتضي لتمام التجهيز غير مقيد؛ لإِطلاق التجهيز في حديث الباب الشامل للقليل منه والكثير؛ لأن حديث ابن ماجه ضعيف؛ لأن فيه وائلة، وعن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من جهز غازياً أو خلفه في أهله بخير فإنه ّمعنا". وأخرج الطبراني عن زيد بن ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من جهز غازياً فله مثل أجره ومن خلف غازياً في أهله بخير أو أنفق على أهله فله مثل أجره"(ومن خلف) بفتح المعجمة وتخفيف اللام وبالفاء (غازياً في أهله بخير) بأن قام بحوائجهم أو بعضها، يقال: خلف فلان فلاناً إذا كان خليفته (فقد غزا) أي: أنه مثله في الأجر، وإن لم يغز حقيقة قاله ابن حبان،
(1) أخرجه الترمذي في كتاب: فضائل الجهاد، باب: ما جاء في فضل الغبار في سبيل الله، (الحديث: 1639) .
(2)
سورة فاطر، الآية:28.
وَمَنْ خَلَفَ غَازياً في أهْلِهِ بِخَيْرٍ فَقَدْ غَزَا" متفقٌ عَلَيْهِ (1) .
ــ
وقال الطبراني: فيه أن من أعان مؤمناً على عمل فللمعين عليه مثل أجر العامل، ومثله الإِعانة على معاصي الله تعالى للمعين عليها من الوزر ثقل ما على العامل منه، وقال القرطبي: ذهب بعض الأئمة إلى أن المثل المذكور في هذا الحديث وشبهه إنما هو بغير تضعيف قال: لأنه يجتمع في تلك الأشياء أفعال أخر وأعمال من البر، لا يفعل الدال الذي ليس عنده إلا مجرد النية الحسنة، وقد قال: أيكم خلف الخارج في أهله وماله بخير فله مثل نصف أجر الخارج، وقد قال: لينبعث من كل رجلين أحدهما والأجر بينهما، والحديث أخرجه مسلم. قال القرطبي: ولا حجة في هذا الحديث لوجهين:
أحدهما: أنه لم يتناول محل النزاع وهو أن ناوي الخير والمعروف هل له مثل أجر فاعله من غير تضعيف أو به، وهذا الحديث إنما اقتضى المشاركة والمشاطرة في العمل المضاعف فانفصلا.
ثانيهما: أن القائم على مال الغازي وأهله نائب عنه في عمل لا يتأتى له الغزو إن لم يكن ذلك العمل فصار كأنه باشر معه الغزو، فليس مقتصراً على النية فقط بل هو عامل في الغزو، ولما كان كذلك كان له مثل أجر الغازي كاملاً وافراً مضاعفاً، بحيث إذا أضيف ونسب إلى أجر الغازي كان نصفاً له، وبهذا يجمع بين حديث "من خلف غازياً في أهله بخير فقد غزا" وقوله في الحديث الثاني:"فله مثل نصف أجر الغازي ويبقى للغازي النصف" فإن الغازي لم يطرأ عليه ما يوجب تنقيص ثوابه، وإنما هذا كما قال: من فطر صائماً كان مثل أجر الصائم لا ينقص من أجره شيء. اهـ وعليه فقد صارت كلمة نصف مقحمة هنا بين مثل وأجر وكأنها زيادة ممن تسامح في إيراد اللفظ، بدليل قوله في الرواية الأخرى: والأجر بينهما، وأما إن تحقق عجزه وصدقت نيته، فلا ينبغي أن يختلف في أن أجره يضاعف كأجر العامل المباشر قاله العيني (متفق عليه) قال السيوطي في الجامع الكبير: ورواه أحمد وعبد بن حميد وأبو داوود والترمذي والنسائي وابن حبان عن زيد بن خالد، وأخرجه الدارمي والطبراني عنه بزيادة في آخره، ورواه ابن ماجه عنه بلفظ "من جهز غازياً في سبيل الله كان له مثل أجره من غير أن ينقص من أجر الغازي شيئاً" ورواه ابن ماجه أيضاً " عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بلفظ "من جهز غازياً حتى يستقل كان له مثل أجره حتى
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الجهاد، باب: فضل من جهز غازياً وخلفه بخير (6/37) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الإِمارة، باب: فضل إعانة الغازي في سبيل الله
…
(الحديث: 135) .
1311-
وعن أَبي قتادة رضي الله عنه: أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَامَ فِيهِم فَذَكَرَ أنَّ الجِهَادَ في سَبيلِ اللهِ، وَالإيمَانَ بِاللهِ، أفْضَلُ الأعْمَالِ، فَقَامَ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رسولَ اللهِ، أرأيْتَ إنْ قُتِلْتُ في سَبيلِ اللهِ، أتُكَفَّرُ عَنِّي خَطَايَايَ؟ فَقَالَ لهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم:"نَعَمْ، إنْ قُتِلْتَ في سَبيلِ الله وَأنْتَ صَابِرٌ مُحْتَسِبٌ، مُقْبِلٌ غَيْرُ مُدْبِرٍ"، ثُمَّ قَالَ
ــ
1311-
(وعن أبي قتادة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فيهم) أي: في الصحابة (خطيباً فذكر أن الجهاد في سبيل الله) قدمه ذكراً على قرينه الأفضل منه، اهتماماً به؛ لقوة الداعية حينئذٍ إليه (والإِيمان بالله أفضل الأعمال) أي: مجموعها أفضل فالمخبر عنه بأفعل التفضيل واحد، ويجوز أن يكون المراد كل منهما أفضل الأعمال، ويكون ذلك بالنظر للجهاد ولدعاية الحاجة حينئذٍ إليه، على أن أفعل التفضيل المضاف لمعرفة تجوز مطابقته وتركها (فقام رجل) لم يسمه المصنف، ولا السيوطي (فقال: يا رسول الله أرأيت) بفتح التاء أي: أخبرني (إن قتلت في سبيل الله تكفر) بضم الفوقية وفتح الكاف والفاء المشددة أي تمحى (أعني خطاياي) وفي نسخة بزيادة همزة الاستفهام، أي: لفظاً وإلا فهي مرادة، والخطايا جمع خطيئة أصلها خطائي وزن فعائل، فأبدلت الياء بعد ألف الجمع همزة فصار خطائىء، بهمزتين ثم أبدلت الثانية ياء لتطرفها، ثم قلبت الكسرة قبلها فتحة على حد عذارى، ثم قلبت الياء ألفاً لتحركها، وانفتاح ما قبلها فصار خطآءاً بألفين بينهما همزة، فاجتمع شبه ثلاث ألفات، فابدلت الهمزة ياءً فصار خطاياً بعد خمسة أعمال، والخطية فعيلة من الخطي بكسر أوله، وهو الذنب. اهـ من شرح العمدة للقلقشندي (فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم) أي: تكفر (إن قتلت في سبيل الله وأنت صابر محتسب) أي: طالب ثواب الله تعالى بالبناء للمجهول فهما شرِطان (مقبل غير مدبر) أي: على وجه الفرار ْالمحرم، أما إذا أدبر ليكر أو فر فراراً مباحاً بأن زاد الكفار على ضعف المسلمين، فالظاهر أنه لا يؤثر، ويحتمل أن ذلك مؤثر في عدم التكفير المذكور، وإن لم يأثم به فاعله ويؤيده ما يأتي عن المصنف، وجواب الشرط محذوف أي: تكفر عنك خطاياك لدلالة ما قبله عليه والجملة الاسمية حالية من رفوع قتلت، وقال الزملكاني: يحتمل أن يريد به مقبلاً غير مدبر، في وقت من الأوقات، فقد يقبل الشخص ثم يدبر، ويحتمل حمله على التأكيد، أو تمكين المعنى بالاحتراز عن إرادة التحيز كقوله تعالى:(أموات غير أحياء)(1) ويحتمل أن يكون أحدهما محمولاً على الجوارح، والآخر على القلوب، ويحتمل خلاف ذلك، كذا في قوت
(1) سورة النحل، الآية:21.
الله عنه -: يَا رسولَ اللهِ، جَنَّةٌ عَرْضُهَا السَّماوَاتُ وَالأرْضُ؟ قَالَ:"نَعَمْ" قَالَ: بَخٍ بَخٍ؟ فَقَالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَا يَحْمِلُكَ عَلَى قَولِكَ بَخٍ بَخٍ؟ " قَالَ: لَا وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ إِلَاّ رَجَاءَ أَنْ أَكُونَ مِنْ أهْلِهَا، قَالَ:"فَإنَّكَ مِنْ أهْلِهَا" فَأخْرَجَ تَمَرَاتٍ مِنْ قَرَنِهِ، فَجَعَلَ يَأكُلُ مِنْهُنَّ، ثُمَّ قَالَ: لَئِنْ أَنَا حَييتُ حَتَّى آكُلَ تَمَرَاتِي هذِهِ إنّهَا لَحَياةٌ طَوِيلَةٌ، فَرَمَى بِمَا كَانَ مَعَهُ مِنَ التَّمْرِ، ثُمَّ قَاتَلَهُمْ حَتَّى قُتِلَ. رواه مسلم.
"القَرَن" بفتح القاف والراء: هُوَ جُعْبَةُ النشَّابِ (1) .
ــ
(يا رسول الله جنة عرضها السموات والأرض) استفهام تثبت وتحقق للأمر (قال: نعم. قال: بخ بخ) قال المصنف: فيه لغتان سكون الخاء وكسرها منوناً، وهي كلمة تطلق لتفخيم الأمر وتعظيمه في الخير. اهـ وقد تقدم الكلام في معناها، وضبطها قبل وأفاد العاقولي أنها مبنية على السكون فإن وصلت حركت بالكسر، وتؤنث وربما شددت (فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما يحملك على قولك بخ بخ) أي: أخوفاً قلته أم رجاءً لكونك من أهلها (قال: لا والله يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها) المنفي بلا محذوف مقدر بأعم العلل، والاستثناء مفرغ أي: لا قلت ذلك لعلة من العلل، إلا لرجاء كوني من أهلها (قال: فإنك من أهلها) هو من جملة معجزاته صلى الله عليه وسلم إذ أخبر عن أمر مغيب قبل كونه بأنه يكون فكان كما أخبر (فأخرج تمرات من قرنه فجعل يكل منهن) إما لقوة الجوع عليه، أو استرواحاً للنفس لسماع ذلك الخبر السار، كما هو العادة من تناول الأطعمة واللذائذ عند سماع الخبر السار (ثم قال: لئن أنا حييت) اللام فيه موطئة للقسم، وإن شرطية، وأنا مؤكد لفاعل فعل مضمر، هو وفاعله ويفسره ما بعده والتقدير، لئن حييت أنا، وذلك المضمر فعل الشرط (حتى آكل تمراتي هذه) غاية للحياة (إنها لحياة طويلة) جملة جواب القسم، واكتفى بها عن جواب الشرط لتقدم القسم عليه. قال العاقولي: ويجوز أن يكون على مذهب أهل المعاني قد قدم الضمير المنفصل؛ للاختصاص على نحو: قل لو أنتم تملكون، فكأنه وجد نفسه مختارة للحياة على الشهادة، فأنكر عليها فقال ما قال استبطاء للانتداب؛ لما ندب إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله قوموا إلى جنة الخ، فعد حياته قدر ما يأكل تلك الحبات التي هي دون العشرة، كما يؤذن به جمع القلة المنكر حياة طويلة مسارعة للبر (فرمى بما كان معه من التمر ثم قاتلهم حتى قتل رواه مسلم) مطولاً في الجهاد، ورواه أبو داود مختصراً في سننه (القرن بفتح القاف)(الراء) وبالنون (هو جعبة) بفتح فسكون (النشاب) وجمعها جعاب، مثل كلبة وكلاب.
(1) أخرجه مسلم في كتاب: الإمارة باب ثبوت الجنة للشهيد، (الحديث 145) .
وَلِلفُقَرَاءِ، فَبَعَثَهُمُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، فَعَرَضُوا لَهُمْ فَقَتَلُوهُمْ قَبْلَ أنْ يَبْلغُوا المَكَانَ، فَقَالُوا: اللَّهُمَّ بَلِّغْ عَنَّا نَبِيَّنَا أنَّا قَدْ لَقِينَاكَ فَرضِينَا عَنْكَ وَرَضِيتَ عَنَّا، وَأتَى رَجُلٌ حَراماً خَالَ أنَسٍ مِنْ خَلْفِهِ، فَطَعَنَهُ بِرُمْحٍ حَتَّى أنْفَذَه، فَقَالَ حَرَامٌ: فُزْتُ وَرَبِّ الكَعْبَةِ، فَقَالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ إخْوَانَكُمْ قَدْ قُتِلُوا وَإنَّهُمْ قَالُوا: اللَّهُمَّ
ــ
لهم في مؤخر مسجده، وتقدم بسط أحوالهم في باب فضل الزهد في الدنيا (وللفقراء) من عطف العام على الخاص؛ للتعميم (فبعثهم النبي صلى الله عليه وسلم إليهم) ليدعوهم إلى الإِيمان ويعلموهم القرآن (فعرضوا لهم) أي: فعرض لهم عدو الله عامر بن الطفيل، فقتل حامل الكتاب حرام بن ملحان طعن في رأسه ففاض الدم بكفه، ثم نضحه على وجهه وقال: فزت ورب الكعبة واستصرخ عليهم بني عامر فأبوا أن يجيبوه وقالوا: لا نخفر أبا براء، وقد عقد لهم جواراً فاستصرخ عليهم قبائل من عصية وسليم ورعل فأجابوه، فخرجوا حتى غشوا القوم فأحاطوا بهم في رحالهم، فلما رأوهم أخذوا سيوفهم فقاتلوهم (فقتلوهم) في معرك الحرب (قبل أن يبلغوا المكان) الذي أرادوا الوصول إليه، وهو منزل أبي براء ابن ملاعب الأسنة (فقالوا) يحتمل أنه عند إحاطة عدوهم بهم، وقد جاء ما يدل لذلك في كتب السير، فعند ابن سعد قال: لما أحيط بهم قالوا: اللهم إنا لا نجد من يبلغ رسولك منا السلام غيرك، فاقرئه منا السلام، فأخبره جبريل بذلك فقال: وعليهم السلام (اللهم بلغ عنا نبينا أنا قد لقيناك فرضينا عنك) لعظيم فضلك (ورضيت عنا) بإثابتك، ويحتمل أنهم قالوا ذلك وهم في حضرة الله سبحانه وتعالى، بعد أن ماتوا وظاهر كلامهم يعطيه، وعلى الأول فمعنى رضينا عنك أي: رضينا بأقضيتك، ورضيت عنا بالتوفيق للصالحات التي من أسناها الرضا بالقضاء (وأتى رجل) لم أقف على اسمه (1) (حراماً خال أنس من خلفه) أي: من ورائه (فطعنه برمح) في رأسه (حتى أنفذه) أي: نفذ منه الرمح (فقال حرام) أي: بعد أن نضح الدم على رأسه ووجهه (فزت) أي: بالشهادة التي هي سبب السعادة (ورب الكعبة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن إخوانكم قد قتلوا) أي: قتلهم العدو (وإنهم قالوا: اللهم) أي: يا الله
= وهي مكان منقطع عن المسجد مطل عليه يبيتون فيه ومنه يؤخذ جواز اتخاذ الصفة في المسجد وجواز المبيت فيه بلا كراهة وهو مذهب الشافعية والجمهور. ع.
(1)
قوله: لم أقف على اسمه، انظر هذا مع قوله آنفاً: فعرض لهم عدو الله عامر ابن الطفيل فقتل حامل الكتاب حرام بن ملحان تأمل.
المُسْلِمُونَ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إنِّي اعْتَذِرُ إلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هؤُلاءُ - يعني: أصْحَابَهُ - وَأبْرَأُ إلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هؤُلاءِ - يَعنِي: المُشْرِكِينَ - ثُمَّ تَقَدَّمَ فَاسْتَقْبَلَهُ سَعْدُ بنُ مُعَاذٍ فَقَالَ: يَا سَعَدَ بنَ مُعَاذٍ، الجَنَّةَ وَرَبِّ النَّضْرِ، إنِّي أجِدُ ريحَهَا مِنْ دُونِ أُحُدٍ! فَقَالَ سَعْدٌ: فَمَا اسْتَطَعْتُ يَا رسولَ اللهِ مَا صَنَعَ! قَالَ أنسٌ: فَوَجدْنَا بِهِ بِضعاً وَثَمَانِينَ ضَربَةً بِالسَّيْفِ، أَوْ طَعْنَةً برُمح أَوْ رَمْيةً بِسَهْمٍ، وَوَجَدْنَاهُ قَدْ قُتِلَ وَمَثَّلَ بِهِ المُشْرِكُونَ،
ــ
الموقف الذي عينه لهم صلى الله عليه وسلم، وأمرهم ألا يفارقوه، حتى يأتيهم الإِذن فخالفوا فوقع ما وقع (فقال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء يعني) بالمشار إليهم (أصحابه) أي: المسلمين (وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء يعني المشركين) وما صنع الأولون هو مفارقة ما أنزلوا فيه، وما صنعه الكفار هو مقاتلة النبي صلى الله عليه وسلم، والكفر بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم (ثم تقدم) أي: إلى العدو (فاستقبله سعد بن معاذ فقال: يا سعد) بضم الدال ويجوز فتحها لكونه وصف بقوله (ابن معاذ) المنصوب لا غير (الجنة ورب النضر) الجملة القسمية معترضة بين المبتدأ وجملة الخبر التي هي (إني أجد ريحها من دون أحد) ولا مانع من إبقاء الكلام على حقيقته من إنشاقه عرفها؛ ليبعثه على الجهاد فيكتسب عرفها، ويحتمل أن يكون أراد أنه استحضر الجنة التي أعدت للشهيد، تصور أنها في ذلك الموضع الذي يقاتل فيه، والمعنى إني لأعلم أن الجنة تكتسب في هذا الموضع فأنا مشتاق لها (قال سعد: فما استطعت يا رسول الله أن أصنع ما صنع) أي: ما قدرت أن فعل في الجهاد مثل فعله من الإقدام على العدو وطرح النفس في نحر الكفار والخروج عنها لله تعالى، وفيه الشهادة بحسن العمل عند الأكابر والأشراف (قال أنس) أي: ابن مالك (فوجدنا به بضعاً) بكسر الموحدة، وبعض العرب يفتحها وبسكون الضاد المعجمة وبالمهملة، تستعمل في الثلاثة والتسعة وما بينهما ويستوي فيه المذكر والمؤنث، وقال في المصباح: البضع أيضاً يستعمل من ثلاثة عشر إلى تسعة عشر، لكن تثبت الهاء في بضع مع المذكر وتحذف مع المؤنث، ولا يستعمل فيما زاد على العشرين، وأجازه بعض المشايخ، فيقال بضعة وعشرون رجلاً وبضع وعشرون امرأة، وهكذا قاله أبو زيد، وقالوا على هذا معنى البضع، والبضعة في العدد قطعة مبهمة غير محدودة اهـ قلت: وحديث الباب شاهد لإِطلاقه على ما فوق العشرين والله أعلم (وثمانين ضربة بالسيف أو طعنة برمح أو رمية بسهم) وتعريف السيف دون المذكورين معه، تفنن في التعبير وأو فيه للتقسيم (ووجدناه قد قتل) بالبناء للمجهول لعدم العلم بالفاعل (وقد مثل به المشركون) قال في المصباح: مثلت بالقتيل مثلاً من بابي قتل وضرب إذا جدعته (1) وظهر
(1) جدعته بالدال المهملة قطعت أنفه أو أذنه أو يده أو شفته كما في الصحاح. ع.
رَجُلَيْنِ أتيَانِي، فَصَعِدَا بِي الشَّجرةَ فَأدْخَلَانِي دَاراً هِيَ أحْسَنُ وَأَفضَلُ، لَمْ أَرَ قَطُّ أحْسَنَ مِنْهَا، قالا: أمَّا هذِهِ الدَّارُ فَدَارُ الشُّهَدَاءِ". رواه البخاري، وَهُوَ بعض من حديث طويل فِيهِ أنواع من العلم سيأتي في باب تحريم الكذب إنْ شاء الله تَعَالَى (1) .
1317-
وعن أنس رضي الله عنه: أنَّ أمَّ الرُّبيعِ بنتَ البَرَاءِ وهي أُمُّ حَارِثة بن سُرَاقَةَ، أتَتِ النبي صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: يَا رسولَ اللهِ، ألَا تُحَدِّثُنِي
ــ
رسول الله صلى الله عليه وسلم: رأيت الليلة) في المنام بالنصب ظرف زمان (رجلين) أي: على صورتهما لما تبين بعد أنهما جبريل وميكائيل (أتياني فصعدا) من باب علم (بي الشجرة فأدخلاني داراً هي أحسن وأفضل) حذف المفضل عليه إيماءً إلى تفخيم الدار وشرفها (لم أر) أي: أبصر (قط) بالبناء على الضم ظرف، لما مضى من الزمان (أحسن منها) وقوله:(قالا: أما هذه الدار فدار الشهداء) هو غير متصل بما معه في سياق الحديث، بل بينهما فواصل ستراها إن شاء الله تعالى، وهذا الذي صنعه المصنف، هو على رأي من يجوز تقطيع الحديث والاقتصار على بعضه، إذا لم يكن للمذكور بالمتروك ارتباط من نحو كونه مستثنى أو غاية (رواه البخاري) في أبواب الجنائز (وهو) أي: المذكور هنا (بعض) بالتنوين (من حديث طويل فيه أنواع من العلم سيأتي في باب تحريم الكذب إن شاء الله تعالى) .
1317-
(وعن أنس رضي الله عنه أن أم الربيع) بصيغة التصغير مع تشديد الياء (بنت البراء) بفتح الموحدة وتخفيف الراء وبالمد (وهي أم حارثة) بالمهملة والمثلثة آخره (بن سراقة) بن الحارث بن عدي من بني عدي بن النجار، ذكره ابن إسحاق، وتكنية أم حارثة بأم الربيع وجعلها بنت البراء وهم من البخاري نبه عليه غير واحد آخرهم الدمياطي. فقال: إنما هي الربيع بنت النضر عمة أنس بن مالك بن النضر، وعمة أخيه البراء، قلت: وجاء كذلك في رواية الترمذي وابن خزيمة، فكأنه كان في الحديث عمة البراء فحرفه بعض الرواة وزاد لفظة أم (2) (أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله ألا) بتخفيف اللام أداة عرض (تحدثني
(1) أخرجه البخاري في كتاب. الجنائز، باب: ما قيل في أولاد المشركين (6/10) .
(2)
مراده بقوله فكأنه كان الخ الدفاع عن الإِمام البخاري بأن التعبير المشار إليه ليس منه وإنما هو من بعض الرواة الناقلين عنه والكتبة الناسخين لصحيحه وأجاب الكرماني بأجوبة طويلة لا تخلو من تكلف.
عَنْ حَارِثَةَ - وَكَانَ قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ - فَإنْ كَانَ في الجَنَّةِ صَبَرْتُ، وَإنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ اجْتَهَدْتُ عَلَيْهِ في البُكَاءِ، فَقَالَ:"يَا أُمَّ حَارِثَةَ إنَّهَا جِنَانٌ في الجَنَّةِ، وَإنَّ ابْنَكِ أصابَ الفِرْدَوْسَ الأَعْلَى" رواه البخاري (1) .
ــ
عن حارثة وكان قتل يوم بدر) بسهم أصابه ولم يعرف راميه، ولذا قال في الحديث في البخاري: أصابه بسهم غرب بتنوين سهم وفتح الغين المعجمة وسكون الراء وبموحدة، كذا في الرواية أي: لا يعرف راميه، أو لا يعرف من أي جهة جاء، ومثله سهم عرض، فإن عرف راميه فليس بغرب ولا عرض، وقيل: قتله حبان بن عرقة، بفتح العين المهملة وكسر الراء وبالقاف، رماه بسهم فأصاب نحره فقتله، وعليه فلا يقال في السهم الذي أصابه غرب ولا عرض قاله العيني، وقال ابن قتيبة: العامة تقوله بالتنوين والإِسكان، والأجود بالإِضافة وفتح الراء، وقال أبو زيد: إن جاء من حيث لا يعرف راميه فهو بالتنوين والإِسكان، وإن عرف لكن أصاب من لم يقصده، فهو بالإِضافة والفتح، وقال الأزهري: هو بالفتح لا غير، وحكى جماعة من اللغويين الوجهين مطلقاً، وحذف المصنف هذه الجملة لعدم تعلق غرضه بها، وكان حارثة قد خرج نظاراً، كما رواه أحمد. زاد النسائي: ما خرج لقتال (فإن كان في الجنة صبرت) أي: يسليني عنه علمي بشرف مصيره (وإن كان غير ذلك) أي: وإن كان في النار إذ ليس ثمة سوى المنزلتين (اجتهدت عليه في البكاء) قال الخطابي: أقرهما النبي صلى الله عليه وسلم على هذا، فيؤخذ منه الجواز، وأجيب بأنه كان قبل تحريم النوح فلا دلالة فيه، فإن تحريمه كان عقب غزوة أحد، وهذه عقب غزوة بدر، وفي رواية للبخاري في الرقاق: فإن كان في الجنة لم أبك عليه (فقال: يا أم حارثة إنها) الضمير للقصة (جنان) بكسر فنونين بينهما ألف، أي: جنات كثيرة، كما جاء كذلك في رواية البخاري المذكورة في الرقاق (في الجنة) صفة لما قبله (وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى) الفردوس البستان الذي يجمع كل شيء، وقيل: الذي فيه العنب، وقيل: هو بالرومية، وقيل: بالقبطية، وقيل: بالسريانية وبه جزم الزجاج، والمراد به أنه محل مخصوص من الجنة، قال صلى الله عليه وسلم:"إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنها أوسط الجنة وأعلى الجنة، وأراه فوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة" رواه البخاري ومعنى أوسط الجنة خيارها، وأفضلها وأوسعها فلا يشكل بكونها أعلاها (رواه البخاري) ورواه الترمذي وابن خزيمة.
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الجهاد، باب: من أتاه سهم غرب فقتله (6/20، 21) .
1318-
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قَالَ: جِيءَ بِأَبِي إِلَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، قَدْ مُثِّلَ بِهِ، فَوُضِعَ بَيْنَ يَدَيْهِ؛ فَذَهَبْتُ أكْشِفُ عَنْ وَجْهِهِ فَنَهَانِي قَوْمِي، فَقَالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:"مَا زَالتِ المَلائِكَةُ تُظِلُّهُ بِأَجْنِحَتِهَا" متفقٌ عَلَيْهِ (1) .
1319-
وعن سهل بن حنيف رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ سَألَ اللهَ تَعَالَى الشَّهَادَةَ بِصِدْقٍ بَلَّغَهُ اللهُ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ، وَإنْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ" رواه مسلم (2) .
1320-
وعن أنس رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ طَلَبَ الشَّهَادَةَ صَادِقاً أُعْطِيَهَا ولو لَمْ تُصِبْهُ" رواه مسلم (3) .
ــ
1318-
(وعن جابر بن عبد الله) الأنصاري السلمي بفتحتين رضي الله عنهما قال: جيء بأبي إلى النبي صلى الله عليه وسلم) وذلك يوم أحد (قد مثل به) بتشديد المثلثة مبني للمفعول جملة حالية من أبي (فوضع بين يديه) معطوف على جملة جيء بأبي (فذهبت أكشف عن وجهه) أي: متوجعاً له مما مثل به الكفار (فنهاني قوم) أي: عن ذلك (فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها) تشريفاً له، وزاد البخاري في رواية له:"حتى رفعتموه" وفي رواية له حتى رفع (متفق عليه) .
1319-
(وعن سهل بن حنيف) بضم ففتح فسكون رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من سأل الله تعالى الشهادة) أي: بذلها له وجعله شهيداً (بصدق) فيِ السؤال (بلغه الله منازل الشهداء) لصدقه (وإن مات على فراشه رواه مسلم) وتقدم مشروحاً في باب الصدق.
1320-
(وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من طلب) أي: سأل (الشهادة صادقاً أعطيها) أي: أعطي ثوابها (ولو لم تصبه) بأن لم يمت شهيداً (رواه مسلم) ورواه أحمد.
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الجهاد، باب: ظل الملائكة على الشهيد (6/24) .
وأخرجه مسلم في كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل عبد الله بن عمرو بن حرام والد جابر
(2)
أخرجه مسلم في كتاب: الإمارة، باب: استحباب طلب الشهادة في سبيل الله تعالى، (الحديث: 157) .
(3)
أخرجه مسلم في كتاب الإِمارة، باب: استحباب طلب الشهادة في سبيل الله تعالى، (الحديث: 156) .
1321-
وعن أَبي هريرة رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَا يَجِدُ الشَّهِيدُ مِنْ مَسِّ القَتْلِ إِلَاّ كَمَا يَجِدُ أَحَدُكُمْ مِنْ مَسِّ القَرْصَةِ" رواه الترمذي، وقال:"حديث حسن صحيح"(1) .
1322-
وعن عبد الله بن أَبي أوْفَى رضي الله عنهما: أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في بَعْضِ أيَّامِهِ الَّتي لَقِيَ فِيهَا العَدُوَّ انْتَظَرَ حَتَّى مَالَتِ الشَّمْسُ، ثُمَّ قَامَ في النَّاسِ فَقَالَ: "أَيُّهَا النَّاسُ، لا تَتَمَنَّوا لِقَاءَ العَدُوِّ، وَاسْأَلُوا اللهَ العَافِيَةَ، فَإذَا لَقِيتُموهُمْ فَاصْبِروا؛ وَاعْلَمُوا أنَّ
ــ
1321-
(وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما يجد الشهيد من مس) بفتح الميم وتشديد السين المهملة أي: نصب (القتل) وألمه (إلا كما يجد أحدكم من مس القرصة) أي: قرصة نحو النملة من كل مؤلم ألماً خفيفاً، سريع الانقضاء لا يعقب علة، ولا سقماً (رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح) قال العاقولي: القرص الأخذ بأطراف الأصابع، وأدخل عليها أداة الحصر؛ دفعاً لما يتوهم أن ألمه أعظم من ألمها.
1322-
(وعن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أيامه التي لقي فيها العدو) أي: الكفار المقاتلين (انتظر حتى مالت الشمس) تفاؤلاً بانتقال الحال من الكرب إلى الفرج (ثم قام في الناس) خطيباً (فقال: أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدو)(2) نهى عنه؛ لما فيه من الاعتماد على قوة النفس والركون، إليها وذلك سبب الفشل والكسر قال تعالى:(ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئاً)(3) الآية (واسألوا الله العافية) أي: السلامة من جميع المؤلمات والمخالفات دنيا وأخرى، وذلك لأن في حصونها الراحة والسلامة من المحن والنجاة من الإِحن (فإذا لقيتموهم) أي: وقع لقاؤهم لكم من غير طلب منكم (فاصبروا) على قتالهم ولا تفروا منهم، وعلل الأمر بالصبر بقوله عطفاً عليه (واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف) بكسر الظاء المعجمة، جمع ظل وتقدم معناه عند شرح الحديث في باب الصبر مبسوطاً واضحاً في هذا الباب ملخصاً، ثم زاد في تشجيعهم بدعائه (وقال: اللهم منزل) اسم فاعل من الإِنزال (الكتاب)(أل) فيه للجنس فيعم الكتب
(1) أخرجه الترمذي في كتاب: فضائل الجهاد، باب: ما جاء في فضل المرابط، (الحديث: 1668) .
(2)
لا تتمنوا الخ إنما نهى عن تمني لقاء العدو لما فيه عن صورة الإعجاب أو الاتكال على النفس والوثوق بالقوة وهو نوع بغي وقد ضمن الله لمن بغي عليه لينصرنّه الله ولأنه يتضمن قلة الاهتمام بالعدو واحتقاره وهذا مخالف للاحتياط والحزم.
(3)
سورة التوبة، الآية:25.
الجَنَّةَ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ" ثُمَّ قَالَ: "اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الكِتَابِ، وَمُجْرِيَ السَّحَابِ، وَهَازِمَ الأحْزَابِ، أهْزِمْهُمْ وَانْصُرْنَا عَلَيْهِمْ" متفقٌ عَلَيْهِ (1) .
1323-
وعن سهل بن سعد رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثِنْتَانِ لَا تُرَدَّانِ، أَوْ قَلَّمَا تُرَدَّانِ: الدُّعَاءُ عِنْدَ النِّدَاءِ وَعِنْدَ البَأسِ حِيْنَ يُلْحِمُ بَعْضُهُم بَعضَاً"
ــ
المنزلة كلها وقد سبق بيانها في باب الصبر، أو للعهد أي القرآن (ومجري السحاب) من مكان من السماء إلى آخر، وهو بمعنى قوله تعالى:(والسحاب المسخر بين السماء والأرض)(2)(وهازم الأحزاب)(أل) فيه للعهد إن أريد منهم الذين هزموا في غزوة الخندق، وكانت سنة خمس، وكانوا نحو عشرة آلاف نسمة، أو للجنس إن أريد بهم ما هو أعم من جيوش الكفر فإنهم مهزومون مخذولون، وجند الله المؤمنون هم المنصورون، والأول أظهر؛ لأنها كانت منّة إلهية امتن بها الله تعالى على نبيه في كتابه في سورة الأحزاب، وكان صلى الله عليه وسلم يقول في تهليله "وهزم الأحزاب وحده" (اهزمهم) أي: العدو الملاقين لنا حالاً (وانصرنا عليهم متفق عليه) وسبق في باب الصبر.
1323-
(وعن سهل بن سعد الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعوتان (3) بفتح الدال المهملة تثنية دعوة المرة من الدعاء (لا تردان أو) شك من الراوي (قلما) ما كافة للفعل فتكتب موصولة به (تردان) ثم يحتمل أنه كنى بالقلة عن العدم فتتفق الروايتان (4) ، ويحتمل أن تكون باقية على موضوعها، فيكون فيه أن الدعوة فيهما قد ترد، لكن نادراً (الدعاء عند النداء) أي: الأذان والإِقامة (وعند البأس) بالموحدة وبعدها همزة فسين أي: الحرب (حين يلحم بعضهم بعضاً) قال المصنف في الأذكار: في بعض النسخ المعتمدة يلحم بالحاء وفي بعضها بالجيم وكلاهما ظاهر. اهـ فمعناه على الحاء يتقاربون فيصيرون كالذين يلتصق لحم بعضهم ببعض، وعلى الجيم كان كلاً يلجم صاحبه بالسلاح (رواه أبو
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الجهاد، باب: لا تمنوا لقاء العدو (6/85) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الجهاد والسير، باب: كراهة تمني لقاء العدو، والأمر بالصبر عند اللقاء، (الحديث: 20) .
(2)
سورة البقرة، الآية:164.
(3)
قوله: دعوتان، هكذا في نسخ الشرح وفي كثير من نسخ المتن: ثنتان، والمراد دعوتان. ع.
(4)
قوله: فتتفق الروايتان هذا مشكل فإن الرواية واحدة والراوي شك هل المقول الأول أو الثاني. ع.
رواه أَبُو داود بإسناد صحيح (1) .
1324-
وعن أنس رضي الله عنه، قَالَ: كَانَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا غَزَا، قَالَ:"اللَّهُمَّ أنْتَ عَضْديِ وَنَصِيرِي، بِكَ أَحُولُ، وَبِكَ أَصُولُ، وَبِكَ أُقَاتِلُ" رواه أَبُو داود والترمذي، وقال:"حديث حسن"(2) .
1325-
وعن أَبي موسى رضي الله عنه: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا خَافَ قَوماً، قَالَ:
"اللَّهُمَّ إنَّا نَجْعَلُكَ في نُحُورِهِمْ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ شُرُورِهمْ" رواه أَبُو داود بإسناد
ــ
داود في الجهاد من سننه. (بإسناد صحيح) وأخرجه الدارقطني في غرائب مالك من حديث سهل مرفوعاً بلفظ "ساعتان تفتح فيهما أبواب السماء وقلما ترد على داع دعوته: عند النداء وعند الصف في سبيل الله" ذكره الحافظ في تخريج أحاديث الأذكار.
1324-
(وعن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غزا) أي: أراده أو شرع فيه (قال:) خروجاً من الحول ولرد الأمر لصاحبه (اللهم أنت عضدي) بفتح المهملة وضم الضاد أي: ناصري أتم نصر وأبلغه، كما يدل له عطف (ونصيري) عليه عطف تفسير (بك) أي: وحدك (أحول) أي: أنتقل من مكان أو شأن إلى غيره (وبك أصول) على أعداء الدين، يقال: صال القرن على قرنه يصول بلا همز إذا وثب عليه (وبك أقاتل) ففيه تعريض بطريق حصول النصر، وأنه الخروج عن النفس والاعتماد على الله سبحانه وتعالى (رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن) قال في الجامع الصغير: ورواه أحمد وابن ماجه وابن حبان صحيحه والضياء المقدسي.
1325-
(وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا خاف قوماً قال: اللهم إنا نجعلك) أي: نجعل أمرك أو حكمك (في نحورهم) فيدفعهم ذلك عما يريدون (ونعوذ) أي: نعتصم (بك من شرورهم) فيه التحصن بأسماء الله تعالى واللوذ به واللجأ إليه تعالى فيما ينزل بالإِنسان مما يشفق منه، وأنه لا ينافي التوكل (رواه أبو داود
(1) أخرجه أبو داود في كتاب: الجهاد، باب: الدعاء عند اللقاء، (الحديث: 2540) .
(2)
أخرجه أبو داود في كتاب: الجهاد، باب: ما يُدعى عند اللقاء، (الحديث: 2632) .
وأخرجه الترمذي في كتاب: الدعوات، باب: في الدعاء إذا غزا، (الحديث: 3584) .
صحيح (1) .
1326-
وعن ابن عمر رضي الله عنهما: أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الخَيْلُ مَعقُودٌ في نَوَاصِيهَا الخَيْرُ إِلَى يَومِ القِيَامَةِ" متفقٌ عَلَيْهِ (2) .
1327-
وعن عروة البارِقِيِّ رضي الله عنه
ــ
بإسناد صحيح) ورواه أحمد والحاكم في المستدرك والبيهقي في السنن كما في الجامع الصغير.
1326-
(وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الخيل) قال في المصباح: معروفة وهي مؤنثة لا واحد لها من لفظها، والجمع خيول وسميت خيلاً لاختيالها، وهو إعجابها بنفسها مرحاً ومنه يقال: اختال الرجل وبه خيلاء، والخيل عام مخصوص بالغازية في سبيل الله والمرتبطة له بدليل الحديث السابق في الزكاة الخيل ثلاثة، وليس المراد هي على كل وجه ذكره ابن المنذر، وقال الحافظ: ويجوز أن يراد جنس الخيل أي: أنها بصدد أن يكون فيها الخير، فأما من ارتبطها لعمل غير صالح، فحصول الوزر لطريان ذلك الأمر العارض. اهـ (معقود في نواصيها) النواصي جمع ناصية وهي قصاص الشعر، وهو الشعر المسترسل على الجبهة، وخمست بالذكر لأن العرب تقول: فلان مبارك الناصية فتكنى بها عن الإِنسان قاله العيني، وفيه إيماء إلى أنه كني بها عن جميع ذات الفرس، واستبعده الحافظ ورأي بقاءها على ظاهرها قال: ويحتمل أنها خصّت بذلك لكونها المقدم منها، فيكون إشارة إلى أن الفضل في الإِقدام بها على العدو دون المؤخر لما فيه من الإِشارة إلى الإِدبار (الخير) العاجل والآجل (إلى يوم القيامة) أي إلى انقضاء بقاء الدين الحنيفي، وذلك إلى قبيل أواخر الدنيا وعند عموم الكفر جميع الأرض، ففي الحديث تجوز (متفق عليه) ورواه مالك وأحمد والنسائي وابن ماجه، ورواه البخاري عن أنس، ورواه مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة، ورواه أحمد عن أبي ذر وعن أبي سعيد، ورواه الطبراني عن سواد بن الربيع وعن النعمان بن بشير وعن أبي كبشة.
1327-
(وعن عروة البارقي رضي الله عنه هو الجعد، ويقال ابن أبي الجعد، وقيل:
(1) أخرجه أبو داود في كتاب: الصلاة، باب: ما يقول الرجل إذا خاف قوماً، (الحديث: 1537) .
(2)
أخرجه البخاري في كتاب: الجهاد، باب: الخيل معقود.. الخ (6/40) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الإِمارة، باب: الخيل في نواصيها الخير إلى يوم القيامة، (الحديث: 96) .
أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الخَيْلُ مَعقُودٌ في نَوَاصِيهَا الخَيْرُ إِلَى يَومِ القِيَامَةِ: الأجْرُ، وَالمَغْنَمُ" متفقٌ عَلَيْهِ (1)
ــ
اسم أبيه عياض، والبارقي بالموحدة والواو والقاف، صحابي سكن الكوفة، وهو أول قاض بها خرج حديثه الجميع، كذا في التقريب، وفي التهذيب للمصنف: بارق بطن من الأزد، وهو بارق بن عدي بن حارثة بن امرىء القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأزد بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن برسبان بن يشجب بن يعرب بن قحطان، وإنما قيل له بارق؛ لأنه نزل عند جبل يقال له بارق فنسب إليه، وقيل: غير ذلك. قلت: منه ما ذكره الحافظ في الفتح قال: وقيل: ماء بالمدار (2) نزله بنو عدي بن حارثة بن عمرو قبيلة من الأزد ولقب به منهم سعد بن عدي فكان يقال له بارق، وزعم الدمياطي أنه منسوب إلى ذي بارق، قبيلة من ذي رعين. اهـ ما في الفتح روي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة عشر حديثاً اتفقا منها على حديث، وكان مرابطاً معه عدة أفراس مربوطة للجهاد في سبيل الله تعالى، منها فرس اشتراه بعشرة آلاف درهم، وقال شبيب بن غرقد: قد رأيت في دار عروة سبعين فرساً مربوطة للجهاد في سبيل الله تعالى. اهـ (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة، الأجر) أي: الثواب المرتب على ربطها، وهو خير آجل (والمغنم) الذي يكتسبه من مال الكفرة، وهو خير عاجل، والأجر والمغنم بدل من الخير، أو عطف بيان له قال الطيبي: يحتمل أن يكون الخير المفسر بالأجر والغنيمة استعارة لظهوره وملازمته، وخصّ الناصية لرفعة قدرها، فكأنه شبهه لظهوره بشيء محسوس معقود على مكان مرتفع فنسب الخير إلى لازم المشبه به، وذكر الناصية تجريد للاستعارة نقله الحافظ في الفتح (متفق عليه) ورواه أحمد والترمذي والنسائي، ورواه أحمد ومسلم والنسائي عن جرير، ورواه الطبراني في الأوسط من حديث جابر بلفظ "الخيل معقود في نواصيها الخير واليمن إلى يوم القيامة، وأهلها معانون عليها قلدوها ولا تقلدوها الأوتار" ورواه أحمد أيضاً من حديث جابر "بلفظ الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة، وأهلها معانون عليها، فامسحوا بنواصيها وادعوا لها بالبركة، وقلدوها ولا تقلدوها الأوتار" ورواه الطبراني في الكبير من حديث غريب المكي بلفظ "الخيل معقود بنواصيها الخير والنيل إلى يوم القيامة وأهلها، معانون عليها والمنفق عليها كالباسط يده في الصدقة، وأبوالها وأرواثها لأهلها عند الله يوم القيامة من مسك الجنة"، كذا في الجامع الصغير.
(1) أخرجه البخاري في الجهاد، باب: الجهاد ماض مع البر والفاجر (6/40) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الإِمارة، باب: الخيل في نواصيها الخير إلى يوم القيامة، (الحديث: 98) .
(2)
المدار قرية باليمن.
كُلُّهَا مَخْطُومَةٌ" رواه مسلم (1) .
1330-
وعن أَبي حمادٍ - ويقال: أَبُو سعاد، ويقال: أَبُو أسدٍ، ويقال: أَبُو عامِر، ويقال: أَبُو عمرو، ويقال: أَبُو الأسود، ويقال: أَبُو عبسٍ - عُقبة بن عامِر الجُهَنيِّ رضي الله عنه، قَالَ: سَمِعْتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ عَلَى المِنْبَرِ، يقول:" (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ) ، أَلَا إنَّ القُوَّةَ الرَّميُ، ألَا إنَّ القُوَّةَ الرَّمْيُ، ألَا إنَّ القُوَّةَ الرَّمْيُ" رواه مسلم (2) .
1331-
وعنه، قَالَ: سَمِعْتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، يقول: "سَتُفْتَحُ
ــ
(كلها مخطومة) وذلك لأن خطامها يمكن صاحبها من أن يعمل بها ما أراد (رواه مسلم) .
1330-
(وعن أبي حماد) بفتح المهملة وتشديد الميم (ويقال: أبو سعاد، ويقال: أبو أسيد) قال في التهذيب: ويقال: أبو أسد أي: بلا يا (ويقال: أبو عامر، ويقال: أبو عمرو، ويقال: أبو الأسود، ويقال: أبو عبس) وفي التهذيب ويقال: أبو لبيد، وفي التقريب للحافظ: اختلف في كنيته على أقوال، أشهرها أنه أبو حماد (عقبة بن عامر الجهني) تقدمت ترجمته رضي الله عنه في أوائل كتاب الفضائل (قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر يقول: واعدوا لهم) أي: الكفار (ما استطعتم) أي: الذي استطعتموه (من قوة) بيان لما والمحكي بالقول قوله (إلا) بتخفيف اللام (أن القوة الرمي ألا أن القوة الرمي ألا أن القوة الرمي) أي: أعظم أنواعها نكاية في العدو وأنفعها في الحرب، فالحصر كما في قوله صلى الله عليه وسلم:"الحج عرفة والبر حسن الخلق" قال ابن رسلان: ولما علم عقبة راوي الحديث فضل الرمي بالقوس وأنه أنفع آلات الجهاد، أعد للجهاد سبعين قوساً في سبيل الله. اهـ (رواه مسلم) ورواه أبو داود والترمذي والنسائي.
1331-
(وعنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ستفتح عليكم أرضون) بفتح الراء جمع تكسير لأرض، أعرب إعراب جمع المذكر السالم حملا عليه (ويكفيكم الله) أي: الحرب
(1) أخرجه مسلم في كتاب: الإِمارة، باب: فضل الصدقة في سبيل الله وتضعيفها، (الحديث: 132) .
(2)
أخرجه مسلم في كتاب: الإِمارة، باب: فضل الرمي والحث عليه، وذم من علمه ثم نسيه، (الحديث: 167) .
عَلَيْكُمْ أَرْضُونَ، وَيَكْفِيكُمُ اللهُ، فَلَا يَعْجِز أَحَدُكُمْ أنْ يَلْهُوَ بِأَسْهُمِهِ" رواه مسلم (1) .
1332-
وعنه: أنَّه قَالَ: قَالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ عُلِّمَ الرَّمْيَ، ثُمَّ تَرَكَهُ، فَلَيْسَ مِنَّا، أَوْ فَقَدْ عَصَى" رواه مسلم (2) .
1333-
وعنه رضي الله عنه، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، يقول: "إنَّ اللهَ يُدْخِلُ بِالسَّهْمِ الوَاحِدِ ثَلَاثَةَ نَفَرٍ الجَنَّةَ: صَانِعَهُ يَحْتَسِبُ في صَنْعَتِهِ الخَيْرَ، وَالرَّامِي بِهِ، ومُنْبِلَهُ،
ــ
والقتال (فلا يعجز) بكسر الجيم على الأفصح (أحدكم أن يلهو بأسهمه) جمع قلة لسهم، ويجمع على سهام في الكثرة. قال المصنف: معنى الحديث الندب إلى الرمي والتمرن عليه (رواه مسلم) .
1332-
(وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من علم الرمي ثم تركه فليس منا) أي: من أهل هدينا (أو) شك من الراوي (فقد عصي) قال المصنف: هذا تشديد عظيم في نسيان الرمي بعد علمه، وهو مكروه كراهة شديدة لمن تركه بلا عذر (رواه مسلم) ذكره والذين قبله في الجهاد، ورواه الخطيب من حديث أبي هريرة مرفوعاً بلفظ "من علم الرمي ونسيه فهي نعمة جحدها".
1333-
(وعنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله يدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر الجنة) الباء فيه للسببية، أي: جعل الله ذلك سبباً لدخولهم إياها (صانعه) بالنصب على الاتباع وبالرفع بالابتداء، أو النصب بتقدير أعني على القطع (يحتسب في صنعه الخير) أي: يقصد بعمله التقرب إلى الله به وإثابته (والرامي به ومنبله) بصيغة اسم الفاعل من التنبيل، قال في النهاية: يجوز أن يراد به الذي يرد النبل على الرامي من الهدف. اهـ، وقال ابن رسلان: فالضمير عائد إلى الرامي، يقال: نبلته إذا ناولته السهم ليرمي به العدو، وقال البغوي: هو الذي يناول الرامي النبل، وهو يكون على وجهين:
أحدهما: أن يقوم بجنب الرامي أو خلفه، فيناوله النبل واحداً بعد واحد.
(1) أخرجه مسلم في كتاب: الإِمارة، باب: فضل الرمي والحث عليه
…
(الحديث: 168) .
(2)
أخرجه مسلم في كتاب: الإِمارة، باب: فضل الرمي والحث عليه
…
(الحديث: 169) .
1336-
وعن أَبي يحيى خُرَيْم بن فاتِكٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"مَنْ أنْفَقَ نَفَقَةً في سَبيلِ اللهِ كُتِبَ لَهُ سَبْعُمِئَةِ ضِعْفٍ" رواه الترمذي، وقال:"حديث حسن"(1) .
ــ
عمرو الأنصاري عن النبي صلى الله عليه وسلم "من رمى بسهم في سبيل الله فقصر أو بلغ كان ذلك له نوراً يوم القيامة" وأخرج الحاكم في المستدرك من حديث أبي نجيح السلمي عن النبي صلى الله عليه وسلم "من رمى بسهم في سبيل الله فله عدل محرر ومن بلغ بسهم في سبيل الله فله درجة في الجنة" وأخرج ابن حبان من حديث كعب بن مرة عن النبي صلى الله عليه وسلم "من رمى بسهم في سبيل الله كان كمن أعتق رقبة" أورد ذلك كله في الجامع الكبير.
1336-
(وعن أبي يحيى خريم) قال في التقريب: بالتصغير (ابن فاتك) بالفاء وبعد الألف تاء مثناة من فوق، ثم كاف الأسدي رضي الله عنه وهو خريم بن الأخرم بن شداد بن عمرو بن فاتك فهو نسبة لجد جده صحابي شهد الحديبية، ولم يصح أنه شهد بدراً، مات بالرقة في خلافة معاوية، خرّج حديثه أصحاب السنن الأربع. اهـ، وخالفه المصنف في التهذيب، وحكى الخلاف في شهوده بدراً وصحّح شهوده إياها قال: وبه قال البخاري والأكثرون وهو معدود في الشاميين، وقيل: في الكوفيين. اهـ روي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة أحاديث كما في مختصر التلقيح وغيره (قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أنفق نفقة في سبيل الله كتب) أي: أثبت المنفق (له) في صحف الأعمال أو في عالم الملكوت في علم الله (سبعمائة ضعف) وتقدم أن الآية تشهد لتضعيف كل ما أنفق في سبيل الله، إلى هذا العهد (رواه الترمذي وقال: حديث حسن) قال في الجامع الكبير: وروى أحمد والنسائي وابن حبان في صحيحه والبغوي والماوردي، والحاكم في المستدرك عن خريم بن فاتكة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من أنفق نفقة فاضلة في سبيل الله فبسبعمائة ضعف، ومن أنفق على نفسه أو على أهله، أو عاد مريضاً، أو أماط أذى عن الطريق، فهي حسنة بعشر أمثالها والصوم جنة ما لم يخرقها، ومن ابتلاه الله في جسده فهو له حطة"(2) رواه الطبراني وأحمد
= أخرجه الترمذي في كتاب: فضائل الجهاد، باب: ما جاء في فضل الرمي في سبيل الله، (الحديث: 1638) .
(1)
أخرجه الترمذي في كتاب: فضائل الجهاد، باب: ما جاء في فضل النفقة في سبيل الله، (الحديث: 1625) .
(2)
أي يحط به منه ذنوبه.
1337-
وعن أَبي سعيد رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ عَبْدٍ يَصُومُ يَوْماً فِي سَبيلِ اللهِ إِلَاّ بَاعَدَ اللهُ بِذلِكَ اليَوْمِ وَجهَهُ عَنِ النَّارِ سَبْعِينَ خَرْيفاً" متفقٌ عَلَيْهِ (1) .
1338-
وعن أَبي أُمَامَة رضي الله عنه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"مَنْ صَامَ يَوْماً في سَبيلِ اللهِ جَعَلَ اللهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّارِ خَنْدَقاً كما بَيْنَ السَّمَاءِ والأَرْضِ"
ــ
وابن منيع والدارمي وأبو يعلى والشاشي وابن خزيمة، والحاكم في المستدرك، والبيهقي في الشعب والدارقطني وأبو يعلى الموصلي عن أبي عبيدة بن الجراح، كذا في الجامع الكبير.
1337-
(وعن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من عبد) أي: مكلف فيشمل الذكر والأنثى، أو يراد به الذكر، وخص بالذكر جرياً على الغالب من مثابرته على الطاعة دونها، فلا مفهوم له (يصوم يوماً في سبيل الله إلا باعد الله بذلك اليوم) أي: بسبب صومه (وجهه) أي: ذاته كما في قوله تعالى: (كل شيء هالك إلا وجهه)(2) وهو في الحديث مجاز مرسل، ويحتمل إجراء الحديث على ظاهره، ويلزم من صرف الوجه عنها قدر ما يأتي صرف جميع البدن (عن النار سبعين خريفاً متفق عليه) ورواه الطبراني وأحمد والترمذي والنسائي، وجاء من حديث أبي هريرة بنحوه، إلا أنه قال: بدل باعد زحزح. رواه أحمد والترمذي وقال: غريب، ورواه النسائي من حديث أبي سعيد، لكن أبدل لفظ "خريفاً" بقوله "عاماً" كذا في الجامع الكبير، وتقدم مشروحاً في باب فضل الصوم.
1338-
(وعن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من صام يوماً في سبيل الله جعل الله بينه وبين النار خندقاً) بفتح الخاء المعجمة والمهملة وسكون النون بينهما، وآخره قاف بوزن جعفر، حفير حول أسوار المدينة معرب كندة، كذا في القاموس، وهو هنا كناية أو مجاز مرسل عن البعد (كما بين السماء والأرض) قال السيوطي في كتابة للهيئة السنية: أخرج ابن راهويه في مسنده، والبزار بسند صحيح وأبو الشيخ عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة عام" وأخرج أحمد في مسنده وأبو داود والترمذي، وحسنه وابن ماجه وابن أبي عاصم في الستة وأبو يعلى وابن خزيمة
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الجهاد والسير، باب: فضل الصوم في سبيل الله (6/35) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الصيام، باب: فضل الصيام في سبيل الله لمن يطيقه
…
(الحديث: 167) .
(2)
سورة القصص، الآية:88.
يَا رسولَ اللهِ، الرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلْمَغْنَمِ، وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِيُذْكَرَ، وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ ليُرَى مَكَانُهُ؟
وفي رواية: يُقَاتِلُ شَجَاعَةً، وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً. وفي رواية: يُقَاتِلُ غَضَباً، فَمَنْ في
سبيل الله؟ فقالَ رسولُ اللهِ: "مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ العُلْيَا، فَهُوَ في سَبيلِ اللهِ" متفقٌ عَلَيْهِ. (1) .
1342-
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، قَالَ: قَالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ غَازِيَةٍ، أَوْ سَرِيّةٍ تَغْزُو، فَتَغْنَمُ وَتَسْلَمُ، إِلَاّ كَانُوا قَدْ تَعَجَّلُوا ثُلُثَيْ
ــ
(أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله الرجل)(ال) فيه للعهد الذهني نحوها في داخل السوق (يقاتل للمغنم) أي: لأجل الغنيمة (والرجل يقاتل ليذكر) أي: بين الناس ويشتهر (والرجل يقاتل ليرى) بصيغة المجهول (مكانه) نائب الفاعل، أي: مرتبته في الشجاعة (وفي رواية) أي: لهما وهي التي أوردها المصنف في باب الإِخلاص، وقال: متفق عليه (الرجل يقاتل شجاعة) أي: تحمله شجاعته على لقاء الأقران كما في رواية (ويقاتل حمية) بفتح المهملة وكسر الميم وتشديد التحتية، أي: أنفة وغيرة ومحاماة عن نحو العشيرة (ويقاتل غضباً) أي: للعقب القائم به (فمن) من هؤلاء الأنواع معدود (في سبيل الله) موعود بالثواب المرتب على المقاتلة فيه (فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قاتل لتكون كلمة الله) أي: كلمة التوحيد، أي: لتكون الملة الحنيفية (هي) ضمير فصل أتى به؛ لإفادة الحصر (العليا فهو في سبيل الله) دون من قاتل لغرض دنيوي من طلب مغنم، أو حمية أو قاتل للرياء والسمعة (متفق عليه) والحاصل أن المثاب من قاتل الكفار إيماناً واحتساباً، لا المقاتل لغرض دنيوي أو عرض دني.
1342-
(وعن عبد الله بن عمرو بن العاصي رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من غازية) أي: طائفة غازية (أو) يحتمل أن تكون للتنويع، وأن تكون للشك من الراوي (سرية) قطعة من الجيش، فعلية بمعنى فاعله؛ لأنها تسري ليلا في خفية، والجمع سرايا وسريات، مثل عطية وعطايا وعطيات، وتقدم فيها بسط وهي محتملة؛ لأن تكون من مصدر
(1) أخرجه البخاري في كتاب: الجهاد، باب: من قاتل لتكون كلمة الله
…
(6/21، 22) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الإِمارة، باب: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله، (الحديث: 149) .
أُجُورِهْم، ومَا مِنْ غَازِيَةٍ أوْ سَرِيةٍ تُخْفِقُ وتُصابُ إِلّا تَمَّ لَهُمْ أُجُورُهُمْ " رَوَاهُ مُسلمٌ (1) .
1343-
وعَنْ أَبي أُمَامَةَ رضي الله عنه أَنَ رجُلًا قَالَ: يَا رسُولَ اللهِ ائْذَنْ لي في
ــ
سرى، أي: سار ليلا كما ذكر، ومن السري وهو الجبار (2) (تغزو فتغنم) بالنصب في جواب النفي (وتسلم) أي: من الموت، ويحتمل أن يراد وتسلم حتى من نحو الجرح (إلا كانوا قد تعجلوا ثلثي أجورهم) جاء في رواية زيادة: من الآخرة، ويبقى لهم الثلث كما في الجامع الكبير والصغير، وذكر مخرجيه الآتيين. قال المصنف: معناه يكون أجرهم أقل من أجر من لم يسلم أو سلم ولم يغنم، وإن الغنيمة في مقابلة جزء من أجر غزوهم، فإذا حصلت لهم فقد تعجلوا ثلثي أجرهم المرتب على الغزو وتكون هذه الغنيمة من جملة الأجر، ولا ينافي هذا الحديث السابق أن المجاهد رجع بما نال من أجر وغنيمة، أنه لا يتعرض في ذلك لنقص الأجر، ولا قال أجره كأجر من لم يغنم فهو مطلق وهذا مقيد فوجب حمل المطلق على المقيد. اهـ ملخصاً كا (وما من غازية أو سرية تخفق) بضم الفوقية وسكون المعجمة وكسر الفاء، قال أهل اللغة: الإخفاق أن يغزوا فلا يغنموا شيئاً وكذا كل طالب حاجة إذا لم تحصل فقد أخفق، ومنه أخفق الصائد إذا لم يقع له صيد (وتصاب) أي: بالموت أو بنحو الجرح (إلا تمّ لهم أجورهم) قال المصنف: وحاصل معنى الحديث وهو الصواب الذي لا يجوز غيره، أن الغزاة إذا سلموا وغنموا يكون أجرهم أقل من أجر من لم يسلم أو سلم ولم يغنم، وهذا موافق للأحاديث الصحيحة المشهورة عن الصحابة، كقولهم: فمنا من مضى ولم يأكل من أجره شيئاً ومنا من أينعت له ثمرته فهو يهديها، أي: يجتنيها. قال القرطبي بعد أن نقل ترجيح ذلك عن القاضي عياض: ويدل لصحة هذا التأويل قوله إلا تعجلوا ثلثي أجرهم. قال القرطبي: ويحتمل أن هذه التي أخفقت إنما يزاد في أجرها لشدة ابتلائها وأسفها على ما فاتها من الظفر والغنيمة، قلت فيه بعد: لأن الكامل من قاتل لإِعلاء كلمة الله فهو باذل نفسه لله غير ناظر لعرض ولا غرض (رواه مسلم) وأحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه كذا في الجامعين.
1343-
(وعن أبي أمامة رضي الله عنه أن رجلاً) لم يسمه ابن رسلان في شرحه (قال: يا رسول الله ائذن لي في السياحة) بكسر المهملة وبالتحتية، أراد مفارقة الوطن، والذهاب في
(1) أخرجه مسلم في كتاب: الإِمارة، باب: بيان قدر ثواب من غزا فغنم، ومن لم يغنم، (الحديث: 154) .
(2)
كذا بالنسخ ولعله وهو الجدول كما في المصباح.
الغَزْوِ بَعدَ فَرَاغِهِ؛ ومعناه: أنه يُثَابُ في رُجُوعِهِ بعد فَرَاغِهِ مِنَ الغَزْوِ (1) .
1345-
وعن السائب بن يزيد رضي الله عنه، قَالَ: لَمَّا قَدِمَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ غَزْوَةِ تَبُوك تَلَقَّاهُ النَّاسُ، فَتَلَقّيتُهُ مَعَ الصِّبْيَانِ عَلَى ثَنيَّةِ الوَدَاعِ. رواه أَبُو داود بإسنادٍ
ــ
ثانيهما: أنهم إذا انصرفوا ظاهرين لم يأمنوا أن يقفو العدو أثرهم فيوقعوا بهم وهم غارون، فربما استظهر الجيش أو بعضهم بالرجوع على أدراجهم، فإن كان من العدو طلب كانوا مستعدين للقائهم، وإلا فقد سلموا وأحرزوا ما معهم من الغنيمة، وقيل: يحتمل أن يكون عن قوم قفلوا لخوفهم أن يدهمهم من عدوهم من هو أكبر منهم عدداً، وقفلوا يستضيفوا إليهم عددا آخر من أصحابهم، ثم يكروا على عدوهم. اهـ والمعنى الأول مذكور في الأصل (رواه أبو داود بإسناد جيد) ورواه أحمد والحاكم في المسند، كما في الجامع الصغير (القفلة: الرجوع) فيه تجوز والمراد أنها المرة منه وإلا فالرجوع هو المقفول. في المصباح: قفل من سفره قفولاً من باب رجع، والاسم القفل بفتحتين (والمراد الرجوع من الغزو بعد فراغه ومعناه) أي: ومعنى الحديث بجملته (أنه يثاب في رجوعه بعد فراغه من الغزو) كما يثاب في ذهابه إليه لما في القفول من المعاني السابقة الداعية للإِثابة.
1345-
(وعن السائب بن يزيد) بفتح التحتية الأولى وسكون الثانية وكسر الزاي بينهما تقدمت ترجمته رضي الله عنه في كتاب الحج (قال: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك) بمنع الصرف على الأرجح للعلمية والتأنيث المعنوي (تلقاه الناس) أي: المتخلفون بالمدينة من المنذرين والمنافقين (فلقيته مع الصبيان) بكسر الصاد المهملة وضمها جمع صبي أي الغلمان قبل البلوغ (على ثنية الوداع) محل بقرب المدينة وهو بفتح الواو، وسميت بذلك لأن المسافر كان يودع عندها ويشيع إليها قاله في القاموس، والوداع بفتح الواو، اسم مصدر ودع، والظرف تنازعه كل من الفعلين قبله والأولى إعمال الثاني وإلا لأعيد الظرف، وقيل: عليها (رواه أبو داود) أواخر كتاب الجهاد من سننه (بهذا اللفظ ورواه البخاري) من حديث السائب (قال: ذهبنا نتلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الصبيان إلى ثنية الوداع) قال العيني: هي هنا من جهة تبوك، وفي غيره يحتمل أن تكون الثنية التي من كل جهة يصل إليها المشيعون تسمى ثنية الوداع، والثنية طريق العقبة. وحكى صاحب المحكم في الثنية أقوالاً فقال: والثنية الطريق في الجبل كالنقب، وقيل: الطريق إلى الجبل، وقيل: هي العقبة، وقيل:
(1) أخرجه أبو داود في كتاب: الجِهِاد، بابِ: في فِضل اِلقَفْل سبيل الله تعالى، (الحديِث: 2487) .
صحيح بهذا اللفظ ورواه البخاري قَالَ: ذَهَبنا نَتَلَقَّى رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، مَعَ الصِّبْيَانِ إِلَى ثَنِيَّةِ الوَدَاعِ (1) .
1346-
وعن أَبي أُمَامَة رضي الله عنه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"مَنْ لَمْ يَغْزُ، أَوْ يُجَهِّزْ غَازِياً، أَوْ يَخْلُفْ غَازياً في أهْلِهِ بِخَيرٍ، أصَابَهُ اللهُ بِقَارعَةٍ قَبْلَ يَوْمِ القِيَامَةِ" رواه أَبُو داود بإسنادٍ صحيحٍ (2) .
1347-
وعن أنس رضي الله عنه: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"جَاهِدُوا المُشْرِكِينَ بِأَمْوَالِكُمْ وَأنْفُسِكُمْ وَألْسِنَتِكُمْ" رواه أَبُو داود بإسنادٍ صحيح (3) .
ــ
الجبل نفسه، وقال الداودي: ثنية الوداع من جهة مكة وتبوك من الشام مقابلتها كالمشرق من المغرب، إلا أن تكون ثنية أخرى في تلك الجهة. قال: والثنية الطريق في الجبل، ورد عليه صاحب التوضيح بقوله وليس كذلك إنما الثنية. ما ارتفع من الأرض. قلت كأن هذا ما اطلع على ما قاله صاحب المحكم فلذا أسرع بالرد. اهـ.
1346-
(وعن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من لم يغز) أي: بالخروج له (أو يجهز غازياً) أي: يهيء له أسباب سفره (أو يخلف) بفتح التحتية وضم اللام (غازياً في أهله بخير) أي: يكون قائماً عنه بمصالحهم (أصابه الله بقارعة) أي: داهية تقرعه وتقلقه (قبل يوم القيامة) أشار إلى تعجيلها (رواه أبو داود) في الجهاد (بإسناد صحيح) ورواه الدارمي وابن ماجه والطبراني والدارقطني والموصلي، كذا في الجامع الكبير.
1347-
(وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: جاهدوا المشركين بأموالكم) بأن تنفقوها في عدد الحرب وآلاته من خيل وكراع وسلاح (وأنفسكم) بأن تقاتلوهم (وألسنتكم) بأن تقرعوهم بكفرهم وتوبخوهم بشركهم، أو بإقامة الحجة على ضلالهم وبطلان أعمالهم (رواه أبو داود بإسناد صحيح) ورواه أحمد والنسائي وابن حبان والحاكم في المستدرك، كذا في الجامع الصغير.
(1) أخرجه أبو داود في كتاب: الجهاد، باب: في التلقي، (الحديث: 2779) .
وأخرجه البخاري في أول باب من كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى كسرى وقيصر (6/133) .
(2)
أخرجه أبو داود في كتاب: الجهاد، باب: كراهية ترك الغزو، (الحديث: 2503) .
(3)
أخرجه أبو داود في كتاب: الجهاد، باب: كراهية ترك الغزو، (الحديث: 2504) .
1348-
وعن أَبي عمرو - ويقالُ: أَبُو حكيمٍ - النُّعْمَانِ بن مُقَرِّن رضي الله عنه قَالَ: شَهِدْتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، إِذَا لَمْ يُقَاتِلْ من أوَّلِ النَّهَارِ أخَّرَ القِتَالَ حَتَّى تَزُولَ الشَّمْسُ، وَتَهُبَّ الرِّيَاحُ، وَيَنْزِلَ النَّصْرُ. رواه أَبُو داود والترمذي، وقال:"حديث حسن صحيح"(1) .
1349-
وعن أَبي هريرة رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ العَدُوِّ، وَاسْأَلُوا اللهَ العَافِيَةَ، فَإذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا"
ــ
1348-
(وعن أبي عمرو) بفتح العين (ويقال أبو حكيم) بفتح المهملة وكسر الكاف (النعمان بن مقرن) بضم الميم وفتح القاف وتشديد الراء وبالنون، أخره ابن عائد المزني أحد الأخوة السبعة الذين هاجروا معاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم رضي الله عنه صحابي مشهور، استشهد بنهاوند سنة إحدى وعشرين، ووهم من زعم أنه النعمان بن عمرو بن مقرن، فذاك آخر هو ابن أخي هذا، وهو تابعي، وهذا الصحابي أخرج له أصحاب الكتب الستة، كذا في التقريب للحافظ، روي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة أحاديث، انفرد البخاري بحديث منها ومسلم بآخر (قال: شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لم يقاتل من أول النهار) حال برد الصبح، وهبوب نسماته (آخر القتال حتى تزول الشمس) من كبد السماء إلى جرة المغرب (وتهب الرياح وينزل النصر) وذلك ليبرد الوقت، ويسهل لبس السلاح على المقاتلة، وعلى الخيل الكر والفر، ويكون مع ذلك النصر بالتأييد الإِلهي (وراه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح) قال ابن رسلان: وحربه عند هبوب الرياح استبشار بما نصره الله من الرياح، وهذا مفهوم من قوله "نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور" ويرجو أن يهلك الله أعاديه بالدبور، كما أهلك عاداً بها، ونصر بالصبا. وعند البخاري: وتهب رياح النصر، وفي رواية: ويحضر الصلوات أوقاتها، فأوقاتها أفضل الأوقات ويستجاب فيها الدعاء.
1349-
(وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تتمنوا لقاء العدو) لئلا تفتتنوا عند لقائهم (فإذا لقيتموهم) أي: إذا لقوكم لا عن طلب منكم، وتعرض له (فاصبروا) أي: فأنتم حينئذ معانون، لأنكم مبتلون، وقريب منه حديث "لا تطلب الإِمارة
(1) أخرجه أبو داود في كتاب: الجهاد، باب: في أي وقت يستحب اللقاء، (الحديث: 2655) .
وأخرجه الترمذي في كتاب: السير، باب: ما جاء في الساعة التي يستحب فيها القتال، (الحديث: 1613) .
خَمْسَةٌ: المَطْعُونُ (1) ، وَالمَبْطُونُ (2) ، وَالغَرِيقُ، وَصَاحِبُ الهَدْمِ (3) ، وَالشَّهِيدُ في سَبِيلِ اللهِ" متفقٌ عَلَيْهِ (4) .
1352-
وعنه قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَا تَعُدُّونَ الشُّهَدَاءَ
ــ
به ثم زيد في عددهم، فأخبر به ثانياً (المطعون) أي: الذي أصابه الطاعون، وهو وخز الجن ومحله ما لم يسمع به ببلد فيقدم عليه للنهي عن ذلك (والمبطون) من مات بمرض البطن، وقيل: بالإِسهال (والغريق) أي: منِ مات بالغرق (وصاحب الهدم) أي: من مات تحته (والشهيد في سبيل الله) المقاتل إيماناً واحتساباً (متفق عليه) ورواه مالك والترمذي.
1352-
(وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما تعدون الشهداء فيكم؟ قالوا: يا رسول الله من قتل في سبيل الله) أي: في معركة الكفار إيماناً واحتساباً (فهو شهيد. قال: إن شهداء أمتي إذاً لقليل) قال البدر الزركشي الشافعي في كتاب البرهان في علوم القرآن: إذن نوعان:
الأول: أن تكون مؤكدة لجواب ارتبط بمقدم، أو منبهة على مسبب على سبب حصل في الحال وهي في الحال غير عاملة؛ لأن المؤكدات لا يعتمد عليها، والعامل يعتمد عليه، وتدخل هذه الاسمية. ويجوز توِسيطها وتأخيرها ومنه قوله تعالى:(ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذاً لمن الظالمين)(5) فهي مؤكدة للجواب مرتبطة بما تقدم.
وذكر بعض المتأخرين لها معنى ثالثاً هو أن يكون من إذ التي ظرف زمان ماض، ومن جملة بعدها تحقيقاً أو تقديراً، لكن حذفت الجملة تخفيفاً، وأبدل التنوين منها كما في قولهم حينئذ، وليست هذه الناصبة لاختصاص الناصبة بالمضارع، وهذه تدخل على الماضي نحو (إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ) (6) وعلى الاسم نحو إن كنت ظالماً إذا حكمك فيّ تافه. وقوله تعالى:(وإنكم إذاً لمن المقربين)(7) وأعلم أن هذا المعنى لم يذكره النحاة، لكن قياس قولهم: إنه يحذف المضاف إليها، إذ ويعوض عنها التنوين كيومئذ، وإن لم يذكروا حذف
(1) الذي أصابه الطاعون.
(2)
من مات بمرض البطن.
(3)
أي من مات تحته.
(4)
أخرجه البخاري في كتاب: الجهاد، باب: الشهادة سبع سوى القتل (6/32 و33) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الإِمارة، باب: بيان الشهداء، (الحديث: 164) .
(5)
سورة البقرة، الآية:145.
(6)
سورة الإِسراء، الآية:100.
(7)
سورة الشعراء، الآية:42.
فِيكُمْ؟ " قالوا: يَا رسولَ اللهِ، مَنْ قُتِلَ في سَبيلِ اللهِ فَهُوَ شَهِيدٌ. قَالَ: "إنَّ شهَدَاءَ أُمَّتِي إِذَاً لَقَليلٌ"! قالوا: فَمَنْ هُمْ يَا رسول الله؟ قَالَ: "مَنْ قُتِلَ في سَبيلِ الله فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ مَاتَ في سَبيلِ الله فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ مَاتَ في الطَّاعُونِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ مَاتَ في البَطْنِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَالغَرِيقُ شَهِيدٌ" رواه مسلم (1) .
1353-
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ"(2)
ــ
الجملة من إذا وتعويض التنوين عنها. قال أبو حبان: وليس هذا بقول نحوي، ثم نقل الزركشي عن القاضي ابن الجويني نحو ما قاله ذلك البعض، وأنه لا ينافي جعل إذا من نواصب المضارع، لأنه محمول على إذن الأصلية لا على ما كانت إذن وأضيفت لجملة حذفت عوض عنها التنوين، فيرفع المضارع بعد تلك اهـ ملخصاً، وحاصله أنها فيما ذكر، إما للتنبيه على قلة الشهيد الحاصل من قصر الشهادة على ما ذكروه، أو أنها من تنوين إذ المضافة للجملة عوضاً عنها، والأصل إذا كان شهداء أمتي من ذكرتم فقط (قالوا: فمن يا رسول الله؟ قال: من قتل في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في سبيل الله) أي: بسبب غير القتال كأن سقط عن فرسه أو مات حتف أنفه (فهو شهيد، ومن مات في الطاعون) أي: بسببه كما تقدم في الحديث قبله ففي سببية كهي في حديث "دخلت النار امرأة في هرة حبستها" الحديث (فهو شهيد، ومن مات من) وفي نسخة: في، وكلاهما للتعليل (البطن) شامل لسائر أدوائه (فهو شهيد، والغريق شهيد رواه مسلم) .
1353-
(وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قتل دون ماله) قال القرطبي: دون في أصلها ظرف مكان بمعنى تحت، وتستعمل للتنبيه مجازاً، ووجهه أن الذي يقاتل عن ماله غالباً إنما يجعله خلفه، أو تحته ثم يقاتل عليه (فهو شهيد) قال ابن المنذر: الذي عليه أهلم العلم أن للرجل أن يدفع عن من أراد أن يأخذ ماله
(1) أخرجه مسلم في كتاب: الإِمارة، باب: بيان الشهداء، (الحديث: 165) .
(2)
قال ابن المنذر: الذي عليه أهل العلم أن للرجل أن يدفع من أراد أن يأخذ ماله أو شيئاً منه ظلماً من غير تفصيل ألا أن كل من يحفظ عنه من علماء الحديث كالمجمعين على استثناء السلطان للآثار الواردة بالأمر بالصبر على جوره.
فَقَالَ: يَا رسولَ اللهِ، أرَأيتَ إنْ جَاءَ رجلٌ يُرِيدُ أخْذَ مَالِي؟ قَالَ:"فَلَا تُعْطِهِ مَالَكَ" قَالَ: أَرَأَيْتَ إنْ قَاتَلَنِي؟ قَالَ: "قَاتِلْهُ" قَالَ: أرَأَيْتَ إنْ قَتَلَنِي؟ قَالَ: "فَأنْتَ شَهِيدٌ" قَالَ: أَرَأيْتَ إنْ قَتَلْتُهُ؟ قَالَ: "هُوَ فِي النَّارِ" رواه مسلم (1) .
ــ
رسول الله أرأيت) بفتح التاء، أي: أخبرني (إن جاء رجل يريد أخذ مالي) أي: بغير حق حذف جوابه لدلالة المقام عليه، أي: فما أفعل (قال: فلا تعطه مالك) جواب لشرط دل عليه وجوده في السؤال (قال: أرأيت إن قاتلني) أي: لأخذ مالي (قال: قاتله) الأمر للإِباحة (قال: أرأيت إن قتلني) أي: وقد قاتلته لذلك (قال: فأنت شهيد) أي: من شهداء الآخرة، فيغسل ويصلى عليه (قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: فهو في النار) أي: مخلد إن استحل ذلك، أو يدخلها إن أريد تعذيبه، ثم يخرج منها إن كان غير مستحل (رواه مسلم) وقد جمع بعض الأفاضل شهداء الآخرة ونظمهم في أبيات فقال:
من بعد حمد الله والصلاة
…
على النبي وآله الهداة
خذ عدة الشهداء سرداً نظماً
…
وأحفظ هديت للعلوم فهما
محب آل المصطفى ومن نطق
…
عند إمام جائر بعين حق
وذوا اشتغال بالعلوم ثم من
…
على وضوء نومه نال المنن
ومن يمت فجأة حريق
…
ومائت بفتنة غريق
لديغ أو مسحور أو مسموم
…
ذو عطش مجوعة مولوم
أكيل سبع عاشق مجنون
…
والنفساء ذو الهرم والمبطون
ومن بذات الجنب أو ظلماً قتل
…
أو دون مال أو دم أهل نقل
أو دين أو في الحرب أو مات به
…
مؤذن محتسب لربه
وجالب مبيع سعر يومه
…
أو مات في الطاعون بين قومه
كذا الغريب وبعين قد قرا
…
أواخر الحشر بها نال الذرا
ومن يلازم وتره. وورده
…
عند الضحا وصوم حتم سعده
ومن يصل ثالث الأسبوع
…
عند الزوال عاشر الركوع
ويقرأ الكرسي بعد الفاتحة
…
وسورة الإِخلاص حتماً صالحة
ومن يقل في الموت بارك ثم في
…
ما بعده خمساً وعشرين اصطفى
ومن بصدق يسأل الشهادة
…
نال بذاك غاية السعادة
(1) أخرجه مسلم في كتاب: الإِيمان، باب: الدليل على أن من قصد أخذ مال غيره
…
(الحديث: 225) .