الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
236- باب فضل العتق
قَالَ الله تَعَالَى (1) : (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ) الآية.
1356-
وعن أَبي هريرة رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً مُسْلِمَةً أعْتَقَ اللهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ، عُضْواً مِنْهُ في النَّارِ، حَتَّى فَرْجَهُ بِفَرْجِهِ"
ــ
وهو إزالة الرق عن الآدمي من عتق سبق أو استقل تقرباً إلى الله تعالى. فخرج بالآدمي الطير والبهائم، فلا يصح عتقها على الأصح قال ابن الصلاح: الخلاف فيما يملك بالاصطياد. أما البهائم، فإعتاقها من قبيل سوائب الجاهلية، وهو باطل قطعاً. اهـ. ورواية أبي نعيم أن أبا الدرداء رضي الله عنه "كان يشتري العصافير من الصبيان ويرسلها". يحمل إن صحت على أن ذلك رأي له (قال الله تعالى: فلا اقتحم العقبة) اقتحم: دخل وتجاوز بشدة، جعل الأعمال الصالحة عقبة وعملها اقتحاماً لها، فيه من مجاهدة النفس، أي: فلم يشكر ما أنعم الله به عليه من أعمال الحسنات (وما أدراك ما العقبة) أي: لم تدرك صعوبتها وثوابها (فك رقبة) تفسير للعقبة أي: تخليصها من الرق (الآية) بالنصب وبالرفع، كما تقدم توجيهها ومراده (أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ) (2) ، فالعقبة عتق الرقبة، وإطعام من ذكر، والتواصي بالصبر والمرحمة، وقجل: إن المعطوف بثم عليه قوله: (فلا اقتحم العقبة) فالمعنى: لا اقتحم ولا كان من المؤمنين، وثم لتباعد رتبة الإِيمان عن العتق والإِطعام، فالعقبة مفسرة بالعتق والإِطعام، وخصا، لما فيه من النفع المتعدي.
1356-
(وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من) أي: أي مسلم كما قيد به في الخبر الآتي (أعتق رقبة مسلمة) ذكراً كان المعتق أو أنثى نفيساً أو خسيساً، كما يومىء إليه النكرة في سياق الشرط (أعتق الله بكل عضو منه) أي: بدل كل عضو من المعتق، فالتذكير باعتبار ما ذكر (عضواً منه) أي: المعتق (من النار) صلة أعتق (حتى) عاطفة (فرجه) بالنصب عطفاً على المنصوب أي: حتى أعتق فرج المعتق (بفرجه) أي: بدل فرجه، أو
(1) سورة البلد، الآيات: 11، 12، 13.
(2)
سورة البلد، الآيات: 14، 15، 16، 17.
1358-
وعنِ المَعْرُورِ بن سُوَيْدٍ، قَالَ: رَأيْتُ أَبَا ذَرٍ رضي الله عنه، وَعَلَيهِ حُلَّةٌ وَعَلَى غُلَامِهِ مِثْلُهَا، فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَذَكَرَ أنَّهُ قَدْ سَابَّ رَجُلاً عَلَى عَهْدِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَعَيَّرَهُ بِأُمِّهِ، فَقَالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "إنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِليَّةٌ هُمْ إخْوَانُكُمْ وَخَوَلُكُمْ جَعَلَهُمُ الله تَحْتَ أيديكُمْ، فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ، فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأكُلُ، وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا
ــ
1358-
(وعن المعرور) بإهمال العين والراء بصيغة المفعول (بن سويد) بضم المهملة وفتح الواو وسكون التحتية بعدها مهملة الأسدي، أبو أمية الكوفي ثقة من كبار التابعين عاش مائة وعشرين سنة خرج حديثه الستة (قال: رأيت أبا ذر) الغفاري رضي الله عنه وعليه حلة) بضم المهملة وتشديد اللام، ثوب مركب من ظهارة وبطانة من جنس واحد جمعها حلل كغرفة وغرف (وعلى غلامه مثلها) أي: حلة مثل حلتها (فسألته عن ذلك) أي: سبب مساواته ملبوس عبده لملبوسه، والعادة التفاوت بينهما، (فذكر أنه ساب) بتشديد الموحدة أصله سابب، فأدغمت إحداهما في الأخرى (رجلاً) هو بلال رضي الله عنه (على عهد) أي: زمن (رسول الله صلى الله عليه وسلم فعيره بأمه) بقوله يا ابن السوداء (فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنك امرؤ فيك جاهلية) أتى بالمؤكد في الحكم الملقى لخالي الذهن تنزيلاً له منزلة المنكر، كقول الشاعر:
جاء فلان عارضاً رمحه
…
إن بني عمك فيهم رماح
فالمخاطب غير شاك في ذلك، لكن لما جاء عارضاً رمحه صار كالمنكر لذلك فعومل معاملته، أي: خلق من أخلاق الجاهلية، وهي ما قبل الإِسلام، سموا به لكثرة جهالاتهم وذلك الفخر بالأنساب (هم) أي: الأرقاء (إخوانكم) لأنهم من الأب الأول وهو آدم، ومن الأب الثاني وهو نوح عليهما الصلاة والسلام. ويحتمل أن يراد الأخوة في الإِسلام ويكون العبد الكافر بطريق التبع، أو يختص الحكم بالمؤمن (وخولكم) بفتح الخاء والواو. قال في المصباح: مثل الخدم والحشم وزناً ومعنى (جعلهم الله) أي: صيرهم، وقدم المفعول لكونه ضميراً متصلاً؛ ولأن المقام له، وقال الحافظ في الفتح: الخول والخدم سموا بذلك؛ لأنهم يتخولون الأمر أي: يصلحونه، ومنه الخولي لمن يقوم بإصلاح البستان. اهـ (تحت أيديكم) مجاز عن القدرة والملك ثم فرع على أصله مما ذكر قوله (فمن كان أخوه) عثر به حملاً على الشفقة وتحريضاً على الإِحسان كما هو شأن الإِخوان (تحت يده فليطعمه مما يأكل) أي: من جنس ما يأكل بدليل قوله في الحديث بعده: "فإن لم يجلسه معه فليناوله لقمة"، والمراد: المواساة من كل وجه، لكن أخذ بالأكمل أبو ذر فعل المواساة، وهو الأفضل فلا يستأثر عياله
يَلْبَسُ، وَلَا تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ، فَإنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ" متفقٌ عَلَيْهِ. (1) .
1359-
وعن أَبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"إِذَا أَتَى أحَدَكُمْ خَادِمُهُ بِطَعَامِهِ، فَإنْ لَمْ يُجْلِسْهُ مَعَهُ، فَلْيُنَاوِلْهُ لُقْمَةً أَوْ لُقْمَتَيْنِ أَوْ أُكْلَةً أَوْ أُكْلَتَيْنِ؛ فَإنَّهُ وَلِيَ عِلَاجَهُ" رواه البخاريُّ
ــ
بطعام وإن كان جائزاً (وليلبسه) بضم التحتية فيه وفي يطعمه (مما يلبس) بفتح التحتية والموحدة. والأمران محمولان عند الجمهور على الندب، والواجب ما يسد بهما حاجتهما، من الطعام واللباس المعتاد للحزم في ذلك البلد لا خصوص مطعوم وملبوس السيد، وفي الموطأ ومسلم عن أبي هريرة مرفوعاً "للمملوك طعامه وكسوته بالمعروف، ولا يكلف من العمل ما لا يطيق"، وهو يقتضي رد ذلك إلى المعروف فمن زاد عليه كان متطوعاً (ولا تكلفوهم) تلزموهم كلفة (ما يغلبهم) بفتح أوله، أي: عمل ما يعجزون عنه أو تلحقه به مشقة لا تحتمل لعادة أمثاله (فإن كلفتموهم) أي: ما يغلبهم وحذف للعلم به (فأعينوهم) ليرتفع عنهم بعض التعب (متفق عليه) أخرجه البخاري في الإيمان، وفي العتق، وفي الأدب. ومسلم في النذور. ورواه أبو داود في الأدب من سننه، والترمذي في البر، والصلة من جامعه. وقال: حسن صحيح وابن ماجه في الأدب ببعضه "إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم" قال الحافظ في الفتح: ويلتحق بالرقيق من في معناه من أجير وغيره.
1359-
(وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا أتى أحدكم خادمه) قدم المفعول على الفاعل؛ لئلا يعود الضمير لو جاء على الأصل إلى متأخر لفظاً ورتبة من مواضعه، وهو يشمل الرقيق والأجير وغيرهما من الخادم بالنفقة من غير عقد إجارة أو على سبيل التبرع بها (بطعامه فإن لم يجلسه معه) كما هو الأفضل لما فيه من التواضع وعدم الترافع على المسلم (فليناوله) وفي نسخة فلينوله والأمر للندب (لقمة أو لقمتين) في المصباح: اللقمة من الخبز (أو) شك من الراوي (أكلة أو أكلتين) وعلل الأمر المندوب بقوله (فإنه ولي علاجه) قال في النهاية: أي: عمله، وقال غيره: أي: مزاولته من تحصيل آلاته ووضع القدر على النار وغير ذلك (رواه البخاري) في كتاب الأطعمة بلفظ "فقد كفاه دخانه وعلاجه فليجلسه معه، فإن لم يجلسه معه فليناوله أكلة أو أكلتين" متفق عليه ورواه أبو داود
(1) أخرجه البخاري في كتاب: العتق، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم العبيد إخوانكم (1/80 و81) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الإِيمان، باب: إطعام المملوك مما يأكل
…
(الحديث: 38) .
مُتَفَق عَلَيْهِ (1) .
1362-
عن أَبي موسى الأشعري رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المَمْلُوكُ الَّذِي يُحْسِنُ عِبَادَةَ رَبِّهِ، وَيُؤَدِّي إِلَى سَيِّدِهِ الَّذِي عَلَيْهِ مِنَ الحَقِّ، وَالنَّصِيحَةِ، وَالطَّاعَةِ، لهُ أجْرَانِ" رواه البخاري (2) .
ــ
لأنه كان يرى للعبد التصرف في ماله بغير إذن سيده اهـ ملخصاً من الفتح (متفق عليه) .
1362-
(وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: المملوك الذي يحسن عبادة ربه ويؤدي) أي: يعطي (إلى سيده الذي عليه) أي: واجب لسيده (من الحق والطاعة والنصيحة له أجران) بيان للإِبهام الذي في الموصول (رواه البخاري) في العتق.
1363-
(وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ثلاثة لهم أجران) الاقتصار عليهم؛ لدعاية المقام إليه فلا ينافي أن الذي يعطى أجره مرتين عدد كثير، جمعهم السيوطي في الجزء المشار إليه ونظمهم في آخره فقال:
وجمع أتى فيما رويناه أنهم
…
يثنى لهم أجرحروه محققا
فأزواج خير الخلق أولهم ومن
…
على زوجها أو للقريب تصدقا
وفاز بجهد واجتهاد أصاب والـ
…
ـوضوء اثنتين والكتابي صدقا
وعبد أتى حق الإله وسيد
…
وغاز تسرى مع غنى له تقا
ومن أمة يشرِى فأدب محسناً
…
وينكحها من بعده حين أعتقا
ومن سن خيراً أو أعاد صلاته
…
كذاك جبان إذ يجاهد ذا شقا
فذاك شهيد في البحار ومن أتى
…
له القتل من أهل الكتاب فألحقا
وطالب علم مدرك ثم مسبغ
…
وضوء لدى البرد الشديد فحققا
ومستمع في خطبة قد دنا ومن
…
بتأخير صف أول مسلماً وقا
وحافظ عصر مع إمام مؤذن
…
ومن كان في وقت الفساد موفقا
وعامل خير مخفيا ثم إن بدا
…
برى فرحاً مستبشراً بالذي ارتقى
(1) أخرجه البخاري في كتاب: العتق، باب: العبد إذا أحسن
…
(5/127) .
وأخرجه مسلم في كتاب: الإِيمان، باب: ثواب العبد وأجره
…
(الحديث: 44) .
(2)
أخرجه البخاري في كتاب: العتق، باب: كراهية التطاول على الرقيق (5/128) .
1363-
وعنه، قَالَ: قَالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "ثَلاثَةٌ لَهُمْ أجْرَانِ: رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ آمَنَ بِنَبِيِّهِ، وَآمَنَ بِمُحَمَّدٍ، وَالعَبْدُ المَمْلُوكُ إِذَا أدَّى حَقَّ الله، وَحَقَّ مَوَالِيهِ، وَرَجُلٌ كَانَتْ لَهُ أَمَةٌ فَأدَّبَهَا فَأَحْسَنَ تَأدِيبَهَا، وَعَلَّمَهَا فَأَحْسَنَ تَعْلِيمَهَا، ثُمَّ أعْتَقَهَا فَتَزَوَّجَهَا؛ فَلَهُ أَجْرَانِ"
ــ
ومغتسل في جمعة عن جنابة
…
ومن فيه حقاً قد غدا متصدقا
وماش يصلي جمعة ثم من أتى
…
ندا اليوم خيراً ما فضعفه مطلقا
ومن حتفه قد جاء من سلاحه
…
ونازع نعل إن لخير تسبقا
وماش لدى تشييع ميت وغاسل
…
يده بعد أكل والمجاهد أخفقا
ومتبعاً ميتاً حياء من أهله
…
ومستمع الآثار فيما روى التقى
ومن مصحف يقرا وقاريه معرباً
…
بفهم لمعناه التسريف محققا
وقال المهلب: جاء النص على هؤلاء الثلاثة لينبه به على سائرِ من أحسن في معنيين في أي فعل كان من أفعال البر. اهـ (رجل من أهل الكتاب) يهودياً كان أو نصرانياً، كما استوجهه السيوطي تبعاً للطيبي، وذلك مستمر إلى يوم القيامة، كما رجّحه البلقيني، وأيده تلميذه الحافظ في الفتح، وزاد "والمرأة في ذلك كالرجل"(آمن بنبيه وآمن بمحمد صلى الله عليه وسلم) فأجر أجرين لإِيمانه بالنبيين، فلا يلحق به الكافر المشرك إذا أسلم خلافاً للداودي. وقال الحافظ: يحتمل أن يكون تعدد أجره؛ لكونه لم يعاند كما عاند غيره ممن أضله الله على علم فحصل له الأجر الثاني لمجاهدته نفسه على مخالفة أنظاره (والعبد المملوك إذ أدى) بتشديد الدال المهملة (حق الله) بالفعل لما طلب فعله إيجاباً أو ندباً، وترك ما نهي عن فعله تحريماً أو كراهة (وحق مواليه) فإن قيل: يلزم عليه أن يكون أجر المماليك ضعف أجر السادات، أجاب الكرماني بأنه لا محذور في ذلك ويكون أجره مضاعفاً لما تقدم. وقد يكون للسيد جهات أخرى يستحق بها إضعاف أجر العبد، أو المراد ترجيح العبد المؤدي للحقين على المؤدي لأحدهما. والمراد تضعيف أجره على عمل يتخذ طاعة لله وطاعة للسيد، فيعمل عملاً واحداً ويؤجر عليه أجرين بالاعتبارين (ورجل كانت له أمة فأدّبها) علمها الآداب الشرعية (فأحسن تأديبها وعلمها) ما تحتاج إليه معاشاً ومعاداً (فأحسن تعليمها ثم أعتقها فتزوجها) أي: بمهر جديد سوى العتق، كما يؤخذ من رواية الترمذي "أعتقها ثم أصدقها" فأفادت هذه الرواية ثبوت الصداق (فله أجران) هو تكرير لطول الكلام؛ للاهتمام
كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) .
1365-
وعن أَبي هريرة رضي الله عنه: أنَّ رَجُلاً أَتَى النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم يَتَقَاضَاهُ فَأغْلَظَ لَهُ، فَهَمَّ بِهِ أصْحَابُهُ، فَقَالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:"دَعُوهُ، فَإنَّ لِصَاحِبِ الحَقِّ مَقَالاً" ثُمَّ قَالَ: "أعْطُوهُ سِنّاً مِثْلَ سِنِّهِ" قالوا: يَا رسولَ اللهِ، لا نَجِدُ إِلَاّ أمْثَلَ مِنْ سِنِّهِ، قَالَ:
ــ
الموضع (وإذا كالوهم) أي: كالوا لهم (أو وزنوهم) أي: لهم فهو من باب حذف الجار وإيصال الفعل. وقيل: فيه حذف المضاف أي: كالوا مكيلهم، أو موزونهم (يخسرون) أي: ينقصون، وهؤلاء عادتهم في أخذ حقهم من الناس الكيل والوزن، لتمكنهم باكتيال من الاستيفاء والسرقة، بتحريك المكيال ونحوه ليسعه، وأما إذا أعطوا كالوا أو وزنوا لتمكنهم من النوعين جميعاً، ولذا ما ذكر الوزن في الأول (ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون) فإن ظن البعث راح عن مثل هذه القبائح (ليوم عظيم) لعظم ما فيه (يوم) منصوب بأعني أو مبعوثون أو بدل من الجار وفتح لإِضافته للجملة على مذهب من يرى جواز ذلك (يقوم الناس لرب العالمين) .
1365-
(وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً) لعله زيد بن شعبة الكناني وأسلم بعد وحديثه مذكور في الشفاء إلا أن ذاك في حب (1) وفي رواية لأحمد "جاء أعرابي يتقاضى النبي صلى الله عليه وسلم بعيراً له "(أتى النبي صلى الله عليه وسلم يتقاضاه) أي: يطلب منه قضاء ماله عنده (فأغلظ) أي: الدائن كعادة الأعراب (له) اللام فيه للتبليغ والضمير للنبي صلى الله عليه وسلم (فهم به أصحابه) أي: أرادوا أن يفعلوا به جزاء إغلاظه (فقال النبي صلى الله عليه وسلم دعوه) أي: اتركوه وعلل الأمر بقوله: (فإن لصاحب الحق مقالاً) أي: نوعاً خاصاً من المقال، وهو ما فيه علو على المدين (ثم قال: أعطوه سناً مثل سنه) طلباً للمماثلة في القضاء. قال الحافظ في الفتح: المخاطب بذلك أبو رافع مولى النبي صلى الله عليه وسلم، كما أخرجه مسلم (فقالوا: يا رسول الله لا نجد إلا أمثل) أي: إلا سناً أعلى (من سنه قال: أعطوه) أي: الأعلى (فإن خيركم أحسنكم قضاء) منصوب على التمييز، وفي رواية "فإن من خيركم أو خيركم" على الشك، والمراد خيركم في المعاملة أو يكون من مقدرة، ويدل عليه الرواية المذكورة. وفي رواية "فإن أفضلكم أحسنكم قضاء".
(1) في حب أي تقاضاه في ثمن حب.
1367-
وعن أَبي قتادة رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: "مَنْ سَرَّهُ أنْ يُنَجِّيَهُ اللهُ مِنْ كُرَبِ يَوْمِ القِيَامَةِ، فَلْيُنَفِّسْ عَنْ مُعْسِرٍ أَوْ يَضَعْ عَنْهُ" رواه مسلم (1) .
1368-
وعن أَبي هريرة رضي الله عنه: أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "كَانَ رَجُلٌ يُدَايِنُ النَّاسَ، وَكَانَ يَقُولُ لِفَتَاهُ: إِذَا أَتَيْتَ مُعْسِراً فَتَجَاوَزْ عَنْهُ، لَعَلَّ اللهَ أنْ يَتَجَاوَزَ عَنَّا، فَلَقِيَ اللهَ فَتَجَاوَزَ عَنْهُ" متفقٌ عَلَيْهِ (2) .
ــ
1367-
(وعن أبي قتادة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من سره) أي: أفرحه (أن ينجيه الله) أي: يجعله ذا نجاة (من كرب) بضم ففتح، جمع كربة، وهي غم يأخذ بالنفس لشدته وفي نسخة من كرب بفتح فسكون، وهو بمعنى الكربة قاله الجوهري (يوم القيامة فلينفس) بتشديد الفاء (عن معسر) أي: ليؤخر مطالبة الدين عن المدين المعسر. وقيل: معناه يفرج عنه (أو يضع عنه) أي: يحط عنه وهذا مقتبس من مشكاة قوله تعالى: (وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم)(3)(رواه مسلم) قال في الجامع الكبير: ورواه الطبراني عن أنس، وعن أبي قتادة بلفظ "من سره أن يأمن من غم يوم القيمة فلينظر معسراً أو ليضع عنه ". وفي فتح الباري بعد ذكر حديث الباب، ولأحمد عن ابن عباس نحوه، وقال: وقاه الله من فيح جهنم.
1368-
(وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كان رجل) أي: ممن قبلكمِ (يداين الناس) صيغة المفاعلة؛ للمبالغة لا للمغالبة (وكان يقول لفتاه: إذا أتيت معسراً) أي: لمطالبة ما عنده (فتجاوز عنه) يدخل في التجاوز الإنظار والوضيعة وحسن التقاضي (لعل الله أن يتجاوز عنا) فيكون الجزاء من جنس العمل (فلقي الله) كناية عن الموت أو لقيه بعده (فتجاوز) أي: عفا عنه. (متفق عليه) .
(1) أخرجه مسلم في كتاب: المساقاة، باب: فضل إنظار المعسر، (الحديث: 32) .
(2)
أخرجه البخاري في كتاب: البيوع، باب: من أنظر معسراً (4/262) .
وأخرجه مسلم في كتاب: المساقاة، باب: فضل إنظار العسر، (الحديث: 31) .
(3)
سورة: البقرة الآية: 280.
1369-
وعن أَبي مسعود البدريِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حُوسِبَ رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَلَمْ يُوجَدْ لَهُ مِنَ الخَيْرِ شَيْءٌ، إِلَاّ أنَّهُ كَانَ يُخَالِطُ النَّاسَ وَكَانَ مُوسِراً، وَكَانَ يَأمُرُ غِلْمَانَهُ أنْ يَتَجَاوَزُوا عَن المُعْسِر. قَالَ اللهُ عز وجل: نَحْنُ أَحَقُّ بذلِكَ مِنْهُ؛ تَجَاوَزُوا عَنْهُ" رواه مسلم (1) .
1370-
وعن حذيفة رضي الله عنه قَالَ: أُتَي اللهُ تَعَالَى بِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِهِ آتَاهُ اللهُ مَالاً، فَقَالَ لَهُ: مَاذَا عَمِلْتَ في الدُّنْيَا؟ قَالَ: "وَلَا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً" قَالَ: يَا رَبِّ آتَيْتَنِي مَالَكَ، فَكُنْتُ أُبَايعُ النَّاسَ، وَكَانَ مِنْ خُلُقِي الجَوَازُ، فَكُنْتُ أَتَيَسَّرُ عَلَى
ــ
1369-
(وعن أبي مسعود البدري) واسمه عقبة بن عامر، ونسب لبدر؛ لكونه نزلها وإلا فلم يشهد وقعتها كما تقدم في ترجمته رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حوسب رجل ممن كان قبلكم) أي: من الأمم الكائنة قبلكم (فلم يوجد له من الخير شيء إلا أنه كان يخالط الناس) أي: يعاملهم بالبيوع والمداينة (وكان موسراً) جملة حالية من فاعل يخالط (وكان يأمر غلمانه) بكسر الغين المعجمة، وفي رواية لمسلم: فتيانه (أن يتجاوزوا عن المعسر) بالإنظار وبالوضع (قال الله عز وجل: نحن أحق) أي: أولى (بذلك) أي: بالتجاوز (منه) وهذا تقريب للأذهان، وإلا فلا مشاركة بين الخالق والمخلوق في وصف بالحقيقة، حتى يفاضل بينهما فيه (تجاوزوا عنه) سهل عليه في معاملته معه، كما سهل هو في معاملته مع الخلق (رواه مسلم) . ورواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
1370-
(وعن حذيفة رضي الله عنه قال: أتى الله بعبد من عباده آتاه) بالمد أي: أعطاه (مالاً فقال له: ماذا عملت في الدنيا؟ قال:) أي: حذيفة (ولا يكتمون الله حديثاً) وجملة القول، والمحكى به معترضة بين السؤال والجواب؛ لكونها كالدليل على تحقق ما يجيب به وأن لا شبهة فيه؛ لأن ذلك الموقف الحق ليس فيه إلا الصدق (قال: يا رب آتيتني مالاً) أتى بهذه الجملة تلذذاً بالخطاب، وإلا فذكرها في السؤال مغن عن إعادتها (فكنت أبايع الناس وكان من خلقي) بضم الخاء المعجمة، وهو ملكة للنفس يصدر عنها الفعل بسهولة (الجواز) أي الصبر على المعسر وقبول ما جاء به الموسر، وإن كان فيه بعض النقص، وقد فسر ذلك
(1) أخرجه مسلم في كتاب: المساقاة، باب: فضل إنظار العسر، (الحديث: 30) .
المُوسِرِ، وَأُنْظِرُ المُعْسِرَ. فَقَالَ الله تَعَالَى:"أنَا أَحَقُّ بِذا مِنْكَ تَجَاوَزُوا عَنْ عَبْدِي" فَقَالَ عُقْبَةُ بن عامِر، وأبو مسعودٍ الأنصاريُّ رضي الله عنهما: هكَذا سَمِعْنَاهُ مِنْ فيِّ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم. رواه مسلم (1) .
1371-
وعن أَبي هريرة رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِراً، أَوْ وَضَعَ لَهُ، أظَلَّهُ اللهُ يَومَ القِيَامَةِ تَحْتَ ظِلِّ عَرْشِهِ يَومَ لا ظِلَّ إِلَاّ ظِلُّهُ" رواه
ــ
الإِبهام بقوله: (فكنت أتيسر على الموسر) بقبول ما قد يتوقف في قبوله من نقص يسير أو عيب في المأتي به (وأنظر) أي: أمهل (المعسر) إلى سعة (فقال الله تعالى: أنا أحق بذا) أي: التخفيف والتجاوز، وفي نسخة بذلك، وأشير إليه بما يشار به للبعيد؛ تفخيماً نحو قوله تعالى:(ذلك الكتاب)(2)(منك تجاوزوا عن عبدي) خطاب للآيتين به، وفي قوله عبدي غاية التشريف، وإيماء إلى حكمة التجاوز (فقال عقبة بن عامر) الجهني (وأبو مسعود الأنصاري رضي الله عنهما وهو عقبة بن عمرو الأنصاري البدري، السابق حديثه بنحوه (هكذا سمعناه من في رسول الله صلى الله عليه وسلم) قال المصنف: هكذا وقع في جميع نسخ صحيح مسلم فقال عقبة بن عامر وأبو مسعود، وقال الحفاظ: هذا الحديث إنما هو محفوظ لأبي مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري البدري وحده، وليس لعقبة بن عامر فيه رواية، قال الدارقطني: والوهم في هذا الإسناد من أبي خالد الأحمر قال: وصوابه فقال عقبة بن عمرو أبو مسعود الأنصاري. كذا رواه أصحاب أبي مالك سعد بن طارق، وتابعهم نعيم بن أبي هند، وعبد الملك بن عمير ومنصور وغيرهم عن ربعي عن حذيفة فقالوا في آخر الحديث: فقال عقبة بن عمرو أبو مسعود. اهـ وفي الأطراف للمزي قال: خلف قوله عقبة بن عامر وهم لا أعلم أحداً قاله غيره يعني أبا سعيد الأشج، والحديث إنما يحفظ من حديث عقبة بن عمرو أبي مسعود اهـ (رواه مسلم)(3) فالحديث عن حذيفة موقوف عليه، وله حكم المرفوع؛ لأن مثله لا يقال رأياً.
1371-
(وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أنظر معسراً) أي: أخر مطالبته (أو وضع) أي: حط (له) أي لأجله أوعنه (أظله الله) من حر الشمس التي تدنو من العباد قدر ميل (يوم القيامة تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله) ففيه غاية التشريف، وقد
(1) أخرجه مسلم في كتاب: المساقاة، باب: فضل إنظار المعسر، (الحديث: 29) .
(2)
سورة البقرة، الآية:2.
(3)
قال المنذر: رواه مسلم هكذا موقوفاً على حذيفة ومرفوعاً عن عقبة وأبي مسعود.
الترمذي، وقال:"حديث حسن صحيح"(1) .
1372-
وعن جابر رضي الله عنه: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، اشْتَرَى مِنْهُ بَعِيراً، فَوَزَنَ لَهُ فَأرْجَحَ. متفقٌ عَلَيْهِ (2) .
1373-
وعن أَبي صَفْوَان سُويْدِ بنِ قيسٍ رضي الله عنه
ــ
تقدم عدة من يظلهم الله تحت ظله، وأنها تسعة وثمانون خصلة في باب فضل الحب في الله (رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح) وفي الجامع أن الحديث باللفظ المذكور أخرجه أحمد، ومسلم من حديث أبي اليسر، فكان ذكر كونه في الصحيح أولى.
1372-
(وعن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى منه بعيراً) وكان ذلك في رجوعه معه من غزوة. رجح الحافظ في الفتح في أبواب الشروط أنها غزوة ذات الرقاع. قال القاضي عياض: وجمع بين الروايات المختلفة في قدر ثمنه بأن سبب الاختلاف أنهما رووا بالمعنى، وهو جائز فالمراد أوقية من الذهب والأربع الأواق والخمس، أي: من الفضة وهي بقدر قيمة الأوقية من الذهب والأربعة دنانير مع العشرين ديناراً محمولة على اختلاف الوزن والعدد. وكذا رواية أربعين درهماً مع المائتين. قال: وكان الإِخبار بالفضة عما وقع عليه العقد، وبالذهب عما حصل به الوفاء، أو بالعكس. اهـ ملخصاً قال الحافظ بعد نقل نحوه عن أبي جعفر الداودي: ولا يخفى ما فيه من التعسف. قال القرطبي: اختلفوا في ثمنه اختلافاً لا يقبل التلفيق، وتكلف ذلك بعيد عن التحقيق والذي تحصل من مجموع الروايات أنه باعه الجمل بثمن معلوم عندهما، وزاده عند الوفاء زيادة معلومة، ولا يضر عدم العلم بحقيقة ذلك (فوزن له) أي الثمن: أي: أمر بذلك بلالاً وأن يرجح له (فأرجح) جاء أنه زاده قيراطاً قال جابر: فقلت: لا تفارقني زيادة رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث، وفيه ذكر أخذ أهل الشام له يوم الحرة: رواه مسلم (متفق عليه) .
1373-
(وعن أبي صفوان) بفتح المهملة وسكون الفاء (سويد) بضم المهملة وفتح الواو وسكون التحتية فدال مهملة (ابن قيس) قال ابن الأثير: ويكنى بأبي مرحب رضي الله عنه وقال الحافظ في التقريب: نزل الكوفة خرّج حديثه الأربعة، روي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1) أخرجه الترمذي في كتاب: البيوع، باب: ما جاء في إنظار المعسر والرفق به، (الحديث: 1306) .
(2)
أخرجه البخاري في كتاب: البيوع، باب: شراء الدواب والحمير (4/269) .
وأخرجه مسلم في كتاب: المساقاة، باب: بيع البعير واستثار ركوبه، (الحديث: 115) .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
لما اتخذ الله إبراهيم خليلاً أوحى إليه أن وار عورتك عن أهل الأرض، فكان لا يتخذ من كل شيء إلا واحداً إلا السراويل، فإنه كان يتخذ سروالين، فإذا غسل أحدهما لبس الآخر لئلا يأتي عليه حال إلا وعورته مستورة. وروى أبو نعيم في تاريخ أصبهان من حديث مالك بن عتاهية مرفوعاً: أن الأرض لتستغفر للمصلي بالسراويل. وروى أحمد عن أبي أمامة قال: قلنا: يا رسول الله أهل الكتاب يتسرولون ولا يأتزرون؟ قال: تسرولوا واتزروا، وخالفوا أهل الكتاب. اهـ ملخصاً.