المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ذكر ما جرى بحلب - ذيل مرآة الزمان - جـ ١

[اليونيني، أبو الفتح]

الفصل: ‌ذكر ما جرى بحلب

وعمل الناس في البناء حتى النساء وكان يوم الشروع في تجديد عمارتها يوما مشهوداً وفرحاً عظيماً لأهل دمشق.

وفي سادس ذي الحجة من هذه السنة خطب على منابر الجوامع بدمشق للملك الظاهر ركن الدين بيبرس وذكر بعده الذي تولى دمشق الملك المجاهد علم الدين سنجر الحلبي وضربت الدراهم باسمهما على الوجه الواحد الملك الظاهر ركن الدنيا والدين والآخر الملك المجاهد علم الدنيا والدين.

‌ذكر ما جرى بحلب

لما ملك الظاهر مصر والملك المظفر ابن صاحب الموصل متول حلب أساء السيرة وظلم وعسف الرعية واستجبى من أهلها خمسين ألف دينار أجحفت بهم ولما وصلت الأخبار بوفاته كان بحلب الأمير حسام الدين لاجين الجوكنداري العزيزي فاتفق من بها من العزيزية والناصرية والمصرية على قبض الملك المظفر ابن صاحب الموصل وأحذ ما أخذه في المصادرة وحبسوه في قلعة الثغر وقدم الأمير حسام الدين الجوكنداري وفوضوا إليه نيابة السلطنة وذلك في سابع ذي الحجة.

وكان الأمير حسام الدين المذكور قد أخذ إذناً من الملك المظفر وتوجه إلى حلب لاستخلاص ما تبقى له من الإقطاع والودائع والذخائر من الأيام الناصرية فلما اتفق بحلب ما اتفق أجمعوا على تقدمته فلما صار إليه ما صار من أمر حلب كتب إليه الأمير علم الدين

ص: 374

سنجر الحلبي يرغب إليه على أن يقطعه إقطاعاً عينه له زيادة على ما كان في يده من الأيام الناصرية فأبى إلا القيام على طاعة صاحب الديار المصرية.

وفيها وصلت التتر إلى حلب يوم الخميس سادس وعشرين ذي الحجة ظهراً فخرج منها الأمير حسام الدين لاجين ومن كان فيها من الأمراء بكرة اليوم المذكور وكان مقدم التتر بيدرة ونادوا في شوارع البلد وعلى المأذنة بالأمن والسلامة ونادوا في ظاهرها كذلك وأقروا أهلها في منازلهم ثم خرجوا منها وشحنوا في بلادها ولما وصلت الأمراء الذين كانوا بحلب إلى حماة بعثوا إلى الملك المنصور صاحبها فحذروه من التتر ويشيروا عليه بالخروج وموافقتهم فظن ذلك حيلة منهم عليه فلما تحقق أمرهم وما قالوه صحيح خرج إليهم ولحق بهم وسار معهم إلى حمص ووصلت غارة التتر إلى حماة وسنذكر ما تجدد من أخبارهم في حوادث سنة تسع وخمسين وستمائة.

وفيها في هذه السنة كثر تغير الدول ومتولي الحكم بالشام فكان من أول السنة إلى نصف صفر في مملكة الملك الناصر صلاح الدين يوسف صاحب حلب وهو آخر من ملك من بني أيوب رحمهم الله وأيانا ثم صار في مملكة التتار إلى الخامس والعشرين من شهر رمضان المعظم ثم صار في مملكة الملك المظفر سيف الدين قطز المعزى صاحب الديار المصرية إلى أن قتل في ذي القعدة ثم صار في مملكة الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداري وعلم الدين سنجر الحلبي وهي أول سنة

ص: 375

صار أمر الشام إلى ملوك الديار المصرية فلأجل ذلك عملت الخطبة في أول سنة ثمان وخمسين وستمائة وكان القضاء في أول السنة تولاه بدمشق صدر الدين بن سني الدولة مستقلاً به من خمسة عشر سنة إلى أن ملكوا التتار فولوا كمال الدين عمر التفليسي ثم سافر محي الدين بن زكي والقاضي صدر الدين بن سني الدولة إلى هولاكو فولاهما القضاء وتوفي صدر الدين ببعلبك فاستقل محي الدين بالقضاء وحده إلى تولى الملك المظفر سيف الدين قطز الشام فولى القاضي نجم الدين بن صدر الدين بن سني الدولة.

وفيها أبتلى الناس بالشام بغلاء شديد عام في جميع الأشياء منم المأكول والملبوس وغيرهما وبلغ رطل الخبز درهمين ورطل اللحمة خمسة عشر درهماً وأوقية القيبريس درهماً والجبن درهماً ونصفاً والثوم أوقية بدرهم والعنب رطلاً بدرهمين ومن أكثر أسبابه ما أحدثه الفرنج من ضرب الدراهم المعروفة باليافية وكانت كثيرة الغش قيل أنه كان في المائة نحو خمسة عشر درهماً فضة والباقي نحاس وكثرت في أيدي الناس وتحدث في إبطالها مراراً فبقي كل من عنده شيء حريص على إخراجها خوفاً من بطلانها فتراه يدب في شراء أي شيء كان فيتزايد في السلع بسبب ذلك إلى أن بطلت في آواخر هذه السنة فعادت

ص: 376

تباع كل أربعة دراهم منها بدرهم ناصري مغشوش وافتقر لسببها خلق كثير وأنتفع آخرون.

ولما ملكوا التتار دمشق كان الملك الأشرف بن صاحب حمص توجه صحبة الملك الناصر فخلاه من بعض البلاد وراح إلى التتار إلى حلب إلى خدمة هولاكو أخذ منه فرمان فرسم له أن يكون من جملة نوابه بالشام المحروسة وأقطعه مائة فارس ومن جملة ما أقطعوه معربا والتل ومنين من حبه عسال التي كانت أقطاع الملك المجاهد جده وبقي مقيما بدمشق يعمل النيابة مع نواب التتار إلى أن كسروا فهرب مع نواب التتار إلى الرحبة فلما ملك الملك المظفر دمشق سير الملك الأشرف صارم الدين أزبك وحسام الدين لؤلؤ وطلبوا له الأمان وحلفوه أنه ما يؤذيه فحضر إليه فركب للقائه وأحسن إليه وأعطاه حمص والرحبة وزاده تل باشر وتوجه الأشرف إلى حمص وطلع القلعة وأقام بها إلى أن توفي رحمه الله في الأيام الظاهرية وعند وفاته سير الأمير جمال الدين التجيبي الأمير بدر الدين بيليك العلائي الكبير وشرف الدين ابن الوزان إلى حمص احتاطوا على حواصلها وحملوا المال والجوهر والقماش الذي خلفه والخيل والبغال والجمال إلى الديار المصرية وأقاموا بها إلى أن حضر إليها الأمير علم الدين سنجر الباش قردي نائبا بها فحضروا المذكورون إلى دمشق المحروسة.

ص: 377

وفيها توفي السلطان الملك السعيد نجم الدين ايلغازي ابن الملك المنصور ناصر الدين أرتق أرسلان بن نجم الدين أيلغازي بن أبي تمرتاش بن أيلغازي بن أرتق السلطان أبو الفتح صاحب ماردين وأعمالها وذلك في سادس عشر صفر وقيل في ذي الحجة وهو الأصح نقله الله إلى رضوانه ووفر حظه من غفرانه بسبب وباء وقع في أهل القلعة فأهلك أكثرهم ووصل الخبر إلى التتر بموته من رجل يسمى أحمد بن فارس علي الشافصني رمى بنفسه من القلعة إلى التتر وهم على حصار القلعة كما تقدم ذكره ولما أتصل بهم وفاته بعثوا رسلا إلى ولده الملك المظفر وطلبوا منه الدخول في الطاعة فبعث إليهم عز الدين يوسف بن السماع ليتعرف له منهم ما أضمرت نفوسهم فلما اجتمع بمقدميهم وهما قطزنوين وجرمون قالا له إن بين الملك المظفر قرا أرسلان وبين أيل خان يعنون ملكهم هولاكو وعداً أن والده متى مات وتسلم الملك بعده دخل في طاعته فقال لهم عز الدين هذا صحيح لكن أنتم أخربتم بلاده وقتلتم رعيته فبأي شئ يدخل في طاعته حتى يداري عنه فقالا قد علمنا ذلك ونحن نضم له أن أيل خان متى أتصل به وفات الملك السعيد وأن ولده الملك المظفر دخل تحت طاعته على ما كان تقرر بينهما عوضه عما خرب من بلاده بلادا عامرة مما تجاوزه

ص: 378

فلما عاد عز الدين إلى الملك المظفر وأخبره بما دار بينهما وبينه رده إليهم برسالة مضمونها إن أردتم أن أسير رسلي إلى أيل خان فابعثا لي رهائن من جهتكما تكون عندي إلى أن يرجعون وترددت الرسل بينه وبينهم إلى أن استقر الحال بينهم أن بعث قطزنوين ولده وبعث جرمون ابن أخيه فلما صعدا القلعة إلى عند الملك المظفر بعث نور الدين محمود بن كاجار أخا الملك السعيد لأمه وأصحبه قطزنوين من جهته الأمير سابق الدين بلبان فوصلا إلى هولاكو وهو بمراغه فأديا الرسالة وكان مضمونها ما تقدم فأجاب إلى ما ضمناه قطزنوين وجرمون وكتب لهم بذلك بفرامين وبعث بها مع قصاد من جهته وأبقى الرسل عنده وأمرهما بالرحيل عن ماردين فرحلا في شهر رجب الفرد من سنة تسع وخمسين وستمائة ثم بعث هولاكو الرسولين وأصحبهما كوهداي من أكابر أمرائه ومقدميه فوصلوا إلى ماردين وانتظم الصلح والهدنة بين هولاكو والملك المظفر وأسلم بعد ذلك المقدم كوهداي على يد الملك المظفر وأزوجه أخته من أبيه كان الملك السعيد شهماً بطلاً جواداً كريماً حازماً أمره وعنده حسن سياسة واحتراز وافر.

وفيها قتل الملك المظفر سيف الدين قطز بن عبد الله مملوك الملك المعز عز الدين أيبك بن عبد الله الصالحي التركماني بين الغرابي والصالحية كما تقدم ذكره كان بطلاً شجاعاً هماماً وله سطوة وعنده بطش وجرأة وإقدام في جميع الأمور كان مدة ملكه منذ قبض على ابن أستاذه الملك المنصور علي بن الملك المعز إلى أن قتل نحو من سنة حكى

ص: 379

أنه لما سافر من القاهرة إلى الشام كان في درجة سيره حيث أتجه يفتح عليه وينتصر لكنه لا يرجع إلى مستقر ملكه أبداً وتصديق ذلك ما حكاه النجم النحاس المنجم بدمشق في شهور سنة خمس وثمانين وستمائة قال كنت بالقاهرة لما أراد الملك المظفر الخروج إلى لقاء التتر قال فجمعونا فكنا خمسة عشر منجماً قال فبقينا في قلعة الجبل ثمانية أيام والراتب يجيئنا وقالوا لنا أبصروا طالع سعيد لسلامة السلطان ورجوعه سالماً قال فاتفقنا جميعاً على أن نأخذ طالعاً يكون فيه سلامة المسلمين والنصر على العدو المخذول ولم نفكر بسلامة الملك المظفر ولا رجوعه فكان من أمره ما كان.

وقال الشيخ قطب الدين اليونيني كان الملك المظفر سيف الدين قطز بطلاً شجاعاً ولم يكن يوصف بكرم ولا شح بل كان متوسطاً وأول من أجترأ على التتر وكسرهم بعد علاء الدين خوارزم شاه كسرة عظيمة جبر بها الإسلام وذكر أيضاً قال حكى عنه أنه قتل يوم المصاف جواده بعين جالوت ولم يصادف في تلك الساعة أحد من الأوشاقية الذين معهم جنائبه فبقي راجلا ورأه بعض الأمراء الشجعان فترجل عن حصانه وقدمه له ليركبه فامتنع وقال ما معناه ما كنت لآخذ حصانك

ص: 380

في هذا الوقت وأمنع المسلمين الأنتفاع بك وأعرضك للقتل وحلف عليه أن يركب فرسه فامتثل أمره ووافاه الوشاقية بالجنائب فركب فلامه بعض خواصه على ذلك وقال يا خوند لو صادفك والعياذ بالله بعض المغل وأنت راجل كنت رحت وراح الإسلام فقال أما أنا فكنت أروح إلى الجنة إن شاء الله تعالى وأما الإسلام فما كان الله ليضيعه فقد مات الملك الصالح نجم الدين أيوب وقتل الملك المعظم والأمير فخر الدين بن الشيخ مقدم العساكر يوم ذاك ونصر الله الإسلام بعد اليأس من نصره يشير إلى نوبة المنصورة ولما قدم إلى دمشق بعد الكسرة أجرى الناس كافة على ما كانوا آخر الأيام الناصرية في رواتبهم ومقرراتهم وإطلاقاتهم ولم يتعرض إلى مال أحد ولا إلى ملكه ثم توجه بعد تقرير قواعد الشام وترتيب أحواله على أجمل نظام إلى الديار المصرية فرزقه الله الشهادة فقتل مظلوماً.

وحكى الشيخ قطب الدين اليونيني عن المولى علاء الدين علي بن غانم حرسه الله قال حكى لي في غرة شوال سنة إحدى وتسعين وستمائة ببعلبك قال حدثني المولى تاج الدين أحمد بن الأثير الحلبي ما معناه أن الملك الناصر صلاح الدين يوسف لما كان مقيماً على برزة في أواخر

ص: 381

سنة سبع وخمسين وستمائة وصله قصاد من مصر بكتب يخبرونه فيها أن قطز تسلطن بالديار المصرية وقبض على ابن أستاذه قال تاج الدين فطلبني السلطان قرأت عليه الكتب وقال لي خذ هذه الكتب ورح بها إلى الأمير ناصر الدين القيمري والأمير جمال الدين يغمور وأوقف كلاً منهما عليها قال فأخذتها فخرجت فلما بعدت عن الدهليز لقيني حسام الدين البركة خاني فسلم علي وقال جاءكم بريد أو قصاد من الديار المصرية فوريت عنه فقلت ما عندي علم بشئ من هذا قال قطز تسلطن وتملك الديار المصرية ويكسر التتر قال المولى تاج الدين فبقيت متعجبا من حديثه فقلت أيش هذا القول ومن أين لك هذا القول قال والله هذا قطز هو خشداشي كنت أنا وأياه عند الهيجاوي من أمراء مصر ونحن صبيان وكان عليه قمل كثير فكنت أسرح رأسه على أنني كلما أخذت منه قملة أخذ منه فلساً أو صفعته فلما كان في بعض الأيام أخذت عنه قملاً كثيراً وشرعت أصفعه ثم قلت في غصون ذلك والله ما أشتهي إلا أن الله يرزقني أمرة خمسين فارساً فقال لي طيب خاطرك أنا أعطيك إمرة خمسين فارساً قال فصفعته وقلت مالك أنت تعطيني إمرة خمسين قال نعم فصفعته فقال لي والك علة أيش يلزم لك إلا إمرة خمسين فارساً أنا والله أعطيك قلت والك

ص: 382

كيف تعطيني قال أنا أملك الديار المصرية فإني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام وقال لي أنت تملك الديار المصرية وتكسر التتر وقول النبي صلى الله عليه وسلم لا شك فيه قال فسكت وكنت أعرف منه الصدق في حديثه وعدم الكذب وتنقلت به الأحوال وارتفع شأنه إلى أن صار هو المتحكم في الدولة وما أشك أنه يملك الديار المصرية ويكسر التتر كما أخبره النبي صلى الله عليه وسلم في المنام قال المولى تاج الدين فلما قال لي هذا قلت له والله قد وردت الأخبار أنه تسلطن في الديار المصرية قال لي والله يكسر التتر فما مضى عن هذا الأمر إلا مدة يسيرة حتى خرج وكسر التتر على ما تقدم ذكره قال المولى تاج الدين رحمه الله فرأيت حسام الدين البركة خاني الحاكي لي ذلك بالديار المصرية بعد كسرة التتر فسلم علي وقال يا مولانا تاج الدين تذكر ما قلت لك في الوقت الفلاني قلت نعم قال والله حال ما عاد الملك الناصر من قطيا ودخلت أنا الديار المصرية أعطاني إمرة خمسين فارساً كما قال رحمه الله لا زائداً على ذلك قال المولى تاج الدين فتعجبت من هذه الصورة.

وذكر أيضاً قال حكى لي الأمير عز الدين محمد بن أبي الهيجاء ما معناه أن الأمير سيف الدين بلقاق رحمه الله حدثه أن الأمير بدر الدين بكتوت الأتابكي حكى له قال كنت أنا والملك المظفر قطز والملك الظاهر بيبرس ركن الدين رحمهما الله في حال الصبا

ص: 383

كثيراً ما نكون مجتمعين في ركوبنا وغير ذلك فاتفق إن رأينا منجماً في بعض الطرق بالديار المصرية فقال له الملك المظفر أبصر نجمي فضرب بالرمل وحسب وقال له أنت تملك هذه البلاد وتكسر التتار فشرعنا نهزأ به ثم قال له الملك الظاهر فأبصر نجمي فضرب بالرمل وحسب وقال له وأنت أيضاً تملك الديار المصرية وغيرها فزاد الاستهزاء ثم قالا لي لابد تبصر نجمك فقلت له أبصر لي فضرب وحسب فقال لي وأنت يحصل لك أمرة مائة فارس يعطيك هذا وأشار إلى الملك الظاهر فاتفق أن الأمر وقع كما لم يخرم منه شيء وهذا من عجيب الاتفاق.

الأمير حسام الدين أبو علي بن محمد باساك بن أبي علي الهذباني كان من أكابر الأمراء وله المنزلة العلية عند ملوك بني أيوب وولي مرتين نيابة السلطنة بدمشق زمن الملك الصالح نجم الدين أيوب كان شجاعاً مهيباً وقوراً وكانت وفاته في شهر رمضان بمصر ودفن بتربة والده بالرصد بمصر مولده سنة اثنين وسبعين وخمسمائة وله نظم حسن فمن ذلك قوله:

أهوى رشأ من خالص الترك رشيق

في الصحو معربد وفي السكر مفيق

في فيه لعاشقيه در وعقيق

ما أحسنه عندي عدو وصديق

وله أيضاً:

لبيت داعي هواكم حين ناداني

وقلت شأن الهوى العذري من شأني

ص: 384

حفظي لعهد الهوى ديني مع إيماني

وحبكم صاحبي في طي الفاني

رحمه الله وإيانا.

صدر الدين التغلبي أبو العباس أحمد بن قاضي القضاة شمس الدين أبو البركات يحيى بن هبة الله بن الحسن بن يحيى بن محمد بن علي بن يحيى بن صدقة الشافعي المعروف بابن سنى الدولة توفي بعلبك يوم الجمعة ثامن جمادى الآخرة وعمل عزاؤه يوم الثلاثاء ثالث عشرجمادى الآخرة بدمشق بجامعها مولده سنة تسعين وخمس مائة سمع من الخشوعي وابن طبرزد وحنبل والكندي والحرستاني وغيرهم وحدث ودرس في عدة مدارس بدمشق وأفتى وكان عالماً بعلوم شتى وعنده مكارم أخلاق ورياسة وعنده مداراة ويصفح عمن يسيء إليه وولي وكالة بيت المال بدمشق ثم ناب في الحكم عن قاضي القضاة محي الدين مدة ثم ولي مستقلاً قاضي القضاة بدمشق وأعمالها لما فتح ابن الشيخ دمشق للملك الصالح نجم الدين أيوب في جمادى الأولى سنة ثلاث وأربعين وستمائة ولم يزل مستقلاً في الحكم إلى أوائل دولة التتر سنة ثمان وخمسين وستمائة.

الشيخ مخلص الدين المبارك بن يحيى بن معقل الغساني الحمصي كان فاصلاً أديباً وله معرفة تامة بالأنساب وهو أحد مشايخ الشيعة توفي في ربيع الآخر بجبل لبنان وكان قد هرب من حمص من التتر فأدركه أجله وله معرفة بالأدب وله نظم فمنه:

ص: 385

بدا لي وقد خط العذار بوجهه

حبيب له مني علي رقيب

كمثل هلال العيد وقد دنا

من الأفق مرماه وحان مغيب

وله في غلام أهدى له تفاحة من يده:

أتى يهز قضيب البان حين مشى

من تحت طلعة البدرفوق جيد رشا

حيا بتفاحة من خده اكتسبت

لوناً ومن ريقه طعماً وطيب نشا

لا تعجبوا وهي من أوصافه خلقت

إن العليل إذا ما شمها انتعشا

وله غير ذلك وكان في العلماء في فنون كثيرة رحمه الله وإيانا.

الشيخ نجيب الدين محمد بن العلي الخلاطي كان عالماً بتعبير الرؤيا وغيرها من علوم شتى وتواريخ الناس وأخبارهم حكى ابن الجزري عن والده قال حكى لي الشيخ نجيب الدين حكاية عن سفيان الثوري قال دخل سفيان على جعفر بن محمد الصادق فقال يا سفيان ما جاء بك؟ فقال يا ابن رسول الله جئت أتعلم منك فقال يا سفيان أنت رجل يطلبك السلطان وأنا أهل بيت أعين الناس إلينا سراع فإذا أنعم الله عليك بنعمة فقل الحمد لله وإذا استبطأت الرزق فقل أستغفر وإذا خفت شيئاً فقل لا حول ولا قوة إلا بالله أرجع راشداً قال سفيان فلما وليت اتبعني بصره ثم قال يا سفيان ثلاثاً وأي ثلاث وروى أيضاً أنه خرج سليمان بن داود عليه السلام يستسقي فمر بنملة مستلقية رافعة قوائمها إلى السماء تقول اللهم إنا خلق من خلقك ليس بنا غنى

ص: 386

عن سقيك ورزقك فلا تهلكنا بذنوب بني آدم فقال سليمان أرجعوا فقد سقيتم بدعوة غيركم وفي رواية قائمة على رجليها رافعة يديها تقول فأنزل علينا غيثك ولا تؤاخذنا بذنوب عبادك فرجعوا يخوضون الماء إلى الركب وتوفي في شهور سنة ثمان وخمسين وستمائة رحمه الله وإيانا ودفن بقاسيون.

الأمير مجير الدين إبراهيم بن أبي بكر بن أبي زكرى توفي مقتولاً بنابلس كان من أكابر الأمراء وشجعانهم بطلاً هماماً مريناً كثير الإحسان إلى الناس وله المنزلة العلية عند الملك الصالح نجم الدين أيوب قدم في صحبته إلى الشام وترقى عند الملك الناصر وكان حظياً عنده وكلمته مسموعة وشفاعته لا ترد وعنده كرم وفضيلة وله نظم فمنه قوله:

جعل العتاب إلى الصدود سبيلا

لما رأى سقمي عليه دليلا

فظللت أورده حديث مدامعي

عن شرح جفني مسنداً منقولا

وله أيضاً:

قضى البارق النجدي في حالة اللمح

بفيض دموعي إذ تراءى على السفح

ذبحت الكرى ما بين جفني وناظري

فمحمر دمعي الآن من ذلك الذبح

قيل أنه لم يقتل حتى قتل من التتر سبعة عشر نفراً وانكسر سيفه فقاتل بدبوس فتكاثروا عليه فقتلوه رحمه الله وإيانا.

الصدر شرف الدين عثمان بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن علي بن المطهر بن أبي عصرون التميمي الدمشقي الشافعي مولده

ص: 387

بدمشق في ثامن عشر ذي الحجة سنة إحدى وثمانين وخمسمائة كان رئيساً جواداً كبير الهمة مفرطاً في الكرم يستقل الكثير في العطاء وأنفق من الأموال جملاً عظيمة وتوفي وهو فقير من فقراء المسلمين.

يحكى عنه في كرمه وسعة صدره غرائب كثيرة من جملتها أنه توجه إلى الديار المصرية معه هدية نفيسة لأولاد شيخ الشيوخ وغيرهم وكان بينه وبين أولاد شيخ الشيوخ قرابة فإن والدتهم أبنة عمه فلما سير للأمير فخر الدين نصيبه من الهدية استعظمها وقال بما نقابل هذا الرجل واتفق حضور الهدية سكر عال مكرر للأمير فخر الدين بالقصد من بعض اقطاعاته فسير له منه حملاً وقال هذا يشربوه غلمان الشيخ شرف الدين فلما جاء السكر عمله حلوى منوعة وكان في خدمته حلاوي من الشام ماهر في صناعته وسير الحلوى للأمير فخر الدين فلما أكل منه أعجبته أعجاباً كثيراً ورأى لها طعماً غريباً لم يعهده في غيرها فأحضر الحلاوي الذي في مطبخ نفسه وأطعمه من تلك الحلوى ورام منه أن يعمل مثلها فقال ما أدري ما هذه ولا أعرف كيف عملت ثم سال الحلاوي لمن ساعد حلاوي شرف الدين على عملها عن كيفيتها فذكر أنها ليست بشيرج وإنما هي بدهن لوز استخرج وطبخت به مع كثرة الفستق والمسك وغيره ولعلها أرادت أرادب عدة قلب لوز فأخبر الحلاوي الأمير فخر الدين بذلك فستهالها وقال هذا جنون.

ص: 388

حكى الشيخ قطب الدين عن المذكور قال حكى لي الجمال نصر الله وكان في خدمته قال خلف له والده من الأموال والأثاث والقماش والخيول والبغال والجمال والمماليك والجواري والخدام ما لا يحصى كثرة ومن الأملاك كذلك إلى وخلف له والده سطل بلور أكبر من المد الشامي له طوق ذهب وعلاقة ذهب وهو ملآن جواهر نفيسة لو وضع عليها حبة واحدة سقطت فأذهب الجميع بيعاً وهبة كانت وفاته في العشرين من صفر بديار مصر مغتالاً لأنه كان قد اجتمع بالملك المظفر وأراه كتاباً أن بمصر دفائن وأنها لا تحصل إلا بخراب أماكن كثيرة وأصغى إليه السلطان فكأن بعض من كان يتحصل له الضرر بخراب ملكه اغتاله والله أعلم.

الشيخ الصالح محمد بن خليل بن عبد الوهاب بن بدر أبوعبد الله البيطار المعروف بالأكال أصله من جبل بني هلال مولده بقصر حجاج خارج دمشق سنة ستمائة وتوفي بها خامس شهر رمضان في هذه السنة وكان رجلاً صالحاً ديناً كثير الإيثار للأرامل والأيتام والفقراء وعمارة المساجد وبنى منارة مسجد قصر حجاج وكان لا يدخر شيئاً ولا يأكل لأحد شيئاً إلا بإجرة وكان ضريبة الصحن الحلوى خمسة دراهم وقدح الشراب خمسة دراهم والطعام فعلي مقداره عشرين درهما وثلاثين درهما إلى المائة وكذلك الملبوس.

حكى ابن الجزري عن والده عن الشيخ محمد الأكال قال حكى

ص: 389

لي الأمير فخر الدين بن ملكيشو وزين الدين محمود الخيمي قال كنا في سماع قد عمله النقيب بهاء الدين نقيب الأشراف بداره وعنده الأمير السيفي والأمير ركن الدين البندقداري وأكثر البحرية الذين كانوا في خدمة الملك الناصر فجرى حديث الشيخ محمد الأكال فقال السيفي أنا أحضره وأطعمه فلما حضر أحضر له صحن حلاوة وقال له كل فقال ما آكل إلا بخمسين درهماً فشرع السيفي يبربس عليه فقال له الشيخ محمد والله لا أكله إلا بخمسين درهماً لك وللفقراء بخمسة دراهم فأحضر له خمسين درهماً وأكل من الصحن ثم طلب منه أن يطعمه شيئاً آخر فلم يقبل واشتغل أهل السماع به ولم يزالوا حواليه يسألوه فما أنقضى السماع حتى أخذ من السيوفي نحو ثلاثمائة درهم ومن الملك الظاهر خمسين درهما ومن باقي البحرية وأهل السماع تكملة ستمائة درهم وبقي السيفي وأكثر البحرية بعد ذلك يترددون إليه ويطلبون بركته وكان يتفقد الجيوش فوقتاً يبرهم ووقتاً يخلص بعضهم ويرضي غرمائهم ولا يبقي أحداً يبوس يده إلا بشئ وكان في شهر رجب وشعبان ورمضان يطلق يديه يبوسها الناس بلاش فيجئ بعض الناس فيكثر التقبيل فيقول أغبن وكان كثير الحج والسفر إلى الحجاز وكان إذا قدم من الحج يطلق يديه للناس يبوسوها بلاش وكان أكثر الناس ينكر على من

ص: 390

يعامله بهذه المعاملة وينسبه إلى التهور فإذا اجتمع به أنفعل له في كل ما يختار ولا يكاد يخالفه فيما يطلب منه وكان مجاورا لابن الجزري في درب الأسدية.

حكى ابن الجزري عن والده قال لما تزوجت بوالدتك أولمت وطلبت أصحابي وأهل الحارة فحضروا فقيل لي عنه فقلت للجماعة أنا ما أعطيه شيئاً وأنا جاره ونزيله وأنا رجل غريب فإن حضر فلا كلام وإن لم يحضر فلا حيلة فراح إليه زين الدين الخيمي وذكر له ما قلت فقام وحضر وقال لي أنت مشرقي غلبتني كنت أريد أن أحمل لك شيئاً لأجل أنك جاري والآن قد أطلقتك أيش عندك قلت ثلاث براني شراب فقال ثلاثين درهماً قلت والله ثلاث فلوس حمر ما أعطيك فقال هات من كل واحدة قدحاً فشرب ولعق منهم بالملعقة ثم أحضرت الحلاوة وهريسة فستق فقال والله هذا مأكول خشن يا مشرقي والله ما غلبني أحد غيرك فلا تخبر على مشتري قال وبقي بعد ذلك كل واحد يهادي صاحبه إلى أن مات رحمه الله قال وكان دائماً يبعث إلى مما يجيئه وأنا أبعث له من عير أجرة وكان لا يقبل لأحد هدية إلا بشئ فكان كثير من الناس يبعث له شيئاً فيضعوه في أسفل داره أو في الباب ويهربون فلا يدخل منه شيئاً إلى داره بل يفرقه للفقراء الحاضرين وجواره في الدرب رباطين فيسيره إليهم وإلى غيرهم من المحاجين وكان من عجائب الدهر وغرائبه لم يسبقه أحد قبله بهذا

ص: 391

الفعل ولا جاء بعده مثله رحمه الله وإيانا والمسلمين أجمعين.

الفخر محمد بن يوسف الكنجي كان رجلاً فاضلاً أديباً وله نظم حسن قتل في جامع دمشق بسبب دخوله مع نواب التتر ومن شعره في أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وعلى آله:

وكان على أرمد العين يبتغي

دواء فلما لم يحس مداويا

شفاه رسول الله منه بتفلة

فبورك مرقياً وبورك راقيا

وقال سأعطي الراية اليوم فارساً

كمياً شجاعاً في الحروب محاميا

يحب الآله والآله يحبه

به يفتح الله الحصون كما هيا

فخص به دون البرية كلها

عليا وسماه الوصي المواخيا

رحمه الله وإيانا:

الشيخ الإمام الناسك الرباني العارف القدوة الزاهد العابد الورع القطب أبو بكر بن علي بن قوام بن منصور بن معلي بن حسن بن هارون بن قيس بن ربيعة بن عامر بن هلال بن قصي بن كلاب الراسبي الزاهد أحد مشايخ الشام رضي الله عنهم أجمعين ولد بمشهد صفين سنة أربع وثمانين وخمسمائة ثم أنتقل إلى بالس وبها ربي وكان شيخاً زاهداً عابداً قانتاً لله تعالى عارفاً بالله عديم النظير أماماً عالماً عاملاً له كرامات وأحوال حسن الأخلاق لطيف الصفات وافر الأدب والعقل

ص: 392

دائم البشر مخفوض الجناح كثير التواضع شديد الحياء متمسكاً بالآداب الشرعية معظماً لأهل العلم والدين كثير المتابعة للسنة محباً لسالكي طريق الآخرة مع دوام المجاهدة ولزوم المراقبة إلى أن توفاه الله تعالى في سنة ثمان وخمسين وستمائة بقرية يقال لها علم بالقرب من مدينة حلب المحروسة ودفن هناك في تابوت ثم نقل منها إلى دمشق المحروسة في شهر ذي الحجة سنة تسع وستين وخمسمائة وقدموا به إلى دمشق في يوم الخميس ثامن شهر المحرم سنة سبعين وستمائة ودفن من الغد بالزاوية المعروفة به بسفح قاسيون.

وقد جمع له حفيده هو شيخنا الجليل أبو عبد الله محمد بن عمر بن الشيخ الجليل الكبير أبو بكر بن قوام المذكور جزأ كبيراً ذكر فيه أشياء نذكر منها بتسير إن شاء الله تعالى قال شيخنا أبو عبد الله محمد بن عمر أخبرني والدي رحمه الله قال أوصاني الشيخ قدس الله روحه أن أدفنه في تابوت وقال لي يا بني أنا لابد لي أن أنقل إلى الأرض المقدسة وكان كما قال فإنه نقل بعد موته بأثنتي عشر سنة إلى جبل قاسيون وكنت في من حضر خروجه من قبره وسرت معه إلى دمشق وشهدت دفنه وذلك صبيحة يوم الجمعة تاسع المحرم سنة سبعين وستمائة ورأيت في سفري معه عجائب منها أنّا كنا لا نستطيع الليل أن نجلس عنده لكثرة تراكم الجن عليه وزيارتهم له وقدمنا في الطريق على قرية بعلاه المعرة يقال له شمسين فخرج أهلها إلى زيارته

ص: 393

وفيهم رجل كبير فقال من هذا فقلنا الشيخ أبو بكر بن قوام فحصل له اضطراب كثير وأنزعاج فلما أفاق قال له والدي أي شئ أوجب هذا الأنزعاج قال كنت أتردد إلى زيارة الشيخ في بلده فدعوته مرة إلى قريتي هذه فقال لا بد أن أزورك في قريتك وتوفي رحمه الله وبقي عندي من قوله شيء فلما قلتم أنه هذا ذكرت بقوله ووفاه بعهده بعد موته وقدمنا حماة فتلقانا خلق كثير من العلماء والمشايخ وجاء الناس إلى زيارته إرسالاً وقدمنا بعلبك فتلقاه جماعة من المشايخ والصالحين منخ الشيخ الإمام عبد الله بن الشيخ الجليل محمد بن الشيخ العارف القدوة عبد الله اليونيني وأنزلوه في مكان وعزموا أن يقيم عندهم أياماً وصنعوا طعاماً فلما أكل الطعام حضر قوال وأستأذن أن يقول شيئاً فلما قال قام المشايخ رضي الله عنهم قال ابن الجزري فحصل لوالدي انزعاج كثير فلما خرج ليتوضأ لصلاة العصر قال له بعض من حضر يا سيدي رأينا اليوم منك شيئ لم نره منك ولا نعرفه فقال رأيت الشيخ وهو واقف مع المشايخ وتقدم إلي وقال يا ولدي عجل بنا إلى الصالحية فقمنا وسافرنا من ساعتنا ولم يشعر بنا أحد من الجماعة حتى صرنا بقرية فصه فأدركنا منهم جماعة وقالوا كيف سافرتم ولم نشعر بكم فأخبرهم والدي بما رأى من الشيخ فتعجبوا لذلك وقدمنا دمشق ثامن المحرم قال وأخبرني الصاحب محي الدين بن النحاس رحمه الله قال كنت بحلب في سنة ثمان وخمسين وستمائة وبها الشيخان أبو بكر بن فتيان وأبو بكر بن قوام فسير الشيخ أبو بكر بن فتيان إلى

ص: 394

الشيخ أبي بكر بن قوام أن اخرج بنا من هذا البلد إلى بعض القرى فإن متنا دفنا في البر فقال للرسول قل له تربتنا في أرض دير مران فكان كما قال دفن أحدهما شرقي الدير وهو الشيخ أبو بكر بن فتيان والآخر غربي الدير وهو أبو بكر بن قوام رحمهما الله وإيانا وحضر دفنه خلق كثير من المشايخ والعلماء والصالحين منهم الشيخ مجد الدين بن الخليلي والصاحب محي الدين بن النحاس والشيخ قطب الدين ابن عصرون وخلق كثير لم أعرف أسماءهم وقبل أن يوضع في قبره كشف عنه ورآه الحاضرون وحصل وقت عجيب من الرقة والبكاء وحضر في الجماعة رجل من أهل حماة حال قدومه منها وقال رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام وأنا في حماة وقال لي يا فلان قم وامض إلى دمشق واحضر دفن رجل من الأولياء فحضر دفنه وعاد على عقبه إلى حماة ولم يدخل دمشق.

ذكر بداية أمره قال رضي الله عنه كانت الأحوال تطرقني في بداية أمري فكنت أخبر بها شيخي رضي الله عنه فينهاني عن الكلام فيها وكان عنده سوط يقول متى تكلمت في شيء من هذا ضربتك بهذا السوط ويأمرني بالعمل ويقول لا تلتفت إلى شيء من هذه الأحوال فما زلت معه كذلك حتى كنت عنده في بعض الليالي وكانت لي أم ضريرة وكنت باراً بها ولم يكن لها من يخدمها غيري فاستأذنت الشيخ في المضي إليها فأذن لي وقال أنه سيحدث لك في هذه الليلة أمر عجيب فاثبت له ولا تجزع فلما خرجت من عنده وأن مار

ص: 395

إلى جهة أمي سمعت صوتاً من جهة السماء فرفعت رأسي فإذا نور كأنه سلسلة متداخل بعضه في بعض فالتفت على ظهري حتى أحسست ببردها في صدري فرجعت إلى الشيخ فأخبرته بما وقع لي فقال الحمد لله وقبلني بين عيني وقال يا بني الآن تمت النعمة عليك أتعلم يا بني ما هذه السلسلة فقلت لا فقال هذه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأذن لي في الكلام وكان قبل ينهاني عنه.

وسمعنا نحن من غير واحد من صحبه أنه كان يقول أذن لي في الكلام ولو لم يؤذن لي ما تكلمت بشيء ولا في شيء.

ذكر ما أظهره الله تعالى له من الكرامات والأحوال: سمعته يوماً وقد دخل إلى البيت وهو يقول لزوجته ولدك قد أخذه قطاع الطريق في هذه الساعة وهم يريدون قتله وقتل رفاقه فراعها قول الشيخ رضي الله عنه فسمعته يقول لها لا بأس عليك فإني قد حجبتهم عن أذاه وأذى رفاقه غير أن مالهم يذهب وغداً إن شاء الله تعالى يصل هو ورفاقه فلما كان من الغد وصلوا كما ذكر الشيخ وكنت فيمن تلقاهم وأنا يومئذ ابن ست سنين وذلك سنة ست وخمسين وستمائة.

قال وسمعت الشيخ الصالح إسماعيل بن أبي سالم بن أبي الحسن المعروف بابن الكردي يقول حججت مع أبواي فلما كنا بأرض الحجاز وسار الركب في بعض الليالي وكان أبواي راكبين في مجادة وكنت

ص: 396

أمشي تحتها فحصل لي شيء من القولنج فعدلت إلى مكان وقلت لعلي أستريح ثم ألحق الركب فنمت فلم أشعر بنفسي إلا والشمس قد طلعت ولم أدر كيف أتوجه ففكرت في نفسي وفي أبواي فإنهلم يكن معهما من يخدمهما ولامن يقوم بشأنهما غيري فبكيت عليهما وعلى نفسي فبينما أنا أبكي إذ سمعت قائلاً يقول ألست من أصحاب الشيخ أبي بكر بن قوام فقلت بلى والله قال سل الله تعالى به فإنه يستجاب لك قال فسألت الله تعالى به كما قال فوالله ما استتم الكلام إلا وهو واقف عندي وقال لا بأس عليك ووضع يده في عضدي وسار بي يسيراً وقال هذا جمل أبويك فسمعتهما وهما يبكيان علي فقلت لا بأس عليكما وأخبرتهما بما وقع لي.

قال وحدثني أيضاً قال كنا جلوساً مع الشيخ في تربة الشيخ رافع رضي الله عنهما ونحن ننظر إلى الفرات إذ لاح على شاطئ الفرات رجل فقال الشيخ أترون ذلك الرجل الذي على شاطئ الفرات فقلنا نعم قال إنه من أولياء الله تعالى وهو من أصحابي وقد قصد زيارتي من بلاد الهند وقد صلى العصر في منزله وقد توجه إلي وقد زويت له الأرض فخطا من منزله خطوة إلى شاطئ الفرات إلى ههناتأدباً منه معي وعلامة ما أقول لكم أنه يعلم أني في هذا المكان فيقصده ولا يدخل البلد فلما قرب من البلد

ص: 397

عرج عنه وقصد المكان الذي فيه الشيخ والجماعة فجاء وسلم وقال يا سيدي أسألك أن تأخذ على العهد أن أكون من أصحابك فقال له الشيخ وعزة المعبود أنت من أصحابي فقال الحمد لله لهذا قصدتك واستأذن الشيخ في الرجوع إلى أهله فقال له الشيخ وأين أهلك؟ قال في الهند قال متى خرجت من عندهم؟ قال صليت العصر وخرجت لزيارتك فقال له الشيخ أنت الليلة ضيفنا فبات عند الشيخ وبتنا عنده فلما أصبحنا من الغد طلب السفر فخرج الشيخ وخرجنا في خدمته لوداعه فلما سرنا في وداع الشيخ وضع الشيخ يده بين كتفيه ودفعه فغاب عنا ولم نره فقال الشيخ وعزة المعبود في دفعتي له وضع رجله في باب داره بالهند أو كما قال.

قال وسمعت الأمير الكبير المعروف بالأخضري وكان قد أسن يحكى قال كنت مع الملك الكامل لما توجه إلى الشرق فلما نزلنا بالس قصدنا زيارة الشيخ مع فخر الدين عثمان وكنا جماعة من الأمراء فبينما نحن عنده اذ دخل رجل من الجند فقال يا سيدي كان لي بغل وعليه خمسة آلاف درهم فذهب مني وقد دليت عليك فقال له الشيخ اجلس وعزة المعبود قد حصرت على آخذه الأرض حتى ما بقي له مسلك إلا باب هذا المكان وهو الآن يدخل فغذا دخل وجلس ليشير إليك بالقيام فقم وخذ بغلك وما لك فلما سمعنا كلام الشيخ قلنا لا نقوم حتى يدخل هذا الرجل فبينما نحن جلوس إذ دخل الرجل فأشار

ص: 398

إليه الشيخ فقام وقمنا معه فوجدنا البغل والمال بالباب فأخذه صاحبه فلما حضرنا عند السلطان أخبرناه بما رأينا من الشيخ فقال أحب أن أزوره فقال فخر الدين عثمان أن البلد لا يحمل دخول مولانا السلطان فسير إليه فخر الدين عثمان فقال له إن السلطان يحب أن يراك وأن البلد لا يحمل دخوله فهل يرى سيدي الشيخ أن يخرج إليه ليراه فقال له الشيخ يا فخر الدين إذا رحت أنت إلى عند صاحب الروم يطيب للملك الكامل فقال لا فقال فكذلك أنا إذا رحت على عند الملك الكامل لا يطيب لأستاذي ولم يخرج إليه.

قال وحدثني الشيخ الإمام الخطيب شمس الدين الخابوري قال سألت الشيخ عن قوله تعالى إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون وقد عبد عزيز وعيسى بن مريم فقال تفسيرها إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون فقلت له يا سيدي أنت لا تعرف تكتب ولا تقرأ فمن أين لك هذا فقال يا أحمد وعزة المعبود لقد سمعت الجواب فيها كما سمعت سؤالك.

قال وحدثني بعض التجار من أهل بلدنا قال خرجنا مسافرين إلى حماة وكان قد بلغنا أن الطريق مخيف ووافينا الشيخ في خروجنا فقلت له يا سيدي قد بلغنا أن الطريق مخيف ونشتهي أن لا تغفل عنا ولا تنام وتدعو لنا فقال إن شاء الله تعالى فلما بلغنا حماة وأنا راكب على دابة وقد أخذني النعاس وإذا أنا بشخص قد وضع يده

ص: 399

في عضدي وقال نحن ما نمنا فلا تنام أنت ففتحت عيني فإذا بالشيخ فسلم علي ومشى معي وقال قد بلغنا حماة وتركني ومضى وحدثني الشيخ تمام بن أبي غانم قال كنا جلوساً مع الشيخ ظاهر البلد في زمن الربيع وحوله جماعة من الناس فقال وعزة المعبود أني لأنظر إلى ساق العرش كما أني أنظر إلى وجوهكم.

وسمعت الحاج مسلم بن حامد قال سئل الشيخ مرة عن الشيخ حياه وكان من خواص أصحابه وهو بمصر فقال ها هو جالس بخان مسرور وقد طبخ ليمونية وهو يأكل ورفاقه وهذه يدي معه في القصعة وهو قد أحس بها وعلم أنها يدي وسئل عنه مرة أخرى وكان بمصر فقال ها هو راكب على دابته ويتلو في سورة كذا وهذه يدي في عضده وقد رميته عن الدابة وقد علم أني أنا الذي فعلت به هذا.

ذكر ما كان عليه من المجاهدة والعمل الدائم كان كثير العمل دائم المجاهدة في نفسه ويأمر أصحابه بذلك ويلزمهم بقيام الليل وتلاوة القرآن والذكر دأبه لا يفتر عنه وفي كل ليلة جمعة يجعل لكل إنسان منهم وظيفة من الجمعة إلى الجمعة وكان يحثهم على الإكتساب وأكل الحلال ويقول أصل العبادة أكل الحلال والعمل لله في سننه شديد الإنكار على أهل البدع لا يأخذه في الله لومة لائم.

قال وأخبرني الشيخ إبراهيم بن الشيخ أبو طالب البطائحي قال قدمت على الشيخ فوجدته يعمل في النهر الذي استخرجه لأهل بالس

ص: 400

ووجدت عنده خلقاً كثيرين يعملون معه فقال لي يا إبراهيم أنت لا تطيق العمل معنا ولا أحب أن تقعد بلاب عمل فإني لا أحب أن أرى الفقير بطالاً من شغل الدنيا فاذهب إلى الزاوية وصل ما قدر لك فهو خير لك من قعودك عندنا بلا عمل ولا من عمل الآخرة وكان يحث أصحابه على التمسك بالسنة ويقول ما أفلح من أفلح ولا سعد من سعد إلا بالمتابعة فإن الله تعالى يقول (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني) وقال لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة وقال وما آتكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا وكان يقول ما اتخذ الله ولياً صاحب بدعة قط قيل له فإن اتخذه؟ قال يصلحه، وكان يقول رجال الشام أمكن من رجال العراق وأعرف وكان لا يمر على أحد إلا ناداه بالسلام حتى على الصبيان وهم يلعبون ويداعبهم ويتنازل إليهم ويحدثهم وكنت أكون فيهم وكان يتفقد أصحابه ويعود المرضى ويسأل أصحابه من عنده مريض حتى يعوده فيتفقد الأرامل بنفسه ويقضي حوائجهم ويحمل ما عنده من نفقة وكسوة وغيرها وكان يسرع إلى إجابة دعوة الفقراء والمساكين أكثر من إجابة دعوة الأغنياء والأمراء وكان دأبه جبر قلوب الضعفاء من الناس قال وسمعت والدي رحمه الله يقول كان إذا عطش الشيخ وهو جالس في المجلس مع الناس قام فشرب بنفسه يريد بذلك تربية المريدين وكان عنده في الزاوية رجل كبير مسن وكان به قطار البول فأتخذ تحته شيئاً يقطر فيه البول فكان يقوم ويريقه بنفسه ويغسل

ص: 401

ما أصاب الحصير منه وكان يعلم المريدين كيفية الدخول على المشايخ والجلوس بين يديهم وكان لا يمكن أحداً من تقبيل يده ويقول إذا مكن الشيخ أحداً من تقبيل يده نقص من حاله شيء.

وكان شديد الحياء لا يقطع على أحد كلامه ولا يخجل أحداً بما يقول وإذا جلس على طعام طأطأ رأسه لئلا ينظر إلى أحد ولا ينظر أحد إليه وكان كثير الورع يتحرى في مطعمه وملبسه ويقول الدين الورع وهو أصل العبادة وكان يتورع عن أموال السلاطين والجند وكان عن مال العرب أشد تورعاً لا يأكل لهم طعاماً ولا يقبل لهم هدية وكان للعرب عادة يمرون كل سنة بأرضنا مرتين فإذا مروا لا يأكل مما يباع في السوق لا لحماً ولا لبناً ولا غيرهما بل يتأدم بالزيت وما كان من الأدم في البيت وكان في بدو أمره لا يأكل إلا من المباح يجمع الأشنان بيده وتارة يحصد فلما كبر وأسن كان يأمر من حوله من الفقراء والأصحاب فيخرجون إلى الصحراء فيزرعون زرعاً ويحصدونه فإذا حصل قال لهم لا ترفعوه حتى تدفعوا إلى السلطان نصيبه منه وكانوا يفعلون ذلك قال وأخبرني الشيخ أبو المجد بن أبي الثناء قال حدثني الشيخ طالب الحلي قال حضرت مع الشيخ في وليمة فلما حضر الطعام قدم بين يدي قصعة طعام وكان لي بصيرة فنظرت فإذا الطعام الذي فيها حرام فتوقفت عن أكله فقال الشيخ للخادم يا فلان امض إلى ذلك الفقير وارفع القصعة التي بين يديه فإن بينه وبينها خصومة فجاء الخادم ورفع القصعة من بين يدي وجاء بقصعة غيرها.

ص: 402

وصنع له بعض أصحابه في بعض الأيام طعاماً فيه جزر فلما وضعه بين يديه قال له الشيخ من أين اشتريت هذا الجزر فإنه حرام فقال من السوق فقال امض إليه واسأل عنه من أين اشتروه فمضى وسأل عنه فوجده قد اشترى من طعمة المكاسين.

قال وأخبرني الشيخ معالي بن رسلان كنت عند الشيخ فدخل عليه رجل فقال له الشيخ أي شيء أكلت فذكر طعاماً فقال الشيخ إنه حرام إني أرى يخرج من فيك دخان فذهب الرجل وسأل عن ذلك الطعام فوجده كما قال الشيخ فاستغفر الله تعالى منه.

وكان رضي الله عنه زاهداً في الدنيا كثير التقلل منها بكل ممكن فمن ذلك ما حدثني الشيخ أبو المجد بن أبي الثناء قال حضرت عند الشيخ في المرض الذي مات فيه فقال يا بني أنا في هذا المرض أموت فبكيت فقال ما يبكيك أتظن أني أجزع من الموت لا والله يا بني وذلك أني عاهدت الله عهداً وأنا ألقاه به فقلت يا سيدي ما هو؟ فقال أن لا أموت وعندي من الدنيا شيء وكان كما قال رضي الله عنه فإنه مات وليس عليه زيق ولا عمامة لكن ملتحف بعباءه وكان عندنا بعضها نتبرك به ونجد أثر بركته ولم تزل عندنا إلى فتنة التتار فذهبت فيما أذهبه الله تعالى قال وسمعت والدي رحمه الله يقول قدم على الشيخ جماعة ولم يكن عنده ما يقدم لهم وكان بعض أخوتي صغيراً وفي يده شيء من السكر يعلل به كما جرت به عادة الصغار فأخذه وذقه

ص: 403

ووضعه بين أيديهم وقال هذا الذي حضر عندنا في الوقت وكان من عادته لابد أن يضع للضيف ما تيسر إحضاره.

قال وحمل إليه مرة الملك الكامل على يد فخر الدين عثمان خمسة عشر ألف درهم فلم يقبلها ولكن قال لا حاجة لنا بها أنفقها في جند المسلمين.

وحكى لي بعض الفقراء قال حضرت مع شيخي في زاوية الشيخ إبراهيم التيمي بحلب وحضر عنده صاحب شيزر وأحضر معه أربعة آلاف درهم فلم يقبلها الشيخ قال وكنت قد أملكت على إمرأة وأمرها موقوف على ستين درهماً فمد الشيخ يده وعد ستين درهماً وقال قم يا فلان وخذ هذه الستين ودفع إلى آخر ثلاثين درهماً كانت عليه دين وقال لصاحب المال خذ مالك.

قال وسمعت والدي يقول حمل بعض الأغنياء إلى الشيخ ثلاثة آلاف درهم فدعاني وقال يا بني فرقها على الفقراء والضعفاء من الناس ففرقتها كما قال ولم يبق منها شيئاً لأهله وكانوا على حاجة رضي الله عنه يؤثر الخشن من اللباس والطعام ويقول ما للفقير الطيب من الطعام واللباس إنما ذلك للأغنياء المترفهين وكان غالب قوته خبز الشعير.

قال وأخبرني الشيخ عمر بن مريريك الجعبري قال عزمت على

ص: 404

الحج ولم يكن معي شيء

فجئت إلى الشيخ لأودعه فقال لي عزمت على الحج فقلت نعم يا سيدي غير أن وقتي فقير فقال لي خذ هذين الدرهمين واجعلهما معك ولا تنفقهما فاخذتهما وفعلت كما قال وجئت إلى دمشق ففتح الله تعالى علي فيها بزاد وراحلة وبمائتي درهم فلما حججت وعدت إلى بالس بدأت بالسلام على الشيخ فلما سلمت عليه قال ما فعلت بالدرهمين فأخبرته بما فتح الله تعالى علي ببركتهما فقال قد قضيت بهما حاجتك فهاتهما فقلت لاوالله لا أدفعهما إلى أحد فتبسم وتركهماوما زالا معي ألتمس بركتهما حتى أذهبهما الله مني.

قال وحدثني الشيخ سيف الدين أبو بكر الجرديكي من أصحاب الشيخ أبي الفتح الكناني قال خرجنا مع شيخنا الشيخ أبي الفتح إلى زيارة الشيخ فلما قدمنا عليه أقمنا عنده شهراً وكنا ثمانية عشر رجلاً فلما أردنا السفر استأذناه فلم يأذن لنا وقال لنا لم نجد لكم ثقلاً ولا كلفةً إنه من حين قدمتم علينا وضعت تحت السجادة فلوساً هي ثلاثة دراهم ونحن ننفق منها وهي إلى الآن لم تفرغ أو كما قال.

قال وأخبرنا الصاحب محيي الدين بن النحاس قال كان لي بستان وكان فيه تين ماسوني كبار وكنت أؤخره إلى آخر السنة فقدم علينا الشيخ في آخر السنة فأهديت له من ذلك أربعين تينة وكان وزنها أربعة أرطال بالحلبي وحملها معي إليه ولدي يوسف وكان الشيخ في مشهد قرية علم والناس عنده وهم خلق كثير فقال يا محمد ما هذه الهدية؟ فقلت له تين فقال هذا اليوم طرفة وهو يشتهي وقال للخادم عد الناس

ص: 405

كم هم فعدهم فإذا هم مائتان وأربعون رجلاً فقال للخادم أعط كل واحد منهم واحدة ولا ترفع المنديل عن الطبق فاستحييت منه لعلمي أن التين أربعون واحدة فمد يده ووضعها على فخذي قال طيب قلبك لو كانوا ما عسى أن يكونوا لكفاهم ففرقه الخادم على الناس واحدة واحدة ودفع إلى الشيخ واحدة وأخذ الخادم واحدة ودفع إلي واحدة وإلى ولدي واحدة فلم أر أكثر بركة منه.

وعنه أيضاً قال بلغني أن الشيخ في قرية تريدم فخرجت إلى زيارته فمررت بسوق الفاكهة فوجدت بطيخة باكورة السنة تباع فيه فاشتريتها بسبعة دراهم وقلت لعل الشيخ يراها فيدعو لنا وللمسلمين بالبركة فلما جئت بها ورأها قال اللهم بارك لنا وللمسلمين في سنتنا وبلدنا وصاعنا ومدنا الحديث وطلب سكيناً فحزها فكنت أراها تربو بين يديه وتزيد وفرقها على أهل القرية كلهم الرجال والنساء والولدان وفضل منها وكان لا يضع يده في شيء إلا أكل منه الجم الغفير رضي الله عنه قال وحدثني الشيخ عبد الله الكفربلاطي قال دعونا الشيخ إلى قريتنا وجاء معه خلق كثير ولم يكن عندنا ما يكفي الناس فاجتمع جماعة القرية يفكرون في أمرهم فبينما هم مجتمعون في المسجد إذ جاء خادم الشيخ فقال الشيخ يدعوكم فجئنا إليه وهو في المسجد فقال امضوا وأحضروا ما عندكم فإن فيه بركة وكفاية ويكفي الناس وفضل إن شاء الله تعالى.

فأحضرنا الذي كان عندنا فأكل الناس وفضل منه كما قال رضي الله عنه قال وحدثني غير واحد من أصحابه أنهم شهدوا

ص: 406

غير مرة الطعام يوضع بين يديه فيأكل منه الخلق الكثير ثم يرفع وهو كما كان أو أزيد مما كان وكان عندنا نحن عكازته فكنا نضعها في الشيء اليسير من مؤنتنا فنأكل منه نحن ومن يرد علينا من الفقراء وغيرهم السنة الكاملة ويفضل منه ولم تزل عندنا نلتمس بركتها إلى أن أذهبها الله تعالى في فتنة التتار سنة تسع وتسعين وست مائة.

قال وأخبرني والدي قال سمعت الشيخ يقول كنت معتكفاً في مسجد في شهر رمضان فدخل علي بعض أولياء الله تعالى فلم أعرفه لعلو مقامه فلما كان وقت الإفطار لم يكن سوى خبز من شعير ولبن حامض أفطر عليه، فقلت في نفسي إذا صليت مغرب أتركع بعدها لعل بعض الجماعة يعزم عليه فيطعمه أصلح من طعامي قال فتركت طويلاً ثم إلتفت فلم أجد أحد في المسجد غيري وغيره فقلت فما بقي إلا أن أعزم عليه فقلت له يا سيدي قد حضر ههنا شيء نفطر عليه عن أذنك نحضره فقال بل أنت في ضيافتي، فلما تكلم كشف لي عن مقامه وإذا هو القطب، فنهضت وتمثلت بين يديه فقال أجلس فجلست فمد يده وتناول شيء من الغيب ووضعه بين يدي وقال كل فأكلت فإذا هو خبز حار وسمن وعسل فأكلنا وفضل منه شيء كثير خذه فقال أذهب به إلى أهلك وعد إلي بسرعة ففعلت ما قال وعدت إليه فقال لي قد أمرت في هذه الساعة بالمسير إلى العراق فقام وقمت معه فلما أقبلنا على باب البلد انفتح وخرجت معه وودعني وقال لي يا أبا بكر أبشر إنه لن

ص: 407

تموت حتى تبلغ هذا المقام وغاب عني فلم أره رضي الله عنه.

ومما أظهره الله تعالى له من الكرامة بعد موته أن بعض التجار من أصحابه خرج مسافراً إلى مصر للتجارة في أوائل سنة اثنتين وتسعين وستمائة فقتله قطاع الطريق فبلغنا الخبر بدمشق ولم نعلم له قاتلاً فبينما نحن كذلك إذ رأى بعض الفقراء من أصحابه الشيخ في المنام فقال له يا فلان الذين قتلوا فلاناً قد جمعناهم بمكان كذا وكذا بدمشق فامضوا وخذوهم وهم أربعة نفر فمضينا إلى ذلك المكان فوجدنا منهم اثنين فأخذوا وأحضروا بين يدي نائب السلطان وهو يومئذ الأمير علم الدين الشجاعي فقال لهم أين رفاقكم قالوا دخلنا في هذا اليوم إلى هذا البلد ونحن أربعة فمضى منا اثنان إلى الصالحية وهم في مكان كذا وكذا فمضينا نحن إلى ذلك المكان فوجدنا فيه واحداً فأخذناه وكانت هذه الواقعة يوم السبت ثمان صفر من السنة المذكورة فلما كانت ليلة الأحد من الأسبوع الثاني رأى بعض الفقراء أيضاً الشيخ وهو يقول يا فلان قد جئنا بالغريم الرابع وقد حصرناه في بئر في جبل الصالحية في مكان كذا وكذا معروف بالصالحية فمضينا نحن وأعوان السلطان إلى ذلك المكان وأخذناه من البئر كما قال الشيخ رضي الله عنه وصلب الغرماء الأربعة يوم الأثنين، وكان يوماً مشهوداًمشهوراً بدمشق وكانت قصته طويلة فأختصرنا منها هذا القدر خشية التطويل وفي هذه القصة أنشد الشيخ الإمام العالم المفيد شمس الدين محمد بن عبد القوي

ص: 408

المقدسي لنفسه:

إن كنت تهوى أن تعيش مسلماً

وتفوز في الأخرة بدار سلام

فدع التعرض للرجال ذوي النهى

والجد والأحوال كابن قوام

أو ما ترى كيف أستقص لواحد

من صحبه من أربع بتمام

لا تحسبن الموت يوهن جاههم

كلا ولكن زيد في الإعظام

ومن ذلك أن بعض أصحابه التجار كان بدمشق وقد اجتمع عنده ثلاثون ألف درهم في قيسارية فرآه بعض السراق وكان في أعلى القيسارية فأخذ حبلاً وتدلى به من أعلى المكان إلى أسفله ومعه ما يقطع به القفل فقطعه وفتح الباب وأخذ المال وربطه بحبل وصعد إلى دائر المكان وأراد أن يتقيه فانقطع الحبل بالمال وقصر عن المكان وعجز السارق عن النزول فرأى بعض أصحاب الشيخ في الساعة وهو نائم في القيسارية أن الشيخ دخل عليه وقال له يا فلان قم إلى الحاج أحمد بن صالح وقل له أن السارق قد أخذ ماله وأني تعلقت في الحبل حتى قطعته فليقم وليأخذ ماله وليتصدق منه بكذا وكذا وقال أيضاً للرائي وأنت يا فلان قد سقط منك مائة دينار منذ أيام في قيسارية المعتمد قدام دابتك ولي أيام أحجب عنها الناس لكيلا يأخذوها فقم وخذ مالك فقام الرجل من ساعته وأخبر بالرؤيا فقام الجماعة فوجدوا الأمر كما أخبر به رضي الله عنه.

ومن ذلك أن بعض أصحابه سافر من مصر إلى دمشق فانقطع

ص: 409

له جمل بوادي نجمة وعليه حمل قماش ومضى الرفقة وتركوه فجعل يسأل الله تعالى بالشيخ فقام الجمل وسار حتى لحق بالقافلة فسألوه عن سبب قيامه فقال ما عملت غير أني سألت الله تعالى بالشيخ فقام فرأى بعض أصحاب الشيخ وهو بدمشق الشيخ في منامه وقال له يا فلان قل لفلان أنه لما سأل الله تعالى بي أوجدني الله عنده فأقمت الجمل بإذن الله تعالى وألحقت به القافلة.

قال ومن ذلك ما أخبرني به الحاج علي بن حامد بن مسلم قال كنا في البحر وهاج حتى أشرفنا على الغرق فسألت الله تعالى ببركة الشيخ فبينما أنا أسأل الله تعالى إذ رأيت الشيخ وهو مار في الهواء فسكن البحربإذن الله تعالى وسلمنا والحمد لله فهذا ما شهد منه بعد الموت رحمه الله تعالى.

ص: 410