الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التعددية
التعددية هي فرع عن الليبرالية التي هي فرع عن العلَمانية، والديمقراطية الغربية تجعل التعددية من صور الحرية التي هي أحد أركانها، والحرية هنا حرية زائفة، يُقصد بها العبودية للعقل الغربي في توصيف حتى معنى الحرية.
والتعددية تعني أن يسمح في المجتمع بالاختلاف والتعدد في كلّ شيء، حتى لو كان هذا الاختلاف بين الحق والباطل، بل لا يوجد في التعددية، حق مطلق، وباطل مطلق، ولهذا ترى التعددية أن الاختلاف مهما كان هو في حد ذاته ظاهرة محمودة بإطلاق، تجب رعايتها، وتشجيعها، ومحاربة من يقف في طريقها.
وحتى لو كان في المجتمع من يعبد إبليس نفسه، فيجب أن يُسْمَح لهم ـ في نظر التعددية ـ بإظهار دعوتهم، وتمكينهم من دعوة الناس إليها، ونشر كل ما يزينها ويشجع على اعتناقها، وعلى الصعيد السياسي يجب أن يسمح لهم بتأسيس
حزب سياسي يحمي معتقداتهم، ويسمح لهم بنشرها.
وكذلك يجب أن يسمح العالم كله بعبور كلّ العقائد، والأفكار، والديانات، ونشرها عبر المجتمعات من غير حَجْرٍ ولا تضييق ولا مَنْع.
والعجب من التعددية ـ كسائر ما يأتي من الغرب الأعور المنافق ـ أنها عندما يأتي دور الإسلام، لا يُسمَح لهُ بالتعددية، بل يحارَب حربًا شعواء، ويضيَّق عليه، كما فعلت فرنسا مع الحجاب، فإنها عندما رأت انتشار الحجاب في المدارس، أعلنت حربًا على التعددية الثقافية، بل الحرية الشخصية.
ومن الأمثلة الأخرى تلك القوانين الغربية التي تحظر مناقشة تاريخ الهولوكوست، (المذبحة اليهودية المزعومة)، ولا تسمح هنا بالتعددية في الآراء، وقد تمت مطاردة عدة مفكرين غربيين قضائيًّا، ومنهم مَن سُجن، لتشكيكهم في صحة وقوع الهولوكوست بالصورة التي يزعم اليهود أنها وقعت بها.
حكم التعددية:
الأصل الجامع لهذا الدين، وكل دين أرسل الله به المرسلين والنبيين، أن الله سبحانه وتعالى أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، أن يُعلوا أحكام هذا الدين، وهو كلمة الحق، وأن ينصروه، وأن يقيموا العدل، وينصبوه، وأن يمنعوا الباطل من العلوّ والظهور، وكذا الظلم والفجور.
ومعيار العلم بالحق والباطل، إنما هو الوحي، هو الحق وماذا بعد الحق إلا الضلال، قال تعالى:{فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112)} (هود: 112 - 113).
وذلك أن الله سبحانه وتعالى هو الحق، وهو ربّ الناس، ملك الناس، إله الناس، له الأمر كلّه، كما له الملك والخلق كلّه، وقد أقام هذه السموات والأرض على الحق والعدل، وأنزل الوحي، حاكما بين الناس، وأمر المرسلين والمؤمنين أن يقوموا به في الأرض، ويجاهدوا في سبيل إقامته، بالعلم واللسان، وبالقوة والسنان.
قال تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)(الحج: 41).
فأمر الناس أن يقيموا دين الله وأن يجتمعوا عليه، ولا يتفرقوا.
والقرآن مليءٌ بالأمر بالاجتماع على الحق ومدحه، وذَمِّ الافتراق عنه والتفرق فيه، والأمر بجهاد الباطل وأهله، وقد سماهم أهل الشقاق، وأهل النفاق، وأهل الكفر، أو الفسق والفجور، وجمع لهم أوصافَ الذمِّ وأسماءَه.
هذا هو الأصل العظيم الجامع، الذي أقيمت عليه شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الإسلام، بل جًعِلَ النظام السياسي كله قائمًا على هذا الأصل، فمقصوده إظهار الحق الذي تحمله الأمّة بالوحي، إظهاره أي جَعْلُه ظاهرا بالقوة والعلوّ، بين المؤمنين، وعلى الأرض كلها بجهاد الطلب.
غير أن هذا لا يعني أنه ليس في الإسلام مساحة لتعدد الآراء، والتسامح في الخلاف، مادام ذلك لا يكون في دائرة المحكمات، والثوابت، ومثال ذلك المسائل الاجتهادية التي لا نص فيها، لأن الله سبحانه وتعالى شاء بحكمته أن يكون فيما أنزل محكمات هنّ أمّ الكتاب، يجتمع عليها أهل الحق ولا يتفرقون، ومتشابهات يجري وقد يسوغ فيها اختلاف النظر والاجتهاد.
وكذا يقِرّ الإسلام التعددية في الأفكار والابتكارات العلميّة الدنيوية، والعادات المباحة، ونحو ذلك مما فطر الله الخلق على التنوّع فيه، لأن ذلك من طبيعة الخلق التي فطر الله الناس عليها، وهي تُثْرِي المجتمعات، وتُضْفِي عليها تلونًا جميلًا، فهو أمر محمودٌ مطلوب، ومازالت أمتنا تحوي هذا التنوع المحمود في تاريخها منذ عصر الصحابة من غير نكير.
هذا ولم تزل أمتنا الإسلامية مزيجًا متنوعًا رائعًا من شعوب شتى، تختلف في عاداتها وألوان فنونها، ومعايشها، ولغاتها، غير أنها تجتمع على ثوابت الأمة العامة وهي أصول هذا الدين العظيم.
أما التعددية في عُرْف العصر، فإنها يُقصَد بها في الغالب عند الإطلاق، السماح بما يسمى التعدد الثقافي ـ والسياسي تبع له ـ القائم على أصول تناقض أصول الشريعة، وليس المقصود هنا ـ في هذا العرف العصري ـ السكوت عن الباطل ما بقي اعتقادًا بالقلب، أو إقرار أهل الأديان التي يكونون أهل ذمة على دينهم وعباداتهم، بالشروط الشرعية المرعية.
بل المقصود بتلك التعددية الإذن بإظهار الدعوة إلى الكفر، والمنكر، وحماية الداعين إلى ذلك بالقوانين، كما تنص على ذلك الدساتير العلمانيّة الوضعيّة تحت شعار الديمقراطيّة.
فهذا من الكفر، بل هو الكفر نفسه، ومن الواضح أن هذا ليس من التعددية في ثقافة أمة في شيء، بل هو اختراق ثقافي لها، وغزو عقدي من ثقافة أمة إلى أمة أخرى، فتسميته تعددية من التلاعب بالألفاظ.
والحاصل:
أن التعددية بالمفهوم العصري ضلال مبين يتناقض تناقضًا تامًّا مع التعددية في عرف الإسلام.
مع أنه يجب أن يُعلَم أن ثمة فرق كبير بين التعاطي مع واقع سياسي مخالف، لم يصنعه الإسلام، التعاطي معه بما يحقق مصلحة المسلمين، وبين إقامة أو المشاركة أو الدعوة إلى إقامة هذا الواقع المخالف باسم الإسلام.
وذلك أيضا كما يجوز للمسلم أن يرتكب أدنى الضررين ليدفع أشدهما عند التزاحم، ولا يجوز له أن يصنع الضررين
بنفسه، ليختار أدناهما ضررا!!
ومن الأمثلة على هذا أن المسلمين لا يجوز لهم أن يطالبوا بقضاء لا يقضي بالشرع، ولا أن يشاركوا في صناعة هذا النظام، لكن إن وجدوا في نظام قضائي يخالف الشرع، جاز لهم التحاكم إليه إن اضطروا لرفع الظلم عنهم، كما رفع نبي الله يوسف عليه السلام شكايته على ظلم الوزير، إلى الملك الكافر، رسالة مع ساقي الملك الذي يسقيه الخمر.
فالعجب والله كل العجب ممن يقول، إن هذه الأحزاب المخالفة للإسلام ودعوتها إلى كفرها وضلالها، واقع ما له من دافع، فلماذا لا نقنن هذا الواقع بما يحميه، وينظّمه، ويشرّعه؟!
فما مثل هذا القائل إلا كمثل من يرى الخمر قد شاع شربها، والفاحشة قد ذاع فعلها، فدعا إلى تشريع ينظم العصابات القائمة على هذه المنكرات، وتنظيمها في ناظم يقنّنها!!
بل الدعوة إلى تنظيم الداعين إلى المنكر في الاعتقادات،
والعلم، والتصورات التي تفسد الإيمان، وتقنين دعوتهم، أشد قبحًا، لو كانوا يعلمون.
وأخيرًا:
فإن هذه التعددية العصرية الزائفة، ما هي إلا خداع ألقاه إلينا مفكرو الغرب التائهون، فاغتر به مَن خضع لضغط هذا الواقع الجاهلي المزيّف، لتبقي هذه الأمة في حال الفرقة والخلاف.