المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ عبد الحميد بن باديس - سلسلة جهاد شعب الجزائر - جـ ٧

[بسام العسلي]

فهرس الكتاب

- ‌الفصل الأول

- ‌ نظرية الاستعمار الإفرنسي(وتطبيقاتها في الجزائر)

- ‌ حرب الحضارة الصليبية ضد الإسلام

- ‌ الأهداف التربوية للتعليم الاستعماري

- ‌ الفرنسة والتنصير ونتائجهما

- ‌ الانهيار الكبير

- ‌أ - (تلك كانت حياة الجزائر سنة 1925:

- ‌ب - أحمد بن عليوة والرحمانية

- ‌ج - ضحية من ضحايا الاستعمار (الشيخ عبد الحليم بن سماية)

- ‌د - ضحية أيضا من ضحايا القهر الإستعماري - عمر راسم

- ‌هـ - احتفال فرنسا بمرور مائة عام على احتلال الجزائر

- ‌الفصل الثاني

- ‌ عبد الحميد بن باديس

- ‌ جمعية العلماء المسلمين الجزائريين

- ‌ مدافع الله ونهاية رحلة العمر

- ‌ إخوان عبد الحميد في الجهاد

- ‌أ - الشيخ محمد البشير الإبراهيمي

- ‌ب - الشيخ مبارك بن محمد الميلي:

- ‌ج - الشيخ أحمد توفيق المدني

- ‌د - الشيخ الطيب العقبي:

- ‌هـ - الشيخ التبسي:

- ‌ تيار الأصالة الثورية في الجزائر

- ‌أ - الشاعر محمد العيد

- ‌ب - أحمد رضا حوحو

- ‌ج - الشيخ إبراهيم بن عمر بيوضوتجربته التربوية الرائدة في ميزاب

- ‌(محتوى الكتاب)

الفصل: ‌ عبد الحميد بن باديس

1 -

‌ عبد الحميد بن باديس

ما أظلمت دنيا المسلمين يوما إلا وارتفع في سمائها نجم يتألق ليهدي التائهين سواء السبيل. وما اشتدت الخطوب في عالم العرب المسلمين يوما إلا وظهر رائد يصدق قومه الهداية، ويسير بهم نحو الدرب القويم. وقد ظهر في الفصل الأول، ما وصلت إليه الجزائر المجاهدة الصابرة في حكم الاستعمار والمستعمرين. حيث بلغ اليأس منتهاه، وحيث بلغ القنوط غايته.

وفي وسط الظلمة الحالكة، ظهر ذلك الإنسان المسلم المؤمن، فأشرقت له دنيا الجزائر، والتفت حوله فئة من المجاهدين الصابرين، كأنهم كانوا على موعد مع قدر أمتهم. وكان عليه، وعليهم، شق الطريق، وسط صعوبات لا نهاية لها. ذلك هو عبد الحميد بن باديس. وقد وصفه أحد أقرب الناس إليه بقوله: (كنا هنالك جمعا صالحا لست أنساه، كانوا نحوا من عشرين رجلا، منهم الشيخ، ومنهم الكهل، ومنهم الشاب. إنما نور الإيمان والعزيمة الراسخة كان قد ارتسم فوق كل محيا،

ص: 93

كالفجر الصادق

وإننا لكذلك، فإذا بطلعة مهابة مشرقة أطلت علينا، فقام لها الجميع احتراما وتقديرا. ذلك هو الشيخ المجاهد المقدام - عبد الحميد بن باديس - وقد أخذ نجمه يتألق في سماء الكفاح، وأخذ اسمه يكتسح ميادين النضال، وأخذت بواكير أعماله الإصلاحية تبدد حجب الظلام الحالك

وكأن عبد الحميد بن باديس، كان الحادي عشر من ذلك الرعيل الأول الذي بعث به عمر بن عبد العزيز الخليفة الأموي، لهذا المغرب العربي، يعلم الناس دينهم ويجدد إيمانهم ويمتن أخلاقهم ويهديهم سبيل الرشاد. وقد لا يستطيع أحد وصف هذا الرجل العملاق

كان الرجل حذرا، إنه يشفق على مشاريعه العظيمة أن تخفق أو تصاب بنكسة، نتيجة لكلمة عابرة، ينقلها جاسوس، أو لتعبير يساء فهمه ويسوء نقله.

ولكن ها هو الآن - وبعد سنوات من الجهاد - وقد أصبح رجلا مكتملا هادفا، لقد أخذ يشق طريقه قدما نحو غايات بعيدة لم يكن يفصح عنها، إنما كانت تفصح عن نفسها من خلال كلماته. هذا رجل طلق الدنيا الرخيصة، بما فيها من شرور وأثام، وبما تحتويه من مباهج ومغريات، وأقبل على الدنيا الصالحة، دنيا العمل والجهاد، والتضحية والفداء. وبذل النفس في سبيل نفع المجموعة الجزائرية خاصة والأسرة الإسلامية عامة.

ولد عبد الحميد بن محمد المصطفى بن مكي بن باديس في مدينة القسنطينة - المدينة التي طالما أتعبت قوات الغزو الاستعماري منذ أيام واليها أحمد باي. واحتفظت بكل أصالتها

ص: 94

لأكثر من سبب، أولها انفتاحها على الأقاليم والأرياف المجاورة لها. وثانيها بعدها عن العاصمة التي بقيت مركز ثقل الوجود الاستعماري. ولهذا فقد وقع على قسنطينة عبء الاحتفاظ بأصالة الجزائر كلها. فلا غرابة أن تكون مهدا لحركات المقاومة، وأن تحتضن كل الحركات الإصلاحية، ثم أن تدفع للثورة ضد الاستعمار بأكبر عدد من رجالها وأبنائها.

وهكذا ففي هذا المحيط الفاضل ولد ابن باديس سنة 1305 هـ = 1889 م. وبدأ خطواته الأولى في التعلم بمدارسها حتى إذا أكمل تعليمه، تاقت نفسه لانتهال المزيد من العلم. ووجد في والده (محمد المصطفى) خير مشجع للمضي على درب العلم والمعرفة، ولا ريب أن الوالد قد وجد في ابنه من الفضائل ما بعث فيه الأمل (ببعث أمجاد البيت الباديسي الشهير في التاريخ بتأسيس الدولة الحمادية).

فقال له منذ أول عهده بتلقي العلم: (يا عبد الحميد - أنا أكفيك أمر الدنيا، أنفق عيك، وأقوم بكل أمورك، ما طلبت شيئا إلا لبيت طلبك كلمح البصر، فاكفني أمر الآخرة. كن الولد الصالح العالم الذي ألقى به وجه الله).

وترددت دعوة الأب بأصدائها القوية في أعماق نفس عبد الحميد، فمضى في سنة 1908 إلى تونس الخضراء - حيث منارة العلم الإسلامي في جامعة الزيتونة - وانصرف ينهل من ينابيع العلم الصافية، حتى إذا ما مضت عليه أربعة أعوام من الجهد المتصل والعناء المستمر، أدرك أنه بلغ المرتبة التي تؤهله للانتقال من

ص: 95

عالمه النظري إلى العالم العملي، أو من الجمع والتحصيل إلى العطاء والإفاضة، للإفادة مما علم وتعلم، وكان لا بد له قبل هذا التحول من إكمال فرائضه الدينية، فمضى في سنة 1912 إلى الديار المقدسة في الحجاز، حيث أدى فريضة الحج، وزار خلال رحلته بلاد مصر والشام، ليعود بعدها إلى قاعدته الصلبة في قسنطينة، مستقرا في مسجدها الشهير (الجامع الأخضر). وأخذ في ممارسة عمله - بكل ما في الشباب من إيمان وحماسة وبكل ما في الشيوخ من حكمة وسداد رأي، ولم يلبث طويلا حتى تكشف عن شخصية عملاقة، تفيض علما ونورا يضيئان العقول الضالة والنفوس التائهة.

وأخذت دروسه تجتذب إليها الفدائيين الصالحين، لا من مدينة قسنطينة وحدها، بل من كل جهات المشرق الجزائري، علاوة على أولئك الوافدين إليه من وسط البلاد وغربها. وأصبحت دروسه المختلفة، تجاوز العشر ساعات كل يوم، عامرة بمختلف علوم الدين - من فقه وعبادات ومعاملات - علاوة على ما كان يتخلل تلك الدروس من توجيه وإرشاد يتناسب مع الواقع العملي الذي كانت تعيشه الجزائر الصابرة المجاهدة في تلك الظلمة القاتمة.

وكانت روح الشيخ المؤمنة تفيض بالثقة والأمل، فتجاوبت لها النفوس وأطمأنت إليها القلوب. والشيخ بعد ذلك يتابع دوره باندفاع وحماسة شديدين، لا يتعبه الجهد ولا يناله النصب. ويزيد من حماسته واندفاعه ما كان يلمسه من تجاوب عميق في نقوس تلاميذه وأتباعه. وها هو يعبر عن هذه الحقيقة بقوله:

(إنني أرى حالة البلاد قبل دروس الجامع الأخضر وبعدها:

ص: 96

كان الجهل سائدا، والبدعة قائمة، والضلال مخيما، فإذا بهذه الثلة الصالحة من الطلبة الذين يرتادون دروسنا، تبث الفضيلة، وتنهى عن الفحشاء والمنكر، وتبين أمام الناس سبيل الخير والصلاح. والشباب في الجزائر كافة، وخاصة الذي لم تدنسه تعاليم فرنسا، ومباهج مدينتها الفاجرة، لا يزال مادة أولية - خاما - إذا ما نحن تداولناه بالدعوة الإصلاحية السلفية، جعلنا منه دعاة صالحين. يحثون على الخير، ويقضون على الخرافات والأباطيل، ويفتحون أمام الشعب أبواب الحياة السعيدة الحقة، التي توصدها فرنسا بكل ما ملكت من حول وطول).

ويدرك الشيخ عبد الحميد طبيعة المعركة التي يخوضها، وما هي عليه من الشمول والاتساع، مما يتطلب استنفار كل القوى المتوافرة، وزجها جميعها في معركة المصير، ويظهر ذلك في مقولته وهو يوجه حديثه إلى الشيخ أحمد توفيق المدني:(سواء أطال مقامك بالجزائر أو قصر، وسواء إن اهتديت إلى كفاح سياسي أو أخفقت، فهذا واجب عيني قد وضعه القدر فوق عاتقك. فابدأ كفاحك بهذا ريثما ييسر لك أسباب كفاح آخر. وكفاحنا هنا شاق، مرير، متعدد النواحي، مختلف الاتجاه. فأينما ضربت بسهم صائب في أي ميدان، كان نضالك مشرفا، وكان جهادك محمودا)(1).

والشيخ عبد الحميد، يخوض معركته معتمدا على أرضية صلبة

(1) حياة كفاح - أحمد توفيق المدني - 11/ 2 - 12 و18.

ص: 97

من الإيمان بالله والثقة بشعبه الجزائري المسلم، وقد أمده ذلك الإيمان وتلك الثقة بالقدرة على مجابهة التحديات مهما عظمت، وهو يقول في ذلك: (سجون واتهامات ونكبات: ثلاث لا تبنى الحياة إلا عليها، ولا تشاد الصروح السامقة للعلم والفضيلة والمدنية الحقة إلا على أسسها. وأمة أخذت تقدم الضحايا في سبيل سعادتها، حقيقة بأن تنال المادة وبأن تهنأ بها

ومن رام أن يحول بيننا وبين فكرتنا التي نؤمن بها، ويؤمن بها المؤمنون الصادقون، فقد حاول عبثا قلب الحقائق. ونحن لذلك لا نتزحزح عن تلك الفكرة قيد شعرة، مهما طال سيل الكوارث على أمة لها ما للشعب الجزائري من الصفات المرغوب فيها، الكامنة كمون النور في الكهرباء) (1).

غير أن ثقة عبد الحميد بن باديس غير المحدودة بشعبه الجزائري، لا تمنعه من إدراك واقعه المرير، وما آل إليه هذا الشعب من ضعف وتمزق بنتيجة الضربات الاستعمارية الشاملة. وها هو يقول: (برغم ما في الأمة الجزائرية من أصول الحيوية القوية، فقد عركتها البلايا والمحن، حتى استخذت وذلت، وسكنت على الضيم ورئمت للهوان، وبرغم ما بينها من روابط الوحدة المتينة، فقد عملت فيها يد الطرقية المحركة تفريقا وتشتيتا، حتى تركتها أشلاء لا شعور لها ببعضها، ولا نفع، تتخطفها وحوش البشرية من هنا وهناك، بسلطان القوة على الأبدان أو سلطان الدجل على العقول والقلوب.

(1) جريدة المقاومة - الجزائرية - 22 نيسان - أبريل - 1957.

ص: 98

ويدرك الشيخ أهمية الكلمة، فيعمل على إصدار (الشهاب). ثم (المنتقد) ويحدد لهما هدفهما (لسان الشباب الناهض بالقطر الجزائري) و (الوطن قبل كل شيء) ويقف بعد ذلك وقفة المتأمل - أو بحسب اللغة العسكرية (إعادة تقويم الموقف) - ليرى حصالة جهده، فيقول:(أعلن - الشهاب - من أول يوم، و- المنتقد - الشهيد قبله، سنة 1924 أنه - لسان الشباب الناهض بالقطر الجزائري. ولم يكن يوم ذلك من شباب إلا شباب أنساه التعليم الاستعماري لغته وتاريخه ومجده، وقبح له دينه وقومه. وقطع له من كل شيء - إلا منه - أمله. وحقره في نفسه تحقيرا) و (أعلن - الشهاب - من أول يومه، و - المنتقد - الشهيد قبله - أن - الوطن قبل كل شيء - وما كانت هذه اللفظة يومئذ تجري على لسان أحد بمعناها الطبيعي والاجتماعي العام. لجهل أكثر الأمة بمعناها هذا، ولخوف أقلها من التصريح به)(1).

وشعر يهود قسنطينة بخطورة ذلك النور الذي يشع من (الجامع الأخضر) فأخذوا - كعادتهم - في الكيد له، يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم وأبى الله إلا أن يتم نوره - ويشتد بهم الغيظ والحقد، حتى إذا جاء صيف سنة 1934، أقدم يهودي على استفزاز المسلمين عندما مر (بالجاح الأخضر) فشتم من به من المسلمين، وتطاول على شخصية الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم. وحدث الانفجار الدموي الرهيب بين المسلمين واليهود.

(1) صفحات من الجزائر - الدكتور صالح خرفي. ص 80 - 91 (عبد الحميد بن باديس والعروبة).

ص: 99

وظل الصراع أسبوعا كاملا قتل فيه (22) يهوديا. وعجزت السلطة الإفرنسية عن إيقاف - أو احتجاز الحماسة الدينية الملتهبة، والشعور القومي المتفجر، فاضطرت للتوسل إلى الشيخ عبد الحميد بن باديس والنائب الدكتور بن جلول، من أجل التدخل لتهدئة الموقف المتفجر الذي بات يتهدد الوجود اليهودي كله في القسنطينة.

هنا، لا بد من التوقف قليلا عند ظاهرة ما أطلق عليها اسم (مجزرة قسنطينة) والتي تجاوزات في مضمونها وأصدائها حدود الجزائر لتأخذ أبعادا عالمية. وقد يكون من غير الطبيعي، تفسير ما حدث في قسنطينة على أساس أنه مجرد رد فعل لاستفزاز (يهودي عابر) كما أنه من غير الطبيعي الأخذ بهذا الاستفزاز ذاته على أنه مبادرة فردية (ليهودي حاقد). ولعل هذه الحادثة تبرز أهمية الدور الذي كان يضطلع به (مسجد الجامع الأخضر) وإمامه (الشيخ عبد الحميد بن باديس) في نشر الوعي ضد الأخطار التي تتهدد العالم الإسلامي على أيدي الاستعمار والصهيونية، وأدى ذلك إلى تعاظم نقمة اليهود، فكان استفزاز اليهودي تعبيرا عن هذه النقمة، واختبارا لمعرفة ما وصل إليه التنظيم الإسلامي من القدرة في مدينة قسنطينة، وعندما أدركت السلطات الاستعمارية تعاظم قدرة (عبد الحميد بن باديس) فضلت تجنب مجابهته في ظروف غير مناسبة لها، ولجأت إلى أسلوب (التهدئة) عن طريق عبد الحميد ذاته (1).

(1) تجدر الإشارة هنا إلى ما كتبه (إيليا أبو ماضي - الشاعر اللبناني المهجري - في جريدة (السمير) ص 15 - آب - أغسطس - 1934. وتضمن ما يلي: (لا نخطىء =

ص: 100

المهم في الأمر، هو أن الشيخ عبد الحميد بن باديس، لم تصرفه قسوة الظروف التي كانت تعيشها الجزائر عن رؤية أبعاد الصراع، وشمولية المعركة، فالحرب ضد المسلمين هي حرب واحدة، سواء كان مسرحها الجزائر، أو كان مسرحها فلسطين، أو ابتعدت حتى أقاصي المشرق الآسيوي. وها هو الشيخ يعود في سنة 1938، ليقرع الأجراس محذرا من خطورة (الزواج غير الشرعي بين الاستعمار البريطاني والصهيونية العالمية، فيقول: (تزاوج الاستعمار الانكليزي الغاشم بالصهيونية الشرهة، فأنجبا لقسم كبير من اليهود الطمع الأعمى. وقذف بهم على فلسطين الآمنة والرحاب المقدسة. فأحالوها جحيما لا يطاق، وجرحوا قلب الإسلام والعرب جرحا لا يندمل

جاء الزوجان المشؤومان الصهيونية والاستعمار الانكليزي، فكانا بلاء على فلسطين ويهودها. فليست الخصومة بين كل عرب فلسطين

= التقدير إذا قلنا أن الصهيونية من أهم العوامل التي أثارت نقمة العالم الإسلامي على اليهود، فقد كان هؤلاء منظورا إليهم في كل بلد إسلامي كعنصر وطني. فلما حملوا لواء الوطن الصهيوني، وتسلحوا بوعد بلفور، تبدل موقفهم في العيون، وصاروا منظورا إليهم كقوم فاتحين غاضبين، يحاولون أن يطردوا العرب من فلسطين ليحلوا مكانهم ويؤسسوا دولة يهودية. فالصهيونية، وهي فكرة دينية، هي التي جعلت المسلمين ينهضون لمصارعتها باسم الدين، ولكل شيء آفة من جنسه

وخلاصة ما نراه، أن ثورة المسلمين على اليهود في قسنطينة هي ثورة المقهور، المجروح في كبريائه. ولكن بعض الجرائد الأمريكية في نيويرورك، لا تستلهم فيما تكتب عن هذه القضية غير مصالحها الخاصة، شأنها في كل قضية تتعلق باليهود). وقد أعادت صحيفة الشيخ ابن باديس - الشهاب - نشر هذا المقال - ج 10 - م 10 - 1934 (الجزائر والأصالة الثورية - خرفي - ص 38).

ص: 101

ويهودها، ولكن الخصومة بين الصهيونية والاستعمار الانكليزي من جهة، والإسلام والعرب من جهة، والضحية فلسطين، والشهداء حماة القدس الشريف، والميدان رحاب المسجد الأقصى، وكل مسلم مسؤول أعظم المسؤولية عند الله تعالى على كل ما يجري هناك، من أرواح تزهق، وصغار تيتم، ونساء ترمل، وأموال تهلك، وديار تخرب، وحرمات تنتهك، كما لو كان ذلك كله واقعا بمكة أو المدينة. إن لم يعمل لرفع الظلم الفظيع بما استطاع).

ومن المنطلق ذاته، منطلق الدفاع عن الإسلام ضد كل من ينال منه أو يتعرض له، وقف الشيخ عبد الحيمد بن باديس ضد المستوطن الإفرنسي في الجزائر (المعمر آشيل) الذي هاجم الإسلام، متبعا في ذلك خطوات المستشرق الإفرنسي (هانوتو) (1) فجابه بذلك (الإمام محمد عبده) ونشأت عن ذلك مقارنة ممتعة تعرض لها الكاتب الجزائري (الدكتور صالح خرفي) (2) بما يلي:

(كانت خطة الهجوم على الإسلام مبيتة مدروسة، متألبة ضد مبادئه التي تقض مضاجع الطامعين، وإن كانت خطة الدفاع بالعكس من ذلك، تبدو مدروسة، منسقة الأسلوب، ولكنها في

- (1) هانوتو: Hanotaux- Gabrielx مؤرخ ورجل سياسي فرنسي، من مواليد (بورفوار) مقاطعة الايسن - (1853 - 1944). تولى منصب وزير الخارجية في الفترة الأخيرة من القرن التاسع عشر، وانصرف بعد ذلك للكتابة، فألف كتاب (حياة أو تاريخ الكاردينال ريشليو) كما ألف بعد ذلك كتابه (تاريخ الأمة الإفرنسية).

(2)

صفحات من الجزائر - الدكتور صالح خرفي - ص 65 - 75.

ص: 102

الواقع دفاع تمليه عواطف كل مسلم، أنى شرق أو غرب، ويفرضها العدو المشترك. فهانوتو - فرنسي ومسؤول. وآشيل معمر فرنسي عاش في الجزائر. وقد عاش الاثنان في فترتين زمنيتين مخلفين من هذا القرن.

وفرنسا في الفترتين كانت تتطلع بجناحيها إلى كل من آسيا وأفريقيا، ولا تخطو خطوة فيهما إلا وجدت الإسلام يقف لها بالمرصاد. فانكب أصحاب الفكر في عاصمة النور - باريس - على دراسة الأساليب التي يزيحون بها الإسلام عن طريق أطماعهم. أو على الأقل يضمنون تحييده - مسالمته - في زحفهم إلى معاقله. فتولدت فكرة التهجم على الإسلام واستنقاصه، والنيل من تعاليمه، ومن النفوس التي تتسلح به، في وجه الامبراطورية الإفرنسية الزاحفة. فكانت الفكرة تنبعث من باريس لتمتد إلى المستعمرات الإسلامية في القارتين، ترود خطى الأفاقين الزاحفين، وتمهد الطريق بطلائع تبشيرية تحارب في الجبهتين: جبهة تركيز المسيحية، وجبهة تقويض الإسلام، وعلام الذهاب بعيدا، (فهانوتو) نفسه يقرر بأنه ودولته أصبحا مع الإسلام وجها لوجه، ويجب التفكير في أن تكون هذه المواجهة في صالح الاستعمار الإفرنسي على حساب الإسلام، وتطرفت النزعة الاستعمارية من جراء الإسلام المتربص لها في يقظة. ومن العجيب أن ينتشر هذا الجنون في وسط (النخبة الإفرنسية المثقفة) فيدعو البعض منها إلى نبش قبر الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة، ونقل جثمانه إلى متحف اللوفر في باريس.

ص: 103

وتباينت آراء المستشرقين المتعصبين ضد الإسلام، سلبا وإيجابا، لينا وشدة، واختلفت في معاملته كوسيلة، وإن كانت غاية الجميع واحدة، فالمهم: إما أن يستسلم هذا الإسلام للحضارة الأوروبية، ويخلي الميدان لإشعاعها، وإما أن يوطن أكنافه قنطرة من الوثنية الأفريقية إلى المسيحية حتى قال أحد مؤرخي الكنيسة الإفرنسية:

(إن الإسلام قنطرة للأمم الأفريقية، ينتقلون بها من ضفة الوثنية إلى ضفة المسيحية، فليس الواجب والحالة هذه قاصرا على معاملة الإسلام بالتساهل، بل لا بد من رعايته وتعضيده بأن نسعى في توسيع نطاقه، وترتيب الأرزاق على المساجد والمدارس، وجعله رائدا لمدنية فرنسا، وآلة نستعين به في فتح البلاد).

وتعبر المقولة السابقة عن (سياسة الهجوم غير المباشر) ضد الإسلام والمسلمين وذلك عن طريق استخدامه مرحليا لخدمة الأهداف الاستعمارية - الصليبية. ولكن (هانوتو) ومن بعده (آشيل) اختارا أسلوب الهجوم المباشر، وتسلحا بالعداء الصريح، وتصديا في مواجهة سافرة لحرب المسلمين. وإذا كان (هانوتو) قد اغتر ببصيص من الاستشراق ظنه الإشعاع الكافي الذي ينفذ به إلى أسرار الإسلام وغاياته البعيدة، يبعثرها يمنة ويسرة، في عشوائية أبعد ما تكون عن بصيرة العلم الراسخ. فإن (آشيل) قد اغتر بدوره أيضا بتلك المعرفة السطحية التي اكتسبها من خلال احتكاكه القليل بالمسلمين، ومن خلال بصره الأعشى إلى عقيدتهم

ص: 104

الإسلامية في الجزائر، فاعتقد في نفسه الخبرة الواسعة المخولة للتهجم عليه. وتلك وصمة الاستشراق ولا تزال، يزن المستشرق ثقافته في العربية، بميزان لغته الأصلية فتتجلى له القطرة بحرا ويزكو المأخوذ رغم ضآلته، وتبرر الوسيلة المفضوحة غايات وأطماعا استعمارية دنيئة، وينتج عن ذلك غرور بالنفس يقود إلى المنعرجات الملتوية.

وإذا كان (هانوتو) و (آشيل) يحملان من الحماسة للحضارة الأوروبية الصليبية ما دفعهما للنيل من الإسلام في عقر داره، وفي مستعمرات دخلوها ظلما وعدوانا، فإن أبناء الإسلام لن يكونوا أقل منهم حماسة واستماتة في سبيل عقيدة كانت - وستبقى أبدا - الحصن الحصين لهم ضد كل تهجم دخيل. لذلك، لم يعدم (هانوتو) من يجابهه بنفس الصراحة التي هاجم بها، فكان له -الإمام محمد عبده - بالمرصاد، وكال له الصاع صاعين، في بحر ليلة واحدة كتب فيها رده. ولم يعدم (آشيل) من يرد كيده في نحره، فكان له - عبد الحميد بن باديس -. وبين الردين - رغم الفترة الزمنية الفاصلة بينهما - تجاوب أصيل، فهما ينزعان إلى نبع واحد هو الإسلام، نزوع التهجم إلى حمأة إستعمارية واحدة، ويمثلان حركة إصلاحية متكاملة، إحداهما صدى للأخرى - صدى عفوي كما سبقت الإشارة إليه - تعززها لحمة توجيهية تصلها بواسطة الكتاب أو المجلة أو الزيارة الخاطفة، توزن بما تحمل من أسرار، لا بما يتسع لها الوقت من الدقائق المعدودة، كتلك الزيارة التي قام بها الإمام محمد عبده للجزائر في سنة 1903.

ص: 105

غير أن الأمر الواضح - وفي هذا الموقف بالذات - أن ابن باديس كان إلى الجرأة أقرب وهو ينازل خصمه. هذا بالرغم من الحرية الفكرية التي توافرت للإمام محمد عبده، وحرم منها ابن باديس. فقد واجه الأخير (آشيل) بوجه سافر، ونشر مقالاته بإمضائه الشخصي الصريح، واضعا نفسه أمام المسؤولية مباشرة، غير متخذ من اسم (جمعية العلماء) جنة تحميه، ولا من مجلة (الشهاب) درعا يتستر وراءه. ولم يلجأ إلى انتحال أسماء مستعارة؛ في حين نشر الإمام محمد عبده مقالاته ضد (هانوتو) بإمضاء (إمام من أئمة الإسلام) ولم يأذن لصاحب جريدة (المؤيد) التي نشرت له بالتصريح باسمه. وهكذا بالنسبة لكل مقالات محمد عبده في الرد على (هانوتو) التي جمعت في كتاب على حدة ستة 1900 ونسبت إلى (عظيم من عظماء الإسلام وإمام من أئمته) وهذا ما أشار رجال الفكر في مصر.

(فقد جزم أكثر أهل العلم والأدب في مصر، أن كاتب المقالات هو الإمام محمد عبده وذكروا له ذلك في مجلس خاص، وتوقعوا أن يتهلل وجهه، ولكنه فاجأهم بقوله ممتعضا: أنه لا يسوءه ويحزنه شيء كما يسوءه هذا القول، المتضمن لمنتهى ذم قومه وأهل بلده، بالجهل والعجز عن مثل هذا الرد الذي يجب أن يضطلع به أكثر أهل التعليم. ثم قال: ومن المصاب على المرء أن لا يستطيع الاستخفاء في هذا البلد الكبير، إذا ما أراد أن يظهر رأيه وأفكاره دون شخصه، إذا رأى مصلحة في ذلك). وكانت المصلحة من وجهة نظر الإمام - على ما يظهر هي الإبقاء على حركته الاصلاحية بعيدة عن سطوة القصر، وجبروت الحكم

ص: 106

العثماني، الذي لم يغفله بدوره، فتعرض له بنفد جارح في معرض رده على (هانوتو).

أما ابن باديس، فقد عاش التجربة في الجزائر، بأقسى مما عاشها محمد عبده في مصر. فقد نازل ابن باديس عدوا مجاورا له، وملاحقا منه، يملك من السطوة والسلطة والتأييد الرسمي ما يستطيع أن يمد به يد الإساءة إليه. فلم يستنكف الشيخ عن الصراحة السافرة. ولا تقاعس عن المجابهة المباشرة. بينما كانت يد (هانوتو) في باريس تقصر عن أن تمتد إلى الشيخ محمد عبده في مصر بسوء، ولو عن طريق غير مباشر، طريق الخديوي أو المعتمد البريطاني.

برزت بعد ذلك ظاهرة أكثر إثارة في الموضوع، فقد أقبل الشاعر أحمد شوقي على دعم الإمام محمد عبده وامتداح رده على (هانوتو). غير أن شوقي فعل كما فعل الشيخ محمد عبده، فلم يصدر قصيدته في مدح إجراء محمد عبده باسمه - وبصورة صريحة، وصدرت بعد ذلك في ديوان (الشوقيات المجهولة). وبالإضافة إلى ذلك، فقد تميزت قصيدة أحمد شوقي هذه ببرودة العاطفة، وضعف الروح الشاعرية التي اشتهر بها أمير الشعراء. وقد يكون السبب في ذلك - والذي دفعه إلى التنكر في نشر القصيدة باسمه - هو معاناته من الصراع بين الرغبة في إرضاء القصر الذي كان ينظر إلى الإمام محمد عبده بكثير من الحذر، وبين الشعور بالواجب لإنصاف الإمام والدفاع عنه ودعمه.

ص: 107

وعلى النقيض من ذلك فقد وقف شاعر الجزائر محمد العيد، خلف الشيخ عبد الحميد بن باديس، واشترك معه في الهجوم على آشيل بقصيدة مميزة بصدق العاطفة والإحساس النابض بالحياة. ولعل مجرد قراءة أولية للقصيدتين (1) كافية لتقويم موقف الرجلين من الحدث الواحد.

هنا لا بد من القول: بأن طبيعة المعركة التي خاضتها الجزائر قد أكسبتها من القسوة ما انعكس على موقف بن باديس ومحمد العيد، لقد كانت معركة حياة أو موت؛ معركة حاضر ومستقبل، عاشتها الجزائر المجاهدة بكل آلامها ونوائبها ومعاناتها، فكان الموقف الرائع لابن باديس والشاعر محمد العيد.

(1) انظر قراءات في آخر هذا الكتاب.

ص: 108