الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
5 -
الانهيار الكبير
استمرت فرنسا في محاولاتها الرامية إلى (تنصير المغرب العربي - الإسلامي - عامة) والجزائر منه بصورة خاصة. ولم تلبث حين احتلت الصحراء، أن وجهت إليها إرساليات. عديدة من (الآباء البيض) معتقدة أن هذه المناطق ستكون تربة خصبة لبذورهم. وبثت (الإرساليات البشيرية) الأخرى في كل مدينة وقرية.
غير أن هذه الجهود المكثفة اصطدمت بالعوائق المستمرة والعقبات المتتالية. وبرز احتمال فشل كل الجهود المبذولة مما أفزع المسؤولين عن (سياسة التنصير) والداعين لها. فبادرت السلطات الإفرنسية إلى إغلاق ما تبقى من المدارس - المكاتب - الدينية، وألقت بشيوخها في غياهب السجون والمعتقلات بحجة أنهم لا يحملون إجازات - تراخيص - رسمية من الدولة، تتيح لهم حق ممارسة التعليم. وراحت تحشو خطب أئمة المساجد - التابعين لها - بعبارات تنتقص من قيمة الدين الإسلامي وتنفر المسلمين منه
وأدرك المسلمون في الجزائر خطورة هذه الهجمة، فقاطعوا المساجد - الإفرنسية - التي ارتضى خطباؤها لأنفسهم ذل الخضوع لسلطان القوة. وراح كل فقيه وشيخ يجمع الطلبة في بيته، ويلقنهم مبادىء دينهم. وذعرت السلطة الاستعمارية لهذا الصمود، فراحت تزيد من اضطهادها للفقهاء والعلماء، ومضى هؤلاء لإظهار المزيد من الصمود، وعادت مساجد الأرياف خاصة لممارسة دورها وقد تحولت إلى ملاذ يلجأ إليه العلماء والطلبة المضطهدون، فرارا من قبضة السلطة القوية في المدن.
احتفظت هذه الجوامع بنظامها الذي يشبه إلى حد بعيد أنظمة المدارس الداخلية. فالطالب يتعلم وينام فيها، على نفقة الأبرار الأخيار، أو أهل القرية التي يقع فيها هذا المسجد - الجامع -. أما طلبة المكاتب القرآنية الغرباء، الموجودون في المدن، فإنهم يعتمدون في أمر معيشتهم على الصدقة والاستجداء، بعد أن منعت الإدارة الإفرنسية عنهم موارد الأوقاف، وبعد أن مضت لمحاربتهم بكل الوسائل. ولم يجد الطلبة في اللجوء إلى الاستجداء غضاضة طالما أن هدفهم النبيل، وهو تعلم العلم وتعليمه قد فرض عليهم أقسى أنواع الحرمان. وبات من الأمور العادية أن يطرق أسماع أبناء المدن الجزائرية - عند الظهيرة وفي المساء - صوت يأتيهم من الخارج وهو ينادي، (الموجود لله) فيعرفون أنه صوت الطالب القرآني الذي يعاني الفقر والعوز، ويقاوم البرد والجوع، في سبيل المحافظة على وجوده الإسلامي.
وقد لا يكون بعض أبناء المدن - أو معظمهم في تلك الحقبة،
أحسن حالا من طالب القرآن، غير أنهم لا يترددون في الإسراع إليه ومشاركته جهده وجهاده. وتجدر الإشارة هنا إلى ما عرف عن الجزائريين عموما من رغبة كبرى في تعلم القرآن وحفظه حفظا غيابيا - عن ظهر قلب - حتى أن نسبة حفظة القرآن في الجزائر ترتفع بين الذكور إلى نسبة 40 بالمائة. ويرجع الفضل في الإبقاء على جذوة الإسلام متقدة في الجزائر بالرغم من كل أساليب القمع والقهر إلى حملة الكتاب والمدافعين عن الإسلام من الفقهاء والعلماء الذين تصدوا بإيمان لا يتزعزع لصراع الاستعمار ومبشريه. فحافظوا بذلك على أصالتهم الإسلامية وحضارتهم العربية ودينهم الحنيف، في وقت حجز فيه الاستعمار جميع المصاحف، وأخلى البلاد والمكاتب منها، وأغلق المدارس والجوامع. وقذف بمبشريه إلى معركة التنصير.
وأسفرت هذه المعركة عن هزيمة الاستعمار ومبشريه ودعاته، وخرج حفاظ كتاب الله وهم أعزة بنصرهم، لقد نصروا الله فنصرهم وصدق الله وعده ونصر جنده. غير أن فشل الاستعمار في تطبيق سياسة التنصير لم يدفعه إلى اليأس، فمضى دهاقنته ومفكروه لاستخدام وسائل تبادلية: فإذا ما فشلت أساليب الهجوم المباشر، فلماذا لا يتم استخدام أساليب الهجوم غير المباشر؟ وإذا لم ينجح دعاة التبشير في إقناع المسلمين بتبديل دينهم، فلا أقل من صرفهم عن إسلامهم، والعمل على تشويه الإسلام ذاته بالخرافات والبدع.
وهكذا جندت فرنسا أجهزتها لبث التعاليم الدينية - المبتكرة - بواسطة أعوان لها ضعاف الأنفس والإيمان من الأئمة ورجال
الإفتاء والقضاة، وأصحاب الطرق الدينية خاصة ممن استحوذت عليهم شهوة الدنيا، واشترى الاستعمار عقولهم بالمال والألقاب، هادفا من وراء ذلك إلى النيل من سمعة الشريعة الإسلامية، وكان أول عمل قام به الاستعمار هو إرغام القضاة على عقد جلسات المحاكم الإسلامية في الأسواق العامة وعلى رصيف الشارع وفي المقاهي القذرة. وأخذت تختلق الخرافات والأساطير وتنسبها إلى العلماء والأولياء الصالحين. وشجعت على إقامة الولائم العامة وحفلات الزار (الوعادي) الذي أصبحت فيما بعد مراكز خطيرة لنشر دعاية الإستعمار الإلحادية، المتسترة بستار العلمانية - وبلغت إهانة فرنسا للدين الإسلامي حدها حين أنشأت الإدارة الاستعمارية (لجانا استشارية للشعائر الدينية في كل مقاطعة، يرأسها دائما أوروبي، ويكون أحد أعضائها ممثلا للشرطة).
…
وفي إطار الهجوم غير المباثر، تبنت الكنيسة - طوعا أو كرها - أساليب العمل لتشويه الإسلام، يدعمها في ذلك حكم عسكري صارم. ومن القصص الشهيرة في هذا المجال ما تم اكتشافه أثناء الثورة الجزائرية التحريرية - سنة 1954 - في بعض المناطق الشرقية، حيث ظهر أن بعض الأضرحة التي يؤمها الشعب ويتبرك بأعتابها لم تكن إلا قبورا لرهبان مسيحيين. ولم يصدق الشعب للوهلة الأولى ما يراه حتى وقت أنظاره على (الصليب في القبر). وبذلك قطع اليقين حبال الشثك (1).
(1) عن صفحات من الجزائر - الدكتور صالح خرفي - ص 324.
وفي إطار الهجوم غير المباشر على فضائل المسلمين، اتبعت فرنسا كل الأساليب التي توافرت (في حضارتها) من إشاعة للمحرمات، وتعميم للفواحش، وتشجيع على المنكرات، ويدخل في ذلك تشجيع السرقة والإجرام من أجل قتل الروح المعنوية لدى الشباب المسلم، ونشر الفساد والفوضى في أوساط الجزائريين حتى تضمحل القيم الفاضلة، وينصرفوا عن قضاياهم الأساسية إلى الأمور التافهة المهينة. وكان القضاء الإفرنسي يمارس دوره في دعم هذا الهجوم استنادا إلى قوانين تفرضها مصلحة السياسة الاستعمارية، ولهذا فإنها لم تكن لتمتنع عن إصدار حكم جائر ضد مواطن جزائري يجاهر بأرائه الوطنية، وحكمه بالسجن من خمس سنوات إلى السجن المؤبد مع الأشغال الشاقة، في حين تحكم هذه المحاكم على مجرم قاتل (شريطة أن يكون القاتل والمقتول جزائريين) بالسجن من ستة أشهر إلى خمس سنوات. هذا إذا لم يكن رجال الشرطة قد أطلقوا سراحه قبل تقديمه للمحاكمة حتى يمعن في إرتكاب المزيد من الجرائم. وما يقال في الجرائم والسرقات يقال عن الفجور والرذيلة، وسجل مثل هذه الأعمال حافل يندى له (جبين الحضارة).
…
وبعد، قد يكون من تجاوز الحقيقة القول:(بأن مخططات الاستعمار قد فشلت تماما، وأنها لم تحقق بعضا من أهدافها). فلقد استطاعت هذه المخططات إفساد فئة على الأقل، وجعلت منها أداة في قبضة الاستعمار. كما استطاعت الوصول بفئة ثانية