الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
4 -
الفرنسة والتنصير ونتائجهما
ما إن أحكمت فرنسا قبضتها على الجزائر، وفرضت وجودها الاستعماري بالحديد والنار، حشتى أخذت في دعم هذا الوجود -بحسب ظنها - عن طريق تطبيق مجموعة من الأنظمة والقوانين لفرنسة الجزائر وتنصير سكانها، وكانت المقولة التي تعبر عن هذا التفكير السقيم هي:(أن جبال الأطلس هي جبال الألب، وأن (نهر الشلق)(1) هو نهر السين. وأن الصحراء هي المروج، وأن اللغة العربية هي الإفرنسية، وأن الغسلام هو المسيحية، وأفريقيا هي أوروبا).
من المعروف أن بريطانيا قد استعمرت بلادا عديدة، من بينها الولايات المتحدة الأمريكية والهند، كما عملت إسبانيا على استعمار دول أمريكا اللاتينية - أمريكا الجنوبية - وعلى الرغم من الروابط الروحية واللغوية وروابط الدم التي كانت تربط بريطانيا
(1) نهر الشلق: أكبر أنهار الجزائر، يبلغ طوله سبعمائة كيلومتر، ينبع من جبال عمور في الأطلس الصحراوي، ويصب شمالا في البحر المتوسط.
وأمريكا بعراها الوثيقة، فإن بريطانيا لم تزعم أبدا بأن الولايات المتحدة هي بريطانيا، كما لم تزعم اسبانيا بأن الأرجنتين أو المكسيك أو الشيلي هي أقطار إسبانية. غير أن الحماقة الإفرنسية صورت لرجال إدارتها ودهاقنة ساستها بأن احتلالها للجزائر، وما أعدته من مخططات في حملتها الصليبية ضد الإسلام والمسلمين، سيتيح لها فرصة إزالة الوجود العربي - الإسلامي من جزائر المسلمين وضمها إلى (الوطن الأم) فرنسا. وهكذا أصدرت منذ 22 تموز - يوليو - سنة 1834، أمرا بتحويل الجزائر من أرض محتلة إلى (ملكية فرنسية) ناقضة بذلك كل القوانين والأعراف الدولية، ومتجاهلة لكل الحقائق التاريخية، ومتنكرة لكل حقوق الأفراد والجماعات.
مضت فرنسا قدما في تنفيذ سياستها، فأصدرت مرسوما في 4 آذار - مارس - 1848 يقضي بتشكيل (مجلس الأعيان)(1) باعتبار أن (الجزائر جزء لا يتجزأ من فرنسا).
وبعد ذلك وفي سنة 1870، أعلنت فرنسا بأن الجزائر تتألف من ثلاث مقاطعات إفرنسية. (ولايات أو عمالات قسنطينة والجزائر ووهران) واتبعت ذلك غداة الحرب العالمية الثانية بإصدار أمر في 7 آذار - مارس - 1944، يعلن:(أن المسلمين الجزائريين أصبحوا فرنسيين. وأعلن قانون 7 أيار - مايو - 1946 أيضا: (بأن جميع الجزائريين هم مواطنون فرنسيون).
(1) ديوان الأعيان: (Senatus Consulte).
وعندما وضع الدستور الإفرنسي في 27 تشرين الأول - أكتوبر - 1946، أعلن: (أن الجمعية الوطنية لها وحدها حق إصدار القوانين، ولا يمكن لها منح هذا الحق لغيرها
…
وأن النظام التشريعي لمقاطعات ما وراء البحار - هو ذاته نظام الوطن الإفرنسي، إلا ما استثناه القانون، وفي 20 أيلول - سبتمبر - 1947 صدر قانون باسم (النظام الأساسي للجزائر) وهو بمثابة دستور خاص بها يحتوي على ستين مادة، وقد جاء في أهم مواد اللائحة الأولى:
أولا: تتكون الجزائر من مجموعة من المقاطعات لها ذاتيتها المدنية وذاتيتها المالية ونظامها الخاص المنصوص عليها في مواد هذا القانون.
ثانيا: تكفل القوانين المساواة التامة بين جميع المواطنين الإفرنسيين في المقاطعات الجزائرية الثلاثة، دون تمييز في الأصل والجنس واللغة والدين.
خامسا: يمثل الحاكم العام حكومة الجمهورية الإفرنسية في الجزائر.
سادسا: يتم إنشاء مجلس جزائري يخول إدارة المصالح الجزائرية بالاتفاق مع الحاكم العام، وقد حددت صلاحيات هذا المجلس، ببحث النظام التشريعي والاقتصادي في الجزائر وتنظيم أعمال الإدارة.
إن إصدار هذا المرسوم هو في حد ذاته برهان حاسم على
التناقض القائم بين مقولة (الجزائر الإفرنسية - نظريا) و (الجزائر المستقلة - إداريا وماليا واقتصاديا من الناحية العملية). ويدحض بما لا يدع مجالا للشك ما كانت تطرحه فرنسا طوال قرن وربع القرن، من أن (الجزائر جزء مكمل لفرنسا ومتمم لها). ويعود سبب هذا التناقض الفاضح لعاملين أساسيين أولهما: رفض مسلمي الجزائر رفضا قاطعا لكل سياسة تدمجهم بفرنسا وتقضي على شخصيتهم الأصيلة. وثانيهما: رفض المستوطنين - الكولون - لكل سياسة تساوي بينهم وبين مسلمي الجزائر في الحقوق والواجبات.
لقد زعمت فرنسا بأن الجزائر هي مقاطعة، مثلها كمثل مقاطعتي (بريتانيا) و (نورماندي) بالنسبة لفرنسا، غير أن الواقع يدحض مثل هذا الزعم. فبريتانيا ونورماندي وسواهما من المقاطعات الإفرنسية تحكم وتدار بموجب دستور فرنسا وقوانينها.
في حين وضع للجزائر دستورها الخاص بها، والذي ينص على إدارة الحكم في الجزائر من قبل (حاكم عام) و (جمعية جزائرية). في حين يوجد على رأس كل مقاطعة فرنسية (محافظا) - بريفيه - ويعود هذا المحافظ في شؤونه إلى وزارة الداخلية الإفرنسية، أما الحكام في ولايات الجزائر الثلاثة (العمالات) فإنهم يعودون في شؤونهم إلى الحاكم العام، الذي يتبع بدوره لوزارة الداخلية الإفرنسية - قسم الشؤون الخارجية -. وينص الدستور الجزائري الخاص على إيجاد مجمعين انتخابيين في الجزائر:
المجمع الأول: وهو المفضل والحاكم بأمره في الجزائر
ويشمل الأوروبيين واليهود.
المجمع الثاني: وهو الخدم - في نظر المستعمرين - ويشمل شعب الجزائر المسلم.
ولا وجود لمثل هذا النظام في المقاطعات الإفرنسية (بريتانيا ونورماندي وسواهما) إذ أن الدستور الإفرنسي قد نص على مساواة جميع المواطنين في الحقوق والواجبات. وحتى المادة الثانية من دستور الجزائر الخاص تمنح مثل هذه المساواة. غير أن المادة (31) منه تناقضها تماما، حيث تنص صراحة على التميز بين الأوروبيين الاستعماريين - الكولون - وجماهير الشعب المسلمين - أنديجين -. وعلى الرغم من نص المادة الخمسين من (الدستور الجزائري الخاص) القاضي بإزالة نظام الحدود الجنوبية المعروفة (بالتراب العسكري) فإن نظام هذا التراب استمر قائما على الحكم العسكري الفردي - دكتاتوري - للضابط فيه حق فرض الطاعة بالقوة. وذلك طوال الفترة من بداية الاحتلال حتى قيام ثورة التحرير سنة 1954.
نصت المادة 53 من (دستور الجزائر الخاص) على أن (المجموعات المحلية هي البلديات والمقاطعات، وبناء عليه فإن البلديات المشتركة قد ألغيت
…
وسيتم تطبيق هذا النص على مراحل بموجب قرارات تتخذها الجمعية الجزائرية) ومعروف أنه لا توجد في فرنسا أنظمة عسكرية أو (بلديات مشتركة)(1) فلماذا
(1) بلديات مشتركة - ترجمة: (Commune Mixte).
فرضت هذه الأنظمة على الجزائر وحدها إن كانت مساوية للأقاليم الإفرنسية؟
…
ثم كيف تتحقق مثل هذه المساواة بين المستوطنين الأوروبيين (الكولون)(1) وبين أبناء البلاد من مسلمي الجزائر في نظام المجالس والمجموعات الجزائرية، وقد انتقص ممثلي المسلمين إلى الخمسين من مجموع العدد الصحيح لهم، في حين كان عددهم الحقيقي يزيد عشر مرات على عدد اللاجئين الأوروبيين (الكولون).
ولقد أقيمت على الحدود في كل من الجزائر وفرنسا هيئات جمركية، وتولى مصرف جزائري إصدار عملة جزائرية غير متداولة في فرنسا - بالرغم من ارتباطها بالفرنك الإفرنسي - ووضع في الجزائر نظام خاص بالمرتبات والأمن الجماعي يخالف تماما النظام السائد في فرسا. فإذا كانت الجزائر هي بريتانيا والنورماندي فلماذا يتم وضع نظام جمركي خاص بالجزائر، وهل بين بريتانيا وباريس جمارك؟ وهل النقود المتداولة في النورماندي مغايرة للنقود المتداولة في مقاطعة البيرينة؟! وطالما أن الأمر كذلك، فلماذا تصر السياسة الإفرنسية، وهي تمعن في ضلالها وتضليلها، على أن الجزائر فرنسية؟.
لقد وضعت فرنسا نفسها أمام مأزق حقيقي بمزاعمها أن (الجزائر فرنسية) إذ بات أمامها واحد من مخرجين لا ثالث لهما: فإما أن تبقي على نظام الإدارة الاستعمارية الذي استمر قائما حتى
(1) الكولون (COLON) اصطلاح قصد به مجموع الأوروبيين الاستعماريين وتنظيماتهم وأجهزتهم.
قيام الثورة التحريرية، وتكون بذلك قد اعترفت ضمنا بوجود وضع مميز وشخصية مستقلة للجزائر. وإما أن تعمل على دمج الجزائر عمليا بفرنسا، فتقتلع النظام الاستعماري من جذوره وتساوي بين فرنسيي (المتروبرل) وبين الجزائريين المسلمين. بحيث يكون القانون المطبق في فرنسا هو ذاته المعمول به في الجزائر، وبهذا أيضا يتقلص ظل الاستعمار عن الجزائر، ويمسك الجزائريون البالغ عددهم عشرة ملايين نسمة بزمام الحكم في بلادهم.
ولم يكن باستطاعة فرنسا الاستعمارية اللجوء إلى أحد من المخرجين لأنها ستخسر ما اعتبرت أنه من حقها - بحكم التقادم الاستعماري -. هذا بالإضافة إلى أن (فرنسة الجزائر فرنسة حقيقية وعملية) كان لا بد وأن تصطدم برغبات المستوطنين - الكولون - الذين كانوا يستأثرون بملكية الأراضي الخصبة والمغتصبة، والذين كانوا يعملون باستمرار حتى يبقى الجزائريون خدما لديهم وعمالا في مزارعهم، يتقاضون أجورا زهيدة لا تكاد تكفي لتأمين أبسط المتطلبات الحياتية. ويصرون على عدم مساواة الجزائري بالأوروبي حتى لا يطالب بحقه الإنساني المشروع.
وقاوم الأوروبيون المستوطنون في الجزائر - الكولون - دمج الجزائر دمجا عمليا بفرنسا، لأن الجزائريين يشكلون الغالبية العظمى والأكثرية الساحقة في الجزائر، بينما لم يتجاوز عدد الأوروبيين المستوطنين في الجزائر حتى قيام ثورتها في الخمسينات مليون نسمة. فإذا ما طبق قانون المساواة تطبيقا صحيحا يصبح للجزائريين تسعة أعشار الحكم في بلادهم وخمس
الحكم في فرنسا. وكانت فرنسا تخاف من إطلاق يد الجزائريين في إدارة المصالح والمؤسسات الجزائرية حتى لا يؤدي ذلك إلى ظهور احتمال قيام الجزائريين بحركة مباغتة تعلن فيها انفصالها عن (الوطن الأم) وتستقل بأمورها، مستندة في ذلك إلى كل الحجج القانونية والوطنية والدينية.
وبعد ذلك، ومع افتراض قبول فرنسا مكرهة على هذا الحل، فإن الجزائريين لم يكونوا على استعداد لقبوله. وقد تجمعت كل الشواهد لتؤكد حقيقة واحدة وهي رفض كل حل يؤدي إلى إجراء تبديل في أصالتهم القومية وعقيدتهم الدينية. وهكذا بقي النظام السائد في الجزائر - حتى قيام ثورتها - هو النظام المعروف (بنظام التوسع الاستعماري والامتيازات الاستعمارية). وهو النظام الذي لم يعرف فيه أبناء الجزائر المسلمون إلا السلب لممتلكاتهم والنهب لأموالهم والانتهاك لحرماتهم والنيل من مقدساتهم. وقد وصف النظام الاستعماري في الجزائر، حتى قيام ثورتها،:(بأنه نظام استعماري فوضوي قائم على التمييز العنصري والتفرقة الدينية وقوة القهر التي أغرقت المسلمين في حمامات الدم) كما حدد مفهوم حكم الإفرنسيين للجزائر بالمقولة، التي طرحها الإفرنسيون ذاتهم وتضمنت ما يلي: (نحن الإفرنسيين مقيمون في ديارنا بالجزائر، فقد أصبحنا سادة هذه البلاد بالقوة، لأن الغزو لا يتحقق إلا بالقوة التي تفرض وجود طرفين غالب ومغلوب. وقد أمكن تنظيم البلاد عندما تم قهر المغلوبين. وهذا التنظيم يفرض مرة أخرى فكرة تفوق الغالب على المغلوب، وتفوق الإنسان المتحضر من الإنسان
المتخلف، فنحن إذن أصحاب البلاد الشرعيين) (1) وطالما أن منطق الحكم هو منطق القوة فقد ظهر بوضوح أنه ليس هناك خيار حتمي غير خيار واحد هو الاحتكام إلى السلاح، وقد بات هذا الخيار ينضح على نار هادئة حتى تفجر في النهاية ليفرق البلاد ومستعمريها في حمامات الدم ومستنقع الوحل. وعند هذه النقطة يمكن العودة إلى تلك النار الهادئة التي ألهبت الحريق، والتي أوقد فتيلها الإفرنسيون ذاتهم من خلال سياسة التنصير.
ومن المعروف، أن في جملة الدوافع الظاهرة التي حدت بفرنسا (ابنة الكنيسة الكاثوليكية المفضلة) إلى احتلال الجزائر، رغبتها الملحة في القضاء على الدين الإسلامي الذي ادخرت له كل حقد دفين منذ هزائمها المنكرة أيام الحروب الصليبية القديمة في المشرق (حملة لويس التاسع - أو القديس لويس على مصر).
وعلى الرغم من أن معاهدة تسليم العاصمة التي أبرمها القائد الإفرنسي - دوبومون - مع (الداي حسين) تقضي بحرية الشريعة الإسلامية واحترامها، وضمان حرية الأهالي وأملاكهم وتجارتهم، إلا أن (دوبومون) نفسه لم يلبث أن نكث العهد بعد مضي شهرين فقط على إبرام الاتفاقية، وإصدر أمرا يوم 8 أيلول - سبتمبر - 1830 يقضي بالاستيلاء على الأوقاف الإسلامية. والاستيلاء على الأوقاف إنما يعني الاستيلاء على الدين، لأن المساجد والشؤون الديية الأخرى وما يترتب لها من خدمات تمول كلها من الأوقاف.
(1) مجلة (أفريقيا اللاتينية) أيار - مايو - سنة 1922.
والحكمة في الأوقاف هي عدم رضوخ الدين لأية سلطة مدنية أو عسكرية، وتعني الأوقاف أيضا استقلالية الدين وحرية عمله بعيدا عن كل نفوذ دنيوي. وقد أحدث صدور هذا الأمر رد فعل عنيف لدى المسلمين، استوعبه قائد الغزو بالقوة وإصدر أمرا ثانيا في 7 كانون الأول - ديسمبر 1830، كفل لنفسه:(حق التصرف في الأملاك الدينية بالتأجير أو الكراء).
وبهذا تم وضع يد الاستعمار الإفرنسي على الدين الإسلامي في الجزائر. وأصبحت فرنسا المسيحية تتصرف على هواها في شؤون مساجد المسلمين وقضائهم وتعليمهم، فلا تعين مفتيا أو إماما أو مؤذنا أو حتى خادما إلا إذا أظهر استعداده للتجسس على إخوانه المسلمين. وإلا إذا كان أطوع من بنان الاستعمار في تلبية مشيئته، حتى ولو ادت هذه المشيئة غلى الكفر بالدين الإسلامي. ولقد وصف مدير إفرنسي لمكتب الشؤون الإسلامية في الجزائر ما فعله الاستعمار الإفرنسي بالدين الإسلامي، فقال:(لقد أذللنا الدين الإسلامي. وبلغ الأمر أن لا يعين إمام أو فقيه إلا إذا شارك في أعمال الجاسوسية الإفرنسية. ثم عليه كي يرتقي في الدرجة أن يثبت قدرا كبيرا من الحماسة والإخلاص للإدارة الإفرنسية).
وعلى الرغم من أن قانون سنة 1905 قد نص على (فصل الدين عن الدولة)، وطلب العمل به في الجزائر بموجب مرسوم 27 أيلول - سبتمر - 1907، فإن هذا القانون طبق على جميع الأديان، ما عدا الدين الإسلامي الذي ظل (مؤمما) طوال ليل الاستعمار.
لقد زعموا أنهم بذلك يستطيعون إذلال الإسلام من خلال إذلال المسلمين، وجهلوا بأن الإسلام لا يذل لأنه شريعة الله، وجهلوا أيضا أن إذلالهم للمسلمين هو محنة أو بلاء في عقيدة المسلم لا بد له من تجاوزه، وقد تجاوزه فعلا وانتصر على أعداء الإسلام والمسلمين.