الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
3 -
الأهداف التربوية للتعليم الاستعماري
(ليس الهدف من فتح المدارس الإفرنسية - في شمال أفريقيا هو أن تكون عقولا مثل عقل (فولتير) أو (مونتسكيو) أو (جان جاك روسو). إن الهدف - ببساطة - هو أن نبدل لغة بلغة، ودينا بدين، وعادات بعادات). وقد تكون هذه الجملة التي أعلنها أحد القسس - المبشرين - بصراحة كافية لتحديد مبادىء أهداف التربية الاستعماري وأسس التعليم في ظل الاستعمار. ويكمل الكاردينال - لافيجري - هدف التعليم بمقولته الشهيرة:(علينا أن نجعل من الأرض الجزائرية مهدا لدولة مسيحية تضاء أرجاؤها بنور مدنية منبع وحيها الإنجيل .. تلك هي رسالتنا الإلهية). وليس المجال هنا مجال مناقشة (الكاردينال المحترم) بصحة هذه الرسالة التي زعم أنها إلهية، إذ أن قراءة الإنجيل تنفي كل احتمال لوجوب التنصير بالقوة وعن طريق الإبادة، لا سيما عند استخدام هذه القوة ضد قوم يدينون بالله، ولديهم كتاب أنزل من لدن عزيز رحيم، كما أنزل على الذين من قبلهم. غير أن الاستعمار لم يجد خيرا من الدين حجابا يستر خلفه أعماله الإجرامية. تلك الأعمال التي لا
تترك مجالا للشك في براءة الدين المسيحي والأديان الأخرى من الاستعمار البغيض.
لقد سبقت الإشارة إلى ما كانت تتمتع به الجزائر، وبقية أقطار العالم الإسلامي في المغرب، من ارتفاع رائع في المستوى التعليمي - الثقافي، قبل أن تمتد إليها يد الاستعمار الآثمة التي أخمدت نور هذه الثقافة، وعملت على نشر الجهل والأمية في الجزائر حتى تتسلل إلى أغراضها العدوانية. ومع أن الاستعمار الإفرنسي هو الذي جلب الجهل والفاقه إلى الجزائر فقد ادعى مناقضا لأعماله، بأنه جاء رسول حضارة ومدنية. ووصف الجزائريين المتمدنين بأنهم شعب (همجي جاهل). وقد يكون من الأفضل هنا الإشارة إلى ما أثاره أحد أعضاء مجلس الشيوخ - أوجين كومب - حين أثار مجلس الشيوخ بقوله: مما لا شك فيه هو أن التعليم في الجزائر كان قبل الاحتلال الإفرنسي - سنة 1830 - أكثر انتشارا وأحسن حالا مما وصل إليه الآن - بعد قرن وربع من الاستعمار - الأمر الذي لم يكن يرضي السلطات الإفرنسية في الجزائر. فقد كان هناك أكثر من ألفي مدرسة للتعليم الابتدائي والثانوي والعالي، وكان يتولى التدريس فيها نخبة من الأساتذة الأكفاء. كما أن الطلاب كانوا من الشباب الناهض المتعطش إلى العلم، هذا فضلا عن مئات المساجد التي كانت تعنى بتلقين اللغة العربية لطالبيها (1).
لم يشأ الاستعمار الإفرنسي. سيرا مع خطته لتدمير العروبة
(1) الثورة الجزائرية (أحمد الخطيب) ص 128 - 136.
في الجزائر، أن يترك اللغة العربية حرة طليقة تؤدي واجبها الديني، وتبلغ حضارتها الإنسانية. فشن عليها حربا وحشية، بهدف إعاقة انتشارها وازدهارها. وراح يغلق المدارس العربية بالقوة، بدون أي سبب، ويعتقل أساتذتها وشيوخها، وذنبهم الوحيد أنهم يعلمون اللغة العربية، وفي هذا قال أحد الإفرنسيين - بولار:(لقد أحدث وجود الإفرنسيين اضطرابا بالغا يين هؤلاء المفكرين الأدباء. واضطر معظم العلماء والفقهاء إلى ترك وظائفهم التي كانوا يشغلونها. كما تشتت شمل التلاميذ الذين اضطروا إلى السعي وراء العلم في السر بعد أن كانوا يتلقونه علانية وفي حرية تامة).
ولقد زاد في تمكين فرنسا من اضطهادها للغة العربية، سيطرتها المطلقة على عقارات الدولة الجزائرية والأوقاف الإسلامية. وهذا ما حدا بفرنسا إلى تعيين أناس من أعوانها للإشراف على قضايا التعليم في المساجد والمدارس. ووضعت لهم خطة تهدف إلى إهمال اللغة العربية - لغة القرآن الكريم - وقد كتب - بولار - بهذا الصدد:(أسندت إدارة التصرف في المساجد والمكاتب إلى أفراد بارعين في الكيد والدس. استخدموا القسط الأوفر من الأموال في مصلحتهم الشخصية. ومن هنا أهملت أغلبية المدارس وتركت وشأنها). ويعلق الضابط الاستعماري - رين - على أسلوب فرنسا تجاه التعليم في الجزائر، فيقول:(كان للغزو الإفرنسي أثر سيء إذ بسط يده على عقارات الدولة، دون أن يخصص ولو محلا واحدا للتعليم).
أدرك الاستعمار الإفرنسي أن انتشار اللغة العربية يشكل خطرا
على الوجود الإفرنسي في الجزائر الإسلامية، ويقضي على مخططاته الهادفة إلى (فرنسة الجزائريين) والقضاء على أصالتهم. ولذا عملت على محاربة اللغة العربية بشتى الوسائل ومختلف الأساليب للحد من تعلمها وانتشارها. وكان في جملة إجراءاتها إصدار القانون المعروف (بقانون 24 كانون الأول - ديسمبر - 1904) والذي ينص على:(عدم السماح لأي معلم مسلم أن يتولى إدارة مكتب لتعليم اللغة العربية بدون رخصة يمنحه إياها عامل الولاية. العمالة - أو قائد الفيلق العسكري. ويعد فتح مكتب بدون رخصة اعتداء على حدود القوانين الخاصة بالأهالي - المسلمين -).
وضعت السلطات الإفرنسية في الجزائر - بعد ذلك - العراقل أمام منح (رخصة التعليم) فكان على المعلم - الشيخ - التعرض لمواقف صعبة والرضوخ لشروط مهينة، يلتزم بتنفيذها نصا وروحا في مدرسته، حتى يحصل على (رخصة التعليم القانونية) وكانت تلك الشروط تنص على ما يلي:
1 -
إقتصار التعليم على تحفيظ القرآن لا أكثر.
2 -
عدم التعرض بأي وجه كان إلى تفسير الآيات القرآنية، وخاصة تلك التي تحض على الجهاد في سبيل الله، وتدعو إلى محاربة الظلم والاستبداد.
3 -
استبعاد تدريس تاريخ الجزائر، وتاريخ العرب المسلمين، وجغرافية الجزائر والبلاد العربية.
4 -
استبعاد الأدب العربي، بجميع علومه، والامتناع عن تعليم المواد العلمية والرياضية.
وفرضت السلطات الإفرنسية على حامل (رخصة التعليم القانونية) أن يبث روح السخط والاشمئزاز بين الناشئة من الثقافة العربية والإسلامية، وأن يخلص للسلطة الاستعمارية، وأن يتبع تعليماتها وينفذ توجيهاتها المتعلقة بالثقافة العربية، وإلا تعرض لما جاء في القانون ذاته:(يجوز لنفس السلطة أن تسحب رخصة التعليم لأجل معين، أو نهائيا من المعلمين الذين يرتكبون أي عمل من شأنه أن يمس بحسن السلوك أو الأخلاق. كما يجوز لها أن تأمر بإغلاق أبواب هذه المكاتب بصورة تأديبية). وهكذا اعتبرت السلطة الإفرنسية أن كل عمل خارج عن شروطها المذلة مسا بحسن السلوك والأخلاق، يستوجب سحب رخصة التعليم أو حتى إغلاق أبواب المكاتب - بصورة تأديبية -. ويستطرد القانون قائلا:(وأخيرا فإنه لا يجوز لمكاتب التعليم العربية أن تفتح أبوابها للأولاد الذين هم في سن التعليم أثناء ساعات التعليم في المكتب الإفرنسي. وذلك في القرى التي تبعد ثلاثة كيلومترات عن المدرسة الإفرنسية). وإذن، فقد عرف الاستعمار الإفرنسي بأن تعليم القرآن الكريم في مكاتب الشيوخ، ينافس الثقافة الإفرنسية المفروضة فضمن قانونه - الفقرة الأخيرة - في محاولة للحد من نشاط التعليم في المسجد والمكتب وحتى يرغم التلاميذ على التوجه إلى مدارسه التي أظهر الأولاد وأهاليهم عزوفا عن تعليمها الإفرنسي وقد رأوا فيه خطرا يهدد دينهم ويضر بأصالتهم.
خطت فرنسا بعد ذلك خطوة أكثر خطورة، وقد اعتقدت أن
الأمور باتت ملك يمينها، فأصدر وزير الداخية - شوتان - قرارا رسميا في 8 آذار - مارس - 1938، يمنع تعلم اللغة العربية في الجزائر، وجاء في هذا القرار:(أن اللغة العربية تعتبر لغة أجنبية).
لقد كان صدور هذا القانون أمرا شديد الغرابة، فهو يعبر بوضوح عن أهداف فرنسا الاستعمارية ضد العرب المسلمين، وصحيح أن هذا الأمر لم يعد مجهولا أو بحاجة للبرهان والتأكيد، غير أن الأمر الغريب هو اعتبار اللغة العربية أجنبية في الجزائر، مع أن سكان هذه البلاد البالغ تعدادهم في تلك الفترة زهاء عشرة ملايين - على أقل تقدير - كلهم من العرب، ولغتهم الوحيدة هي اللغة العربية. ولعل فرنسا كانت تعتقد بأن قرار المنع هذا سيحد من نشاط الهيئات الدينية والتنظيمات الإسلامية، غير أن رد الفعل المباشر كان أقوى من قرار المنع، فما كاد يصدر القرار حتى هبت الأحزاب والهيئات الوطنية والتنظيمات الدينية مطالبة بإلغائه. وتوالت الاحتجاجات الشعبية على الحكومة الإفرنسية من داخل البلاد وخارجها. وظلت فرنسا مصرة على تنفيذ قرار المنع، حتى إذا ما اندلعت نار الحرب العالمية الثانية، اضطرت فرنسا مرغمة إلى مسايرة الشعب الجزائري - ريثما تنتهي الحرب - وتساهلت بعض الشيء في هذا القرار. وعندما وضعت الحرب أوزارها، استأنفت فرنسا وصل ما انقطع من سياستها، فأصدرت في 22 تموز - يوليو - 1945، قرارا:(يفرض على معلمي المكاتب العربية معرفة اللغة الإفرنسية).
من المعروف أن معظم معلمي المدارس الإسلامية هم من
خريجي جامع الزيتونة في تونس وجامعة القيروان في فاس، بالإضافة إلى من يتخرجون من الأزهر، وهذه الجامعات لا تدرس لغة غير لغة القرآن العربية. والأمر الواضح هو أن فرنسا قد أرادت من قرارها هذا إقامة عائق جديد أمام علماء المسلمين وشيوخهم للحد من نشاطاتهم التعليمية. وتجدر الإشارة أيضا، إلى أن عدد ما أنشأته السلطات الإفرنسية من نوع المدارس التي تعلم العربية والإفرنسية (1) لم يتجاوز الثلاثة مدارس في الجزائر وتلمسان وقسنطينة، وأن طلبة هذه المدارس يخضعون لشروط استعمارية قاسية، ولا يكادون يكفون لسد حاجة السلك القضائي والترجمة. وعلى الرغم من ذلك، فقد اعتبرت السلطات الاستعمارية في الجزائر، بأن اللغة الإفرنسية هي اللغة الرسمية في البلاد. وأخذت في فرضها بالقوة على الشعب الجزائري الذي رأى فيها لغة الظلم والقهر والاضطهاد، ولسان الجور والطغيان. وعلى كل حال، فإن الاستعمار الإفرنسي الذي حاول فرض لغته، لم يكن راغبا من وراء ذلك إلى تعليم الشعب الجزائري، ورفع مستواه الثقافي. بل كان هدفه الوحيد هو صهر الجزائريين في البوتقة الإفرنسية، وتبديل أحوالهم الشخصية.
وهذا ما ظهر واضحا في المقولة التي طرحها المسؤول عن التعلم في الجزائر منذ سنة 1908 حين قال: (ليس من الكرم والجود في شيء أن ترغب الجامعة في نشر العلم في القبائل - بل دعونا نقولها كلمة صريحة ونطلقها داوية: إن ذلك في صالح فرنسا
(1) أطلق على هذه المدارس اسم (ECOLES FRANCO - MUSULMANE).
وحدها، وهو ما نضعه دائما نصب أعيننا، وقد أضفى على تعليمنا طابعا خاصا، كما ساعد مدرسينا على اتباع طرقهم ووسائلهم الخاصة. كما أضفى في الوقت نفسه على برامجنا طابعها الراهن. وإنه لمن الأهمية بمكان أن نبث في أذهان الأهالي فكرة رفيعة ونقية عن وطننا، وذلك بتلقين تلاميذنا دروسا عن عظمة فرنسا، وجيشها وثروتها تتناسب وأعمارهم كما تتفق ودرجة ثقافتهم). ويستطرد الكاتب قائلا:(إن المدرسة الألهية في شكلها الراهن، وبعملها المزدوج، ليست أداة تجديد فحسب، بل هي على وجه الخصوص أداة سلطة وسلطان .. وسيلة نفوذ وسطوة، وستخلق من رعايانا عضوا مفيدا جدا، وساعدا مخلصا لفرنسا) وكان هذا المسؤول - المسيو برنار - يرد بذلك على المنادين بسياسة التجهيل في الجزائر القائين بهذا الرأي: (لما كان تعليم الوطنيين يؤدي بالجزائر إلى خطر محقق سواء من الناحية الاقتصادية، أم من ناحية التعمير الإفرنسي، فإن الرغبة تميل إلى إلغاء التعليم الإبتداني).
وهكذا انقسم المستعمرون إلى قسمين: قسم يرغب في عدم تثقيف الجزائريين حتى لا ينافسوهم في الوظائف والأعمال الحرة، وحتى يظل الأوروبيون هم المسيطرون سيطرة تامة على مرافق البلاد الحيوية. ومن هؤلاء - بيير مورلان - الذي قال في الأطروحة التي حصل بها على درجة الدكتوراه ما يلي:(يجب ألا ننظر إلى المواطن الجزائري وكأنه ذو عقل شبيه بعقلنا، وإذا فكرنا في أن التعليم يستطيع أن يغيره تغييرا كاملا، فإننا نخالف بذلك بل نتجاهل قانون التطور الثابت).
ولعل (بيير مورلان) وأمثاله ممن يحملون مثل هذا الرأي، من دهاقنة الاستعمار ومفكريه هم جميعا من الذين يتعارضون مع (قانون التطور الثابت، على الرغم من الشهادات العلمية التي منحت لهم لتغطية فقرهم العقلي. ذلك بدلالة أن هذه التغطية لم تتمكن من إخفاء حرمانهم من العاطفة الإنسانية والفكر المتحرر. ولذا قد يكون من الصعب اعتبار أي استعماري (وكأنه ذو عقل شبيه بعقل الإنسان الجزائري المسلم).
أما القسم الثاني فإنه لا يرى مانعا من تعليم الجزائريين، شريطة ألا يكون هذا التعليم خاضعا لنظام خاص يؤدي في النهاية إلى تغيير الأحوال الشخصية. غير أن السلطات الإفرنسية طبقت الحلول المناسبة التي تضمن عدم تشجيع التعليم بين الجزائريين تشجيعا كاملا. بينما تمسكت بأهداف القسم الثاني وعملت على ضوئه. وأصبحت الثقافة الإفرنسية نتيجة لسياسة الحكومة تكاد تكون معدومة بين الأهالي الجزائريين، في حين أنها تزداد ازدهارا وانتشارا بين الأوروبيين المستوطنين. ومن المعروف أن هنالك مليونين من الأولاد في سن الدراسة قد أوصدت في وجوههم أبواب العلم والمعرفة وشردتهم فرنسا في الشوارع. ولم يتجاوز عدد الطلاب الذين ضمتهم المدارس - في الفترة التي سبقت قيام الثورة سنة 1954 - مائتي ألف تلميذ فقط. وقد يكون ذلك وحده كافيا للتأكيد على نجاح فرنسا في تحقيق أهداف (تربيتها الحضارية).